مُقدِّمة الطبعة الثالثة١
قد يبدو غريبًا أن أستهلَّ مقدمة الطبعة الثالثة بالإشارة إلى خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم في واشنطن. ولكن الخطاب وثيق الصلة من حيث دلالته بموضوعنا عن الترجمة ونقل المعرفة، خاصةً أنني هنا أعتمد التعريف الذي قدمتُه للترجمة بأنها إحدى آليات تمكين المجتمع في السباق الحضاري بين الأمم. وتتأكد أهمية وحيوية هذا التعريف في سياق ظروف العولمة التي تعني تكثف الزمان والمكان وتكثف الاتصالات؛ ومن ثم تكثف التفاعل العلمي والتكنولوجي والثقافي بين الشعوب.
إن المجتمعات المتصفة بالحيوية في عصر العولمة مجتمعات مشاركة إيجابيًّا في حوار علمي/تكنولوجي/فكري/ثقافي على الصعيد العالمي، ومشاركة أو متنافسة على أرضية الإبداع أو السبق الإبداعي في عناصر هذا الحوار، والسبق في امتلاك ناصية أغنى رصيد للمعرفة. معنى هذا أن رصيد المجتمع من إنجازات في صورة إبداع علمي وتكنولوجي يمثل الدِّعامة الأولى والأساسية التي تؤهِّله للمشاركة الإيجابية في هذا الحوار. وطبيعي أن هذا الرصيد جامع بين مصدرَين؛ إبداع محلي، واستيعاب لإنجازات الآخرين.
إن جناحَي النهضة أو البناء الحضاري هما معًا وفي آنٍ واحد الإبداع المحلي قرين استيعاب إنجازات الآخرين، ويصبح هذا النهج أكثر ضرورةً وإلحاحًا في عصر الترابط الشبكي بين المجتمعات في عصر العولمة.
يؤكد أوباما في خطابه أن الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم بإنجازاتها وتاريخها وتطلعاتها شهادة على روح الفضول المعرفي لدى الأمريكيين، الروح الذي لا يهدأ ولا يستقر له قرار، ويتطلع دومًا إلى آفاق لا حدود لها لإنجاز ودعم، ليس المشروع العلمي وحده، بل دعم التجربة الحية المطردة التي نسميها أمريكا.
وانعقد هذا الأمل مع إصدار إبراهام لنكولن قانون إنشاء الأكاديمية الوطنية للعلوم على الرغم من نشوب الحرب الأهلية، ولكنه كان يؤمن أن مستقبل أمريكا ونهضتها رهن العلم.
ويضيف قائلًا: رفض إبراهام لنكولن الرأي القائل: إن الهدف الوحيد لأمتنا هو مجرد البقاء. ولكنه أضاف بإنشائه الأكاديمية الوقودَ اللازم لإثارة الاهتمام وتأجيج عبقرية الاكتشاف.
واستطرد قائلًا: ولكن كل مجالات النشاط في الولايات المتحدة تعاني الآن تحديات، وتعيش أزمة؛ أزمة تدَني الاستثمار في مجال البحث العلمي على الرغم من ضرورته الحيوية لرخائنا وأمننا وصحتنا وبيئتنا ولنوعية الحياة الجيدة. لقد انخفض حجم التمويل الفيدرالي للبحث العلمي إلى حوالي النصف، وتخلفت مدارسنا عن مستويات مدارس بلدان أخرى متقدمة، بل وعن مستويات بعض الأقطار النامية. وأصبح طلاب مدارسنا دون المستوى في الرياضيات والعلوم بالقياس إلى نظرائهم في سنغافورة واليابان وإنجلترا وهولندا وهونج كونج وكوريا وغيرها. هذا على الرغم من أن الولايات المتحدة التزمت منذ أكثر من نصف قرن بأن تقود العالم بقدراتها الريادية في مجال الإبداع العلمي والتكنولوجي، وكذا الاستثمار في التعليم وفي البحوث والهندسة والسباق في الفضاء.
وأضاف: وندرك جميعًا أن بحوث العلوم الأساسية هي رأسمال علمي، ونعرف أيضًا أن إمكانات الأمة للاكتشافات العلمية تحددها القدرات المالية والبحثية العلمية التي يوفرها المجتمع للباحثين. واتخذت قراري الذي يقضي بأن الأيام التي فرضت على العلم في الولايات المتحدة أن يحتل مكانًا خلفيًّا تابعًا للأيديولوجيا قد انتهت؛ ذلك لأن تقدم أُمتنا وتقدم قِيمنا يمتد بجذوره إلى حرية البحث. لهذا فإن تقويض سلامة ووحدة وحرية العلم تقويض للديمقراطية. وحَرِي أن تتأسس السياسات الفيدرالية على أفضل قاعدة من المعلومات العلمية الأبعد ما تكون عن الانحيازات الأيديولوجية؛ إذ يجب أن نؤكد أن الحقائق الموضوعية هي ركيزة قراراتنا وليس الأيديولوجيا.
واستطرد قائلًا: نحن بحاجة كذلك إلى العمل مع أصدقائنا في العالم؛ ذلك أن العلم والتكنولوجيا والإبداع نشاطات تتسارع حركتها أكثر فأكثر بفضل تقاسم الجهد والاستبصارات والكلفة المالية والمخاطر. وندرك أيضًا أنَّ تَقدم ورخاء الأمة وأجيال المستقبل رهن ما نقدمه لهم من غذاء تعليمي؛ لهذا أُعلن التزامنا بالنهوض بالتعليم في مجالَي الرياضيات والعلوم؛ إذ إن هذه هي سبيلنا لكي يحتل طلابنا مكانةً أرفع مستوًى. إن الأمة التي تتفوق في التعليم اليوم هي التي ستبُز غيرها وتفوز عليها في المستقبل. إنني أحثكم على التزام روح التحدي لكي تستثمروا حبكم للعلم والمعرفة العلمية لتأجيج حاسة الدهشة والإثارة والتساؤل والمغامرة المعرفية لدى جيل جديد.
حَرِي أن نقرأ هذا بعقل نقدي واعٍ، نقدي للذات وللآخر، يعتمد الموضوعية العلمية، ويعتمد منهج المقارنة بين حالنا وحال أمة قادت العالم على مدى قرن، هو القرن العشرون، حتى أطلق عليه الباحثون صفة «القرن الأمريكي». وتُواجه الولايات المتحدة، القطب العالمي الأول ثم الأوحد قرابة قرن من الزمان، تحديًا حقيقيًّا من الصين والهند. وإنها إذ تنظر إلى نفسها نظرةً نقدية في مرآة واقعها ومرآة البلدان المنافسة، تكشف بصدق الباحث عن الحقيقة في ضوء رؤية نقدية علمية، عن أوجه القصور الحقيقية ومظان الإصلاح الفوري بعزيمة صادقة؛ لضمان اطراد الريادة أو على الأقل عدم التراجع لتحتلَّ مرتبةً ثانوية. بيد أنها يؤرقها الخوف من المستقبل القريب، خاصةً بعد الأزمة الاقتصادية الراهنة على الرغم من أنها لا تزال البلد الأقوى اقتصاديًّا وعلميًّا.
والسؤال لنا — عن أنفسنا في ضوء ما سبق: ماذا أعددنا نحن للنهوض بمجتمعاتنا وإنقاذها من مهاوي التخلف الذي استسلمنا له عمليًّا وإن كنا نُدينه كلامًا ورطانًا. وهذا هو ما يحدث ويتكرر دون ملل عند الحديث عن الترجمة ونقل المعرفة.
واقع الترجمة موضوع كاشف لحال المجتمع في ضوء أبعاد متعددة؛ البعد المعرفي والثقافي والعلمي والتعليمي والإبداعي، وهي جميعًا متشابكة في جديلة أو منظومة واحدة ذات عمق تاريخي اجتماعي، وأيضًا ذات مدلول اقتصادي سياسي. أو لنقل بمعنًى آخر: إن نشاط الترجمة دالٌّ على نشاط المجتمع جملةً في حركة هذا المجتمع سلبًا أو إيجابًا، تقدمًا أو نكوصًا على صعيد السباق الحضاري. ونلحظ أنه على الرغم من تواتر الحديث في كل أنحاء العالم العربي عن الترجمة ونقل المعرفة خلال السنوات الأخيرة، إلا أننا لم نخطُ خطوةً عملية حقيقية على طريق الكشف، ومن ثم معالجة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تدني مستوى الترجمة.
وجدير بنا أن أشير هنا إلى أنه مع صدور الطبعة الأولى من كتابي هذا صادف الكتاب ما يشبه الإغفال التام. ولكن بعد حديث الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عن أزمة المعرفة وتدني مستوى العلم والبحث المعرفي في العالم العربي، وهو ما يتجلى في تحصيل المعارف العلمية تأسيسًا على ما قدَّمتُه من إحصائيات ضمن تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة عام ٢٠٠٣م، وهي الإحصاءات والرؤى ذاتها المثبتة في هذا الكتاب. هنا انبرى كثيرون لنقد الإحصاءات، وحقيقة الأمر أن هول الصدمة كان كاسحًا وكأننا أفقنا من غفوة وكشفنا عن عورة أو سَوأة مجتمعات اعتادت في كبرياء مزعومة أن تسمي نفسها دائمًا «أمة اقرأ». هذا بينما واقع الحال يكشف أن لا علاقة لها البتة بتوسيع آفاق قراءة المعارف العلمية العالمية، ناهِيَك عن توسيع آفاق الإبداع المحلي.
وقنع الناقدون الموسومون بصفة «أعلام الفكر العربي» بتكذيب الإحصاءات. ولم يشأ أحدهم أن يكلف نفسه الالتزام بمنهج عقلاني نقدي أو بالمقارنة التي قدمتها بين دفتَي الكتاب؛ إذ كان كل ما يعنيهم، والأمر الأهم في نظرهم مداراة العورة، وليس البحث عن الأسباب والعلاج. وأود أن أذكر هنا أنني مع الإحصاءات التي قدمتها عن أعداد الكتب والترجمات قدمت إحصاءات موازيةً عن استهلاك ورق الطباعة ومقارنتها أيضًا بالمجتمعات الأخرى، وتُرجِّح المقارنة صدق النتائج إلى حد يقرب من التأكد. وأذكر علاوةً على هذا، ما يدركونه ولكنهم أغفلوه عمدًا، أن إحصاءات منظمة اليونسكو التي اعتمدتُ عليها استقَتها المنظمة من البلدان العربية ذاتها ولم تبتدعها أو تصطنعها لخدمة أغراض أيديولوجية تآمرية. ولكننا لأننا مجتمعات تعشق الطرب، ويروقها فقط ما يطربها ويدغدغ وجدانها، وتقبل فقط ما يتطابق مع فكرها هي دون أن تتكلف مشاق البحث عن الحقيقة؛ لهذا ضاقت بالإحصاءات الواردة في الكتاب شأنها دائمًا حين تضيق بكل ما هو مختلف. ونظرًا لأن ثقافتنا ثقافة كلمة لا ثقافة فعل؛ فقد انتهى الأمر بعد تدبيج المقالات المعارضة.
وإذا كنا نؤمن بأن التفكير عبر الحقيقة العلمية هو سبيلنا للنهوض، فإنني أؤكد أيضًا أن نهج الالتزام بالحقيقة العلمية هو ديدن المؤمنين بالتغيير؛ تغيير الواقع والفكر معًا. وطبيعي أن العمل على التغيير يستلزم مع توفر الإرادة الذاتية الجمعية، معرفة الواقع في ضوء منهج البحث العلمي المعتمد مرحليًّا. ولكن أسرى الأيديولوجيات يَهيمون عادةً مع تخييلات مقطوعة الصلة بالواقع، وعندهم الماضي والحاضر والمستقبل. امتداد متجانس على صعيد سواء حيث لا تغيير.
وعلى الرغم من مُضي سنوات فإننا لا نلمس جهدًا مجتمعيًّا حقيقيًّا لتنشيط حركة الترجمة في اتجاهها وسياقها المجتمعي الصحيح. وهكذا جاءت شهادة صدق على لسان التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية عن الحصاد الثقافي العربي لعام ٢٠٠٧م؛ لتؤكد صواب ما سبق أن أوضحَته الإحصاءات التي أثبتناها في الطبعة الأولى، ولم يأتِ العالم العربي بشيء جديد، إن لم نقل: ساء الحال أكثر كما تفيد كل الشواهد. عرض التقرير العربي الأول الوضع، وأكد أن المُناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي والتطرف. وأشار إلى ما يفيد بأن هذا المُناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم وعن الاهتمام بالقراءة العلمية وعن البحث، وهو ما يتجلى في ميدان النشر تأليفًا وترجمة. ويؤكد التقرير تدني النشر العربي تأليفًا وترجمة، وقصوره الشديد، وندرة الكِتاب الذي يتناول علومًا أساسية، وغلبة الكتب الدينية والأدبية.
وقد يدفع البعض دفاعًا عن الوضع المتردي القائم، بأن ثمة جهاتٍ عربيةً خليجية كشفت عن اهتمام طارئ بنشاط الترجمة. وتجسَّد هذا في صورة مُخصَّصات مالية ضخمة، أو في إقامة مراكز ترجمة في أنحاء مختلفة من العالم العربي. بيد أن هذا كله لا ينفي عشوائية وفردية النشاط، ولا ينفي تعطله من هدف قومي مرسوم وفق استراتيجية تطوير حضاري؛ ممَّا يفرغ الجهد من صفة المنظومية الهادفة، فضلًا عن افتقار المجتمعات العربية للمُناخ الداعم لحرية التخطيط والاختيار. ولعل الأخطر والأهم أيضًا افتقار المجتمعات العربية لمراكز الإبداع العلمي الحر على مستوى حضارة العصر، وهي الشرط البنائي الذي يجعل من الترجمة استجابةً مؤسسية هادفة يستوعبها المجتمع لتسري دمًا في نسيجه الفكري والثقافي، وتدعم حركته الارتقائية إن وُجدت.
وتدَني الترجمة ليس مجرد ضآلة عدد الإصدارات المترجمة؛ ذلك أن أزمة الترجمة هي في التحليل الأخير لها أزمة قارئ/كتاب/مترجم/مجتمع له تاريخه الثقافي وواقعه الراهن علميًّا وتعليميًّا وثقافيًّا. وغير خافٍ أن المجتمعات العربية تعاني — كمثال — من تفَشي حالة الأمية الأبجدية وإن اختلفت درجاتها مع اختلاف المجتمعات. ولكن الأمية ذات الصلة بالترجمة ليست فقط الأمية الأبجدية، بل هناك أيضًا معها الأمية الحاسوبية والأمية الثقافية والأمية العلمية، بما يتسق مع إنسان حضارة العصر. وتؤثر هذه جميعها في طبيعة البِنية الذهنية للمرء، ومدى فضوله المعرفي، واتجاه هذا الفضول ومحتواه، هل للتحصيل العلمي؟ أم لتحصيل وتكرار معارف الأقدمين التي لا تقدم جديدًا ولا تفيد إلا للدراسات التاريخية؟
الارتقاء بمستوى الترجمة إلى مستوى المنافسة العالمية يستلزم بالضرورة الارتقاء بالمجتمع وبالإنسان معًا على مستويات عدة؛ أولًا: ارتقاء بالمستوى الثقافي الاجتماعي والعلمي والتاريخي؛ أعني إعادة تنظيم البِنية الذهنية للإنسان، بحيث يكون فضوله المعرفي مُوجَّهًا نحو تحصيل معارف لازمة لبناء المجتمع جميعًا على مستوى حضارة العصر وفق صورة يصوغها المجتمع بعبقرية وإنجازات أبنائه عن الذات وعن الحاضر والمستقبل. وحَري أن يتحدد هذا في ضوء دراسة اجتماعية ميدانية لبيان الموضوعات التي تحظى باهتمام المرء، ونوع القراءات، وكَم هذه القراءات ومحتواها وعلاقتها بالحركة المجتمعية المنشودة، وأثرها في حفز المرء لأي نوع من المعارف. ويقترن هذا ببذل الجهد المنظَّم الهادف لمحو كلٍّ من الأمية الأبجدية والثقافية والحاسوبية والعلمية. ويتعين ألَّا ننسى ونفيد من تجارب ناجحة في كوبا واليابان والصين وغيرهم.
وأذكر هنا — إيجازًا — تجرِبة كوبا؛ لطرافتها ودلالتها، وهي مجتمع فقير محاصر، ولكنها استطاعت محو الأمية الأبجدية في سنتَين، وأصدرت منذ ست سنوات قانونًا ينظم بناء الإنسان الكوبي تعليميًّا وعلميًّا. حدد النظام ما يسمى حاسب أو كومبيوتر ما قبل سن الدراسة؛ إذ يتعين على الطفل قبل الالتحاق بالمدرسة الابتدائية أن يتعامل مع الحاسوب. وتضمَّن النظام أيضًا تدريس علوم البيولوجيا والرياضيات وكذا اللغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية؛ إدراكًا من المسئولين والمجتمع أن هذه هي مؤهلات المرء للانتماء إلى حضارة العصر. وليس غريبًا أن تضم كوبا الفقيرة عددًا من مراكز البحث العلمي العالمية التي يَؤمُّها علماء من الولايات المتحدة على الرغم من الحصار.
وطبيعي أن الارتقاء بالإنسان رهن الارتقاء بالسياق؛ أعني الارتقاء بالمجتمع. نحن لا نزال نعيش تحت عباءة ثقافة مجتمعات الرعي والزراعة، ولا نزال بعيدين عن حضارة عصر الصناعة، ناهِيَك عن عصر المعلوماتية. وطبيعي أن الارتقاء بالإنسان وبالمجتمع هنا عملية واحدة متكاملة ومُطَّردة التطور. ونعني بذلك أساسًا الانتقال إلى حضارة العصر؛ أي تحديث المجتمع؛ ذلك أن عملية التحديث، أو الانتقال إلى حضارة الصناعة والمعلوماتية، عملية شاملة متكاملة، وليست تجزيئيةً أو انتقائية عمياء، ومن ثم التحديث ثورة تغيير لذهنية الإنسان وللاقتصاد وللسياسة والمؤسسات الاجتماعية ولدور الإنسان العام … إلى آخر نشاطات المجتمع كمنظومة واحدة متكاملة. وهنا ستكون للقراءة أو لتحصيل المعارف وللمغامرة المعرفية حافزها الباطني ودور اجتماعي، وسيكون لها عائدها على الفرد والمجتمع، وسيكون المجتمع إطارًا حافزًا لهذه الجهود. وطبيعي أنه في مثل هذا السياق تأتي الترجمة أو الفهم في حرية لتحصيل معارف الغير، استجابةً لحاجة مجتمعية، مما يهيئ اندماجها وتجسدها مجتمعيًّا، وتدخل في نسيج المجتمع قرينة إبداعاته المحلية، وتكون أداة دعم وتمكين وتطوير. وبدون ذلك يظل الحديث عن الترجمة رطانًا، وتظل جهود الترجمة على تدَنيها ومحدوديتها، بل وعشوائيتها، أشبه بماء مسكوب في صحراء قفر لا تُثمر.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنها أضحت في مسيس الحاجة إلى تنشيط الإبداع والبحوث العلمية ضمانًا لاطراد الريادة والزعامة، وأنها بحاجة إلى مشاركة على صعيد عالمي في الإنجاز وفي الحوار والتفاعل؛ أقول: إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للولايات المتحدة القطب والرائد؛ فإن البلدان العربية بحاجة أشد إلحاحًا وضرورةً لكي تثري رصيدها المعرفي بالإبداع المحلي والاستيعاب العقلاني النقدي الهادف للأجنبي، وما أكثره وما أشد تباينه وما أكثر مزلقاته!
وطبيعي أن الترجمة هي سبيلنا لذلك، وأن الإنسان العربي المبدع في مُناخ من الحرية، حرية الإبداع وتَلقي المعلومات والمشاركة السياسية والعلمية في البناء، هو دِعامة هذا التحديث؛ إذ كيف يكون للعرب نصيب في الحوار والمشاركة دون امتلاك نصيب من الإبداع، ودون استيعاب إنجازات الآخر. هذا وإلا سنقع في ما حذَّر منه أوباما الولاياتِ المتحدة. أعني نقنع بمجرَّد البقاء دون الوجود الإرادي الفعَّال. وهنا يغدو لِزامًا أن نمايز بين البقاء الذي هو مجرد اطِّراد عشوائي، وبين الوجود الذي هو إرادة فعل هادف، ومشروع خلق، وإنتاج للثروة، الثروة التي هي الآن المعرفة وفائض المعرفة.
نحن لا نستطيع أن نفصل تَدَني حال الترجمة عن تَدَني الوضع العلمي والتعليمي بكل مستوياته وتخصصاته في العالم العربي، خاصةً تعليم اللغات في صورة مُتطوِّرة، وأعني اللغة العربية قرين اللغات الأجنبية. ونحن لا نستطيع أن نفصل تَدَني واقع الترجمة عن تَدَني الواقع الاقتصادي والاجتماعي والحضاري بعامة. ونحن لا نستطيع أن نفصل تَدَني الترجمة عن واقع قمع الحريات، حرية الفكر والتعبير وتَلَقي المعلومات، وحرية النقد والإبداع. ونحن لا نستطيع أن نفصل تَدَني واقع الترجمة عن تَدَني حقوق الإنسان، ومنها حق ومسئولية الإنسان العام في المشاركة الإيجابية في إدارة ومهمة شئون البلاد، وحق الإنسان العام في أن يختار لنفسه وبنفسه في حرية حياته وعمله ومستقبله.
ونحن لا نستطيع أن نفصل تَدَني الترجمة عن طبيعة وقيم وأساليب التنشئة الاجتماعية. التنشئة القائمة على الخوف من المجهول وليس اكتشافه، والتنشئة القائمة على القناعة بالرصيد المعرفي الموروث دون إثرائه بالبحث والتجديد والمغامرة، التنشئة الاجتماعية القائمة على ثقافة الاختزال عند السؤال عن الأسباب ورَدِّها إلى سبب واحد خارج طبيعة الظاهرة دون ثقافة تَعدُّد الأسباب الكامنة في الظاهرة والطبيعة والتاريخ. التنشئة الاجتماعية التي تحصر الواجب المعرفي في قراءة كتب ما بعد الحياة دون الاهتمام بقراءة ومعرفة كتاب الحياة، ومن ثم التنشئة التي تُكرِّس تغييب إرادة الفعل وتُفضي إلى تغييب المسئولية وواجب الإنسان/المجتمع؛ مسئولية وواجب قَبول التحدي والثقة في الاعتماد على النفس للإنجاز. تنشئة تؤكد وتُرسِّخ ثقافة قصور العقل وقصور إرادة الفعل وقصور العلم، وبالتالي إعفاء الإنسان من مشقة البحث وإعمال الفعل والفكر، وإعفاءه من بذل الجهد للقراءة والتحصيل.
ومن هنا لا نفصل تَدَني واقع الترجمة عن غياب الرؤية العامة المجتمعية نحو مستقبل حضاري جديد، وشيوع السلفية التي هي في جوهرها هجرة إلى الماضي وإلى الغيب ملاذًا آمنًا هربًا من واقع قاسٍ غير آمن وغير واعد وعاطل من الأمل المشترك جميعًا. صفوة القول: النهوض بالترجمة لا يكون إلا عبر النهوض بالمجتمع والارتقاء بالإنسان وتعظيم رأس المال البشري؛ أعني التحديث الشامل للمجتمع على مستوى حضارة العصر، وعلى نحو يؤكد إرادة الإنسان العام المشارك إيجابيًّا، ويؤكد عمليًّا ودستوريًّا حقَّه وواجبه في الاعتزاز والانتماء.
ونعود لنقول ما قاله أوباما، وما قاله مفكرون عرب كثيرون على مدى التاريخ في الماضي القريب وفي الحاضر، وإن أهملهم التاريخ سواء لحساب دعاة التقليد؛ تقليد السلف، أو لحساب قوى السلطة المحافِظة؛ نقول: نرفض أن يكون هدف أمتنا الوحيد هو مجرَّد البقاء كاطِّراد عشوائي، وإنما ليكن هدفنا تحقيق، أو انتزاع حق الوجود لأنفسنا؛ الوجود من حيث هو مشروع إرادة وحرية الفعل والاختيار وبِناء المستقبل، مستقبل الأمة، في مواجهة تحديات هي إفراز طبيعي لصراع الوجود الذي هو قانون الحياة، وفي إطار قيم إنسانية جديدة نكون أهلًا للقيام عليها وحراستها بفضل قوة العلم والعقل المبدع. ولتكن أولوية الصدارة والانحياز للعلم دون الأيديولوجيا؛ ليتأسَّس عن صدقٍ المجتمعُ الديمقراطي المشارك بحرية على الصعيد العالمي. مجتمع حرية البناء، وبناء الحرية. وهنا تحديدًا تكون الترجمة حقًّا آليةَ دعم وتمكين لا غنى عنها، وتبلغ غاية الازدهار.