المترجم العربي، الحقوق والدور الاجتماعي

قضية المترجم لها أكثر من زاوية؛ الكفاءة اللغوية والثقافية، وكذا الحقوق، وأيضًا المترجم والدور الاجتماعي.

أمَّا من حيث الكفاءة والأهلية لأداء الدور فهذه مسألة إعداد وتنشئة اجتماعية في الأسرة والمدرسة والمجتمع بعامة. وإذا ألقينا نظرةً على هذه العناصر الثلاثة (الأسرة، المدرسة، المجتمع) في واقعنا الراهن نجدها جميعًا لا تُسهم في إعداد مترجم؛ ذلك أن المترجِم ليس هدفًا من أهداف المجتمع، ولا محط طموح. ويكفي أن أقول: إنه حين تقرَّر منذ بضعة عقود أن ينتقل التلميذ من صف دراسي إلى الصف التالي، على الرغم من رسوبه في مادتَين، فإن التلاميذ وأسرهم حرصوا على الشكل وهو عبور المراحل، واختاروا الرسوب في مادتَين أساسيتَين هما: اللغة الأجنبية والرياضيات. أي تخرجت أجيال عازفة عن اللغة الأجنبية وعن التفكير الرياضي، ومقطوعة الصلة بالثقافة العالمية، وبأساس مهم من أُسس الفكر العصري وهو الرياضيات.

واقترن هذا — للأسف — بشيوع الأمية الثقافية؛ إذ لم تعد الحياة مع حضارة العصر فكرًا وثقافةً وعقلًا معيارًا أو قيمةً أو هدفًا؛ لذلك ليس غريبًا ألَّا نجد جيلًا جديدًا من المترجمين الأكْفاء، وهو ما يؤكِّد تعطُّل نشاط أساسي للمجتمع هو نشاط الترجمة كحلقة وصل وتفاعل مع العالم المتقدم، وأداة حوار حضاري عصري. أعني أن المجتمع بسياسته هذه عطَّل الدور الاجتماعي للمترجم، وهو أساسي تحرص عليه جميع المجتمعات التي عقدت العزم على النهوض، وتحرص على استيعاب علوم العصر.

ودور المترجم رهين تفهُّم المجتمع لحاجته إلى المعرفة دون حدود، وحاجته إلى التفاعل الفكري (العلمي النظري والتطبيقي والثقافي بعامة) مع حضارات الأمم، واكتساب أُسس النهوض والتقدم، وصولًا إلى مستوى العطاء والإبداع. إن المترجم هو منفذ المجتمع للانفتاح على ثقافات الآخرين، ومن ثم التحرر من نِير الانغلاق والتقوقع داخل شرنقة ثقافات الأنا المهيضة، بل وحفَّزنا على النفاذ بفكرنا في دائرة فكر الآخر.

وحيث إن دور المترجم هو دور اجتماعي بامتياز، وإن الترجمة بهذا المعنى نشاط اجتماعي هادف، فإن إعداد المترجم وظيفة اجتماعية أَولى بالرعاية. وها هنا يكون الإعداد والدور عملَين متطابقَين يُكمل أحدهما الآخر؛ فالإعداد حق للمترجم على المجتمع وعلى نفسه، والدَّور حق للمجتمع على المترجم. ونذكر من عناصر التكوين الاجتماعي والذاتي السليم للمترجم كي يقوم بدوره على خير وجه:
  • (١)

    التكوين الثقافي الموسوعي؛ أي التوفر على ثقافة موسوعية تعزِّز وتُكمل تخصصه العلمي.

  • (٢)

    إجادة لغتين على الأقل، اللغة التي يترجم إليها، واللغة التي يترجم عنها، واستيعاب قواعدهما وأدواتهما اللغوية والمنطقية؛ الأمر الذي يُعينه على فهم أسرار اللغة وصياغة اللفظ وتوليد المصطلح.

  • (٣)

    النهم المعرفي والتجدد الثقافي؛ بحيث يكون متابعًا لكل جديد؛ وبهذا لا يكون مجرد ناقل أو وسيط، بل يكون مبدعًا في أدائه وإضافاته وتعليقاته، فضلًا عن الإحاطة بالسياق الفكري العام والسياق التاريخي للنص الذي يعكف على ترجمته. وهكذا تكون الترجمة إبداعًا، وصياغتها باللغة الأم دقيقة في التعبير، واضحة، يسيرة الفهم.

  • (٤)

    الإلمام بالقواعد المنهجية للترجمة، من حيث التحليل لبِنيات الجُمل في تركيباتها المتباينة، وتذوُّق النص، وتوافر الحس اللغوي في دلالاته وتلويناته مع اختلاف السياق؛ ذلك لأن الترجمة هي قراءة وفهم لحضارة عبر إطار معرفي/قيمي لحضارة أخرى. ومن هنا حرًى بالمترجم أن تتوافر لديه القدرة على التحليل الدلالي للنص، وقدرة على اعتبار السياق العام.

  • (٥)

    وإذا كانت الترجمة أداة إثراء وتخصيب وتطوير للغة الأم، فإن هذا يعني أن للمترجم دورًا علميًّا إبداعيًّا في تطوير اللغة. وليس غريبًا أن نجد اللغة العربية — كمثال — تحقِّق ثراءً في عصر ازدهار الترجمة قرين حركة النهضة الاجتماعية.

  • (٦)

    وحيث إن الترجمة إبداع علمي، فإن المترجم هنا يلتزم موضوعية المنهج العلمي، من حيث الأمانة والدقة، وتجنُّب إقحام نوازع ذاتية قد تدفعه إلى الإبهام في موضع الوضوح أو الإخفاء والالتواء في موضع الصراحة.

أمَّا عن حقوق المترجم فهي ضائعة مُهدرة في ظل ظروف الانحسار الثقافي والانكفاء على الذات في المجتمع. ويكفي أن نعرف أن جميع مؤسسات النشر العامة والخاصة تعطي المترجم الفُتات، باستثناء مؤسسات بلاد النفط. وترفض مؤسسات كبرى الالتزام بالقواعد المُتبعة؛ مثل تحرير عقد بالترجمة؛ لحرمان المترجم من حقوقه مستقبلًا. وعلى الرغم من أن الصكوك والاتفاقيات الدولية تعترف بأن المترجم مؤلف، وأن الترجمة نشاط إبداعي؛ فإن الأمر على خلاف ذلك في عالمنا العربي. والمترجم مُهدَر الحقوق؛ لأنه يعمل كفرد لا تربطه رابطة بغيره من المترجمين.

وجدير بالذكر هنا أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية سارت خطوات جادةً ومهمة في هذا الاتجاه. ولكن الدول العربية ومؤسساتها في الداخل لم تُنفِّذ ما دعت إليه المنظمة العربية، نذكر على سبيل المثال: «الاتفاقية العربية لحماية حقوق المؤلف»، التي تعتبر المترجم مؤلِّفًا، وتتضمَّن بابًا عن نطاق الحماية، والذي ينص على:

«يتمتَّع بالحماية أيضًا، ويُعتبَر مؤلفًا، لأغراض هذه الاتفاقية؛ من قام بإذن المؤلف الأصلي بترجمة المصنَّف إلى لغة أخرى، وكذلك من قام بتلخيصه أو تحويره أو تعديله أو شرحه أو غير ذلك من الأوجه التي تُظهر الصنف بشكل جديد.»

وتضمَّنت الاتفاقية بابًا، هو الباب السادس، والخاص بوسائل حماية حقوق المؤلف (والمترجم طبعًا)، والذي ورد فيه النص التالي:

المادة الثالثة والعشرون

تعمل الدول الأعضاء على إنشاء مؤسسات وطنية لحماية حقوق المؤلف، ويحدِّد التشريع الوطني بنية هذه المؤسسات واختصاصها.

المادة الرابعة والعشرون

تُنشَأ لجنة دائمة لحماية حقوق المؤلف من ممثلي الدول الأعضاء لمتابعة هذه الاتفاقية، وتبادل المعلومات، بما يكفل حماية المصالح المعنوية والمادية للمؤلفين (والمترجمين).

وكلَّفت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الأستاذ الدكتور محمد حسام لطفي أستاذ القانون المدني، بوضع مشروع قانون نموذجي بشأن تنظيم مهنة الترجمة.

ويتمثَّل مشروع القانون في خمسة أبواب تتعلَّق بالموضوعات الآتية:
  • (أ)

    إنشاء النقابة وأحكام العضوية.

  • (ب)

    النظام المالي للنقابة.

  • (جـ)

    إدارة النقابة.

  • (د)

    التزامات المترجمين وتأديبهم.

  • (هـ)

    صندوق المعاشات والإعانات.

وفي إشارة توضيحية نقرأ النص التالي:

«لم يشأ المشروع أن يخصَّ المترجمين بحماية قانونية خاصة؛ حيث يستفيد المترجم باعتباره مؤلفًا للنص الذي وضعه من الحماية الوطنية والدولية المقرَّرة للمؤلفين. ولم يشأ المشروع أن يضع تعريفًا للمترجم حيث قصد تأكيد وضع المترجم كمؤلف.»

(الخطة القومية للترجمة، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس ۱۹۹٦م)

ومع هذا وقَّعت البلدان العربية اتفاقات الجات، ولم تتخذ أي إجراء داخلي لتنفيذ ما نصَّت عليه مشروعات المنظمة؛ فاتفاقية الجات تحافظ على حقوق المؤلفين من أبناء العالم المتقدم، بينما يظل المترجم في أغلب البلدان العربية مُهدَر الحقوق وغير معترف به. وليس غريبًا — والحال كذلك — ألَّا نجد في البلدان العربية قاعدة معلومات عن المترجمين والمترجمات، ولا نجد رابطةً تحافظ على حقوق المترجم وتنهض بدَوره الاجتماعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤