الجات والكتاب المترجم والعولمة

نناقش أمورنا عادةً بمنطق الإحالة. نحيل الأمر على الآخر دون الأنا، وهذا يجعلنا دائمًا نرى فقط عنصر القوة والسلطة وكأنهما البعد الواحد والوحيد الحاكم لمسار الظواهر، دون تحليل لأسباب القوة ومصادر اكتسابها. وننسى هنا عنصر العمل والفعالية لدى الأنا، وأن علاقات الدول علاقات تفاعل، وليست إمَّا فعلًا أو انفعالًا، فاعلًا أو مفعولًا به. وإذا أكَّدنا على أنفسنا وفعاليتها هنا، فإننا سوف نناقش القضية من زاويتَين ومنطلقَين؛ الأنا والآخر في تفاعل، دوري ودور الآخر، مسئوليتي ومسئولية الآخر، قَبول التحدي وإرادة الفعل كمجال صراع.

وحين نقول الجات مثلًا، فهذا فعل الآخر. والسؤال: ماذا عن فعلي أنا؟ ليست القضية قيمًا أخلاقيةً مجرَّدة، ليست هي التماس الحق المجرَّد المطلق من أي صراع على المصالح؛ لأننا نحن كذلك لسنا مجرَّدين من المصالح، ولكننا نبرِّر نهج التواكل والاستكانة والنزوع الاستهلاكي. وهذا النهج يحمل ثنائيةً نقيضية هي: إمَّا أنا أو الآخر، الصدر أو القبر، الهيمنة لي مطلقة أو للآخر، وحين تتوفر لي القوة فأنا وحدي، وهذه شهادة التاريخ.

والجات، في ضوء هذا الفهم، آلية تشغيل وضبط علاقات في المستوى الدولي؛ فالعالم يُنتج آلياته في سياق التاريخ الاجتماعي. مقتضيات ورؤى العناصر المؤثرة الفاعلة طبقًا لمستوى حضارة العصر. وهي آلية جماعية غير متجانسة، ليست نسيجًا متجانسًا، بل يحمل تناقضاته شأن أي واقع اجتماعي محلي أو عالمي؛ ومن ثم تنطوي على احتمالات الحركة والتغير.

والحضارة هي إبداع ثقافي وفكري على مستوى المجتمع الدولي الآن. وهذا المنتج الثقافي الفكري الجديد يحمل قدرات وسلطات، ويتحرك في مُناخ ثقافي اجتماعي، وفي إطارٍ من العلاقات المتبادلة المتفاعلة. وهذا من شأنه أن يحدد رؤًى حركية للواقع من الحاضر إلى المستقبل عبر الفعل الاجتماعي النشط؛ ولهذا يتحرك في إطار تناقضات حتى وإن علا صوت أحد العناصر، وساد الظن بأن الغلبة له، أو زعم أنه خاتم الحضارات ونهاية التاريخ، وأن كلمته هي القول الفصل في الفكر والمذاهب والعقائد. والأمر في جميع الأحوال رهن فعالية أطراف المعادلة، والقدرة على خلق علاقات وأُطر عمل جديد. وينطوي عادةً هذا التطور الثقافي الفكري على نُذر وبشائر للإنسانية أو العالم؛ فقد يكون أنيابًا مفترسةً في يد العنصر القوي. وقد يكون رسالةً للتقدم الإنساني. وينطوي كذلك على طاقات وقوًى جديدة، وآفاق أطماع جديدة، مثلما ينطوي على لغة وفكر جديدَين. وتثور معه قضايا تتعلق برؤًى عن الإنسانية بعامة، عن حقوق الإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعن رؤية جديدة للحياة وللوجود، وعن حق التنوع والاختلاف للأفراد أو للمجتمعات، وعن الخصوصيات الثقافية والقومية … إلخ.

لهذا فإن الحديث عن الجات في إطار العولمة — وأقصد بالعولمة هنا المدلول العلمي والثقافي لحضارة العصر، دون مدلول الهيمنة عبر المضاربات المالية — لا يكتمل إلا إذا تناولنا هذه الاتفاقية أو مجموعة الاتفاقيات في ضوء الواقع العالمي الجديد في تطوره، وأيضًا في ضوء النظر إلى أنفسنا وواقعنا وحالنا، مع النظر إلى واقع الآخر وإمكاناته وأطماعه. والتساؤل في وضوح عن: من الذي سيتعولم؛ أي المرشح لفرض العولمة عليه، وفقد دوره الإيجابي — إن وُجد — في الإنجازات العلمية والثقافية العالمية ويكون مستهلكًا؟ ونسأل كذلك من الذي سيُعولِم؟ أي المنتج المهيمن بفضل إنتاجه لسلعة مطلوبة داعمة للمرحلة الحضارية. أي من في موقع الفاعل، ومن في موقع المفعول به مرحليًّا، إلى حين الفعل المضاد والمواجهة؟

الجات كما أشرنا آلية إضافية إلى آليات أخرى؛ مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، اللذَين تسيطر عليهما الولايات المتحدة الأمريكية. وتهدف هذه الآليات جميعها إلى ضبط العلاقة — في ضوء ميزان القوى — بين دول المركز؛ أي التي لها غلبة الفعل الإنتاجي، ولها الغلبة السياسية والعسكرية بدرجات متفاوتة، وبين هذه في مجموعها وبين دول الأطراف التي لها غلبة الفعل الاستهلاكي. وهذه الآليات جميعها رهن مرحلة بذاتها لواقع جديد هو واقع العولمة الذي هو صيرورة محدِّداتها ميزان القوى علميًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وثقافيًّا. وهذه عملية ظهرت مقدماتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويمكن القول: إن ما يجري الآن هو بداية وليس نهاية، وإننا الآن بصدد بداية عملية نشطة يجري خلالها تشكيل الواقع العالمي على مدى هذه الصيرورة؛ نتيجةَ سلسلة من الصراعات المتعددة الأوجه والأطراف؛ ليبلغ الواقع العالمي على الطريق التطوري نهاية المرحلة وبداية مرحلة أخرى. واطراد هذه الصيرورة لا يعني بحالٍ من الأحوال نهاية التاريخ، ولا ينفي احتمالات تحولات جذرية في مسار هذه المراحل.

وما دام حديثنا عن الجات والكتاب فإننا نركِّز الضوء على سمة مهمة مميزة لروح العصر، ونعني بذلك العلم إنجازًا نظريًّا وتطبيقيًّا، والعلم من حيث هو شبكة إنتاج عالمية تتحكم فيها بلدان المركز، وهي البلدان المتقدمة صناعيًّا، والعلم من حيث هو نشاط اجتماعي مؤسسي، ومن حيث هو سلعة متميزة تحظى ببراءة الاختراع وحق الملكية الفكرية.

وليس لنا أن نواجه واقع اتفاقيات الجات بحجج نظرية مفادها أن الغرب — مركز إنتاج المعلومات — استعمرنا، وعليه أن يرد دينه أو دفع التعويض. ومع صواب هذا الرأي، إلا أن مثل هذا القول لن يعدو كونه صرخةً في وادٍ لن يُعيرها الأقوياء آذانًا مُصغية. ومنطق العالم أن الأقوى اقتصاديًّا وعسكريًّا وعلميًّا، هو الأقوى حجةً والمسموع كلمة، وأن الأضعف يخضع للأمر الواقع صاغرًا ولو إلى حين. لم تأتِ اتفاقيات الجات بجديد فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية. وإنفاذ هذه الاتفاقيات يشكِّل عبئًا اقتصاديًّا على البلدان الفقيرة؛ ممَّا يزيدها فقرًا وجهلًا. وتؤكد هذه الاتفاقيات أن الكتاب والمعلومات عامة سلعة في السوق لمن يشتري، ومن ثم يرى أن النهج الأسلم قَبول التحدي والمنافسة، وابتداع سُبل جديدة للمنافسة في إنتاج الفكر والثقافة والعلم والمعلومات بعامة. فما هو واقعنا في هذه السوق، نحن والآخر؟ نسأل: ماذا عن دورنا نحن في إنتاج الكتاب والمعلومات والثقافة والملكية الفكرية؟

قلة في العالم تستأثر بإنتاج بضاعة حضارة العصر، وكثرة غالبة معدومة لا تملك شيئًا، حظها صفر من الإنتاج، لا تملك حتى القدرة على الاستهلاك الإيجابي النشط؛ أعني الاستهلاك بهدف الإنتاج والإبداع والتطور.

نصرخ لأن الكتاب المترجَم ستزداد كلفته حين ندفع حقوق الملكية، ولا نسأل لماذا لا يصادف الكتاب المترجَم إلى العربية رواجًا محليًّا يُعوِّض كُلفته؛ والسبب شيوع الثقافة الشفاهية وغلبة الأمية الأبجدية التي تتجاوز ستين بالمائة، فضلًا عن مرض العزوف عن القراءة العلمية، وسيادة الأمية الثقافية التي تتجاوز تسعين بالمائة، ثم الانصراف الاجتماعي شبه الكامل عن الاهتمام بالعلم معرفةً وتعليمًا وبحثًا ومنهج تفكير، بل وإهمال مؤسساته اجتماعيًّا، وهو الفريضة الغائبة عن وعينا. هذا بينما إذا عولجت أمراض الأمية الأبجدية والثقافية وأمراض الانصراف عن العلم سوف يروج الكتاب، ويحقِّق أرباحًا تفي بالحقوق القانونية للمؤلف والمترجم والناشر.

نجأر بالشكوى؛ لأن الجات ستقف عائقًا يحول دون فيض الأعمال المترجمة، وأنها سوف تَحُد من نشاطنا. ونسأل عن حجم الترجمة في بلادنا كنشاط اجتماعي، وإلى أي حدٍّ كانت الترجمة نشاطًا اجتماعيًّا هادفًا ومتداخلًا في نسيج ثقافتنا، ودعامةً لحركتنا النهضوية؛ تلبيةً لطلب اجتماعي ظامئ ومتنامٍ؟ مقارنة بسيطة تكشف أن هناك من هو أحق بالصراخ والشكوى، ولكنه آثر الفعل النشط ونجح في المواجهة، وأضحت الشكوى غير ذات موضوع. نظرة إلى نشاط الترجمة في عدد من البلدان المصنَّفة بين البلدان النامية، وليست ضمن بلدان العالم الأول، ومقارنة إنتاجها بإنتاجنا العربي؛ تشكِّل إجابةً واضحة أو فاضحة:
  • متوسط إجمالي الترجمة في جميع البلدان العربية (٢٥٠ مليون نسمة): ٤٥٠ عنوانًا؛ أي حوالي كتابَين لكل مليون.

  • متوسط إجمالي الترجمة في إسبانيا (۳۹ مليون نسمة): ٩٥٠٠ عنوان؛ أي حوالي ٢٤٠ عنوانًا لكل مليون.

  • متوسط إجمالي الترجمة في المجر (١٠٫٥ مليون نسمة): ۱۲۰۰ عنوان؛ أي حوالي ۱۰۰ عنوان لكل مليون.

إذن القضية أولًا هي نحن من حيث الإنتاج والنهم المعرفي، وكذلك توجُّهنا المعرفي؛ أعني ما الذي نعكف على قراءته؟ وما نوع الكتب التي لها رواج واسع في حياتنا؟

في عصر العولمة إنتاج المعلومات ونقلها سلعة عالمية السوق. يجري تبادل ملفات المعلومات داخل شبكات عالمية (الإنترنت)، بضاعة حاضرة بلغة السوق الذي تحتل فيه إسرائيل للأسف المرتبة الثانية في هذه التجارة المربحة بعد الولايات المتحدة الأمريكية. والهيمنة في عصر العولمة للأقدر والأسرع والأكثف في مجال إنتاج ونقل وتوزيع واستيعاب وتوظيف المعلومات.

أمَّا نحن فواقعنا يشهد أننا نشبه تاجر العاديات الذي يعرض سلعًا ذات قيمة جمالية أو تاريخية تملأ العين، وتُشبع الوجدان إلى حين، ولكن يكفي التطلع إليها وتأملها أو اقتناء بعضٍ منها دون أن تصنع حياةً لعصر جديد.

لهذا بات لزامًا لزوم الحياة والحفاظ على الوجود مواجهة النفس من أجل مواجهة الجات وجميع آليات دول المركز التي تدعم لها أسباب الهيمنة، حتى بات واجبًا الانتصار على عوامل التواكل والكسل والركون إلى الاستهلاك السلبي، واقتحام مجال الإنتاج الإبداعي، والإسهام في المنتج الحضاري؛ أن نهيِّئ أنفسنا لاقتحام سوق سلع المعلومات، ونعرض المطلوب للسوق طبقًا لمستوى العصر؛ أن نكون عنصرًا ضروريًّا في حياة العصر لا عيالًا عليها.

ما نصيبنا من إنتاج المعلومات لعرضها في السوق العالمية المطالبة بحقنا فيها؟

ما الكتاب العربي الذي يصادف رواجًا، أو يسد حاجة، في مجتمعات أو تجمعات غير عربية في مجال الأدب، والفنون، والعلوم الإنسانية بعامة، وكذا العلوم الطبيعية النظرية والتطبيقية (التقانة)؟

إننا نستطيع أن نواجه الجات على عدة مستويات منها:
  • الأول: تنظيم إدارة وتوزيع المنتج الفني والأدبي والعلمي والأثري السياحي؛ لضمان عائد التصدير إلى الخارج سواء على الجاليات العربية أم إلى السوق الأجنبية بعامة. ويقتضي نجاح هذا البند الارتفاع بمستوى المنتج ليكون حضاريًّا عصريًّا مطلوبًا من الآخر، ويكون سلعةً منافسة ذات عائد.
  • الثاني: اتخاذ التغييرات اللازمة في البنية الاجتماعية والبنية الذهنية للإنسان العربي؛ لكي نهيِّئ المُناخ للإنتاج الإبداعي والإسهام في إنجازات العصر، وهو أيضًا نفس المُناخ الحافز للقراءة والتماس المعرفة، بل ومغامرة الاكتشاف المعرفي، ومن ثم رواج الكتاب.
  • الثالث: عقد اتفاقات مع دول شمال المتوسط أو الاتحاد الأوروبي؛ إذ إن هذه البلدان تشجِّع نقل وتعريب إنجازاتها من الآداب والعلوم وترجمتها، تعزيرًا للعلاقات بين الجنوب والشمال كأسلوب من أساليب مواجهة العولمة بمعنى الهيمنة الأمريكية، ويقترن هذا أيضًا بالتخطيط، من خلال اتفاقات مع بلدان العالم الثالث. ويمثِّل هذا النهج خطةً من استراتيجية متكاملة نسمِّيها عولمة المواجهة، ولكن تأسيسًا على فعالية ذاتية، والاندماج في العصر، بعيدًا عن الشعارات الكلامية الجوفاء.
ويدفعنا هذا إلى أن نسأل مرات ومرات: ما مدى حاجتنا الاجتماعية إلى المعلومات؟ ما حجم ونوع الطلب الاجتماعي؟ وما حجم ونوع العرض الذي نعرضه من المعلومات؟ ما دورنا في إنتاج التقانة الخاصة بمعدات الكمبيوتر سواء العتاد؛ أي Hardware، أو تصميم البرنامج Software، بحيث يلبي إنتاجنا طلبًا عالميًّا. ونعود لنقول بكل أسف: إن إسرائيل تحتل المرتبة الأولى في بعض هذه المنتجات، وبلغت صادراتها من المنتجات الإلكترونية في عام ۱۹۹۷م ستة بلايين دولار؛ أي ثلاثة أمثال دخل مصر من قناة السويس.

وإذا كانت الجات تعني الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، فإننا قبل أن نطعن فيها حرًى بنا أن نعيد النظر إلى واقعنا، في ضوء رؤية استراتيجية هادفة؛ لنكون في موقع ووضع حضاريَّين؛ إذ يثرى مجتمعنا بالمبدعين الذين نطالب بحقوق ملكيتهم الفكرية.

إن الجات بكل مساوئها هي بالنسبة للكتاب والمعلومات حافز يستفزنا أو يستنفرنا لكي نرقى بمستوى إنتاجنا من الإنجازات العلمية النظرية والتطبيقية؛ لتكون على مستوى المنافسة الحضارية.

إننا حين نتحدث عن تشجيع الصادرات لزيادة الدخل القومي تتجه الأنظار وتتحول الجهود إلى السلع الخدمية المتوافرة، سواء في صورة خامات أو مصنوعات، وننسى أن البحث العلمي هو أهم الصادرات رواجًا، وأهم قوة دعم للصادرات الخدمية. ويجري تصدير البحث العلمي إمَّا في صورة برامج للكمبيوتر أو كتب أو دوريات تتضمن بحوثًا علميةً دورية، وإمَّا في صورة سلع يجري تطويرها تأسيسًا على هذه البحوث، بحيث تكون السلعة متضمنةً الإنجاز العلمي الجديد، كعامل ارتقاء وسبب للتفوق والمنافسة، وأيضًا عامل رواج وربح. ومعنى هذا أن تصدير السلع لن يحقِّق نجاحًا إلا بفضل البحث العلمي، ولن يتأتى هذا إلا إذا توفرت للمجتمع قاعدة للبحث العلمي متكاملة مع قاعدة الإنتاج. مجتمع يتعلم ويمارس العلم ويسوده مناخ علمي، والتنشئة الاجتماعية فيه تنشئة علمية في البيت والمدرسة والإعلام، أبناؤه يعشقون مغامرة الاستكشاف العلمي بغير حدود ولا قيود. مجتمع لا يخشى الجديد، وإنما يهوى الإبداع والتجديد.

ولنتأمل إسرائيل قطب التحدي والخطر المباشر على أرضنا، كمثال للمرة الرابعة والخامسة، كيف أصبحت قوة إنتاج علمي وتصدير للإنجازات العلمية بفضل قاعدة البحث العلمي والتنظيم الاجتماعي للموارد والطاقات المادية والبشرية. وأضحت دول كثيرة متقدمة؛ مثل اليابان والولايات المتحدة وألمانيا، ودول نامية مثل الهند تسعى إليها تعقد معها الاتفاقات لاستيراد منتجاتها التقنية، بل والمشاركة مع علمائها في مراكز البحث الإسرائيلي. وتشعر هذه الدول أنها بحاجة إلى إسرائيل التي تبيع من إنتاجها العلمي والتقني، في صورة أبحاث أو إنجازات مادية، ما يعوِّضها عن الجات، بل ويعود عليها بالربح الوفير، ويكفل لها الأمن والبقاء واستمرار التحدي بفضل ما هيَّأه لها البحث العلمي والثقافي وتنظيم الموارد من سطوة وقوة؛ إذ لا بد وأن يحتاج إلينا العالم لا أن يكون بقاؤنا صدقة من العالم؛ فالبقاء للأصلح.

ونسأل في المقابل عن تنظيمنا لمواردنا البشرية والمادية، وعن علاقتنا الاجتماعية إلى أي حد هي حافزة، وعن بنيتنا الذهنية وتنشئتنا الاجتماعية والتعليمية. ولنسأل إلى أي حد تمثِّل جامعاتنا ومراكز أبحاثنا قبلةً يقصدها علماء من العالم ليتزوَّدوا بإنجازاتنا ويتدرَّبوا فيها، وكم عدد علمائنا وباحثينا المبعوثين للدراسة والبحث في الخارج واستيعاب علوم وتقانة الآخرين المتقدمين؛ ليعودوا وهم ثروة اجتماعية وأداة إثراء وعطاء حضاري يمثِّل عائدًا اقتصاديًّا. لا أريد أن أسأل عن س أو ص من العلماء المصريين في الخارج. احتفت مصر مؤخرًا بعالم مصري زائر، وهناك غيره كثيرون من الطيور المهاجرة، ولكن لم يسأل أحد نفسه عن مصير هذا أو ذاك لو عاد إلى بلاده؟ ولعل الأصوب أن نسأل: كم آلافًا وُئدوا داخل المجتمع فكانوا ثروةً مهدرة، ولا يزالون؟!

إن العلم النظري والتطبيقي هو روح العصر، وهو روح السوق العالمية في عصر العولمة والهيمنة. السوق العالمية سوق معلومات إبداعًا وتوزيعًا وتوظيفًا، وهي معلومات في صورة أبحاث أو كتب أو مجسَّدة في سلع مادية إنتاجية وخدمية. لا نريد أن نكون أشبه بمن يواجه قاطع طريق فيصرخ ويَقنع بالصراخ، وإنما أن يتدبَّر أمره فيلتمس الحيلة والوسيلة للتصدي بسلاح العصر، خاصةً وأن الوضع العالمي هو محصلة توازن قوًى عسكرية وسياسية ومالية واقتصادية، وهي قوة ركيزتها العلم النظري والتطبيقي. وهذا الوضع العالمي ليس قدرًا محتومًا، وليس نهاية التاريخ، بل التاريخ حركة عالمية هي فعالية المجتمعات، والتي تُفضي إلى تغيير أطراف المعادلة. إنه إرادة المجتمعات الفاعلة؛ من أجل الانتصار على سلبيات النفس، والانتصار على الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤