المستقبل والمصير

نعود إلى ما بدأنا به من حيث مناهضة الترجمة والخوف من الانفتاح على العالم، وهو موقف مؤسَّس على ثقافتنا الاجتماعية المعاشة التي ترتكز على ثنائية نقيضية ambivalence؛ إمَّا الانزواء والانطواء، وإمَّا الانطلاق من موقع الهيمنة. ثقافة تقبل التجانس مع ذاتها فقط، إمَّا أنا وإمَّا الآخر. وأقول: إن مناهضة الترجمة موقف داعم لحالة التبعية، وهي هنا تبعية ثقافية للماضي، وأيضًا وفي الوقت نفسه تبعية لقوًى مهيمنة أجنبية ومحلية. إن عطالة الفكر والفعل الاجتماعيَّين على مستوى العصر يجعل المجتمع فريسةً لكلا الطرفَين، ومن ثم فإنه موقف ضد التحريرية الإيجابية الفاعلة، ونراه تكريسًا للتبعية. إنه يحجب الفكر الجديد، ويدعم أو يمهِّد الأرض لغزو ثقافي مناهض لنا ولمصالحنا؛ إذ يُضعف المناعة. ثم إن أصحاب هذا الموقف لا يرَون الحداثة سوى تكنولوجيا مستوردة ولا همَّ لهم إلا استهلاكها. وهذا دعم للتبعية الثقافية والاقتصادية. وقد تظن السلطات المستبدَّة أن بالإمكان محاصرة الفكر العلمي الجديد داخل مؤسسة عسكرية تهيِّئ لها الحماية داخليًّا وتترك لها مهام التصنيع. ولكن هذا نقيض مقتضى الحداثة التي هي تطور جذري لدور الإنسان العام، ولا نجد نظامًا حاكمًا سَلَك هذا المسلك واستطاع أن يبني أمةً ناهضة متحضِّرة وجيشًا قويًّا صامدًا، بل سرعان ما ينهار النظام أمام أول اختبار، وتعود البلاد إلى حالتها البدائية من جديد.

لهذا فإن الخوف من الترجمة هو دعوة للانغلاق والجمود. ولهذا أيضًا نرى أن الدعوة إلى الترجمة وتشجيع نشاط الترجمة بحاجة إلى إجابة على عدد من الأسئلة تكشف عن المضمون البنيوي الاجتماعي: ترجمة ماذا؟ ومِن مَن؟ ولماذا؟ إذ يختلف الأمر حين يكون نشاط الترجمة رهن تطوير وتحديث وتحرير اجتماعي ونهوض علمي، وبين أن يكون استهلاكًا وترفًا. المهم ما الأسباب التي تمثِّل ضرورةً اجتماعية؟ أي حاجة المجتمع النابعة من عملية تطوير داخلية تحدِّد المتطلبات اللازمة والداعمة؛ أي توفُّر إرادة وعمل إرادي هو اختيار بين بدائل كثيرة وثقافات عديدة لا نقع أسرى لها، ويعمل العقل العربي في ضوء ضروراته واختياراته التي هي وليدة فعل اجتماعي نشط، وصولًا إلى أهدافه.

وطبيعي أن الترجمة كنشاط اجتماعي منفتح وناجح تأبى الانحصار في إطار لغة واحدة ننقل عنها، وإنما تتجه إلى لغات عديدة صاحبة إنجازات حضارية وسباقة؛ ذلك أن الانحصار داخل لغة واحدة يعني انحصارًا داخل نسق ثقافي واحد لفكر مجتمع بذاته. وهذا قد يكون له سلبياته، ولكن الترجمة عن لغات عديدة تفضي إلى دعم نهج التفتح ومبدأ التعددية والتنوع والتسامح، علاوةً على الاستعانة بالجديد لدعم نسق ثقافي محلي بفضل تفاعل فكري نشط، مثال ذلك؛ مدارس علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو الأنثروبولوجيا، أو الفلسفة أو النقد … إلخ. إذا أخذنا فقط عن الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا سوف يحصرنا هذا في إطار نسق ثقافي بذاته؛ نظرًا لأن العلم ليس محايدًا مائةً بالمائة. وتزداد التبعية لهذا الفكر أو ذاك إذا ما وقع العلم بين أيدي مجتمع عاطل عن الإنتاج العلمي.

وإذا ما استعرضنا واقع نشاط الترجمة في العالم العربي نلحظ قصورًا وتدنيًا شديدَين كمًّا ونوعًا، ونلحظ فقدانًا للتوازن بين المعارف المتنوعة، وما يشبه العزوف أو الانصراف عن العلوم الأساسية. وتكشف المقارنات الإحصائية عن أن البلدان العربية غير محددة ولا موحدة الهدف والرؤية؛ لذا تأتي الإصدارات — تأليفًا وترجمة — تعبيرًا عن حالة التشتت المعرفي والمستقبلي. ونجد تضاربًا ومفارقةً واضحَين بين الحاجة الاجتماعية من منظور عصري وبين الفعل؛ أعني بين مقتضيات النهوض وبين ما يحدث فعلًا ممثَّلًا في إصدارات مؤلفة ومترجمة. ويؤكد هذا الحاجة إلى توحيد وتنسيق نشاط الترجمة، وهو ما من شأنه أن يساهم في توحيد وتنسيق البنية الذهنية أو العقل العربي. ولن يتأتى هذا إلا إذا اقترن نشاط الترجمة الموحَّد والمنسَّق مؤسسيًّا برؤية عربية واضحة الأهداف والفكر، فاعلة ومبدعة ومنتجة؛ أي اقتران باستراتيجية تنموية عربية، وبدون ذلك سيكون كل نشاط في مجال الترجمة حرثًا في البحر.

لهذا نرى أن رسالة المؤسسة العربية للترجمة، في ضوء ما حدَّدناه من أهداف لها في دراسة سابقة، رسالة شاقة عسيرة إذا نظرنا إليها في ضوء القصور السائد في العالم العربي، ومقتضيات النهضة من نقل المعارف كمًّا ونوعًا على نحوٍ يجعلنا ندنو من العصر.

إن ما نحتاج إلى ترجمته كثير كثير وشديد العسر والتعقيد من معارف ومعلومات لملاحقة الجديد الذي يفيض، ومن معاجم وموسوعات تشكِّل أساسًا للثقافة والعلم والتعليم؛ وهذا كله بحاجة إلى أموال طائلة، وجيوش من المترجمين الأكفاء المؤهَّلين، ثم إلى شعوب توَّاقة بعزم صادق إلى النهضة على أساس علمي، ومن ثم نَهِمةٍ لمعرفة المزيد والمزيد؛ فالنهوض في عصر العلم لا يعرف الشبع المعرفي، بل جوع ونَهَم وقدرة على الاستيعاب والتمثل والإبداع والإفادة والتوظيف.

وإنشاء ونجاح مؤسسة عربية للترجمة يستلزم تغييرًا جذريًّا حضاريًّا في البنية والعلاقات الاجتماعية وتهيئة مُناخ عربي يتمثَّل في:
  • (١)

    خطة قومية ذات محاور واضحة لإطار مفهومي مؤسَّس على بيان حالة الترجمة وموقع الترجمة من النهضة ودورها في التنمية الثقافية الشاملة على نحو ما حاولنا أن نعرضه.

  • (٢)

    خطة اختيار الكتب المترجمة على المستوى العربي، والهدف من ذلك لتكون بعض نسيج النهضة الحضارية.

  • (٣)

    خطة إنشاء شبكة اتصال عربية بشأن الترجمة والتوثيق للكتب المترجمة.

  • (٤)

    خطة إنشاء رابطة للمترجمين ونظام تشريعي لهم. ويمكن الاستفادة هنا بما أنجزَته المنظمة العربية.

  • (٥)

    دراسة واعية لواقع التحديات الداخلية والإقليمية والعالمية (حالة الأمية المتفشية، وحالة العزوف عن القراءة)؛ فالقضية ثقافيًّا هي كتاب وقارئ.

  • (٦)

    شبكة اتصال وتنسيق عربي لشئون التوزيع والتكامل؛ إذ الملاحظ أن الحدود شبه مغلقة في وجه الكتاب بين بعض البلدان، وأن هناك شبه انفصال بين المشرق والمغرب العربيَّين.

وإذا كان لنا أن نتعلم درسًا من عدونا، فإنني للأسف أقدِّم كلمة ميجور هاركابي القائد العسكري الإسرائيلي ورئيس جهاز الاستخبارات في كتاب صدر له عام ۱۹۹۳م تحت عنوان «الحرب النووية والسلام النووي»، خاصةً وأننا نُلِح الآن في طلب السلام؛ إذ يقول:
«في مقدور الدولة الصغيرة أن تتفوَّق على الدولة الكبيرة في مضمار العلم إذا كانت:
  • تحترم الفرد.

  • يشيع فيها الإقبال على طلب العلم.

  • تربط نفسها من خلال علمائها بمراكز الأبحاث والجامعات والمؤتمرات العالمية (الكليات غير المنظورة).

  • تُحسن التصرُّف في إمكاناتها.

  • تعمل على إذكاء روح التنافس العلمي بين المؤسسات العلمية المحلية في إطار التنافس العلمي مع الخارج.

  • وإن أي نشاط علمي يظل ضئيلًا غير فاعل ما لم يشمل القطاع الأعظم من السكان.»

(أنطوان زحلان، العلم والتعليم العالي في إسرائيل، ترجمة محمد صالح العالم، دار الهلال، القاهرة ۱۹۷۰م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤