تفاوت الجنسين

إلى هنا وضح الفارق الأصيل الذي تدور حوله جميع الفوارق الفطرية بين الجنسين، ونعني به الفارق بين الإرادة والإغواء.

وتتعلق بالإرادة جميع ملكات الابتداء والإنشاء والابتداع في المسائل الحسية والمسائل الذهنية والنفسية على السواء.

فالمرأة لا تبتدئ ولا تبتدع في صناعة من الصناعات أو فن من الفنون، وإن طال عملها فيه وانقطعت له أحقابًا بعد أحقاب، فإذا شاركها الرجل في الطهي أو الخياطة أو النسيج أو التزيين والتجميل — وهي صناعاتها التي غبرت على مزاولتها مئات الأحقاب — كان له السبق بالتجويد والافتنان، واستطاع في هذه الصناعات نفسها أن يستأثر بإقبال المرأة وثقتها دون من ينافسه فيها من النساء.

ومنذ القدم كانت المرأة تنوح وتبكي وتطيل الرثاء والحداد على الأموات، ولكنها لم تنظم في الرثاء قصيدة واحدة تضارع قصائد الفحول من الشعراء الذين لم ينقطعوا للرثاء ولم ينظموا فيه إلا عَرَضًا في الآونة بعد الآونة، كلما ألعجهم الحزن على فقيد عزيز.

ولا ينكشف قصور المرأة عن الابتداء والابتداع في فن من الفنون كما ينكشف في فن الغناء والموسيقى على الإجمال.

فقد ظُن خطأ أن الغناء صناعة نسائية ينبغي أن تحذقها المرأة كما يحذقها الرجل أو تربى عليه، وقد سنحت لها فرص الحذق والإتقان في هذا الفن بين القصور وفي الأكواخ والأسواق فلم يؤثر لها ابتكار في التلحين ولا اختراع في الآلات ولا افتنان في معاني التعبير بالألحان والأصوات.

والخطأ هنا من سهو الفكر كالخطأ في تمييز الجمال وذوق الحسن والاستحسان؛ إذ الواقع أن الابتداء بالغناء أيضًا خاصة من خواص الرجل الجنسية لا معنى لتفوق النساء فيها، ولهذا يستوفي صوت الرجل نماءه بعد البلوغ ويعظم تجويف صدره وتكمل أوتار حنجرته، وتتم له عدة المخارج الصوتية حينما تتم له مقومات الرجولة وملكاتها، وينعكس الأمر إذا سُلِبَ هذه المقومات والملكات، فتضعف حنجرته وتضيق كتفاه ويشتبه صوته بأصوات النساء والأطفال، وقلما يلحظ التغيير على مخارج المرأة الصوتية بعد المراهقة أو بلوغها مبلغ النساء.

وعلة ذلك ظاهرة، وهي العلة التي قدمناها في هذا الفصل وفي الفصول السابقة، ونعني بها أن الرجل هو الذي يريد وهو الذي يطلب المرأة ويسمعها نداء الرجولة دعاءً وغناءً فيقترن تمام الصوت فيه بتمام صفات الرجال.

والفارق في التركيب كافٍ وحده لإدراك الفارق بين الجنسين في الملكات والقرائح وفنون الابتداء والابتكار.

ولكن الواقع المشهود من قديم الزمن يغني في بيان هذا الفارق ما ليس يغنيه اختلاف التركيب.

لأن الواقع فعلًا أن المرأة لم تبتكر في صناعة من الصناعات، غير مستثنًى منها تلك الصناعات التي انقطعت لها وتوفرت عليها أحقابًا طوالًا قبل أن يتوفر عليها الرجال.

ومن السخف أن يقال إنها قد تخلفت في هذا المجال؛ لأن الرجل قد حجر عليها وقيَّدها بما يُرضِي هواه دون ما يرضي ملكاتها وأذواقها، فإن الرجل لم يحجر عليها في الطهي ولا في الخياطة ولا في الغناء ولا في الرثاء، وإن حجره عليها هو نفسه دليل على نقصها في القدرة البدنية والقدرة الذهنية، وأنها بالقياس إليه في المرتبة التالية على كل حال.

وقد عاش بعض الراهبات كمعيشة الرجال الرهبان في القرون الوسطى بين الأديرة والمعاهد الدينية والعلمية، وانقطع هؤلاء انقطاع هؤلاء للعبادة والتلاوة ونسخ الكتب وترجمتها والتفكير فيها، فلم يعرف لامرأة راهبة فضل في القراءة أو النسخ أو الترجمة كالفضل الذي عُرِفَ لمئات من الرهبان، وعُزي إليه إحياء نهضة العلوم بعد القرون الوسطى.

فهذا الفارق بين الجنسين من الفوارق التي يشهد بها التركيب كما يشهد بها الواقع المتواتر في جميع الأمم القديمة والحديثة.

ومداه واسع جدًّا لا ينحصر في مزايا القريحة، ولكنه يتخطاها كثيرًا إلى مزايا الروح والأخلاق.

ولنضرب لذلك مثلًا نصيب الرجل ونصيب المرأة من الزواجر الأدبية والروادع النفسية.

فهذه الزواجر أو هذه الروادع ترجع إلى مصادر ثلاثة يخيل إلى المتعجل أنها واحدة ولكنها متفرقة المعادن والأصول: زاجر الدين، وزاجر العرف، وزاجر الأخلاق.

وليس معنى التفرق في معادن هذه المصادر وأصولها أنها تتناقض ولا تتفق على نهج واحد، بل معناه أن الإنسان قد يمتنع عن المحرم بوازع من الأخلاق ووازع من الدين ووازع من العرف في وقت معًا، وقد يمتنع عنه بوازع منها دون الوازعين الآخرين.

فالمرأة نصيبها الذي يبرز فيها من هذه الزواجر هو نصيب العرف والدين، ولا سيما الدين الذين يرجع إلى الخوف والتسليم. وكثير من دين الجهلاء لا يرتفع إلى الحب والفهم كدين الخاصة وذوي الرأي والدراية.

أما الرجل فنصيبه الذي يبرز فيه من هذه الزواجر هو نصيب الأخلاق؛ لأن الأخلاق هي الزواجر التي يفرضها المرء على نفسه ولا يفرضها عليه العرف الشائع أو العقيدة المصدقة، أو سلطان القادة والرؤساء.

والأخلاق من ثَمَّ صفة من يريد.

والعرف والخوف الديني صفة من يُراد وينقاد.

فالرجل كائن أخلاقي، والمرأة كائن طبيعي يجري على حكم البيئة الطبيعية، وليس لها أخلاق بل عادات وشعائر وأحكام.

على أنها هي العادات والشعائر والأحكام التي تساير الغريزة الجنسية — أو الطبيعة الأولى — حيث تسير.

فمنذ القدم أَمَر الدين المرأة بالصيام عن الطعام في موسم من مواسمه المرعية، فلم تصبر على الصيام كما صبر عليه الرجل، ولم تزل تراوغ حكم الدين وهي في سن الشباب إلى أن يتجافاها الجمال ويعرض عنها الرجال.

ولكن المرأة الحديثة تتجشم من الصوم ما لم يتجشمه كثير من النُّسَّاك لإعجاب الأعين واجتذاب الأهواء، وتجتنب الطعام اللذيذ والشراب المشتهى لتجتنب السمنة التي يعافها الرجل في هذا الزمان، وليس اجتناب المطاعم والمشارب بالأمر الهين عندها وهي حسية جسدية في ميولها ولذاتها، ولكن الظفر بالاستحسان عندها فردوس يهون في طِلابه كل هذا الصيام الثقيل.

والصلوات، التي تنصَّلت منها ما استطاعت، هي شيء هين بالقياس إلى حركات الرياضة والتدليك ومتاعب الكساء الضيق والتلوين والتزويق، ولكنها لا تثقل عليها كما تثقل الصلاة، إذا كان وراء هذه المتاعب جزاؤها السريع من نظرة إعجاب أو كلمة إطراء.

•••

ولا يسيطر تركيب المرأة على إرادتها من هذه الناحية دون غيرها.

بل هو مسيطر عليها من نواحٍ شتى غير هذه الناحية، ومنها — على التخصيص — ذلك التناقض القوي بين الحزم وطبيعة الأنوثة في صميمها، وهي الطبيعة التي تفرض عليها الحمل والرضاع والحضانة وألا تبالي بعواقبها وإنها لمرهقة معنتة شاقة على النفس والجسد، وقد كانت في الآباد الغابرة خطرة قاتلة تُنهك من لا تميت.

فالحزم هو أن ينسى المرء العاجل في سبيل الآجل، وأن يبعد النظر إلى الغد ولا يقصره على الحاضر الذي هو فيه.

ولو رُزِقَتِ المرأة هذا الحزم لما استجابت مرة من عشر مرات لضريبة النسل المفروضة عليها، فالذي رُزِقَتْهُ إذن هو نقيض الحزم وهو نسيان الآجل في سبيل العاجل وإيثار السرور القريب على الغُنم البعيد، أو هو استجابة الأثر الحسي والإعراض عن نذير الحكمة والروية وهداية التأمل والتفكير.

وإذا بدا منها الحزم في موقف من المواقف فامتنعت عن لذة تغريها فتفسير ذلك لذةٌ أخرى مركزة لديها غالبة على تلك اللذة التي امتنعت عنها.

فترفض مثلًا الطعام لأنها مغرمة بالكساء، وترفض المال لأنها مشغولة بشعور الأمومة، أو ترفض الوسامة لأنها منقادة لقوة، أو ترفض كل هذه الغوايات لأنها لا تحس بإغرائها إلا عند مسيس الحاجة إليها، ولا تحفل بحاجة الغد ما دامت غنية عنها في يومها.

فحزمها هو مقاومة إغراء بإغراء، أو تسويف وإرجاء إلى ساعة الشعور بالإغراء.

وربما كانت رحمة المرأة في لُبابها — وهي أشهر أخلاقها — مزيجًا من نقص الشعور بالألم ومن التذاذ الشعور به كما رجح بعض الباحثين في فضائل النساء والرجال.

فالمرأة تطيق التمريض على رأي هؤلاء الباحثين لأنها بليدة الحس، كليلة الخيال، لا تثير فيها رؤية الألم تلك الصور المتلاحقة التي تخلقها مخيِّلات الرجال، ولو كانت تفزع للعذاب وتشفق منه على المتعذب لما استراحت إلى ملازمته والنظر إليه واستماع أنينه وشكواه.

ولا تخفى وجاهة هذا التعليل الذي ذهب إليه أولئك الفلاسفة ولكنه على غير ذلك قاطع في تأويله؛ لأن صبر المرأة على رؤية العذاب قد يفسر بالاستغراق في عاطفة الرحمة، وأن هذا الاستغراق يعين على الاحتمال ويملي للمرأة في مجاراة الآلام، ولا سيما المرأة التي تنبعث فيها عاطفة الأمومة وتجيش في قلبها فاجعة من فواجعها.

ومع هذا لا ينفي استغراق المرأة في عاطفة الرحمة أنها تلتذ الألم وتجتره وترتضيه، وأنها كليلة الخيال قَلَّمَا تتولى الألم بالتصوير والتكبير كما تتولاه مخيلات الرجال.

ولا تنتهي أقوال الكتاب وأصحاب المذاهب الفلسفية والعلمية في تأويل أسباب التفاوت بين الجنسين؛ لأن تعدد التأويلات هنا مسألة مزاج كما هو مسألة فكر ودراسة، وليس أكثر من تعدد أبناء آدم في المزاج والدرس والتفكير.

لكن التفاوت قائم وإن اختلفت الأقوال في تأويله، وقيامه حقيقة عيانية وحقيقة علمية وحقيقة منطقية في وقت واحد؛ إذ كل قول بالتشابه بين الرجل والمرأة أو بالتساوي بينهما هو في مؤداه قول برجحان المرأة على الرجل وتفوقها عليه لجمعها بين وظائفها ووظائفه في بنية واحدة، وذلك هو الرجحان الذي لا يسيغه منطق سليم.

وما من أحد له مصلحة في إنكار التفاوت بتة بين الجنسين كمصلحة الماركسيين أو الشيوعيين في إنكاره وإثبات المساواة أو المماثلة التامة بين الذكور والإناث؛ لأنهم ينظرون إلى المرأة كأنها وحدة اقتصادية يمكن استغلالها إذا بطل استغلال الرجال، فلا يريدون أن يثبتوا بينها وبين الرجل فرقًا يسمح بهذا الاستغلال في دولة رأس المال.

ولكنهم على هذه الرغبة الملحة عندهم في تقرير المساواة بين الجنسين والإغضاء عن الحقائق التي تنفيها لم يقدروا على المماراة طويلًا في هذه المغالطة الموائمة لمذهبهم، وأعلنوا في نشرة الأخبار الحكومية التي أذيعت في أوائل السنة الماضية أن تجاربهم الطويلة في تعليم الصبيان والبنات قد دلَّت على فارق واضح بينهم يلاحَظ عليهم في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وما حولها، فكانت النتائج تختلف اختلافًا بيِّنًا مع وحدة السن والمجهود، ويظهر هذا الاختلاف في طاقة العمل عند الصبي والبنت مع تعدد التجارب والبيئات.

ولا يخفى أن عدد الصبيان والبنات الذي يقع تحت الملاحظة الحكومية بمدارس الشيوعيين هو أكبر عدد يتيسر لأصحاب مذاهب التربية في قُطر من الأقطار؛ ففي بلادهم مائة وخمسون مليونًا يذهب أبناؤهم وبناتهم جميعًا إلى المدارس من سنواتهم الباكرة، وينشأ هؤلاء الأبناء والبنات في بيئات الشمال والجنوب، وفي مدن الصناعة وقرى الزراعة، وبين الشعوب الأوروبية والآسيوية من عناصر شتى.

وقد كان أناس من أساطين علم النفس بين علماء العصر الحديث يقاربون هذه المسألة الجُلَّى — مسألة تعليم الجنسين — بعناية دون العناية التي تنبغي لأمثالها وتنبغي لهم وهم يطرقون المباحث التي تتصل بتهذيب النفوس ومصير الأجيال، ومنهم من في طبقة «ألفرد أدلر» الذي خطر له أن يناظر «فرويد» في دراساته النفسية المشهورة، وهي فتح عظيم في تاريخ المعرفة الإنسانية. فأدلر يقول في موضوع تعليم الجنسين من كتابه عن فهم الطبيعة الإنسانية: «إن أهم المنشآت التي أقيمت لتحسين العلاقات بين الجنسين هي التي أنشئت للتعليم المشترك بينهما.» ثم يقول: «إن هذه المنشآت لا تقابل باتفاق الآراء، لأن لها خصومًا كما لها أصدقاء.»

ولكنه هو يقطع بالرأي في ثنايا عرضه لأقوال الأصدقاء والخصوم حيث يقول: «إن أصدقاءها يجعلون أقوى برهان لهم على صلاحها أن الجنسين — خلال التعليم المشترك بينهما — تنفسح لهما الفرص ليفهم كل منهما صاحبه في السن الباكرة، فيقضي هذا التفاهم على الموروثات الوهمية ويمنع عواقبها الضارة جهد المستطاع. أما خصومها فيجيبون عادة بأن الصبيان والبنات يكونون في سن المدرسة قد بلغوا من الاختلاف حدًّا يزيد الشعور به والانتباه إليه عند الاختلاط في معهد واحد؛ لأن الصبيان يحسون أنهم مرهقون، ويداخلهم هذا الإحساس مما يُشاهَد على البنات من أنهن أسرع في النمو الذهني خلال هذه السن الباكرة، فإذا اضْطُرَّ هؤلاء الصبيان إلى المحافظة على مزيتهم وإقامة البرهان على تفوقهم بدا لهم فجأة لا محالة أن مزيتهم في الحقيقة إن هي إلا فقاعة صابون ما أسهل ما تنفجر وتزول.

ويقول بعض الباحثين غير هؤلاء: إن الصبيان في المعاهد المشتركة يقلقون أمام البنات ويفقدون كرامتهم في نظر أنفسهم … ولا محل للشك في اشتمال هذه الأقوال على نصيب من الصدق والرجاحة، ولكنها لن تصمد للاختبار إلا إذا نظرنا إلى تعليم الجنسين معًا كأنه ميدان للتنافس بينهما على قصب السبق في الملكة والكفاءة، وهي نظرة وبيلة إن كان هذا هو غرض التعليم عند الأساتذة والتلاميذ. وما لم نوفق إلى أساتذة يرون في التعليم المشترك رأيًا أفضل من اعتقادهم أنه سبيل إلى التدرُّب على التنافس أو التنازع المقبول بين الجنسين في المجتمع؛ فكل محاولة للتعليم المشترك فاشلة إذن لا محالة، ولن يرى خصومه من النتائج المحتومة إلا دليلًا على صوابهم بما أصابه من إخفاق.»

ثم يستطرد أدلر فيقول: «وما أحوجنا إلى خيال شاعر لتصوير الحالة كلها في صورتها الصحيحة، فلنقنع من ثَمَّ بالإشارة إلى المواضع البارزة منها، ومنها أن الفتاة الناشئة تتصرف فعلًا تصرُّف من يشعر بالضعة، ويصدق عليها تمامًا ما قلناه آنفًا عن الرغبة في التعويض عند ابتلاء الإنسان بذلك الشعور، وإنما الفارق هنا أن شعور الضعة مفروض على الفتاة بحكم بيئتها، وأنها تُساق إلى هذا الاتجاه سوقًا حثيثًا يدعو الباحثين ذوي النظر الثاقب أحيانًا إلى تصديق هذه الضعة فيها، وليس لهذا الوهم من نتيجة إلا النتيجة العامة التي يندفع إليها الجنسان حين يتعجلان خطط التزاحم والتنافس التي تشغل كلًّا منهما بغير ما يعنيه وما يصلح له.»

وقرار المشرفين على تعليم الجنسين بالمدارس الروسية مفيد في استدراك هذه التخريجات والتعليلات التي ذهب إليها أدلر قبل أن تُوغِل في طريقها إلى تلك النتائج المزعومة.

إذ لا يمكن أن يقال: إن فصل الجنسين بالمدارس الروسية ناشئ من شعور الضعة المفروض على الفتاة أو البنت الصغيرة؛ لأن النساء الروسيات من سن الأربعين فنازلًا قد نشأن على عقيدة التساوي بين الجنسين ولم تفرض عليهن البيئة عقيدة غيرها منذ فتحن أعينهن إلى الآن، ولو غلا الدعاة الروسيون إلى أحد الطرفين لجاز أن يكون غلوهم في تقرير هذه العقيدة وتوكيدها لا في إدحاضها وإضعافها، فليست هناك ضعة مفروضة على الفتاة بحكم بيئتها ولا يوجد هناك من يسوقها إلى هذا الاتجاه سَوْقًا حثيثًا يوهم الباحثين ذلك الوهم الذي تَوهَّمه أدلر من بعيد.

ومع هذا سجل الباحثون الروسيون أن الفرق حاصل بين الجنسين في أدوار التعليم، وتبين لهم أن الصبي من سن العاشرة إلى الرابعة عشرة يعاني من تجميع القوى في بنيته عناء يُثقل عليه فيبطئ نموه بعض الإبطاء، وعلى خلاف هذا يطَّرد النمو في البنات بين العاشرة والرابعة عشرة فيزدن في الوزن والطول فضلًا عن استعداد الفهم والمعرفة.

ثم يأتي دور الصبيان بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة، فإذا هم الذين يسبقون البنات في الوزن والطول والاستعداد للفهم والمعرفة، فلا يتأتى — وهذه هي الفوارق بين الجنسين من العاشرة إلى السابعة عشرة — أن يتلقوا معًا دروسًا واحدة ويجاري بعضهم بعضًا في مضمار واحد.

ثم يأتي دور آخر وهو دور التفكير في الفوارق بين عمل الرجل وعمل المرأة في الحياة؛ إذ ليس من المستطاع أن يناط بهما عمل واحد يؤديانه على نحو واحد من القابلية والكفاءة.

فالرجال يُعَدُّونَ للجندية ويُدَرَّبُونَ على فنون من الدربة الرياضية العسكرية وهم فتيان صغار، ولا يقال: إن النساء أيضًا يعملن للدفاع عن أوطانهن في الجيوش. فإن الواقع أن الوظائف موزعة بين الرجال والنساء حتى في ميادين القتال، فلا تناط بالنساء إلا الأعمال التي توائمهن كأعمال التموين والمواصلات والتمريض وما يشاكلها مما يباشرنه وراء خطوط النار.

وكذلك لا تناط بهن في تحضير الذخيرة والأسلحة إلا الأعمال التي يطقنها دون الأعمال الكبرى التي لا يصلحن لها ولا تناط بغير الرجال.

وكما ينبغي أن يُعَدَّ الرجال للجندية ينبغي أن يُعَدَّ النساء للأمومة وما يتصل بها من فنون التربية والتنشئة والعناية بالصحة والغذاء، ومهما يكن من التسوية بين الآباء والأمهات في تبعة الأبوة والأمومة فلن تلغي هذه التسوية كل فارق بين الأب والأم في النشأة والاستعداد.

ولقد جُرِّبَ فصل الجنسين بضعة أشهر فظهر أثر هذه التجربة في زيادة التجانس والتوازن بين صفوف المتعلمين والمتعلمات، وأمكن أن يستفيد الصبيان والبنات خير فائدة من كل فترة يتشابهون فيها ولا يتفاوتون.

ولم يزل أساتذة التربية هناك حريصين على مذهبهم المعهود من التسوية بين الجنسين وهما مفترقان، فقال «سولوخين» مدير إحدى المدارس بموسكو: إن هذه التفرقة لا تفيد التفضيل والتمييز «لأن البنات والصبيان في مدارسنا يتلقون وسيتلقون طبقة واحدة من التدريب والتعليم، ويؤهَّبُون أهبة متساوية لنصيبهما من عمل الحياة، وينشأون على عقيدة التكافؤ بين الجنسين».

ونقول نحن: إن عقيدة التكافؤ لا تهم في هذا الموضوع ما بقي الفارق بين الرجل والمرأة في البنية والوظيفة محسوبًا له حسابه الصميم في مراحل التعليم من الطفولة إلى الشباب.

فليست المسألة التي نحن بصددها مسألة تقدير المنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها هي مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين.

وقد يفرط القائلون بالتساوي كما يفرط القائلون بالتفاوت ذلك الإفراط الذي يلامس الفكاهة والمزاح وإن لم يقصد به قائلوه شيئًا من فكاهة أو مزاح.

فهذا الإلحاح على مسألة التساوي لا يقل في سخفه وهزله عن ذلك الرأي الذي ذهب إليه عالم من علماء الطبيعة وهو لا يمزح ولا يهزل، ولكنه يقول جادًّا: إن اتساع الهوة بين إدراك الرجل والمرأة يرجح لديه أنها أنثى حيوان آخر لجأ الإنسان إلى اغتصابها في غابر العصور على أثر آفة جائحة ألمَّت بالإناث الإنسانية فانقرضت وهي في بقعة محدودة من الأرض، قبل انتشار الآدميين على وجه العالم المعمور؛ فذلك أقرب التعليلات عنده لهذا التفاوت البعيد بين أسلوب الرجال وأسلوب النساء في الفهم والتصور، فضلًا عن القوة العاقلة والبداهة الذهنية!

وفي تخيل هذا العالم غُلُوٌّ يلامس الفكاهة كما أسلفنا، إلا أننا لا نعدو حدود المقررات الفكرية ولا نلامس الفكاهة حين نقول: إن الأنثى الإنسانية ليست هي المقصودة باستقلال الخلقة والتكوين، وإن الغرائز الجنسية تلقي في روعنا أن الرجل هو المقصود باستقلال الخلقة من طريق هذه الغرائز، كما استدللنا على ذلك في بعض فصول كتابنا «المطالعات» فقلنا: «إن المرأة تعشق الرجل لتأتي برجل على مثاله أي لتكرره وتعيد خلقه، ولكن الرجل لا يعشق المرأة ليأتي بامرأة على مثالها ويكررها وإنما يعشقها ليكرر نفسه ويأتي بولد له على مثاله هو من طريق المرأة التي تصلح لذلك في نظره وهواه، والمرأة تعشق لتسليم نفسها في نهاية الأمر فدورها في العشق هو دور التسليم دائمًا. أما الرجل فيعشق ليظفر بالمرأة فدوره في العشق هو دور الظافر دائمًا، وليس في مضامين الغرائز الجنسية — وهي أصدق مقياس لما يتناوله الاختلاف من وظائف الجنسين — ما يؤخذ منه أن المرأة أعظم من الرجل شأنًا أو أنها مقدَّمة عليه في مقصد من مقاصد الطبيعة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤