أخلاق المرأة

الأخلاق ضوابط جسدية ونفسية تعم الأحياء جميعًا ولا تخص نوع الإنسان.

ومن العسير أن نفصل بين الأخلاق الإنسانية والأخلاق الحيوانية بحجاز حاسم يقال عن هذا الشطر إنه إنساني لا حيوانية فيه، وعن ذلك الشطر إنه حيواني لا إنسانية فيه.

ولكن الفصل بينهما قد يتيسر على وجه التقريب بمقياس يصدق في معظم الأحوال، إن لم يصدق في جميع الأحوال.

فالخُلُق الإنساني هو الخلق الذي يعتمد على المبدأ والضمير ويتفاضل الأفراد فيه على حسب التفاضل بينهم في العقل والنُّبل والنشأة والعادة والتعليم.

والخُلُق الحيواني هو الخلق الذي يعتمد على الغريزة والوظائف الحيوية ويجري على وتيرة الحركة الآلية التي لا تحتمل التفاضل البعيد بين فرد وفرد وبين فصيلة وفصيلة.

ذاك فردي روحي.

وهذا نوعي جسدي على وجه التقريب بذلك القياس الذي قلنا إنه قد يصدق على معظم الأحوال وإن لم يصدق على جميع الأحوال.

وهذا المقياس بعينه هو المقياس الذي يرجع إليه في التفرقة بين أخلاق الرجال وأخلاق النساء: كل ما هو فردي روحي أو اختياري إرادي فهو أقرب إلى خلق الرجل، وكل ما هو نوعي جسدي أو آلي إجباري فهو أقرب إلى خلق المرأة؛ فمداره على وحي الغريزة أولًا ثم على وحي الفهم والضمير.

والأخلاق التي يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التَّبِعة والحساب أو مسئولية الأدب والشريعة والدين، هي كما لا يخفى أخلاق تكليف وإرادة وليست أخلاق إجبار وتسخير.

ومن هنا صح أن يقال إن المرأة كائن طبيعي وليست بالكائن الأخلاقي على ذلك المعنى الذي يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.

ملاك الأخلاق الأول عند المرأة هو الاحتجاز الجنسي الذي ألمعنا إليه فيما تقدم، وهو من الغريزة التي يتساوى فيها إناث الحيوان وليس من الإرادة التي يتميز بها نوع الإنسان بجنسه.

فالمرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسابق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها فتلبيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار.

كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الدِّيَكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.

وكذلك تصنع الهرة وهي تتعرض للهر وتعدو أمامه ليلحق بها، وتصنع العصفورة وهي تفر من فرع إلى فرع ليدركها العصفور السريع، وتصنع الكلبة والفرس والأتان وهي مضطرة إلى الاحتجاز؛ لأنه الحكم القاهر الذي فرضته عليها وظائف الأعضاء.

والبَوْنُ بعيد جدًّا بين هذا الاحتجاز الجنسي وبين فضيلة الحياء التي تعد من فضائل الأخلاق الإنسانية.

فالحياء مفاضلة بين ما يحسُن وما لا يحسن وبين ما يليق وما لا يليق وما هو أعلى وما هو أدنى.

والاحتجاز الجنسي غريزة عامة بين الإناث ترجع إلى القهر والإجبار كائنًا ما كان التفاوت بينها في درجة القهر والإجبار.

ومتى بلغ هذا الاحتجاز الجنسي مبلغه الذي قصدت إليه الطبيعة فقد بلغت الأخلاق الأنثوية غايتها ولم يبقَ منها ما يلتبس بالحياء في صورته ولا في معناه.

ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد استحياء من الرجال؛ فالواقع كما لاحظ شوبنهور أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال يستحون حيث لا يستحي النساء، فيستترون في الحمامات العامة، ولا تستتر المرأة مع المرأة إلا لعيب جسدي تواريه.

ولم يكن عمر بن أبي ربيعة مبالِغًا حين قال: إن الوجوه يزهوها الحسن أن تتقنع. بل هو لو شاء لقال عن الأجسام ما قال عن الوجوه؛ فلا تستر الأنثى الفطرية شيئًا يمكنها أن تبديه إذا كان في عرضه مجلبة للنظر والاستحسان، ومن شهد الحمامات العامة على شواطئ البحر رأى كيف تُهمَل الأكسية ذات الرفارف المسبلة ليبدو للأنظار ما استتر من محاسن الأجسام.

فالخلق الذي تتحلى به المرأة بداهة هو خلق الغريزة الذي يوشك أن يشمل إناث الحيوان.

وكل خلق «إرادي» تتخلق به بعد ذلك فهو فريضة عليها من الرجال تجاريهم فيه على ديدن المحاكاة والمطاوعة سواء فهمته أو جهلت كُنْهَهُ ومرماه؛ ولهذا يكثر في النساء من يتقيدن بالعرف القديم؛ لأن قوام العرف القديم عادات ومصطلحات هي أقرب إلى الغريزة الآلية من فضائل الفهم والإرادة، ويندر بينهن جدًّا من تتحدى العُرف بفضيلة واحدة من فضائل الاختيار.

جرى حديث متنقل في مجلس يضم رهطًا من الرجال والنساء على قسط شائع من التعليم والعرف والآداب الخلقية، فانساق الحديث إلى سيرة رجل يتجاوز الخمسين ذاع عنه أنه يستدرج الفتيات الغريرات إلى داره فيلهو بهن ويظهر معهن في المحافل العامة، ويدفعهن إلى سهرات العبث والمجون، فكان النساء أقل من حضر المجلس اشمئزازًا من سيرة ذلك الخليع، كأنهن لا يرين نقصًا في رجل من الرجال بعد أن تكمل له تلك الفحولة الحيوانية، أو كأنهن لا يصدقن أن الفتيات الغريرات يسقطن في شراكه مخدوعات مغلوبات على مشيئتهن، ولكنهن راضيات مسرورات بما أتيح لهن من فرص المتعة والابتهاج.

وكل ما بدا عليهن بعد ذلك من الاشمئزاز فقد سرى إليهن مستعارًا ممَّن كان بالمجلس من الرجال، فقد كانوا في هذا المجتمع الخاص كما كانوا في المجتمع العام كله «مصدر السلطات على حد قولهم» في لغة الدساتير.

ومتى سقط سلطان الرجال في الأمة سقط معه سلطان الأخلاق سواء منها أخلاق العرف وأخلاق الإرادة.

فالأمم المهزومة يُشاهَد فيها طوائف من النساء يجهرن بمخادنة الجنود الفاتحين، ولا يكرثهن أنهم قاتِلوا الإخوة والأزواج والآباء، لأن الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطرية أو الحيوانية من جميع هذه الأواصر والآداب.

والعبرة التي تُستفاد من هذه الحقيقة أن النساء يوكلن إلى الفطرة في أخلاق الغرائز والعادات، ولكن لا يصح أن يُتْرَكْنَ في الأخلاق الأخرى — أخلاق الإرادة والضمير — بغير إيحاء شديد، بل إكراه يتجاوز حدود الإيحاء.

والغريزة القاهرة تعلل محاسن المرأة كما تعلل نقائصها، فتمهد لها العذر بين يدي الطبيعة وإن لم تمهده لها بين يدي القانون والأخلاق.

فالتضحية هي أسمى فضائل الإنسان.

وهي فضيلة لا يقدم عليها المرء كل يوم ولا يقدم عليها بغير دافع شديد من وحي الفطرة أو من وحي الضمير.

ولكنها من وحي الفطرة أعم وأنفذ من وحي الضمير؛ لأن سلطان اللحم والدم عميق القرار في بواعث النفوس.

ومن ثَمَّ كانت المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية؛ لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية كما تموت بعض إناث الحيوان، ولا تسهل التضحية على الرجل هذه السهولة إلا إذا ارتقى فيه وحي الضمير إلى مرتبة الدوافع الفطرية المودَعة منذ الأزل في غرائز الأحياء، وتلك مرتبة يعز بلوغها على أبناء آدم فلا تزال فيهم من فضائل الأنبياء وأشباه الأنبياء، أو كما قال ابن الرومي:

وعزيزٌ بلوغُ هاتيك جدًّا
تلك عُليا فضائل الأنبياء

إنما يُقْدِمُ الرجل على التضحية في جملة أحوالها العامة بغريزة أخرى مغروسة في طبيعة النوع ولكنها أحدث وأقرب إلى الإرادة، وهي غريزة القطيع التي نشأت مع الخلائق الاجتماعية ولم تنشأ بداءة مع الولادة كما نشأت الغرائز الأنثوية في جميع إناث الأحياء، فإذا تصدى الرجل للقتال في الجيش أو الكتيبة تحرك بإرادة القطيع كله وتغلب بها على الخوف وحب السلامة. ولكنه قد ينفرد بالتضحية التي يدفعه إليها وحي الضمير فيعلو على فضائل الأنواع والجماعات ويعرج بروحه صعدًا في طراز رفيع من الفضائل: هو فضائل الأفراد والأفذاذ.

•••

والغرائز المختلفة التي تعلل لنا محاسن المرأة تعلل لنا نقائصها التي تعاب عليها من بعض جهاتها، وقد لخَّصها المتنبي ولخص كل ما قيل في معناها؛ حيث قال:

فمن عهدها ألا يدوم لها عهد

فهي تتقلب وتراوغ وترائي وتكذب وتخون وتميل مع الهوى وتنسى في لحظة واحدة عِشرة السنين الطوال.

وهي مسوقة إلى ذلك بالفطرة الجنسية التي خلقت فيها قبل نشأة الآداب الاجتماعية والآداب الدينية بألوف السنين؛ فقد أغرتها الفطرة الجنسية بالميل إلى الأقدر الأكمل من الرجال لتنجب للعالم أحسن الأبناء من أحسن الآباء.

فلم يكن ممَّا يوافق هذه الفطرة في العصور السحيقة أن تحفظ العهد لرجل واحد ومن حولها رجال كثيرون يتقاتلون عليها، وقد يغلب أحدهم رجلها الذي تحفظ له العهد أو يطالبها بحفظه.

وكانت الحرب في بداية الحياة الإنسانية هي مقياس القدرة والرجحان بين الرجال في قبيلتهم أو في جميع القبائل المحيطة بها.

فكان من شأن المرأة أن تسلِّم لظافر بعد ظافر وشجاع بعد شجاع، كلما دارت رحى الحرب بين غالب ومغلوب وبين الشجاع القوي ومن هو أشجع منه وأقوى.

ثم أصبح المال مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، وكان مقياسًا صحيحًا في العصور الغابرة، وظل كذلك ألوفًا من السنين؛ لأنهم كانوا يكسبون المال غنيمة في حومة الحرب أو ربحًا من أرباح التجارة التي تقحم أصحابها في مجاهل الأرض وتهدفهم لأخطار القتل والاستلاب وتُلجئهم إلى الحيلة تارة وإلى الحَوْلِ تارات وتشهد لهم بمقياس القدرة والرجحان عن جدارة واضحة تغني المرأة عن التفكير، وهي لا تعمد كثيرًا إلى التفكير قبل الاختيار.

قلنا في الفصل الذي عقدناه على رأي المعري في المرأة من كتابنا «المطالعات»: «والذي نقوله في جملة واحدة: إن المرأة وفية صادقة، وفية للحياة لا لهذا الرجل أو لذاك، وصادقة في الحب لا في إرضاء أهواء من تحب، ولو أنعمنا النظر لعرفنا أن المرأة تخون نفسها كما تخون الرجل في سبيل الأمانة للحياة، وتكذب على نفسها كما تكذب على محبيها في صيانة عهد الحب؛ فهي وفية بالفطرة رضيت أم لم ترضَ، وهي صادقة بالإلهام حيث أرادت وحيث لا تريد …».

إلى أن قلنا: «تحب المرأة الشباب ومن ذا الذي لا يحب الشباب؟ إن الشباب نفحة الخلود وروح من روح الله. تصور الأقدمون الآلهة فلم يفرقوا بينهم وبين الشباب وأسبغوا عليهم كساءً سرمديًّا من نسجه وبهاء متجددًا من صنعه، شعورًا منهم بأن الشباب سمة الحياة الخالدة وروح المعاني الإلهية، وترجيحًا لخير الشباب على شَرِّهِ ولمحاسنه على عيوبه.»

«… ثم تحب المرأة المال ومن ذا الذي يكره المال؟ غير أننا قد نرى للمرأة سببًا غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه، نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبارٍ لاختبار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار واجتلاب الإعجاب والإكبار؛ فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب وأجرأهم على الغارات وأحماهم أنفًا وأعزهم جارًا، فكان الغِنَى قرين الشجاعة والقوة والحمية وعنوانًا على شمائل الرجولة المحبَّبة إلى النساء أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فكان أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاقِّ وتجشُّم الأخطار والتمرُّس بأهوال السفر وطول الاغتراب وأقدرهم على ضبط النفس وحُسن التدبير، فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضًا وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظرًا وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلقًا، وأصلبهم على المثابرة، وأجلَدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور …».

كان هذا كله في العصور الأولى قبل تشعُّب الحياة الاجتماعية وتعدُّد المَلَكات والصفات التي تكفل الرجحان والتقدم للرجال.

ثم تعددت هذه الملَكات والصفات فقام في طبيعة المرأة «برج بابل» مخيف من اختلاط الأصوات والدعوات.

كان رجحان الرجل بسيط المظهر، وكانت فطرة المرأة البسيطة قادرة على تمييزه بغير إعنات للفكر ولا إطالة للروية.

ثم تشعبت الملَكات والصفات ووجد في العالم رجال ممتازون بأكبر المزايا، وليس للمرأة من فطرتها البسيطة معين على تقدير مزاياهم وعرفان أقدارهم، والترجيح بينهم وبين من دونهم من أصحاب المزايا الفطرية التي تنكشف للنظرة الأولى ولا تحتاج إلى إنعام نظر أو موازنة بين أنواع وأشكال: رجل الحرب الذي يظفر بالقوة والخدعة، ورجل المال الذي يكسب بالقوة والخدعة، وكلاهما مفهوم واضح مكشوف على ظواهر الأشباه.

ثم انفصلت الحرب عن الشجاعة في بعض المواقف، وانفصل المال عن القدرة الراجحة في كثير من المواقف، فأغنى السلاح والكثرة ما لا تغنيه الشجاعة، وكسب المال بالإسفاف والدناءة وخدمة الشهوات؛ فهذا هو برج بابل الذي لا تدري المرأة فيه من تسمع ومن تجيب، والذي تحار فيه قبل التمييز والتفضيل وقد كانت قبل ذلك لا تحار في تمييز أو تفضيل.

وزاد برج بابل طبقةً على طبقاته الكثيرة أن الآداب الاجتماعية وآداب الأسرة ظهرت بين الناس وفرضت على المرأة أدبًا جديدًا غير الأدب القديم، أدبًا يطالبها بالوفاء والأمانة ومغالبة الميول إذا تناضل من حولها الرجال، فزاد في الحيرة والتبلبل ولم يخلق بإزائه في فطرة المرأة معين على التمييز والاهتداء، إلا ما تقتبسه بالتعليم والتلقين والإيحاء، وهو ضعيف محدود لا يقوم لإيحاء الفطرة القديم إذا اشتجر النزاع واضطربت الأهواء.

فانقسم النساء أقسامًا شتى في الأخلاق الفطرية والأخلاق الاجتماعية: قسم مع الفطرة القديمة وقسم مع الأدب الجديد، بل أصبحت كل امرأة مجالًا لتعدُّد هذه الأقسام تميل مع هذا أو ذاك كلما مالت بها دواعيه.

فنحن إذ نقول إن المرأة تطيع الغرائز الجنسية في التقلُّب والمراوغة وخيانة القرناء لا نقول ذلك لنعذرها كل العذر أو لنُسقط عنها واجب التغلب على هذه الميول التي تغيرت وجهاتها مع الزمن ولا تزال عرضة لكثير من التغير، فإن الأخلاق لم تجعل لإبقاء الفطرة على عيوبها، وإنما جُعِلَتْ لتهذيب تلك العيوب ورياضتها وشد أزر النفس بالمُثُل الأدبية التي تعينها على عيوبها. ولكننا نقول ما نقول لنذكر أبدًا أن فهم الغرائز الجنسية ضروري لفهم الأخلاق التي تتصل بها، فلا فائدة من البحث في رياضتها بالأدب الاجتماعي قبل البحث فيما يقابلها من أصول الفطرة التي تعم جميع الأحياء، وليس عمومها بين جميع الأحياء بمانع من إصلاحها بالرياضة والتقويم، بل هو الذي يسوغ ذلك الإصلاح ويوجبه ويبشر بفلاحه؛ لأن الإنسان قد علا فوق سائر الأحياء، فمن الواجب إذن — ومن المستطاع أيضًا — أن يعلو فوقها بالآداب والأخلاق.

ومن مفارقات العصور المتأخرة أن ينجم فيها طائفة من الدعاة وأصحاب الآراء يستخفون بالاحتجاز الجنسي الذي كان عصام المرأة من جماح الأهواء زمنًا طويلًا ويستخفون معه بما عداه من الحواجز الجنسية المغروسة في طباع الأحياء؛ لأنها في رأيهم بقية لا ضرورة لها من بيئات المعيشة الحيوانية الأولى.

فعندهم مثلًا أن حرية المرأة في العصر الحديث تبيح لها ما حرم عليها في العصور القديمة، فلا يعيبها أن تبدأ الرجل وتلاحقه لتستولي عليه، كأنما كان تركيب الجسم الأصيل في الأنوثة والذكورة مسألة من مسائل الحريات التي يذهب بها نظام ويأتي نظام ويبرمها قانون وينقضها قانون.

وعندهم أن الحيوانات لم تقتصر على موسم واحد في التناسل إلا لأنها تشبع من الطعام في هذا الموسم فتمتلئ أجسادها بفيض من الثورة الحيوية يدعوها إلى طلب الذرية.

وليس أجهل بأسرار الحياة — وسر الجنس أكبر أسرار الحياة — ممن يقنع في تفسيرها ورَدِّها إلى أصولها بمثل هذا التعليل القريب.

فإن هذا التعليل القريب لا يكفي على الأقل لتفسير الظاهرة التي أشار إليها أولئك الدعاة؛ إذ إن الثمرات النباتية تتوالد في الموسم بعينه وهي الغذاء الذي تعتمد عليه آكلات العشب من الحيوان، ومتى زادت قوة التوالُد في النبات فأحرى أن تزيد قوة التوالد في الأحياء لغير ذلك السبب الذي ذكروه وعلقوه بزيادة الثمرات.

ومن الحيوان ما يعتمد على اللحوم دون العشب ويأكل منها طوال العام، ومنها الأسماك التي لا مواسم عندها للنبات، وهي مع هذا تعرف لها مواسم للتناسل وتخرج إلى الأنهار القصية قبل الأوان الملائم للقاح بين جراثيم الذكورة والأنوثة.

وقد تختلف الأوابد والدواجن في موسم التناسل ولكنها على التعميم لا تقارب الأنثى بعد حملها، ولا تعبث بغريزة النوع للذة الأفراد، فالسر أعمق مما يظنون بكثير.

وحواجز الجنس ودوافعه لا تفسَّر كلها بأمثال ذلك التعليل الهزيل.

ومما لا شك فيه أن الأخلاق الجنسية كسائر الأخلاق قوامها ضبط النفس وهو لا يوافق الذهاب مع الهوى حيثما تعرض المرء للاستهواء، ولا بد من ضبط النفس والقدرة على الامتناع لتحقيق كل خُلُق كريم يصلح للأفراد أو للأقوام أو للأنواع.

والإنسان أحوج إلى الحواجز الجنسية من الحيوان، وليس بأغنى منه عن تلك الحواجز تقدُّمًا مع الحرية كما يخيل إلى أولئك الثراثرة السطحيين.

فالحيوان يتشابه ويتماثل ويصعب التفريق بين أفراده في الصفات المشتركة في سلالة النوع كله؛ فلا ضير على النوع أن يتلاقى أي ذكر بأي أنثى أو ينتجا أمثالهما من الذكور والإناث.

لكن الأنواع كلما ارتقت تعدَّدت الصفات التي يكمل بها الفرد ذكرًا كان أو أنثى، ويبلغ تعدد الصفات أقصاه في النوع الإنساني سواء بين الذكور أو بين الإناث، حتى ليكاد الفرق بين رجل ورجل، والفرق بين امرأة وامرأة أن يلحق بالفرق بين نقيضين أو مخلوقين من نوعين مختلفين.

فليس كل رجل بديلًا من كل رجل، وليست كل امرأة بديلًا من كل امرأة، ويجب على الرجل إذن أن يمتنع حتى تتاح له المرأة التي تلائمه، وعلى المرأة أن تتمنع حتى يتاح لها الرجل الذي يلائمها.

وأن يتعلق الأمر «بالشخصية» المميزة لا بمجرد امرأة كائنة ما كانت أو بمجرد رجل كائنًا ما كان، كما يغني كل فرد عن مثيله في الأنواع الوضيعة بين الأحياء.

وفي هذه الحالة لا ينتفع النوع بكل اتصال تتحقق به المتعة الجنسية، بل ينفعه الاتصال الذي تتم به الشخصيات وتتوافر فيه أتم صفات الرجال وأتم صفات النساء.

ثم تنشأ الآداب الاجتماعية وحقوق الأسرة وأمانة النسل، فإذا هي قد ألزمت الرجال والنساء آدابًا من حقها أن تطاع وأن يحسب لها أوفى حساب.

نعم إن هذه الآداب صناعية أو مبتدَعَة من أحكام البيئة التي خلقها الناس، ولكنها — كجميع الآداب والفروض — تستند إلى أساس فطري عريق في الطبيعة وهو ضبط النفس وقوة البنية على مقاومة النوازع والأهواء.

ونضرب لذلك مثلًا صغيرًا من المحرَّمات التي جاءت بها الآداب الدينية أو العرفية بعد ظهورها في المجتمعات الإنسانية؛ فإن تحريم القمار أو الخمر أو السرقة لم يعرف في آداب الناس إلا بعد ظهور هذه الآفات، ولكن ضبط النفس الذي يناط به الامتناع عنها هو خلقة طبيعية لم تنشأ من العرف أو الاصطلاح، فلا يزال الفرق بين إنسان يستطيع أن يمتنع عنها وإنسان لا يستطيع الامتناع فرقًا في صميم التكوين الذي لا ينشئه العرف ولا ينسب إلى الأوضاع الصناعية.

وكذلك الحواجز الجنسية التي يفرضها المجتمع أو توجبها مصلحة الأسرة هي حواجز لا يقدح في أصالتها أنها حدثت بعد حدوث الحاجة إليها، لأن القدرة عليها فضيلة من فضائل التكوين الأصيل.

والرجل الذي يقدر عليها هو رجل ممتاز في خلقته الطبيعية كالمرأة التي تقدر عليها، وكلاهما زوج أصلح من غيره للبقاء وإنجاب الأبناء.

فأسخف السُّخف أن يظن بالحضارة المدنية أنها رخصة تبيح التهافت على المتعة ونسيان الحواجز الجنسية؛ لأن التهافت نقص في الخلقة قبل أن يكون نقصًا في الآداب الاجتماعية، وهذا النقص مَعِيبٌ وخيمُ العقبى وإن لم تحرمه الآداب.

وسيطول التبديل والتعديل في العرف والتشريع والشمائل المحبوبة بين الناس كلما تطاولت الأجيال، وسيقول كل ذي رأي قوله الذي يجوز فيه الجدال، ويبقى حكم واحد لا تبديل له وقول واحد لا يجوز الجدال فيه، وهو أن الاحتجاز قوام أخلاق الأنوثة، وأن المرأة التي تنساه هي حيوان ناقص في تكوينه، وليس قصارى القول فيها أنها فرد مقصِّر في حقوق المجتمع والأسرة، وأن مساك الأخلاق جميعًا — ما أوجبته الفطرة وما أوجبه المجتمع — هو ضبط النفس والترفُّع عن مطاوعة كل عارضة من عوارض الأهواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤