حقوق المرأة

كلما ذكرت حقوق المرأة في العصر الأخير بدرت إلى الذهن حقوقها السياسية التي يطالب بها بعضهن ويدور البحث عليها بين أصحاب المذاهب الاجتماعية الحديثة: هل لها حق في ولاية الحكم؟ هل لها حق في الانتخاب؟ هل لها حق في الوظائف العامة وتدبير المتاجر والمصانع وأسباب الثروة على اختلافها؟

ونحن في هذا الكتاب لا يهمنا تفصيل القول في هذه الحقوق من الناحية الفقهية أو الناحية السياسية؛ لأن المهم عندنا أن ننظر إلى طبيعتها وإلى الفوارق الطبيعية بينها وبين الرجل لا إلى تلك الحقوق أو هذه الفوارق التي يجيء بها تشريع ويذهب بها تشريع، وتعرفها أمة وتنكرها أمة، وتحتمل التعديل والتبديل بما يسنح للفلاسفة والساسة من الخواطر والبرامج والبدوات.

ولا يمنع العقل أو الخلق أن تظفر المرأة بما تشاء من الحقوق السياسية أو الحقوق الاجتماعية التي تتغير وتتبدل مع نظم الثروة ونظم المجتمع وأساليب المعاملات.

فلها كل حق لا يخرجها عن واجبها الأول؛ لأنه واجبها الذي لا تُحسن غيره ولا يُحسنه غيرها، وهو البيت والجيل الجديد.

تنشئ في قلب هذا العالم الصاخب مأوى تسكن إليه البشرية فترة من الزمن من زحام الحياة.

وتنشئ للعالم الجيل الذي يقوى في غَدِهِ على هذا الزحام، وليس هذا ولا ذاك عمل الآباء، فليكن هو إذن عمل الأمهات؛ لأنهن إذا تركنه لم يُحْسِنَّ خيرًا منه، ولم يُحْسِنْهُ غيرهن خيرًا منهن؛ ففي تركه تضييع بغير تعويض.

•••

قال شوبنهور: إن «أرسطو شرح في سياسته ما حاق بأهل اسبرطة من جراء تساهلهم مع نساء عشيرتهم وتخويلهن حق الوراثة والبائنة ومنحهن قسطًا كبيرًا من الحرية، وبيَّن كيف أن هذا التساهل كان سببًا من أسباب سقوط اسبرطة واضمحلالها».

ثم قال: «وما لنا لا نقول نحن إن نفوذ النساء الذي أخذ يمتد ويشتد في فرنسا منذ أيام لويس الثالث عشر كان سر ذلك الخلل الذي أَلَمَّ بالبلاط والحكومة تدريجًا، وما زال بها حتى أفضى إلى الثورة الأولى وما جرت إليه من القلاقل والأهوال؟»

والحقيقة أن المرأة التي خضعت طائعة أو كارهة طوال آماد التاريخ وما قبل التاريخ قد يدَّعى لها كل شيء إلا السيطرة على الحياة العامة وتوجيه الدول والحكومات.

فليس في تجارب العصور ما يثبت ذلك وفيه الكثير ممَّا يدحضه وينفيه، ومن العبث أن نستشهد على هبة الحكم عند المرأة بالملِكات اللاتي جلسن على العروش الوراثية في الأزمنة القديمة فإنهن مجهولات المواهب والمناقب مطويات في حجب الأساطير والأوهام، مشتركات في الحكم غير منفردات حتى في تلك الأزمنة التي كان حكم الفرد فيها مرضيًّا عنه غير منصوص على بغضه في الكتب والدساتير. ولكننا إذا استشهدنا على هبة الحكم بالملكات المعروفات في العصور الحديثة قبل قيام الحكومات الشعبية فهن أبدًا بين اثنتين: امرأة مفسدة أو امرأة صلحت بمقدار ما نقص فيها من صفات الأنوثة وزاد فيها من صفات الرجولة، وبمقدار من أعانها من المشيرين والخبراء، والمثل البارز على ذلك مثل «أليصابات» ملكة الإنجليز على عهد شكسبير.

لقد كانت الأمم المستعبدة تدين بالمُلك لإحدى الملكات اللاتي اشتهرن بالعزم والمثابرة من طراز كاترين الثانية في البلاد الروسية، فتصلح كما يصلح الملوك الرجال وتفسد كما يفسد الملوك الرجال، ولكن الأمر الذي يفوت بعض المؤرخين أن البلاد الروسية لم تكن لتحتمل فساد عشر ملكات متواليات من طراز كاترين كما احتملت فساد عشرات من الملوك الذين توالوا على عرشها القديم؛ لأن فساد جيل واحد في حكم كاترين الثانية قد هدم نظام جيشها وعرضه للهزائم مدى أجيال.

وما لم يكن أنصار الحقوق النسائية يزعمون للمرأة أنها أقدر على الحكم من الرجل، فقصارى ما يزعمونه أن الرجل مثلها وأنها هي مثله في سياسة الحكومة، فلا ضير إذن من تفرد الرجل بالحكم؛ لأنه سيحكم كما تحكم ولا يهبط بالسياسة إلى ما دونها، وإنما الضير أن تنصرف هي عن تنظيم البيت وتنشئة الجيل المقبل وهي صاحبة هذا العمل وأولى به وأقدر عليه.

واعتقادنا أن الطريق يطول بنا قبل الوصول إلى نتيجة من سؤالنا عن مساواة المرأة للرجل في الحقوق السياسية، وهل لها حقوق هذه المساواة أو ليست لها هذه الحقوق؟

لكننا ننتهي إلى الغاية قبل ذلك إذا سألنا: هي تفيدها هذه الحقوق؟ وهل تساوي فائدتها الشمائل البيتية إذا توفرت عليها النساء؟

واعتقادنا هنا أيضًا أنه لا النساء ولا الرجال يصلحون المجتمع بالقوانين والأصوات الانتخابية، وأن القانون المستقيم يعوجُّ في المجتمعات العوجاء، ويساء تطبيقه وتنفيذه ولو أُفرِغ في قالب الكمال، فإذا صلح تطبيق القانون وجرى تنفيذه على سُنَّةِ العدل والإنصاف فلا بد لذلك من صلاح سابق وتمهيد شامل يبدأ من البيت والمدرسة ويعم الشارع والحانوت.

وعند المرأة حقوق غير حقوق الانتخاب تصل بها إلى التوجيه والطلب والإيحاء، وهي حقوق الأم وحقوق الزوج وحقوق الخطيبة وحقوق الصديقة الموحية إلى الذهن والعاطفة والخيال، فإن كانت هذه الحقوق مشلولة في يديها فذلك هو إفلاس الأنوثة الذي لا يعوضها عنه عوض قط يأتي من جانب التشريع وأصوات الانتخاب.

ولسنا نعرف كلمة وزنت حقوق المرأة كما وزنها التشريع الإسلامي حيث جاء في القرآن الكريم: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚوَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: ٢٢٨].

فميزان حقوق المرأة الخاصة هو واجباتها الخاصة.

وواجباتها الخاصة هي الواجبات التي تحسنها ولا يحسنها غيرها ولا تحسن عملًا أفضل منها.

وهي الأمومة وتنظيم الحياة البيتية، عمل إذا تركته لم يخلفها الرجل عليه ولم تتولَّ عملًا آخر أجدر منه بولايتها.

ذلك هو ميزان واجباتها وحقوقها.

وللرجال عليهن درجة الإشراف على الحياة العامة التي انفردوا بها منذ نشأت في العالم حقوق أو واجبات اجتماعية، وانفردوا بها بحكم الفوارق التي بينهم وبين النساء في تركيب الأجسام وخصائص الخلق والتفكير.

نعم إن زحام العيش في العصر الحديث يلجئ المرأة إلى كسب الرزق بالعمل ولا يغنيها بالحياة البيتية عن المشاركة في الحياة الخارجية، ولكن المرأة كانت في الحقيقة تعمل للرزق منذ كانت ولم تبدأ العمل للرزق في العصور الأخيرة.

فإذا كانت هذه العصور كفؤًا لمقابلة الضرورات التي تواجهها فمهمتها الكبرى هي تقسيم العمل بين القادرين عليه بحيث لا يجور عمل المرأة على رسالتها في الحياة، وهي رسالة الأمومة والبيت والأسرة.

وكم من عمل تستطيعه المرأة ولا يجور على تلك الرسالة؟

بل كم من عمل يتمم أعمال تلك الرسالة ويوافقها ويجري في أثرها كأنه جزء منها!

فهناك تربية الطير والدواجن وصناعات الألبان والفاكهة والرياحين، ومشاركة الأزواج والآباء فيما يقدرون عليه من أعمال الريف والزراعة الخفيفة، والاشتغال بصنوف كثيرة من الصناعات الدقيقة التي قد تجيدها الريفية والحضرية على السواء، ومنها النسج والتطريز وتنسيق التحف وسائر الحرف اليدوية التي تمارسها يد المرأة منذ عهد الحضارة الأولى، كله عدا التعليم والتطبيب والمؤاساة في البيوت ودور العلاج.

فالذي يضن على المرأة بالعمل في غير هذه الميادين لا ينكر عليها حقًّا من الحقوق، ولكنه يحيلها إلى واجبها الأصيل أو يوفِّق بين حقوقها ورسالتها الوحيدة في العصر الحديث على التخصيص؛ لأنه عصر يشتد فيه الكفاح، والعصر الذي يشتد فيه الكفاح لا يستغني عن حضانة المرأة الرفيقة بل هو أحوج إليها، ولا يلغي البيت ويهدمه بل هو أحرى أن يدعمه ويحرس حماه، ولا يجند المرأة لاقتحام الزحام بل يجندها لتهوين هذا الاقتحام.

وقد قيل كثيرًا عن استغلال المرأة في العصور الحديثة، وليس كل ما قيل بالكذب، وليس كل ما قيل بالصحيح.

ولكننا لا نعرف استغلالًا للمرأة هو شر من استغلال قضيتها في ترويج المذاهب الاجتماعية التي تهدم الأسرة وتبطل مزية المرأة باسم المساواة بين النساء والرجال.

فتقسيم المزايا بين النساء والرجال أفاد الإنسانية قيمًا من الأخلاق والعواطف يمحوها التشابه المزعوم بين الجنسين، والمساواة المدَّعاة بين الفطرتين.

ولم يزل من دأب الطبيعة أن تقسم الوظائف وتغنم منها المزيد من التنويع والتحسين في صور الأخلاق وألوان الإحساس.

فانقسام النوع الإنساني إلى جنسين قد زاد ثروته من صور الأخلاق وألوان الإحساس، بما خصَّ النساء من صفات لا تكمل في الرجال وما خص الرجال من صفات لا تكمل في النساء، وهذه هي القيم الحيوية التي لا يفرِّط فيها أحد يعلم ما معنى التقدم والارتقاء في أطوار الحياة.

ونشأة الأسرة قد أنشأت بين الناس تلك الأواصر التي هي أساس العلاقات الاجتماعية وأساس الشعور بالألفة والمعاطفة، أو الشعور بسجية الولاء والإيثار والتضحية، أو الشعور بالتوقير والحنان والرفق والإيناس، وأشباه ذلك من ألوان الشعور التي ما كان لها من أصل تتفرع عليه لولا أصل الأسرة القديمة، حيث اتصل الآباء والأمهات والأبناء والأزواج والزوجات بتلك الوشائج النفسية فتعددت في طوية الإنسان ألوان المودة وتفرعت من الأسرة إلى البعداء فالأبعدين، ولا تزال تسري وتتفرع إلى غير انتهاء.

تلك هي القيم الحيوية التي استفادتها البشرية من تقسيم الوظائف بين الجنسين، ومن قيام الأسرة وهي تحوي الكبار والصغار من كلا الجنسين، فتحوي العلاقات بين جميع الأسنان والمدارك والخوالج وضروب الطاقة والاقتدار.

فهذه القيم التي هي مكسب الحياة النفيس من مخلفات الزمن القديم، هي الثروة التي يعصف بها بعض الدعاة حين ينكرون الأسرة وينكرون الفوارق بين الرجال والنساء، ثم يبنون حياتهم الاجتماعية على محو هذه الفوارق وإلقاء ما كسبناه من تنويعها في عرض الطريق.

وإنهم ليفعلون ذلك لأنهم يريدون إثبات مذهبهم وتأييده لا لأنهم ينظرون إلى حقائق الدنيا ويحسون في طويتهم حسها السليم ويغارون على ثروة الحياة من القيم والمغانم الروحية، وأفانين الشعور والتفكير.

فأتباع كارل ماركس — وهم أصحاب هذه الدعوة — يفرضون المماثلة بين النساء والرجال؛ لأنهم لو قصروا الكلام على العمال في مواجهة رأس المال بقي النساء وخشُوا أن يقوم رأس المال على العاملات، فوجب عندهم على هذا أن يصبح النساء مثيلات للرجال ليتاح لهم التغلب على رأس المال.

ولولا أن هذه المماثلة لازمة لتأييد مذهب الماركسيين لما سلكوا بهذا هذا المسلك ولا استغلوها لدعوتهم ذلك الاستغلال.

•••

في الهند تكثر القردة ويكثر من قديم الزمن من يستغلون ذكاءها وقدرتها على التعلُّم فيعلمونها بعض الحيل المضحكة وبعض الحركات البهلوانية ويطوفون بها على الناس؛ ليعرضوا عليهم حيلها وحركاتها ويكسبوا القوت النزر من هذه الصناعة المزدراة.

فخطر لبعض المستغلين على طراز العصر الحديث أن يستغلوا هذه القدرة فيما هو أنفع وأجدى، وأن يجربوا تدريب القدرة على تحريك أنوال النسيج وهو أسهل وأبسط من الحركات البهلوانية المعقدة التي تحذقها ولا تخطئ فيها بعد المرانة عليها، ففعلوا ونجحت القردة في إدارة مصنع صغير يشتمل على عدة أنوال … ولكنهم لاحظوا أنها إذا اجتمعت معًا في بقعة واحدة غلبت عليها طبيعة اللعب التي رُكِّبت فيها فتركت العمل أو عبثت به وأفسدته، فعالجوا ذلك بالرقابة والإرهاب، ووكلوا بها حارسًا يحمل سيفًا مصلتًا كلما ونى من القردة وانٍ أو عبث عابث أهوى عليه بالسيف فطاح برأسه، فإذا هي قد نفضت عنها العبث وهرولت إلى العمل، وجدت فيه فلم تنزل جادة غاية الجد برهة من الوقت حتى تنسى الرأس الطائح فيعاد عليها الدرس المخيف من جديد.

•••

لو علم كارل ماركس وأتباعه بقصة هذه القردة، وعلموا أن شيوعها مستطاع في معامل النسيج الحديثة وغيرها من المعامل التي تشبهها لما كان بعيدًا منهم أن يعمموا الحقوق والمشابهات قليلًا أو كثيرًا حتى تنطوي فيها فصائل القردة، ولا تنطوي على نوع الإنسان وحده من العاملين والعاملات بين الرجال والنساء.

لأن المذهب عندهم ليس بحق لأنه حق، وليس بباطل لأنه باطل، ولكنه حق بمقدار ما يثبت من دعوتهم ويمهد لها، وباطل بمقدار ما ينقص من دعوتهم ويعترض في سبيلها، ولولا ذلك لما عمُوا عن الفوارق في الخلق وعن فائدة الإنسانية من تنويع هذه الفوارق وخسارتها بمحوها وتعفية آثارها.

•••

ولقد سلكوا في نظرتهم إلى الأسرة مثل هذا المسلك فأنكروا فصلها في خلق الأواصر والعواطف وتوليد الحقوق والواجبات بين الأفراد من الأقرباء والبعداء، ولم يعرفوا لها إلا أنها أعانت الاستغلال في عصور الإقطاع خاصة، فارتبط بها نظام الميراث، وقامت عليها قواعد الملك والادخار والتوريث وتعاقُب السادة من النبلاء والفرسان، وخلطوا كدأبهم بين كراهة الطبقة كأنها جزء من نظام الثروة العامة وبين كراهة الطبقة كأنها جزء من الإنسانية يعمل عمله في توليد تراثها وتزويدها بالقيم الأدبية، ويترك لها محصوله من هذه القيم، فيتعين عليها أن تصونه وتضيف إليه كما صانت المخترعات والآلات ولم تقُل إنها تنبذها وتعفِّي على آثارها، لأنها من توليد عصور الإقطاع أو عصور المرابين والمستغلين.

فإذا كانت القرائح الذهنية قد أبدعت الصناعات والآلات التي أعانت على تسخير الضعفاء وطغيان الأقوياء، فمن الحسن أن تذهب السخرة حيثما أمكن ذهابها وليس من الحسن أن تذهب القرائح الذهنية ولا أن تذهب الصناعات والآلات أو تحتقر القدرة التي تسنى بها الإبداع والاختراع.

وإذا كانت عواطف الأسرة قد أخرجت للناس قانونًا يضير أو سنة تعاب أو عادة تتخلف عن أوانها، فمن الحسن أن تذهب القوانين والسنن والعادات وليس من الحسن أن تذهب عواطف الأسرة ولا أن ترجع إلى مصادرها من فوارق الطباع والخوالج بين الأزواج والزوجات والآباء والأبناء، فننعاها ونُسفِّه أحلام المعتزين بها ونبطل هذه الفوارق من معدنها ونقول: إن وشائج الرحم بين الأنوثة والذكورة فضول من بقايا عهد الإقطاع أو بقايا عهد الرعاة أو بقايا عهد الربا والاستغلال. فكل لون من ألوان الوشائج الإنسانية فهو قيمة نفسية نجمعها ونقتنيها ونضيفها إلى ذخائرنا الحيوية، ولا نفرط فيها كما لم نفرط في القيم الصناعية والقيم الذهنية، فليست كل ثروة الإنسان ثروة مصنوعات ومخترعات، وليس الزاد الإنساني — زاد الإحساس والعاطفة وأفانين الشعور والخلجات — هو الزاد الرخيص الذي يستوي أن يبقى أو يذهب من حيث جاء.

وستنال المرأة من حقوقها الصحيحة أو المزعومة كل ما تستطيع المرأة أن تأخذه، وكل ما يستطيع الرجال أن يمنحوه أو ينزلوا عنه.

ولكن الحقوق التي تقوم على محو الفوارق بين الجنسين في تكاليف الأسرة والحياة الاجتماعية هي من بداية الأمر ليست بحقوق كما يسميها المتحدثون بها؛ لأن الحقوق لا تناقض طبيعة التكوين.

وهي بعد هذا ليست ممَّا يملكه الرجال لينزلوا عنه طائعين أو كارهين، وليست مما تأخذه المرأة لأنها لا تزيد في الخلق ولا تنقص منه ما تشاء، ومحو الفوارق قضاء بيد الطبيعة لا بأيدي الأمم أو أيدي الحكومات ومجالس التشريع.

وربما استقرت الحقوق الاجتماعية طويلًا على ظلم المرأة؛ لأن ظلم الضعيف سُنَّةٌ معهودة في الطبيعة لم تبطل قط، ولا نخالها تبطل كل البطلان في حياة الحيوان ولا في حياة الإنسان.

ولكن الحقوق الاجتماعية لا تستقرُّ طويلًا على ظلم الرجل؛ لأنه اختلال ينقض سُنَّةَ العدل وسُنَّةَ الطبيعة على السواء.

ومن ظُلم الرجل ألا تكون له مزية في الحقوق الاجتماعية وهو أقدر عليها من المرأة كيفما تقلبت الآراء، فمهما يبلغ من غُلُوِّ المتحدثين بالمساواة فهم على الأقل لا ينكرون أن الرجل يقدر على أعمال كثيرة في خارج بيته لا تقدر عليها المرأة ولو في بعض الأوقات التي تشغل فيها بالحمل والحضانة وتدبير البيت.

ومن ظلم الرجل ألا تكون رقابته على المرأة أوفى من رقابة المرأة عليه؛ لأنها إذا فرطت في حقوقه ألحقت به نسلًا غير نسله، وهو إذا فرط في حقوقها لم يلحق بها نسلًا غير نسلها ولم يخالف بذلك قوام خلقه الأصيل في جميع الذكور، فإذا الذكر يؤدي فريضة النوع إذا اتصل بأكثر من أنثى واحدة، وليس للأنثى فريضة نوعية تؤديها إذا اتصلت بأكثر من ذكر واحد، إلا أن تكون شهوة خائنة أو تحلُّلًا من متانة الأخلاق.

ومن ظلم الرجل أن تنكر عليه العزيمة والإرادة وما يتبعهما من وجوب الطاعة في بعض الشئون إن لم يكن معظم الشئون، فتركيب خلقه هو تركيب المريد، وتركيب خلق المرأة هو تركيب الملبية أو الموافقة للإرادة الأخرى. وما كمن في دخيلة الجنس منذ الأزل هيهات تبدله أقوال المجالس وصفحات الكتب ونصوص الدساتير.

وكل نظام اجتماعي يُبنى على هذا «الظلم» عبث وضلالة ولو طغت به نوبة من نوبات المذاهب المغرضة إلى حين؛ فلعل صلاح المذاهب للدوام لا يعرف من دليل حاسم كما يعرف من دليل الفوارق السرمدية بين الجنسين، ومن مبلغ الجور على حدود الطبيعة إزاء الرجال وإزاء النساء.

ومن لغو القول أن يُسهب الباحثون في حقوق المرأة بعد أن تتيسر لها رعاية البيت وتنشئة الجيل الجديد؛ فهذه الحقوق فضول لا تريده المرأة ولا ترحب به إذا جاءها بغير سعي منها، بل هو وهم لا يجيء بسعي في مقدور ساعٍ أو ساعية، وإن المرأة تطالب المجتمع والرجال بما يملك المجتمع أن يعطيه وبما يملك الرجال أن يعطوه، وليس إلغاء الفوارق ونتائجها ممَّا يعطى بقوة أو بحيلة، أو مما يساغ فيه الأخذ والعطاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤