الجنس

ظواهر الجنس أعرق وأهم وأشيع في دنيانا من أن يتركها الإنسان تمضي به ذلك الزمن الطويل بغير فهمٍ أو بغير تفهُّم يحاول به التحقيق من طريق التخمين والتوفيق، إن أعوزته وسائل العلم إلى الفهم الصحيح.

وقد خمن وأصاب.

فقال قديمًا بلغة الأساطير ما يقوله الباحثون اليوم بلغة العلم والتفكير، ولمس الحقيقة بخيال الشاعر وفطنة الساحر قبل أن يلمسها بمبضع الجرَّاح ومجهر الكشاف.

وخلاصة ما يقوله العلم اليوم: إن الحياة التي لا جنس لها سابقة للحياة التي انقسمت إلى جنسين ذكر وأنثى، وإن صفات الجنسين موزَّعة بينهما في أصولها الأولى، وإن هذا التوزيع في أرفع الأنواع الحية لم يبلغ من الحسم مبلغه الذي يمنع كل تماثل ويدفع كل التباس.

وقديمًا لمحت الأساطير إلى هذه المعاني برموزها التي تطوي الحقائق لينشرها من يريد كما يريد.

في أسطورة من أساطير اليونان القديمة أن الذكر والأنثى كانا بنية واحدة فشقها الآلهة شقين لأنهم أوجسوا خيفة من تمرُّدها وعصيانها، وأنها لا تفتأ منذ انشقت نصفين يبحث كل منهما عن صاحبه ليتم به ويرجع معه إلى أصله.

وفي أسطورة أخرى هي أعمق الأساطير في معناها إشارة إلى اختلاط الصفات الجنسية على نحو لا يقال في لغة الرموز ما هو أصدق منه ولا أبين عن الحقيقة. وفحوى هذه الأسطورة أن ربًّا من الأرباب وكل إليه أن يصنع جمهرة من الذكور وجمهرة من الإناث، ثم دعي إلى وليمة في الأولمب فسكِر وعربد، وذهب إلى مصنعه مخمورًا لا يعي من الخمار وأمامه عمل النهار ولم يصنع منه شيئًا وليس له أن يرجئه إلى غده؛ لأن الأقدار تصنع كل شيء بميعاد لا يختلط بغيره. وكان قد أعد الأعضاء والجوارح والخوالج والأحاسيس ونوى أن يميزها ويقسمها قسمين قبل أن يضعها في أهبها وتراكيبها، فلما أعجل عن التمييز والتقسيم؛ إذا هو يتناول الإهاب فيلقي فيه بما اتفق له من الأعضاء والخصائص والطباع، فيقذف قلب رجل في إهاب امرأة ويضع رأس امرأة على عنق رجل، ويمنح فتاة عضلات فتى أو يمنح فتى أعطاف فتاة، فلم يأتِ الموعد الموقوت حتى كان قد فرغ من عمله وصنع كل ما عنده من الذكور والإناث، ولكنها هذه الصنعة المختلطة التي يلتبس فيها النظر وتختلف فيها الأسماء والمسميات، فلا يندر أن ترى امرأة لها صلابة رجل أو رجلًا له رقة امرأة، ولا يتفق لك دائمًا أن ترى رجلًا بحتًا كله رجولة أو امرأة بحتًا كلها أنوثة، ولا أن توافق المسميات ما أطلق عليها من الأسماء أو ما أودعته من الجوارح والأعضاء.

وجاءت الفلسفة في القرن الماضي فأعادت هذه الأسطورة بالصيغة الفلسفية التي اختارها النابغة الألماني «أوتوفيننجر» في كتاب «الجنس والأخلاق»، ومجمل رأيه كما لخصناه في كلامنا على حب المرأة من كتابنا «ساعات بين الكتب»: «أنه لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نِسَبٌ تتآلف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء، فإذا فرضنا مثلًا أن صفات الذكورة مائة في المائة فأين هو الرجل الذي تتم له المائة جميعها بلا زيادة ولا نقصان، وتتآلف ذَرَّات تكوينه واحدة واحدة بلا نشوز ولا انحراف؟ وكيف تجتمع له هذه الصفات المتفرِّقة بحيث لا تتخلف صفة ولا تحل واحدة محل أخرى؟ وكذلك النساء أين منهن المرأة التي هي مثل أعلى لجنسها جامع لكل ما هو نسائي في الجمال والعقل والعاطفة والأعضاء والهندام؟ إن هذا الاتفاق لا يجيء به الواقع؛ لأن التمام من وراء ما يبلغه الإنسان أو كائن سواه في هذه الحياة، ولكنها أمور نسبية تدخل فيها صفات الرجولة والأنوثة كما تدخل فيها صفات سائر الأشياء، فليس في الدنيا رجل هو الرجولة كلها وليس في الدنيا امرأة هي الأنوثة كلها، وهيهات أن تقع على إنسان فيه كل صفات جنسه في جميع أخلاقه وأطواره كما تقع كل يوم على قطرة ماء فيها كل صفات المائية التي لا بد منها لتكوين كل قطرة؛ فإن العناصر هنا مقيدة محدودة، أما عناصر الطبائع والأخلاق والمواهب والأجسام فمما لا يقيده الحد ولا يحده التقدير.»

وعلى هذا «يحب الرجل المرأة أو تحب المرأة الرجل على حسب ما بينهما من التوافق والتباين في تلك العناصر والصفات؛ فالرجل الذي فيه ثمانون في المائة من الرجولة وعشرون في المائة من الأنوثة تتممه امرأة فيها ثمانون في المائة من الأنوثة وعشرون في المائة من الرجولة، ويجوز على هذا أن توجد امرأة ليس لها من جنسها إلا ظواهره، فتكون هي التي فيها الثمانون في المائة من الرجولة وهي التي تنشد الرجل الذي فيه عشرون في المائة من صفات جنسه؛ ومن هنا تنشأ الميول الشاذة في الجنسين وتنبو الطبائع عما خلقت له في سواء التكوين …».

والعلم الحديث يعرف هذه المعالم الجنسية ويعرف هذا الاختلاط في توزيعها بين الجنسين، ولكنه يعرف ذلك على نهجه لا على نهج الشاعر في أسطورته ولا على نهج الفيلسوف في حدسه وتقديره … وسينتهي إلى الحقيقة الممحصة حيثما بدأ من البداهة النافذة والواقع المشاهَد، وهما لا يأذنان له بالضلال عن سواء النهج وإن تشعبت مسالك الناهجين عليه.

ومن الثقات الراسخين في علم الحياة اثنان يُعتمد على ذكائهما كما يُعتمد على تجربتهما في هذا الموضوع، وهما سير آرثور ثومسون Arthur Thomson وسير باتريك جيدس Patrick Geddes صاحبا كتاب تطور الجنس Evolution of sex وغيره من المراجع المعتدِّ بها في علم الحياة.

فهذان العالمان الجليلان ينزلان بالفارق بين الجنسين إلى قرارة المادة الحية التي تتمثل في النبات، ويوشك أن يجعلا في الأنوثة شيئًا من النباتية التي تمكث في موضعها، وفي الذكورة شيئًا من الحيوانية التي تنفق من مادتها بالحركة.

ويمكن أن نتوسع في شرح رأيهما فنقول: إن التفرقة عندهما بين الأنوثة والذكورة كالتفرقة بين التجميع والتصريف، أو بين الاختزان والاحتراق، أو بين الاحتجاز والاندفاع.

ففي كل كائن حي عملان كيميان يتقابلان ويتكافآن، وهما البناء والتصريف، أو جمع الغذاء وحرق ما اجتمع منه.

ويتبين هذا في الورقة الخضراء التي يعرضها النبات للشمس فيجري فيها بناء مادة من السكر وما شابهه، وذاك فيما يرى العالمان الجليلان أهم عمل كيمي في الخليقة؛ لأن جزءًا من قوة شعاع الشمس يستخدم لصنع مركبات الكربون من ثاني أكسيد الكربون الذي في الهواء وفي ماء التربة.

ولوفرة المادة التي يبنيها النبات لغذائه يستطيع أن يعتمد عليها كما يعتمد معه آكلو العشب من جميع الأحياء.

إلا أن الحي الذي يتحرك ويعمل يحرق جزءًا من مركبات الكربون فيه وتنطلق القوة منه كما تنطلق من الآلة البخارية.

فالذكورة هي حالة البنية التي تتطلب احتراقًا أعنف وأكثر وأقرب إلى الاطِّراد من الأنوثة، والأنوثة هي حالة البنية التي تتطلب تجميعًا للغذاء أهدأ وأقرب إلى القرار من الذكور.

أو هما كما أسلفنا يفترقان بالقدرة على التجميع والقدرة على التصريف، ويفترقان بنزعة الاحتجاز ونزعة الاندفاع، ولنا أن نترجمها في لغة الأدب والواقع المشاهَد بالتفرقة بين التلبية والاقتحام!

وكأنما قال العالمان: إن الرجل حي النزعة في مجمل صفاته، وإن المرأة نباتية النزعة في مجمل صفاتها.

وهي هي لا تزال منذ درجت من الحياة الأولى «تلك الشجرة» التي تبسط زهرتها وهي في مكانها لتتلقى فيها اللقاح على جناح الهواء.

وكل بنية حية فيها النزعتان متقابلتين متكافئتين، فحيث زادت القدرة على التجميع فثم أنوثة ولو حملت غير اسمها، وحيث زادت القدرة على التصريف فثم ذكورة ولو حملت غير اسمها، وعود على بدء إذن إلى أسطورة الرب السكران.

•••

وأيًّا كان تعليل العلم لنشأة الفوارق الجنسية في قرارها فالعلماء المحدثون المعنيون بمسائل الجنس يرجعون بالاختلاف بين مزاج الذكورة ومزاج الأنوثة في جسدي الرجل والمرأة إلى الهرمون الذي تفرزه الغدد الصماء، وهو سائل شفاف يسري في الجسم من غدد ثلاث توجد في أجسام الأحياء الفقارية، إحداها: الغدة الدرقية في الحلق، والثانية: الغدة النخامية في أسفل الدماغ، والثالثة: الغدة الكظرية على مقربة من الكليتين، وهي عظيمة الأثر فيما يشاهد من الاختلاف بين أجسام الذكور والإناث بعد سن البلوغ، ومتى تشخصت الذكورة والأنوثة ظهر الفارق الأكبر في تركيب الخصية وتركيب المبيض، فاختص الرجل بإفراز المني واختصت المرأة بإفراز البويضات.

ومن التجارب في بعض الحيوان كالجرذان يلاحظ أن استئصال الغدد المنوية يميل بالحيوان إلى مزاج الأنوثة، ولكنه إذا استئصل منه المبيض لا يستعير مزاج الذكورة إلا بإضافة الغدد المنوية إليه.

وقد يتفق أن يكون في الإنسان خصية ومبيض بدلًا من الخصيتين، فيسري في جسده إفرازان يميل به أحدهما إلى الذكورة ويميل به الآخر إلى الأنوثة، ويشاهد في مثل هذا الإنسان أحيانًا مَشابه من المرأة في الصدر وبعض الأعضاء الداخلية.

على أن الحيوانات الدنيا تتناوب الذكورة والأنوثة كما في بعض الحالات النادرة، فتكون المحارة البالغة ذكرًا، ثم تنقلب أنثى، ثم تعود ذكرًا مرة أخرى، وهي لا تلد البويضات إلا إذا ارتفعت الحرارة حولها إلى درجة معلومة؛ ففي الدرجة من عشرين إلى اثنتين وعشرين تنقلب المحارة أنثى مرة في كل سنة، وفي الدرجة الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة تنقلب أنثى مرة كل ثلاث سنوات أو أربع سنوات، ولا تنقلب أنثى فيما دون هذه الدرجة على الإطلاق.

وتشاهد هذه الظاهرة في بعض الأسماك الصغرى وبعض الحشرات المائية، فيحدث فيها التحول على نحو يشبه التحول في المحار، ولا يشترط فيه تفاوت الحرارة بذلك المقدار.

فالفوارق بين الجنسين تتقارب كلما هبط الحيوان في سلم الخلق حتى تزول الفوارق جميعًا في الخلية الأولى، ولكنها تتشعب وتتعدد ويصبح التحول بينهما فلتة من فلتات الخوارق كلما ارتقى الحيوان في سلم الخلق، حتى تبلغ هذه الفوارق قصاراها من التنوع والتكافؤ في بنية الإنسان.

•••

ومع هذا يوجد الفارق بين الخلايا المنوية والخلايا البيضية محسوسًا مميزًا لمن يكشفه بالمجهر، فتختلف الخلية المنوية من الخلية البيضية بالحركة والشكل والتركيب.

والخلايا المنوية في الحيوانات اللبون هي التي تقرر جنس الجنين ذكرًا يكون أو أنثى؛ لأن الذكر يفرز نوعين من الخلايا أحدهما يشبه خلية الأنثى والآخر خاص بالذكورة لا يشبه البويضات الأنثوية، فإذا امتزجت عند اللقاح خليتان متشابهتان فالمولود أنثى، وإذا امتزجت خليتان مختلفتان فالمولود ذكر؛ لأن الخلية المختلفة هي التي تعطيه صفة الذكورة، وقد لوحظ أن خلية الذكر تتألف على الأكثر من نواة تميل إلى الحركة وتقل فيها المادة الغذائية الأخرى التي تكثر في الخلية الأنثوية، وتقبل مادة النواة الاصطباغ فيسهل تمييزها بألوانها؛ ولذلك سميت في اللغات الأوروبية Chromosoms نسبة إلى الصبغ والتلوين.

وفي كل خلية عدد من هذه الصبغيات يتساوى في خلايا النوع كله، أقله صبغيان اثنان كما في الدودة الخيطية التي تعلق بالخيل، وأكثر ما شوهد منه في خلية الإنسان؛ حيث يبلغ عدد الصبغيات ثمانية وأربعين، ولكن هذا العدد ليس بالمهم في الدلالة على ارتقاء النوع؛ لأن بعض الحشرات الحلزونية تشتمل خلاياها على مثل هذا العدد.

إنما المهم أن عدد الصبغيات بعينه يتكرر في كل خلية من خلايا الجسم كله، وأن الخلية المنوية تشتمل على نصفه فقط، وكذلك الخلية البيضية، كأنما الملحوظ من البداية أن النصفين يكونان خلية واحدة هي التي يتخلق منها الجنين.

ومن عجائب الاختلاف العريق بين خصائص الذكورة وخصائص الأنوثة أن عدد هذه الصبغيات في خلية الذكر سبعة وأربعون وفي خلية الأنثى ثمانية وأربعون، والذي يحدث عند اللقاح أن خلية الذكر تنقسم نصفين وخلية الأنثى تنقسم نصفين، ثم يتقابل نصف من هذه ونصف من تلك، فإذا كانا عند الامتزاج يؤلفان ثمانية وأربعين، فالمولود الذي يتخلق من هذه الخلية أنثى، وإذا كانا يؤلفان سبعة وأربعين فالمولود الذي يتخلق من الخلية ذكر، وكأنما النواة الكثيرة الحركة هي العوض في خلية الذكر من الصبغي الناقص فيها.

ما أعجب بداهة الأساطير في النفاذ إلى حقائق الحياة!

ففي الأسطورة التي أشرنا إليها زعموا أن الذكر والأنثى كانا في النوع الإنساني بنية واحدة فأوجست الآلهة منهما متحدين متفقين فسطرتهما شطرين، فهما منذ تلك اللحظة يبحث كل منهما عن النصف الآخر ليتم به نقصه ويجد فيه لِفْقَهُ الذي يسكن إليه.

وتلك هي الحقيقة في ظلمات الرحم تشطر الذكر والأنثى نصفين، ثم تطلق كلًّا منهما يبحث عن لفقه حتى يسكن إليه، ثم تطلقهما بعد ذلك نصفين في كل منهما حنين إلى النصف الآخر يبحث عنه حتى يلقاه.

•••

خلاصة هذه جميعه أن الجنس محدود الفوارق منذ الخلية الأولى، وأن هذه الفوارق — كائنًا ما كان اسمها — ترجع إلى فارق واحد يلخصها بأجمعها، وهو مزيد من الإقدام في جانب الذكورة ومزيد من الإحجام في جانب الأنوثة، أو مزيد من الإرادة يقابله مزيد من التلبية، أو مزيد من التصريف والحركة يقابله مزيد من التجميع والدعة، ثم يتفرق هذا الفارق الوحيد على مئات من الصور في كل من الجنسين.

والباحثون المعنيون بالجنس يسجلون درجات من الفوارق بين الرجل والمرأة تتفاوت في الظهور بين ما هو ظاهر من اللمحة الأولى إلى ما يظهر بعد كثير من البحث أو قليل، وأشهر من تكلم في هذه الفوارق الباحث الإنجليزي Havelook Ellis في كتبه الكثيرة وبخاصة كتابه «الرجل والمرأة ودراسة الخصائص الثانية والثالثة بينهما».
Man and woman: A Study of Secondary and Tertiary sexual characters.

وهو كتاب جامع تناول فيه الفوارق التي تبدو من المشاهد والفوارق التي تبدو بعد الفحص والتحليل في كل جزء من أجزاء البنية الإنسانية، فاستقصى ذلك أحسن استقصاء مما يضيق بنا المقام هنا لو شرحناه أو لخصناه.

ولكننا نُلِمُّ بالفوارق الذهنية أو الفوارق النفسية العامة فنجتزئ منها ببعض الملاحظات التي تدل على سائرها:

فمنها — ولعله أهمها — أن النساء الموسومات بالعبقرية لم ينبغنَ مستقلات بأنفسهن أو بمعزل عن رجل يعتمدن عليه؛ فمدام كوري أشهر النابغات في ميدان العلم كانت زوجة رجل من كباء العلماء يشاركها أو تشاركه في بحوثها وآرائها، ومسز بروننج الشاعرة الإنجليزية نظمت أجمل قصائدها وهي زوجة للشاعر روبرت بروننج، وجورج إليوت كتبت أفضل رواياتها وهي في عشرة لويس صديقها المأثور لديها، والليدي ديلك Dilke كتبت في الدراسة العلمية حين كانت زوجة للعالم الأديب مارك باتيسون Pattison وكتبت في السياسة والإدارة حين أصبحت زوجة رجل من رجال السياسة والإدارة.

وأشار هافلوك أليس إلى تجارب الباحثين بأنحاء القارة الأوروبية فيما بين الرجل والمرأة من الفوارق الذهنية والنفسية، فكانت خلاصتها أن المرأة مطبوعة على الوصول إلى النتائج بالحيلة والتحسس وخفة التناول والتنفيذ، وأن الرجل يقابل ذلك بالاتجاه الصريح والنفاذ والتصميم.

وممَّن درس هذا الموضوع على الطريقة العلمية الأستاذ إرنست كرتشمر أستاذ الأمراض النفسية والعصبية بجامعة ماربورج Ernst Kretschmer، فألمع في كتابه «نفسيات العباقرة» إلى النساء اللائي اشتغلن بالفنون، ولخص رسالة موبياس Mobius الذي خص القول بالموسيقيات؛ لأن المرأة لم تعطل قط عن تعلم الموسيقى والعزف على آلاتها. قال: ومع هذا لم يبقَ من أسماء نابغات الموسيقى إلا الأسماء التي كانت تتصل ببعض الرجال كاسم كلارا شومان زوجة شومان الموسيقي العالمي المعروف، وفاني مندلسن أخت مندلسن وكورونا شروتر صديقة جيتي، وغيرهن على هذا المنوال.
وذكر الشاعرة الألمانية فون درست هلشوف Anette von droste Hulshoff.

فقال: إنها كانت أقرب إلى الرجولة في مزاجها وكلامها، وكانت تتزيا بأزياء الرجال وتتمنى في بعض شعرها لو كانت صيادًا منطلقًا بالعراء أو جنديًّا مقاتلًا أو رجلًا على الأقل. ولم تنظم قط في عواطف الأمومة أو وصف الطفولة أو حنين المرأة إلى الحب والألفة وما شابه ذلك من معارض الشعر التي يكلف بها النساء، وأضاف إلى ذلك أن هذا النزوع إلى التشبُّه بالرجال والتزيي بأزيائهم مشهود مطَّرِدٌ في نساء التاريخ المشهورات مثل أليصابات ملكة إنجلترا وكاترين قيصرة الروس وكرستينا ملكة السويد؛ فهن ينبغن في اقتدارهن على بعض أعمال الرجال بمقدار ما ينقص فيهن من صفات الأنوثة، لا بمقدار ما يزيد ويفضل عن الحاجة إليه.

•••

وأسلم ما يقال في هذا الباب ولا يقبل الخلاف عليه أن فاصل الجنس موجود، وأن هناك صفات ذكورة وصفات أنوثة لا التباس بينها حين تنعزل وتتمادى إلى طرفيها، ومن خير بني الإنسان أن يصان لهم هذا التنويع في الصفات على اختلاف ألوانها وظلالها ودرجاتها وطبقاتها؛ لأن التنويع زيادة في ثروة الإحساس وزيادة في ثروة الحياة وزيادة في الأعمال التي تُستطاع في كل حالة من هذه الأحوال، وترتقي إلى غايتها من الإتقان كما يرتقي كل شيء إلى غايته بالتخصيص وتوزيع العمل فيه.

وأن الجنس لم يخلق ليزول ويتشابه الجنسان.

ولكنه خلق ليبقى ويتعاون جانباه على إتمام حياة الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤