الفصل السابع

شخصية العالم

العلم نشاط عقلي يقوم به علماء مُتخصِّصون، ويتَّخذ طابعًا لا شخصيًّا، والمقصود بالطابع اللاشخصي أنَّ النتيجة التي يَتوصَّل إليها العالم تُصبِح على الفور ملكًا للبشرية جمعاء. صحيح أن هذه النتيجة هي ثمرة جهود «هذا الشخص بالذات»، وأن ذكاءَه وتعليمه وجهوده الخاصة هي التي أدَّت به إلى بلوغها، ولكن الكشف العلمي بمجرد ظهوره يفقد صلته بالأصل الذي أنتجه، ويتحوَّل إلى «حقيقة» يَملكها الجميع ويعترف بها الجميع. وقد نظلُّ نَذكُر اسم العالم الذي تم على يديه هذا الكشف، ولكن هذا لا يتم إلا عندما نتحدث عن «تاريخ العلم»، وهو شيء يَنفصِل عن العلم ذاته؛ ففي استطاعتنا أن نستخدم هذا الكشف الذي توصَّل إليه دون أن نذكر شيئًا عن صاحبه، بل إن هذا ما يفعله أغلب المشتغلين بالعلم إزاء معظم الكشوف التي يتعامَلون معها؛ لأنَّ اسم صاحب الكشف لا يُغيِّر — في قليل أو كثير — من حقيقته التي هي أول وآخر ما يهتمُّ به البحث العلمي.

وهكذا يبدو أن «شخصية» العالم هي أقل الأشياء أهمية في العلم، وأن البحث العلمي نشاط مستمر، يقوم به أناس يُنكِرون شخصياتهم، ولا يَحرِصون إلا على متابعة «السير في الطريق»، ومثل هذا الطابع «اللاشخصي» للعلم خليق بأن يجعل مشكلة البحث في «شخصية العالم» مشكلة ثانوية لا مُبرِّر للاهتمام بها.

ومن ناحية أخرى فإن العلماء فئة شديدة التبايُن، فالاختلافات بينهم واسعة إلى حدٍّ يَبعث على الدهشة؛ إذ نجد منهم مَنْ نبَغ في مُقتبَل عمره، ومَنْ لم يَظهر نبوغه إلا في مرحلة الشيخوخة المتأخِّرة، ونجد منهم من يَميل إلى البحث المتأنِّي، ومَن يُدافع عن الانبثاق المفاجئ للأفكار الجديدة، كما نجد بينهم زهادًا من ناحية ومُستمتِعين بالحياة من ناحية أخرى … إلى غير ذلك من الفوارق التي نجدُها بين أفراد أيَّة فئة بشرية.

ومع هذا كله، فهل يكون من الصَّعب أن نتلمَّس صفات مشتركة بين العلماء نستطيع أن نُطلِق عليها — في مجموعها — تعبير «شخصية العالم»؟ يبدو — من استقراء حياة العلماء وتحليل طبيعة البحث العلمي — أن هناك بالفعل مجموعة من الصفات التي يشترك العلماء في الكثير منها، والتي تُكوِّن في مجموعها كيانًا متميزًا يستحق أن يُطلَق عليه اسم «شخصية العالم». ولكننا حين نقول ذلك ينبغي أن نبادر على الفور إلى الاعتراف بأمرين؛ أولهما أن هناك دائمًا استثناءات، وأن من السهل أن يجد المرء علماء لا تَنطبِق عليهم صفة أو مجموعة من الصفات التي نرى أنها هي المُميِّزة لشخصية العالم وهذا أمر طبيعي؛ إذ إننا لا نستطيع أن نُدرِج أية مجموعة من البشر في قوالب متشابهة، فما بالك إذا كانت هذه المجموعة تتألف من فئة متميِّزة عقليًّا عن بقية الفئات؟ وثانيهما أن وجود هذه الصفات لا يجعل المرء عالِمًا «بطريقة آلية»، فهذه الصفات تُكوِّن «الحد الأدنى» الذي لوحظ أنه موجود في عدد كبير من العلماء. ولكن لكي يكون المرء عالمًا بحق فلا بد من أن يَتوافر له ما هو أكثر بكثير من هذا الحد الأدنى، أعني لا بد أن يكون له تكوين من نوع معيَّن وتفكير خاص ومعارف وقدرات خاصة على البحث، وهذه كلها أمور تتجاوز نطاق أي بحث يقوم به المرء عن «التفكير العلمي» بوجه عام؛ لأنها تنقلنا إلى ميادين التخصُّص العلمي ذاتها.

في هذا الإطار العام — الذي نَعتقِد أن من المُمكِن الكلام فيه عن شخصية العالم — سوف نتحدث عن مجموعة من العناصر التي نَعتقِد أنها من أهم مكونات هذه الشخصية، وإن لم يكن من الضروري أن تتجمَّع كلها في كل عالم على حِدَة.

(١) العناصر الأخلاقية في شخصية العالم

ليس المقصود من الأخلاق — في هذا الجزء من بحثنا — هو تلك الأخلاق الشخصية التي تتعلق بطريقة سلوك العالم من حيث هو إنسان، وإنما المقصود هو الأخلاق المتصلة بعمله العلمي، سواء بطريق مباشر أم بطريق غير مباشر؛ فنحن لا يعنينا أن نبحث في الطريقة التي يدير بها العالم شئون حياته اليومية الخاصة؛ لأن هذه الشئون ملكه هو من حيث هو فرد، ولكن إذا انعكست طريقة سلوكه في حياته الخاصة هذه على عمله العلمي — حتى ولو كان ذلك على نحو غير مباشر إلى أبعد حد — فعندئذ ينبغي أن نعمل لها حسابًا. وهذه التفرقة بين المسلك الشخصي والمسلك الذي يمسُّ العلم تفرقة هامة؛ لأن الكثيرين يَنسَون أن العالم إنسان له كلُّ ما للبشر من جوانب الضعف والانفعالات وربما النزوات، وقد يكون في حياته الخاصة بعيدًا كلَّ البعد عن الصورة التي يُكوِّنها عنه الناس باعتباره عالِمًا؛ إذ يتصوَّر الناس عادةً أنه لا بد أن يَسلُك في أموره اليومية — أي أن يأكل ويشرب وينام ويحبُّ — بوصفه «عالمًا»، ويتخيَّلون أن مهنته لا بد أن تنعكس على أدقِّ تفاصيل حياته، وهذا تصور واهم، ربما أذكته في نفوس الناس بعض الأقلام السينمائية أو الأعمال الأدبية التي تَميل إلى أن تجعل للناس شخصية نمطية واحدة، تسري على جميع جوانب حياتهم، ولكن الواقع — في أغلب الأحيان — يكذِّب هذا التصور؛ إذ إننا نادرًا ما نجد العالم الذي يمر في جميع جوانب حياته باعتباره عالمًا، وغالبًا ما نجده يسلك في أمور حياته اليومية كما يسلك سائر الناس، ويتعرَّض لسائر مظاهر الصواب أو الخطأ التي يتعرض لها غيره من البشر. غير أن هناك جوانب معيَّنة من حياته تؤثر — على نحوٍ قليل أو كثير — في عمله العلمي وتتأثَّر به، وهذه الجوانب هي التي تَعنينا ها هنا.

في هذه الناحية بالذات — أعني في مظاهر حياة العالم التي تتَّصل من قريب أو بعيد بعمله العلمي — يشيع تلخيص القيمة الأخلاقية العليا التي يتميَّز بها العالم في كلمة واحدة هي «الموضوعية». ولكن «الموضوعية» كلمة شديدة التعقيد، تحتمل جوانب وأوجهًا متباينة، ومِن المستحيل فهمُها على حقيقتها إلا إذا حلَّلنا معانيها وجوانبها المُختلفة بمزيد من الدقة، ومن هذا التحليل نستطيع أن نُلْقِيَ ضوءًا مفيدًا على العناصر الأخلاقية كما ينبغي أن توجد في شخصية العالم، وكما تُوجد بالفعل في شخصيات علماء كثيرين.

(١-١) الروح النقدية

أول معنًى للموضوعية هو أن تكون لدى المرء رُوح نقدية، ومعنى ذلك ألا يتأثَّر بالمسلَّمات الموجودة أو الشائعة، وأن يَنقُد نفسه ويتقبل النقد من الآخرين.

  • (أ)

    فأهمُّ ما يُميِّز العالم قدرته على أن يختبر الآراء السائدة — سواء على المستوى الشعبي العادي أو في الأوساط العِلمية أو كليهما معًا — بذهن ناقد، لا ينقاد وراء سلطة القدم أو الانتشار أو الشُّهرة، ولا يقبل إلا ما يبدو له مقنعًا على أُسُس عقلية وعلمية سليمة، ولا يعني ذلك أن يقف المرء موقف العناد المتعمَّد من كل ما هو شائع، بل يعني اختبار الآراء الشائعة وإخضاعها للفحص العقلي الدقيق، وربما عاد إلى قبولها آخر الأمر بعد أن يكون قد اطمأنَّ إلى أنها اجتازت هذا الاختبار. أما لو تبين له ضعف أو تناقض أو تفكُّك في هذه الآراء، فإنه يتمسك بموقفه الجديد بكل ما يملك من تصميم وإصرار، مهما كانت التضحيات التي يعانيها في سبيل هذا الموقف.

    ولو تناولنا بعض الأمثلة المشهورة في هذا الصدد؛ لوجدنا هذه الصفة مشتركة بينها جميعًا؛ فحين وقف جاليليو — وهو شيخ عجوز في أواخر مراحل عمره — أمام محكمة التفتيش في رُوما مدافعًا عن رأيه الجديد — الذي كان امتدادًا لرأي كبرنيكوس — في نظام العالم ودوران الأرض حول الشمس، وحين وقف باستير وحده أمام علماء عصره مدافعًا عن وجود تلك الكائنات الدقيقة التي تُسبِّب التلوث والتعفُّن والأمراض — أعني الميكروبات — وحين وقف فرويد أمام عواصف الاستنكار مؤكدًا أن الدوافع الحقيقية لسلوك الإنسان قد تكون بعيدةً كلَّ البُعد عن الدوافع الظاهرية التي يُعلنها الإنسان على الملأ أو يُعلنها المجتمع من خلال الإنسان؛ في كل هذه الحالات — التي يحفل تاريخ العلم بأمثالها — كان هناك إدراك من جانب العالم لحقيقة جديدة تتصادَم بعُنف مع الحقائق الشائعة، وتَلقى مقاومة مستميتة من أوساط قوية ومسيطرة، وكان العالِم يقف وحده في مبدأ الأمر على الأقل، لا يَملك ما يدافع به عن نفسه سوى قوة الإقناع التي تتَّسم بها حقيقته الجديدة، ومع ذلك فقد استطاع — آخر الأمر — أن يَنتزِع الاعتراف بأفكاره، ويُحوِّل مجرى العلم في اتِّجاه جديد. وكم مِن كشفٍ علمي تحقَّق لمجرَّد أن عالِمًا تجرأ على أن يَنقد المسلَّمات الشائعة، ولا ينحني أمام طُغيان الانتشار أو جبروت القوى التي تدافع عن هذه المسلَّمات، أو أمام تلك القوة التي تَكتسبها الآراء السائدة نتيجة اعتياد الناس عليها زمنًا طويلًا.

    وفي كثير من الأحيان كان نقد هذه المسلَّمات يَصدم الناس صدمةً عنيفة، ولكن العالم لم يكن يَأبه إلا للرأي الذي اقتنع به. وهكذا رأينا كشوفًا عظيمة الأهمية تتحقَّق — منذ القرن التاسع عشر — لأن عالِمًا تجاسر على ألا يتقيَّد بالمسلَّمة القائلة إن الخطين المتوازيَين لا يَلتقيان، وإن مجموع زوايا المثلَّث بالتالي ينبغي أن يكون قائمتَين، أو لأن عالِمًا آخر تحدى النظرة السائدة إلى المكان والزمان، والتي تجعل كلًّا منهما حقيقةً مُطلَقة، فتجرَّأ على الربط بينهما في وحدة واحدة يَنكمِش فيها الزمان إذا عُبِر المكان بسرعة هائلة، أو لأن عالِمًا ثالثًا لم يقتنع بأن الضوء ينبغي أن يكون «إما» جسيمات دقيقة و«إما» تموُّجات، فجمَع بين هذَين المفهومَين اللذَين يبدو من المُستحيل الجمع بينهما، وقال بنظرية جسيمية — تموُّجية في آنٍ واحد. وهكذا أكدت فكرة «تحدي البديهيات والمسلَّمات» قيمتها في مجال العلم إلى الحد الذي شجَّع الكثيرين على نقلها إلى مجال الفكر الفلسفي والاجتماعي والنفسي والسياسي، وأصبحَت هذه الفكرة من أهم السمات المميِّزة لعصرنا الحاضر.

  • (ب)

    على أن العالم مثلما يُعيد اختبار الأمور المسلَّم بها في الأوساط العِلمية أو الشعبية، ويُخضعها لمحكمة العقل وحده، لا يُعفي نفسه من النقد؛ فمن الجائز أنه هو نفسه قد وقع في خطأ، وفي هذه الحالة يتعيَّن على العالم الحقيقي أن يُبادر إلى الاعتراف بهذا الخطأ، وكثيرًا ما يكون هذا الاعتراف أليمًا؛ وذلك لأسباب واضحة؛ فمن السهل أن يَنقُد المرء الآخرين، أما نقده لنفسه فمن أصعب الأمور، ولا يَرجِع ذلك إلى أسباب نفسية أو إلى الاعتزاز بالذات فحسب، بل يَرجع أيضًا إلى صعوبة عمَلية النقد التي يُمارسها المرء نحو ذاته. فحين يكون النقد موجَّهًا إلى الآخرين، يكون ذهنُ الناقد ذهنًا جديدًا «أضيف» إلى ذهن صاحب الرأي الذي يَنقُده، وكل ذهن جديد يستطيع أن يتأمل الموضوع من زاوية جديدة، ويرى فيه جوانب ربما لم يكن صاحب الرأي الأصلي قدَّرها أو أضفى عليها الأهمية التي تستحقُّها. أما في حالة «النقد الذاتي» فإن الذهن الواحد هو الذي يضع الرأي الأصلي، وهو نفسه الذي يَنبغي أن يتأمل هذا الرأي الأصلي بنظرة ناقدة، ومثل هذا التأمل النقدي يغدو عسيرًا في هذه الحالة، والأرجح أن يظلَّ المرء متمسِّكًا بنفس وجهة النظر القديمة؛ لأن عاداته الفكرية وتكوينه الخاص يُؤدِّيان به — غالبًا — إلى نفس النتائج التي انتهى إليها من قبل، ولأن من الصعب أن يَنسلِخ المرء تمامًا عن طريقته السابقة في النظر، ويتأمل موضوعه بأعين جديدة.

    ومما يزيد من صعوبة هذا النقد الذاتي، أنه كثيرًا ما يعني هدم حصيلة عمل بذَل فيه العالم جهدًا شاقًّا، ومراجعة شاملة لخطواته السابقة من جديد، فلو تبين أن هذا الهدم ضروري لأن الآخرين قد اكتشفوا في هذا العمل نقاطَ ضعفٍ واضحة أو نقصًا ظاهرًا، فعندئذ لا يكون أمام العالِم مفرٌّ من مراجعة عمله السابق، أما أن يقوم هو ذاته بالنقد الذي يؤدِّي به إلى تفنيد عمله الخاص وتبديد الوقت والجهد الذي بذله فيه، فهذا — بلا شك — أمر شاق من الوجهة النفسية والأخلاقية، ومن المؤكَّد أن القليلين هم الذين تتوافَر لديهم القدرة على مراجعة النفس بأمانة، وإعادة النظر في أعمالهم السابقة بحيث يَستغنون عنها استغناءً تامًّا إذا اقتنعوا بأن ذلك ضروري، فهذه المراجعة تحتاج إلى مستوًى أخلاقيٍّ رفيع، وإلى إنكار للذات لا يقدر عليه معظم الناس، الذين لا يَقبلون بسهولة أن يَقتَطِعوا من حياتهم ومن ثمار جهدهم ويتنكَّرون لها بمحض إرادتهم وكأنها لم تكن. ولكنَّ هؤلاء القليلين الذين يَصِلون إلى هذا المستوى الرفيع، هم الذين ينهض العلم على أيديهم، وفي معظم الأحيان تثبت الأيام أن جهدهم السابق — الذي تنازلوا عنه — لم يَضِع هباءً، وأن عملية النقد الذاتي هذه قد تكون نقطة البداية في كشفٍ علمي أهم بكثير من ذلك الذي كانوا يعتزمون الوصول إليه من قبل.

    ولسنا نودُّ أن نترك موضوع النقد الذاتي قبل أن نُشير إلى استخدامٍ شائع لهذا التعبير في أيامنا هذه، وهو استخدامٌ سياسي في المحلِّ الأول، والمفروض فيه أن يُعيد المرء النظر في مواقف سابقة له — في المجال السياسي — ويَنقدها نقدًا موضوعيًّا، ولكن ظروف العالم الذي نعيش فيه، وطبيعة الصراع بين الأفكار في هذا العصر، تؤدِّي — في كثير من الأحيان — إلى ابتذالِ معنى النقد الذاتي؛ إذ إنه كثيرًا ما يُصبح تعبيرًا عن انتهازية رخيصة، يُحاول فيها المرء أن يتنصَّل من مواقفه السابقة لأن التيار السياسي قد تغيَّر، ولأن اتجاهًا جديدًا وأشخاصًا جُددًا قد قفزوا إلى السلطة، فيُغيِّر الأذناب جلودَهم، تمشِّيًا مع العهد الجديد، باسم «النقد الذاتي». كما أن هذا التعبير قد يُستخدم نتيجة لوجود قهر شديد، يُضطرُّ معه المرء — إذا كان قد أعرب من قبل عن آراء مُعارضة أو رافضة — إلى سحبِ آرائه هذه والتنصُّل منها باسم «النقد الذاتي»؛ خوفًا من بطش السلطة أو خضوعًا لضغطها. وفي كل هذه الحالات لا تكون لهذا النوع من «النقد الذاتي» المزيَّف أية صلة بما نقوله ها هنا عن النقد الذاتي في المجال العلمي؛ لسبب بسيط هو أن النوع الأول لم يصدر بدوافع موضوعية، أو لم يكن تعبيرًا عن إرادة حرة.

  • (جـ)

    وأخيرًا فإن تقبُّل النقد من الآخرين صفة أساسية ينبغي أن يتحلى بها العالم؛ ذلك لأن لكلٍّ منا عاداته الفكرية الخاصة، وطريقته الشخصية في معالجة الأمور، وتكوينه الفردي المميَّز، وهذا كله يَنعكِس حتمًا على عمله العِلمي، بحيث يعجز في أحيان كثيرة عن رؤية جوانب الضَّعف أو النقص فيه، ويَحتاج إلى مَنْ يتأمل هذا العمل بعُيونٍ أخرى لكي يرى فيه ما لم يرَهُ صاحبه. وعلى الرغم من أن الحقيقة العلمية — عندما تَثبُت وتَستقِر — تكون حقيقة واحدة يتَّفقُ عليها الجميع، فإنها في مرحلة تكوينها تحتاج إلى تضافُر عقول كثيرة وإلى «حوار» بينها، وهو ما أدرَكَه قُدماء الفلاسفة حين أكَّدوا أن «الجدل» — بمعنى مشاركة أكثر من عقل واحد في السعي إلى بلوغ الحقيقة — هو طريق المعرفة.

وهكذا أصبح النقد جزءًا لا يتجزأ من المُمارسة العلمية في جميع البلاد المتقدمة، وأصبحت الدوريات والمجلات العلمية — بل والصُّحف اليومية في أحيان غير قليلة — تُخصِّص أبوابًا ثابتة لنقد الأعمال المنشورة، وأصبح العلماء أنفسهم يتلهَّفون على قراءة ما يُكْتَب عن أعمالهم؛ لكي يَعرفوا أين يقفون في الوسط العلمي الذي يَنتمون إليه، ولكي يطَّلعوا على آراء العقول الأخرى فيما أنتَجَه عقلهم. وبفضل هذا التراث النقدي الذي استمرَّ أجيالًا كثيرة؛ اكتسب النقد في هذه البلاد المتقدمة نوعًا من القداسة، وازداد طابعه «موضوعية»، وأصبح الناقد يشعر — وهو يمسك قلمه — بمسئولية لا تقلُّ عن مسئولية القاضي وهو يُصدر أحكامه، ولا شكَّ أن المقارنة هنا ليسَت على سبيل التشبيه؛ إذ إنَّ الناقد هو بالفعل قاضٍ في الميدان العلمي، والفارق الوحيد بين الاثنين هو أن القاضي لا يَتناول إلا حالات الخروج على القانون؛ أي الحالات السلبية وحدها، على حين أن الناقد يُعالج الحالات الإيجابية والسلبية معًا؛ إذ إنَّ مهمَّته ليست إبراز العيوب فحسب، بل وامتداح المزايا أيضًا. وفيما عدا ذلك فإن الضمير النقدي في البلاد المتقدِّمة قد اكتسب حساسية ورهافة لا تقلُّ عن الضمير القضائي، وكلاهما يَصدُر في أحكامه عن دستور أو تشريع موضوعي؛ القاضي عن بنود القانون، والناقد عن المنطق السليم والمعارف العِلمية المُستقرَّة.

وفي اعتقادي أن هذه الإشارة إلى ما أُسمِّيه «بالضمير النقدي» في ميدان العلم ضرورية في عالَمنا العربي على وجه التحديد؛ لأن هذا الضمير لم يتبلور بعدُ بالقدر الكافي في أوساطنا العلمية، ومِن المُمكِن التفكير في أسباب مُتعدِّدة لهذه الظاهرة، ولكن أهمها في رأيي سبَبان؛ الأول أن نهضتَنا العلمية الحديثة قريبة العهد بحيث لم يُصبِح لدَينا بعدُ «تراث» يجعل النقد جزءًا أساسيًّا من حياتنا العِلمية، كما هي الحال في البلاد المتقدِّمة. والسبب الثاني (وهو مُرتبط بالأول ارتباطًا وثيقًا) هو ذلك الخلط الذي يسود كافة جوانب حياتنا بين ما هو خاص وما هو عام، أو بين العوامل الشخصية والعَوامل الموضوعية، هذا الخلط هو — على سبيل المثال — سبب ظاهرة «الوساطة» التي تتفشَّى في أوساطنا الحكومية، والتي هي في حقيقتها تطبيق لمبدأ إكرام القريب أو الصديق (وهو مبدأ جميل في حياتنا الخاصة) على الشئون العامة للدولة، بحيث يَزول الفارق بين طريقة سلوكِنا مع المُحيطين بنا في الأسرة أو في القرية أو في المقهى، وطريقة سلوكنا عند أداء الأعمال الرسمية.

وحين يَسري هذا الخلط على العلاقات بين العلماء تُصبح نتائجه وخيمة؛ إذ إن العالم لا يعود قادرًا على تقبُّل النقد من الآخرين، ويتصوَّر أنه إهانة له أو هجوم شخصي عليه، بينما الناقد نفسه قد يَستخدِم هذا النقد — في أحيانٍ غير قليلة — لتصفيَةِ حساباتٍ شخصية، أو لمُجاملة مَنْ له عنده مأرب. وهكذا يَسلُك الطرفان معًا بطريقة تخلو من النزاهة والموضوعية، ومن هنا كانت مِحنة النقد العلمي والفكري في بلادنا … (أما النقد الأدبي والفني، فحدِّث عنه ولا حرج، إذ إنه — بالإضافة إلى ذلك — يَنْصَبُّ على مجال فيه من المرونة والتحرُّر من القواعد الثابتة ما يعطي للعوامل الشخصية في النقد مجالًا أوسع.)

ولعلَّ مما يَزيد من حدة هذه المِحنة أن وسائل النقد ذاتها غير متوافِرة؛ فالمجلات والدوريات قليلة أو منعدمة في بعض المَجالات، وهي لا تُخصِّص إلا مساحة ضئيلة للنقد العلمي الجاد، ولها العذر في ذلك لأنَّ العملية نفسها لا تَلْقَى استجابة كبيرة من الكُتَّاب؛ فمن منهم على استعداد لإرهاق نفسه بقراءة كتاب أو بحثٍ لشخص آخر، والتنقيب بين المراجع عما عسى أن يكون قد أغفَله أو أخطأ فيه؟ إنَّ قراءة أبحاث الآخرين ومؤلفاتهم — على أية حال — أمر يزداد ندرة بالتدريج؛ لأن أعباء الحياة والعمل — وربما الكسل أيضًا — تجعل كلَّ باحث مُنشغِلًا بأبحاثه الخاصة، ونادرًا ما يقرأ بحوث الآخرين. وهكذا يشعر كثير من الباحثين — في العالم العربي — بأنهم يَكتُبون لأنفسهم (وخاصةً حين يكون الموضوع الذي يُعالِجونه جادًّا)، فبعد عمل مُرهِق قد يدوم سنوات متعددة، يظهر البحث فلا يستجيب له أحد، ولا يُعلِّق عليه أحد، ولا ينقده أحد، حتى من المتخصِّصين في ميدانه، فنحن لا يقرأ بعضُنا لبعض، ومن ثم لا يَنقد بعضُنا بعضًا، وهذا نقص فادح في حياتنا العلمية.

والوجه الآخر لموضوع النقد هذا هو أن نَعترف بفضل الآخرين على أعمالنا، فنحن نَدين لمن نقرأ لهم بقدر كبير من معارفنا، بل إن كثيرًا من أفكارنا الشخصية التي يبتدعها كلٌّ منا وفي ذهنه أنه هو مصدرها الوحيد، لا تُثار في أذهاننا إلا لأنَّ قراءة بحث أو كتاب معين قد أوحى إلينا بها ولو بصورة غير مباشرة، أو أثار فينا حاسة النقد والهجوم، فيكون له الفضل في هذه الحالة بدورها، حتى ولو كان ذلك فضلًا سلبيًّا. ومن هنا فإن العلماء والكُتَّاب — في البلاد التي رسخت فيها التقاليد العلمية — يُحاولون بقدر ما في وسعهم ردَّ الفضل إلى أصحابه، وربما رأيت المؤلف منهم يُعدِّد في مقدمة كتابه أسماء مجموعة ضخمة من الأشخاص، بعضهم ناقَشه مناقشة قصيرة حول الموضوع، وأحيانًا قد يَذكُر الأستاذُ فضلَ تلاميذه الذين ألهموه — بأسئلتهم واستفساراتهم — كثيرًا من أفكاره. أما الإشارة إلى الاقتباسات من المراجع الأخرى فقد أصبحت تقليدًا ثابتًا لا يُخالفه أحد.

وفي هذه الحالة بدورها نجد أن هذا التقليد الجليل لم يَستقرَّ في بلادنا تمام الاستقرار، بل إنَّ مخالفته قد تتَّخذ في بعض الأحيان أبعادًا مؤسفة، كما يحدث في حالات «السطو» على أعمال الآخَرين التي يَنسبها المرء لنفسه دون وازع مِن ضمير. ومِن المؤكَّد أن حياتنا العلمية لن تستقيم إلا إذا أصبح الاعتراف بفضل الآخرين — حتى في الأمور البسيطة — قاعدةً لا يخالفها أحد، وربما احتاج الأمر في البداية إلى قدرٍ مِن الشدة، بحيث يَلقى مَن يرتكب عملًا من أعمال السَّرِقة العلمية جزاءً رادعًا. وبعد ذلك يُمكن أن يتحوَّل السلوك العلمي القويم إلى عادة متأصِّلة في النفوس، فلا نحتاج إلى فرض جزاءات. ولكن النظرة المدقِّقة إلى أوضاع التقاليد العلمية في العالم العربي لا تُوحي بالتفاؤل، إذ يبدو أن الأجيال الجديدة أقلَّ تمسكًا بهذه التقاليد حتى من الأجيال السابقة؛ ومن ثم فإن الخطَّ البياني للرُّوح النقدية السليمة وللأخلاق العلمية — بوجه عام — يتجه إلى الهبوط، وهو أمر مُؤسِف ينبغي أن نتداركه حتى لا تتسع الهوة بيننا وبين البلاد المتقدمة التي يزداد علماؤها تمسُّكًا بالتقاليد العلمية جيلًا بعد جيل.

(١-٢) النزاهة

لسْنا في حاجة إلى أن نُطيل الحديث عن صفة النزاهة بوصفها معنًى أساسيًّا من معاني الموضوعية؛ ففي ثنايا الحديث عن الروح النقدية اتَّضحت لنا عناصر كثيرة ترتبط بصفة النزاهة، مثل قدرة العالم على أن يقف من أعماله الخاصة موقفًا نقديًّا، وعلى أن يَتقبَّل نقد الآخرين، ولا ينسب إلى نفسه شيئًا استمدَّه من غيره. والواقع أن نزاهة العالم تتبدَّى — أوضح ما تكون — في استبعادِه للعوامل الذاتية من عمله العلمي، فحين يُمارس العالم هذا العمل ينبغي عليه أن يطرح مصالحه وميوله واتجاهاته الشخصية جانبًا، وأن يُعالج موضوعه بتجرُّد تام.

هذا التجرُّد هو الذي يجعل العلم يلجأ إلى وسيلة وحيدة للإقناع هي الدليل والبرهان الموضوعي. وقد يتَّخذ هذا البرهان شكل إجراء تجربة تُثبِت المبدأ العلمي الجديد على نحوٍ حاسم، أو يتَّخذ شكل تدليل منطقي قاطع، ولكنه في كل الحالات برهان يفرض نفسه على أي ذهن لديه القدرة على فهم الموضوع واستيعابه، وهذا هو الفارق الأساسي بين طريقة الإقناع العلمي، وطرق الإقناع المألوفة التي نلجأ إليها كثيرًا في معاملاتنا اليومية، والتي تَحفل بعناصر ذاتية لا صلة لها بالتفكير العلمي من قريب أو من بعيد؛ مثل الإقناع عن طريق البلاغة اللفظية أو استخدام اللغة الانفعالية المؤثِّرة أو التلاعُب بعواطف الناس أو إغرائهم واستِثارة ميولهم ومصالِحهم. فالعلم يُعلِّم الإنسان كيف يترك انفعالاته وتفضيلاته الشخصية جانبًا، وكيف ينظر إلى الأمور نظرة منزَّهة عن كل غرض. ومن هنا كان للعلم تأثير أخلاقي لا يُمكن إنكاره. ومِن المؤكد أن المُمارسة العلمية الطويلة والسليمة، لا بد أن تترك طابعها على طريقة تعامل العالم مع غيره من الناس؛ وذلك على الأقل في الأمور التي يقوم فيها صراع بين العوامل والميول الذاتية من جهة وبين الحقائق الموضوعية من جهة أخرى.

على أن الحديث عن صفة النزاهة والتجرُّد يُفضي بنا إلى موضوع آخر له أهمية بالغة، ولا سيما في عصرنا الراهن؛ وأعني به موقف العالِم من الرِّبح المادي أو المال؛ ذلك لأنَّ نزاهة العالم تَفترض منه أن يكون في عمله العلمي ساعيًا إلى الحقيقة وحدها، بغضِّ النظر عما يمكن أن يَجنيه من ورائه من مغانم. وهذه مسألة تنبَّه إليها الفلاسفة منذ أقدم العهود؛ إذ إنَّ أفلاطون قسَّم البشر إلى محبي الكسب كالتجار والصنَّاع، ومُحبي الشُّهرة كالحُكَّام السياسيِّين أو القُوَّاد العسكريِّين، ومُحبِّي العلم أو المعرفة وهم العلماء والفلاسفة، وفي رأيه أن مَن يَنتمي إلى الفئة الأخيرة لا يُمكن أن يَنتمي إلى الفئتين الأُخريين، وبخاصة الأولى منهما. ومنذ ذلك الحين أصبح من الأمور المُعترف بها أن لذة العلم والوصول إلى الحقيقة تَفوق أيَّة لذة أخرى، وتجعل صاحبها زاهدًا في تلك الأهداف الدنيوية الصغيرة التي يَستميت الناس الماديون من أجل تحقيقها كهدفِ الرِّبح المادي.

ولكنَّ عصرنا الحديث، وإن كان قد احتفظ بهذه التَّفرِقة بين السعي إلى الحقيقة والسعي وراء المال، قد أضافَ أبعادًا أخرى إلى هذا الموضوع؛ ذلك لأن تعقُّد الحياة الحديثة وكثرة مَطالبها جعَل من المستحيل أن يظلَّ العالم في صورة ذلك الناسك أو الزاهد الذي يتعفَّف عن كل ما يَتَّصل بالمال، ومِن هنا طرأ قدر من التغيُّر على الصورة القديمة، بدليل أنَّ المشروعات العلمية الناجحة كثيرًا ما يكون من عوامل نجاحها الإنفاق بسخاء على المشروع بَمن فيه مِن العلماء والباحثين.

فهل يَعني ذلك أن التضادَّ القديم بين مُحبِّي الحقيقة ومُحبِّي الكسب قد اختفى؟ الواقع أن هذا التضادَّ لا يزال قائمًا، ولا يُمكن القول إنَّ العالم الحقيقي إنسان يَصلُح للاشتغال بالتجارة (حتى في عمله) أو يَجعل مِن تكديس الأموال هدفًا لحياته. قد نجد استثناءات قليلة هنا أو هناك، ولكن مُعظَم هذه الاستثناءات تتعلَّق بأناس لا تَسري في عروقهم رُوح العلم بمعناها الحقيقي. ولا يَزال من الصَّحيح أن العالم لا يَطلُب المال لذاته، وإنما يطلبه بوصفِه وسيلة فحسب؛ فسُهولة العيش وقضاء المَطالب المادية — وربما بعض المطالب الكَمالية — يُتيح للعالم أن يَتفرَّغ لعمله العلمي بذهنٍ خالٍ من المشاغل، ومن هنا كان الوضع الأمثل عند العلماء هو أن تقوم الدولة بتلبية احتياجاتهم وتَزويدهم بكلِّ ما يلزمهم للبحث، بحيث تُصبح عقولهم مكرَّسة للتفكير في المشاكل العلمية وحدها، أما استغلال البحث العلمي استغلالًا ماديًّا فأمر لا يَكترث به العلماء.

ولا يُمكن أن يُسمى هذا زهدًا بالمعنى الصحيح، وإن كان فيه بالفعل كثير من عناصر الزهد؛ ذلك لأن العالم إنسان يَحظى بمُستوًى عقليٍّ يفوق المستوى العادي، وهناك مُتَع كثيرة يَسعى إليها الإنسان العادي ويُنفِق من أجلها الكثير من المال، لا يَكترث بها العالم ولا يشعر إزاءها بأي استمتاع. فمن الصعب على كثير من العلماء — مثلًا — أن يَشعروا بلذة حقيقية من تلك السَّهرات الصاخبة في الملاهي الليلية، حتى لو كان يملك المال الذي تَتكلَّفه، على حين أن التاجر أو رجل الأعمال قد يجد فيها متعة كبرى، وقد يكون قدر كبير من سعيه وراء الرِّبح مُستهدِفًا حياة من هذا النوع. وهكذا يبدو تصرُّف العالم في هذه الحالة زهدًا، ولكنه — في حقيقته — استخفاف بأمور لا تُثير في نفسه رغبةً حقيقية من أجل الوصول إليها.

وهنا لا نستطيع أن نقول: إننا — في عصرنا الحديث — قد تجاوَزنا بكثير ما كان يدعو إليه أفلاطون؛ ذلك لأن هذا الفيلسوف اليوناني الكبير قد حرَّم على العلماء — في مدينتِه الفاضلة — اقتناء الذهب والفضة «اكتفاءً بما في نفوسهم من هذَين المعدنَين النفيسَين»، وهو قد دعا إلى قيام المجتمع أو الدولة بتوفير كل المطالب المادية للعلماء حتى لا يَشغلهم شيء سوى بحثهم وراء الحقيقة، ولكنَّ الصورة العامة التي رسمها لوضع العلماء في المجتمع المثالي — كما تخيَّله — لم تكن صورة زاهدة بالمعنى الصحيح؛ إذ إن العلماء كانوا يَحصُلون على كل مطالبهم الضرورية، وكانوا يَتمتَّعون جسديًّا ونفسيًّا بكل ما يَميل إليه الإنسان السوي. أما انصرافهم عن الاتِّجار أو الكسب فراجعٌ إلى أن طبيعتهم ذاتها تأبى الانشغال بهذه الأمور.

ولكن ماذا نقول عن الشُّهرة؟ هل صحيح أن العالِم — كما كان يَشيع في العصور القديمة والوسطى — إنسانٌ يزهد في الشهرة ويبحث عن الحقيقة في صمتٍ، دون أن يهتمَّ بأن يعرفه أو يسمع عنه أحد؟ الواقع أن هذا الرأي يظلُّ صحيحًا إذا كُنا نَعني بالشهرة ذلك الضجيج الإعلامي والإعلاني الأجوف الذي يَتمتَّع به نجوم السينما أو الرياضة البدنية أو بعض السياسيِّين؛ فالعالم لا يجد متعة في أن يَشيع اسمه بين عامة الناس وسط أسماء تلك الشخصيات التي تهتمُّ بها وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة، والتي هي في معظم الأحيان شخصيات سطحية. ولكن هناك نوعًا آخر من الشُّهرة يسعى إليه العالِم بكل حماسة، هو الشهرة في الوسط العلمي ذاته، بل إنَّ كلَّ مَنْ مارَسَ تجربة البحث العلمي على حقيقتها يَعلم أن كلمة صدق يقولها عالم آخر ممتدحًا فيها بحثه، قد تكون أحبَّ لديه من أموال الدنيا. وهكذا يتحمَّس العالِم للشُّهرة بمعنى اعتراف المتخصِّصين والعارفين بقيمة عمله. أما الشهرة الجماهيرية السطحية فلا تُهمُّه في شيء؛ لأنه على أية حال لن يستطيع — مهما فعل — أن يجاري مطربًا عاطفيًّا أو لاعبًا رشيقًا في اكتساب الشهرة بين عامة الناس.

وأخيرًا فلعلَّ موضوع المال هذا أن يُثير مشكلة أصبحَت تلقى في السنوات الأخيرة اهتمامًا كبيرًا في بلاد العالم الثالث، ومنها بلادنا العربية، وكذلك في الهيئات الدولية التي تُعنى بشئون البلاد النامية، وأعني بها تلك المشكلة المعروفة باسم هِجرة العلماء أو تَسرُّب العقول، فنحن نُعاني من رفض عدد كبير من أبنائنا — الذين يَتعلَّمون في الخارج — العودة إلى أوطانهم التي هي في أشد الحاجة إلى خبرتهم وعِلمهم لكي تبنيَ لنفسها مُستقبلًا أفضل. ومِن المُعترَف به أن قوة الجذب التي تُوجد لدى بعض الدول المتقدمة، والتي تتمكَّن بواسطتها من احتجاز أعداد كبيرة من علماء البلاد النامية، هي من أهمِّ العوامل التي تؤدِّي إلى مُضاعَفة مُعدَّل التقدم في تلك البلاد، وتباطؤ هذا المعدل في البلاد التي يُهاجِر منها العلماء.

والتفسير الشائع هو أن المال عامل حاسم في هجرة العلماء، لا سيما وأن البلاد التي يُهاجِرون إليها قادرة على إغرائهم بأجور تَزيد أضعافًا مُضاعَفة عن أقصى ما يحلمون في بلادهم الأصلية. وقد يكون عامل المال ذا تأثير بالفعل في بعض الحالات، ولكن أغلب الظن أن هناك عوامل أخرى تَنتمي إلى صميم العمل العلمي، هي التي تدفع العلماء إلى ترك بلادهم الأصلية وتقديم خبراتهم إلى بلاد غريبة عنهم، وعلى رأس هذه العوامل: وجودُ الجو الذي يَسمح للعالم بممارسة عمله على الوجه الذي يتطلَّع إليه؛ ففي اعتقادي أن عامل تحقيق الذات يقوم — في حياة العالِم — بدورٍ يفوق بكثير جميع التطلُّعات المادية، وإحساس العالم بأنه يُحقِّق كل ما لديه من إمكانات، وبأن فُرَص البحث مهيأة له بلا عوائق، وبأن الجو العام — في المجتمع الذي يعيش فيه — يَسمح له بالمضيِّ في عمله العلمي دون أن تشغله الدسائس والمؤامَرات والمشاغل التافهة. هذا الإحساس هو العامل الحاسم في اختياره للمكان الذي يُفضِّل أن يعمل فيه، وأوضَحُ مثل على ما نقول هو ما حدَث لعلماء الصين؛ إذ كان عددٌ من هؤلاء العلماء قد هاجروا إلى الخارج وخاصَّةً إلى الولايات المتحدة، حيث تبوَّءُوا مراكز مرموقة، وكانوا يَتقاضُون مرتبات ضخمة، ولكن في اللحظة التي دعاهم فيها الوطن العودة؛ عاد معظمهم بالفعل، ولم يكن هناك أيُّ وجه للمقارنة بين أحوالهم الجديدة ووَضعِهم القديم من الناحية المالية، ولكن كان هناك الإحساس بأن الوطن في حاجة إليهم، وبأن المجتمع يُنفِق على البحث العلمي بأقصى ما يُمكِنه من سخاء، وبأن أدوات البحث العلمي — من أجهزة ومراجع — متوافرة، كما أن الجو العام يُشجِّع على البحث ولا يَضعُ أيَّة معوِّقات أمام المشتغلين به. وبالفعل لاحَظَ المراقبون الذين زاروا هذا البلد — حتى من بين خصومه — أن الدولة تُعامل العلماء ومراكز البحث معاملةً تفوق بكثير مستوى التقشُّف العام السائد في المجتمع، وهذا أقصى ما يحتاج إليه العالم؛ أن يَشعُر بأن بلده محتاج إليه، وبأن نتائج بحثه لن تُهْمَل وإنما ستعود على المجتمع بالنفع، وبأن الدولة تَحترِم العلم وتُخصِّص له كل ما في طاقتها من إمكانات، وبأنه يُشارك بصورة إيجابية في مسيرة مجتمعٍ يَسعى بجدية من أجل النُّهوض. أما الكسب أو المال فيأتي في مكانة ثانوية إذا تحقَّقت هذه الأهداف الرئيسية، ومِن المؤكَّد أن المجتمع الذي يَحترم العلم إلى هذا الحد لن يَقبل أن يترك علماءه يعيشون في مستوًى هابط. كما أن العالم — من جهته — لن يَطلب لنفسه أكثر مما يُطيق مجتمعه إذا أيقَنَ أن هذا المجتمع جاد، وأنه خلا من الفساد والانتهازية والوصولية والرَّغبة في التسلق على أكتاف الآخرين وعلى حساب قُوتِهم الضروري.

(١-٣) الحياد

قلنا من قبل: إنَّ الموضوعية هي الصفة التي تُلخِّص جميع جوانب الأخلاق العلمية، وعرضنا لمعنيَين من معاني الموضوعية؛ هما الرُّوح النقدية والنزاهة، والمعنى الثالث للموضوعية هو الحياد، وهو معنًى عظيم الأهمية، وإن كان يُثير إشكالات يَنبغي أن ينتبه إليها المرء حتى لا يُسيء فهم هذا اللفظ الذي يُسْتَخْدَم — رغم وضوحه — بمعانٍ شديدة التباين.

إننا نَصِف الشخص الموضوعي بأنه مُحايد، ونعني بذلك أنه لا يَنحاز مُقدَّمًا إلى طرف من أطراف النِّزاع الفكري أو الخلاف العلمي؛ فالعالِم يَنبغي أن يقف على الحياد، بمعنى أن يُعطيَ كلَّ رأي من الآراء المتعارضة حقَّه الكامل في التعبير عن نفسه، ويزن كل الحُجَج التي تقال بميزان يخلو من الغرض أو التحيُّز؛ فالموضوعات التي يعالجها، والأفكار التي تقدم إليه، تقف كلها أمامه على قدم المساواة، دون أية محاولة مسبقة من جانبه لتفضيل إحداها على الأخرى، وعندما ينحاز العالم آخر الأمر، فلا بد أن يكون انحيازه هذا مبنيًّا على تقدير موضوعيٍّ بحتٍ لإيجابيات الحُجَج وسلبياتها. والعالم مُحايد بمعنى أنه يترك تفضيلاته الذاتية جانبًا؛ إذ إنَّنا لا نستطيع — بغير شك — أن نتصوَّر عالِم نباتٍ يهتمُّ في أبحاثه بزهرة معيَّنة لمجرَّد كونِه يُحبها، أو عالم حيوان يُهمل نوعًا حيوانيًّا معينًا لمجرَّد أنه لا يُطيق شكله.

ولكن معنى الحياد العلمي اكتسب في وقتنا هذا أبعادًا أوسع من ذلك بكثير، وأول هذه الأبعاد ذو طابع أخلاقي واضح، فمِن الشائع أن نجد كتابات تتَّهم العلم بأنه سبب الشرور التي تعانيها البشرية، وخاصةً بعد أن أدى تحالُفه مع التكنولوجيا إلى تغيير وجه الحياة على نحوٍ يرى فيه الكثيرون انحدارًا لإنسانية الإنسان، ولكن من المألوف — من ناحية أخرى — أن نرى كُتَّابًا يُمجِّدون العلم على أساس أنه هو القوة القادرة على أن تُحقِّق الجنَّة الموعودة للإنسان على سطح هذه الأرض. وهكذا يتَّهم بعضُهم العلم بأنه يَنزع إلى الشر بطبيعته، ويَتغنَّى البعض الآخر به لأنه مصدر أعظم خير يستطيع الإنسان أن يُحقِّقه في حياته.

ولكنَّ الرأي الأكثر شيوعًا من هذَين الرأيَين، هو القائل أن العلم «مُحايد» بين الخير والشر؛ فالعلم أداة تُتيح للإنسان أن يفهم العالم المحيط به وأن يفهم نفسه على نحو أفضل؛ ومِن ثمَّ فهو يَزيد من قدرته على السيطرة على العالم الخارجي، وعلى عالَمه الداخلي الخاص، ولكن هذه القدرة «مُحايدة»؛ بمعنى أنها لا تعدو أن تكون طاقة أكبر، قابلة لأن تَتشكَّل في اتجاه الخير أو الشر، وهذه الطاقة قد تكون عقلية تتمثَّل في فهم أفضل للظواهر، أو مادية تتمثَّل في مزيد من السيطرة على هذه الظواهر وتسخيرها لأغراض الإنسان. ولكن هذه الأغراض قد تكون متَّجهة إلى تحقيق السعادة والرخاء للبشر، وقد تتَّجه إلى إرضاء نزوات حاكمٍ مُستَبِدٍّ أو تحقيق مصالح فئة جَشِعة أو ضمان التفوق لشعبٍ مُغتصِب.

والأمر الذي يؤكِّد حياد العلم هذا، أن العلم ذاته ليس مسئولًا عن التعرُّف في النتائج التي يتوصَّل إليها؛ فالعالم — في عصرنا الحديث — يشتغل لحساب مؤسسة أوسع منه قد تكون هي الدولة، أو شركة تجارية، أو على أحسن الفروض معهد علمي، وفي كل الحالات يكون القرار النهائي الذي يُحدِّد طريقة التصرُّف فيما يكتشفه العالم خارجًا عن إرادته، والمثل الواضح على هذا هو القنبلة الذرية على نحوِ ما عرَضنا من قبل. وهكذا نَجِد العالِم محكومًا بقوى خارجية في جميع جوانب علمه العلمي؛ فقبلَ أن يَشرع في هذا العمل لا بد أن يعتمد على مؤسسة كبيرة تُوفِّر له إمكانات البحث التي تزداد تكلفةً وتعقيدًا يومًا بعد يوم، وبعد أن يَنتهي من عمله العلمي، ويتوصَّل إلى كشفٍ أو اختراع جديد، لا تكون له الكلمة أو سُلطة اتخاذ القرار بشأن هذا الكشف، بل تتصرَّف فيه المؤسسة التي يعمل لحسابها، وهذه المؤسَّسة يَتحكَّم فيها — غالبًا — سياسيُّون أو تجار (أو سياسيون تجار!) ومِن ثم فهي تُصدر قراراتها بطريقة لا شأن لها بالعلم، وتُحدِّد أهدافها وفقًا لمصالحها الخاصة. وهكذا يُضطرُّ العلم إلى أن يقف على الحياد، وهو في هذه الحالة حيادٌ مُرتبِط بالعجز؛ لأنَّ العلم — بقدر ما أصبح يَتحكَّم في مصير العالم — لا يَملك مصيره بيده.

فإذا وجَدنا العلم يُؤدِّي إلى حروبٍ وكوارث، ويُشجِّع على القسوة والجشع، فلنعلم أن هذه ليسَت صفات مرتبطة بالعلم في ذاته، وإنما هي نتائج تَترتَّب على «طريقة معينة» في التصرُّف بنتائج البحث العلمي. وكان من المُمكن — لو تصرَّفنا بهذه النتائج بطريقة أخرى — أن يكون العلم خيرًا ورخاءً كله، أي إنَّ طريقة استخدام العلم هي التي تُحدِّد مدى أخلاقيته أو لا أخلاقيته.

هذا هو الوضع الشائع لمشكلة علاقة العلم بالأخلاق، وهو أيضًا المعنى المألوف لتعبير «حياد العلم»، ولكنَّنا نستطيع أن نتأمل هذا الموضوع بنظرة أعمق، فنجد فيه أبعادًا أخرى غير هذه الأبعاد المألوفة والمعروفة؛ ذلك لأنَّ صفة الحياد عدم الاكتراث أو تبلُّد الفكر والمشاعر، بحيث يستمر العالم في عمله بغضِّ النظر عما يُمكن أن يترتب عليه من خير أو شر، وفي هذه الحالة يكون كل ما يهدف إليه العالِم هو مواصلة البحث العلمي، والتغلب على التحدي الذي تواجهه به صعوبة ما، والسَّعي إلى بُلوغ أقصى النتائج الممكنة للعمل الذي بدأ يشتغل به؛ أي إنَّ المضي في البحث العلمي يُصبِح غاية في ذاته، بغضِّ النظر عن أية غاية أخلاقية أو لا أخلاقية يُمكن أن يخدمها هذا البحث، مثل هذا الموقف يُعدُّ بدوره «حيادًا»، ولكنه حياد يتضمَّن في داخله نتائج خطيرة من الوجهة الأخلاقية.

ذلك لأنَّ من الممكن القول: إنَّ العلماء الألمان الذين كانوا يَبحثون لكي يُساعدوا «هتلر» على تطوير أداته الحربية لم يكونوا كلهم من الأشرار، وإنما كان مُعظمُهم مفتونًا بأبحاثه مُستغرِقًا فيها بصورة «حيادية»؛ بحيث كان كلُّ ما يُهمه هو استطلاع جميع الآفاق المُتاحة له حتى نهايتها، وهذه السلبية أو عدم الاكتراث بالنتائج التي يُمكن أن تترتَّب على العمل العلمي تفتح الباب بسهولة لاستغلال العلماء أنفسهم من أجل تَحقيق أشدِّ الأغراض بُعدًا عن الأخلاق والإنسانية.

وعلى الطرف المضاد، نستطيع أن نقول أيضًا: إنَّ مُكتشِف البنسلين لم يكن بالضرورة إنسانًا يَستهدِف غاية أخلاقية أو خيِّرة، بل إنه وجد أمامه — بالصُّدفة — بابًا مفتوحًا يقود إلى طريق مليء بالمُفاجآت الجديدة والمثيرة، فكان كلُّ هدفه هو السعي في هذا الطريق ومعرفة النهاية التي يُمكن أن يُوصِّله إليها، ومثل هذا السعي المُستمر إلى مواصلة البحث لذاته، يُمكن في حالات كثيرة أن يعني وقوف العالم بمعزل عن الأخلاق وعن قِيَمها، وهو الموقف المُسمَّى باسم Amoralism، حيث لا يكون المرء أخلاقيًّا أو مُعاديًا للأخلاق، وإنما يقف خارج نطاق القيم الأخلاقية أصلًا. وبالرغم من أن هذا الموقف ليس في ذاته شرًّا فإنه يُمكن أن يُؤدِّي بسهولة إلى الشر، ويولِّد في نفس العالم نوعًا من تبلُّد الحس وجمود المشاعر.

ولقد دافع البعض عن هذا الموقف على أساس أن البحث عن الحقيقة لذاتها هو أمر مُحايد أخلاقيًّا، أو لا شأن له بالأخلاق، وزكَّى هذا الدفاع — على المستوى الفلسفي — موقفُ مذهبٍ فلسفي معاصر هو «الوضعية المنطقية»؛ وهو مذهب يؤمن بأن القيم — سواء أكانت أخلاقية أو جمالية — تَخرُج عن نطاق العلم الذي يجب أن يكون «محايدًا»، على حين أن القيم تُعبِّر بطبيعتها عن تفضيلات شخصية، وحين نُعبِّر عن تفضيلاتنا نضع الأشياء في سلَّم صاعد أو هابط؛ أي إننا لا نَضعُها على مستوًى واحد، على حين أن العلم بطبيعته يُعالج موضوعاته من نفس المستوى دون تحيُّز أو تَفضيل، فإذا أردنا أن نجعل للقيم مكانًا فليكن ذلك — حسب رأي الوضعية المنطقية — في ميدان الفن أو الأدب، أما في العلم فلا يسود إلا «الحياد» التام الذي يَستبعِد كل القيم والتفضيلات الأخلاقية.

هذا المعنى للحياد العلمي — في المجال الأخلاقي — مبنيٌّ على افتراض غير مؤكَّد، هو أن الحقيقة لا شأن لها بالقيم أساسًا؛ ذلك لأن هناك وجهة نظر أخرى — نعتقد أنها تَستحِق التقدير — تذهب الأخلاقية أن الحقيقة هي ذاتها قيمة عُليا، وأن السعي إليها هو في ذاته خطوة أساسية في طريق الأخلاق؛ فالبصيرة التي نَكتسبها بفضل الحقيقة، والاستنارة التي تبعثها في نفوسنا المعرفة، هي بلا شك أمور أخلاقية أو مرتبطة مباشرة بالأخلاق، والتضحيات التي يبذلها العلماء من أجل تحقيق كشوفهم تنطوي على دوافع أخلاقية لا شك فيها؛ إذ لا يُمكننا أن نتصور العناء والجهد والمكابدة التي يُعانيها العالم إلا إذا كانت هناك روح معينة ذات طابع أخلاقي تدفعه الأخلاقية أن يَتحمَّل ذلك كله، ويتنازل عن النمط السهل المريح الذي تسير عليه حياة الناس؛ لكي يحيا حياة مكرَّسة للعلم وحده. والصِّراع ضد الجهل عمل أخلاقي جليل، لا سيما إذا اقترن بتضحيات ناجمة عن التصدِّي للقوى التي تقف وراء الجهل وتسانده وتحارب كل من يسعى إلى نشر الحقائق، ولا جدال في أن العالم الذي يُحارب من أجل حقيقة يؤمن بها عن اقتناع، أو الذي يُكرِّس حياته من أجل كشف يبدد ظلام الجهل أو يُحقِّق للإنسان مزيدًا من الفطرة على الطبيعة؛ هذا العالِم يَقف في صف واحد مع الأنبياء والمصلحين الذين لم تكن حياتهم مكرَّسة — في الواقع — إلا لأهداف مماثلة.

ومن المسلَّم به أننا قد نجد علماء يَفتقِرون إلى الرُّوح الأخلاقية كما ينبغي أن تكون، بل قد نجد منهم من ارتكبوا في حقِّ الأخلاق أخطاءً فادحة، ولدينا على ذلك مثال واضح في شخصية فرانسيس بيكون Sir Francis Bacon الذي كان رائدًا من رُوَّاد الرُّوح العلمية الحديثة في أوروبا، رغم أن هو ذاته لم يكن عالِمًا، فهذا المفكر الفذ، الذي أدرك منذ وقت مُبكِّر طبيعة البحث العلمي الحديث، والاختلافات القاطعة بين المعرفة العلمية التي تَستهدِف السَّيطرة على العالم، وتلك التي كانت في العصور القديمة والوسطى تَكتفي بمُجادلات لفظية عقيمة؛ هذا المُفكِّر كان إنسانًا لا أخلاقيًّا إلى حدٍّ بعيد؛ إذ كان من شِيَمه الغدر بالأصدقاء، وخداع الناس عن طريق الاقتراض منهم دون أن يُسدِّد شيئًا، وقبول الرشاوى من المُتقاضين في محكمة يَرأسها هو نفسه، والانغماس في دسائس القصور ومغامراتها، كل هذه كانت مساوئ أخلاقية مؤسفة، ولا سيما حين تَصدُر من فيلسوف محب للحقيقة، ولكننا نستطيع أن نقول — من وجهة نظر أخرى — إنه لم يكن إنسانًا لا أخلاقيًّا تمامًا؛ فقد كانت أخطاؤه كلها تَنتمي إلى ميدان السلوك الشخصي في الحياة الخاصة أو العامة، ولكنَّه كان في تفكيره العلمي شخصًا أخلاقيًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو لم يَكن يُزيِّف الحقائق أو يُجامل أحدًا في الحق، ولم يكن يتردَّد في مهاجمة أقوى السلطات العِلمية في عصره إذا تبيَّن له أنها عقبة في وجه المعرفة الجديدة التي يدعو إليها، وهو قد تحمَّل في سبيل ذلك تضحيات عديدة، بل ربما كان جزء كبير من انحرافِه — على المُستوى الشخصي — راجعًا إلى رغبته في أن يَحصُل على منصب رفيع يساعده على تحقيق المشروعات العلمية الكبرى التي كان يحلم بها. وهكذا فإن السعي المستمر إلى الحقيقة — الذي تتميَّز به حياة العالم — يُؤدِّي به إلى اعتياد الصدق وعدم التفريق في القِيَم المعنوية المُرتبطة به، مهما كان مُستوى أخلاقية العالم في حياته الخاصة، بل إنَّ القدرة على الاحتفاظ بموقف «الحياد» — بمعنى التجرُّد والتنزُّه والبُعد عن التحيُّز والهوى — هي في ذاتها موقف أخلاقي لا شك فيه. ومن هنا فإن التعبير القائل أن العلم «مُحايد أخلاقيًّا» يمكن — من وجهة نظر معيَّنة — أن يُعدَّ تعبيرًا غير كافٍ لوصف طبيعة العلم. فالحياد نفسه مَوقِف أخلاقي، أو هو انحيازٌ إلى الأخلاق، إذا فهمناه بالمعنى الذي أشَرنا إليه منذ قليل، لا بمعنى الوقوف موقف المُتفرِّج إزاء الأخلاق، أو الاستعداد لتقبُّل الخير والشر معًا على النحو الذي يُفْهَم به هذا اللفظ عادة. وهكذا يكون الجهد العلمي هو ذاته نوعًا من الجهاد الأخلاقي، ويكون التحلي بقدر معيَّن من القيم الأخلاقية صفة أساسية للعالم، هذا طبعًا إذا كان عالِمًا بالمعنى الصحيح.

(٢) العلم والأخلاق في العصر الحاضر

في العصور السابقة كان هناك حدٌّ فاصل بين السعي إلى المعرفة والسلوك العلمي، أو بين الفهم النظري للظواهر وإرضاء الإنسان لملَكة حبِّ الاستطلاع عنده من جهة، وبين القواعد الأخلاقية التي يَتفاهم الناس ويتلاقون على أساسها من جهة أخرى؛ فالعِلم — كما أوضَحنا في فصلٍ سابق — كان طوال جزء كبير من تاريخه نشاطًا نظريًّا صرفًا، وكان من الطبيعي عندئذ ألا يَقترب من مجال الأخلاق، بل أن يكون هناك اختلاف جوهري بين الاستخدام النظري للعقل في المعرفة، واستخدامه العلمي في الأخلاق. أما في عصرنا الحاضر فقد أصبح التداخُل وثيقًا بين المجالَين، بحيث أصبح العلم يتدخَّل في تفكيرنا في مشاكلنا الأخلاقية، كما أصبحت الأخلاق تسعى إلى توجيه العلم، أو على الأقل تستهدف اختباره بطريقة نقدية.

على أن هذا الانتقال — من الانفصال التام بين العلم والأخلاق إلى التداخُل الوثيق بينهما — لم يَحدُث فجأة، وإنما حدَث على مراحل متعددة، ومهَّدت له ظروف كثيرة، وفي وسعنا أن نلخص أهم مراحل الانتقال هذه فيما يلي:
  • (١)

    في مطلع العصر الحديث انهار المثل الأعلى القديم للمعرفة؛ وهو «العلم لأجل العلم»، وبدأ ظهورُ مفهوم جديد للعلم، يدور حول فكرة السيطرة على الطبيعة والوصول إلى مزيد من التحكم في العالم الخارجي.

  • (٢)

    بعد فترة غير طويلة أخذ العلم يسعى إلى تحقيق هذا الهدف نفسه في مجال الإنسان؛ أي أن يُحقِّق — بالنسبة إلى عالَمنا الداخلي — نفس القدرة على الفهم وعلى السيطرة التي تحقَّقت لنا بالنسبة إلى الطبيعة.

  • (٣)

    كان هذا الانتقال إلى هدفٍ جديد للعلم غير المعرفة النظرية المنقطعة الصلة بالواقع، يعني — من الوجهة النظرية — التقريب بين مجالَي المعرفة العلمية والتطبيق العلمي؛ لأنَّ العلم أصبح هو ذاته نوعًا من السلوك، وسعيًا إلى التغيير.

  • (٤)

    وكان معناه — من الوجهة العملية — إثارة مشكلات تتعلَّق بكيفية استخدام العلم والغايات التي يَنبغي أن يخدمها، والجوانب التي يُطبِّق فيها النتائج المترتبة على الكشوف العلمية بالنسبة إلى حياة الإنسان. كلُّ هذه كانت أسئلة جديدة لم يكن من المُمكِن أن تظهر في ظلِّ التصور القديم للعلم، وكان من المُحال أن نجد لها نظيرًا عند فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو، خاضُوا جميع ميادين الفكر، ولكنهم ظلُّوا ينظرون إلى العلم على أنه تأمُّل محض، ويضعون بينه وبين حياة الإنسان العملية واليومية حواجز لا يُمكن عبورها.

  • (٥)

    وكان اقتحام العلم لميدان «النفس الإنسانية والمجتمع البشري» إيذانًا ببدء عهد جديد يَقترب فيه العلم من صميم المشكلات العملية للإنسان، صحيح أن أقطاب علم النفس وعلم الاجتماع كانوا وما زالوا يُلحُّون على ضرورة الاحتفاظ بالطابع «الموضوعي» لأبحاثهم، ويؤكِّدون أنهم يُحلِّلون الظواهر ويَصِفونها كما هي موجودة بالفعل، ولا شأن لهم بما «ينبغي» أن تكون عليه، ويَضعون فاصلًا حادًّا بين دراسة الواقع كما هو كائن ودراسة القِيَم التي تَنقُلنا إلى مجال «ما ينبغي أن يكون»، هذا كله صحيح، ولكن الأمر الذي لا يُمكِن إنكاره هو أن العلم حين اقترب من ذلك المنبع الذي تصدر عنه القيم كلها — أعني النفسي الإنسانية والمجتمع البشري — كان لا بد أن يتداخل تأثيره مع تأثير الأخلاق.

  • (٦)

    وفي عصرنا الحاضر ازداد هذا التداخل وثوقًا؛ ذلك لأن التغلغل المُتزايد للتطبيقات العلمية والتكنولوجية في حياتنا، جعل العلم يتصل اتصالًا مباشرًا بمشكلات حيوية بل مصيرية، مثل مشكلة البقاء أو الفناء ومشكلة التلوث والتزايُد السكاني والأزمات الغذائية، وكلُّها أمور تقع على الحدود التي تربط بين العلم والتكنولوجيا من جهة، والأخلاق من جهة أخرى.

وهكذا تطوَّرت الأمور بحيث أصبحنا لا نجد مفرًّا من البحث في النتائج الأخلاقية للعلم، وأصبَح العلم في عصرنا الحاضر قوة تُؤثر في حياتنا ومسلكنا العملي، لا مجرَّد إرضاءٍ لحبِّ استطلاعنا، وزال الحد الفاصل بين وظيفة العلم في إلقاء الضوء على ما هو كائن، ووظيفة الأخلاق في إرشادنا إلى ما ينبغي أن يكون.

ولقد اعترفَت البلاد المتقدمة علميًّا بهذه الحقيقة؛ لأنها لمَسَتها عن قرب من خلال تجارب مباشرة أدَّى فيها التقدم العلمي والتكنولوجي إلى إثارة مُشكلات أخلاقية لها خطورتها الكبرى، ونستطيع أن نَضرب لذلك مثلًا واحدًا كان له بالفعل أصداء واسعة في تلك البلاد، هو حبوب منع الحمل؛ فقد ظهرت هذه الحبوب بوَصفِها مثلًا واضحًا لقدرة العلم على التدخُّل في مجرى الحوادث الطبيعية، وتنظيم حياة الإنسان، وتمكينه لأول مرة من أن يَتحكَّم في نسله، وكان ذلك انتصارًا علميًّا عظيمًا له تأثيره الهائل في جميع أرجاء العالم، ويَكفي أنه أتاح لملايين الأُسَر ألا تُنجِب أطفالًا غير مرغوب فيهم، بينما كانت نسبة كبيرة من الإنجاب — في كل التاريخ السابق للبشرية — لا تَرجع إلى رغبة حقيقية في جلب أطفال جُدُد إلى العالم. ولكن هذا الانتصار العلمي الكبير — الذي حقَّق للإنسان السيطرة على عملية من أهم عملياته البيولوجية، وبدا أنه يُبشِّر بعهد يتمُّ فيه تنظيم النسل على مستوًى عالَمي مخطَّط — كانت له نتائج أخلاقية هائلة؛ ذلك لأنه أحدث انفصالًا بين الجنس، من حيث هو ممارسة، وبين إنجاب الأطفال؛ أي إنه أصبح من المُمكن أن يُمارس الجنس دون خوف من الحمل. ونظرًا إلى أن هذا الخَوف كان — في كثير من المُجتمَعات البشرية — هو الدافع الحقيقي إلى التمسُّك بالعفة، فإن زواله كان يَعني زوال سبب رئيسي للتمسُّك بالقيم الأخلاقية المتعلِّقة بالجنس. وهكذا اتَّسع نطاق المُمارسات الجنسية الحرة — في المجتمعات الصناعية المتقدِّمة — على أوسع نطاق، لا سيما وأن الرقابة الأُسرية القوية، والنوازع الدينية التي تُميِّز المجتمعات الشرقية، كانت ضعيفة أو مُنعدِمة في البلاد المتقدمة، وترتَّب على ذلك انهيارُ كثير من القيم الأخلاقية التقليدية، واختفاء الزواج بشكله القديم اختفاءً شبه تام، وظهور أنواع من العلاقات الحرة التي كان من المستحيل أن تَنتشِر من قبل، وما هذا إلا مثل واحد للتغييرات الأخلاقية الأساسية التي يمكن أن تتَرتَّب على الكشوف العلمية الحديثة.

وطبيعي أن يؤدي هذا المثل وغيره إلى إثارة مشكلة «مسئولية العالم» في العصر الحاضر؛ ذلك لأن العالِم كان تقليديًّا يقوم بالبحث النظري أو التطبيقي وليس في ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدأ، ولكنَّ الوعي المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التي يُمكن أن تترتَّب على كثير من الكشوف العلمية في هذا العصر، جعل من الضروري أن تضاف إلى أعباء العالم مهمة أخرى، هي أن «يفكر» في تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلًا عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.

ولقد تفاوتَت الآراء في مشكلة «مسئولية العالم»، فهناك من يُضيِّقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مُختبَره، وأنَّ العالم لا شأن له بما يَحدث خارج هذه الحدود، وهناك من يُوسِّعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيُؤكِّدون أنها تمتدُّ في عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره، ولكلٍّ من الفريقَين — وكذلك لمن يقفون موقفًا وسطًا بينهما — حُجَجه التي يدعم بها موقفه، ومن الواضِح أننا ميَّالون إلى تأكيد مسئولية العالم، وأننا نُصفِّق بحماسة حين نجد عالِمًا كبيرًا يخرج من إطار عمله العلمي الخالص لكي ينبه الرأي العام في العالم إلى خطر يُوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدُّم التكنولوجي، ولكن المسألة ليست دائمًا بهذه البساطة.

فهناك حالات لا يَستطيع المرء أن يكون فيها على يقينٍ من أن تدخل العلماء في اتخاذ القرارات الكُبرى المُتعلِّقة بمصير المجتمع لا بد أن يكون خيرًا على الدوام، وهناك دول تُولِي علماءها وخبراءها ثقة زائدة، وتُوكِل إليهم أمورها، فلا تجد النتيجة مُشجِّعة على الدوام، وقد ظهر ذلك بوضوح في عصرنا الحاضر في الحملة على ما يُسمى «بالتكنوقراطية»، ولفظ «التكنوقراطية» يُعبِّر عن نوع من أنواع الحكم كالديمقراطية التي تَعني حكومة الشعب أو الأغلبية، والأرستقراطية التي تعني حكومة الأقلية، أما التكنوقراطية فهي حكومة الفنِّيِّين الأخصائيِّين، أو هي بمعنى أوسع سيطرة هؤلاء الفنيِّين وتحكُّمهم في اتخاذ القرارات الكبرى في المجتمع، هذا النوع من السيطرة ثبَت بالتجربة أنه لم يكن خيرًا على الدوام.

ذلك لأنه قد تبيَّن أن هذا التكنوقراطي — الذي هو في الأغلب عالم مُتخصِّص أو خبير ذو تجربة واسعة — ينظر إلى الأمور بمنظور أضيق مما ينبغي، يَنحصر في إطار اختصاصه وحده، وقد يكون ذلك مفيدًا، بل هو بلا شك ضروري في المسائل المتخصِّصة التي لا تمسُّ إلا نطاقًا ضيقًا من مصالح الناس. أما في المسائل المصيرية المتعلقة بمصالح المجتمع ككل، فإننا كثيرًا ما نجد التكنوقراطيين عاجزين عن تأمُّل الأمور من منظور شامل؛ لأن مُهمَّتهم تغلب عليهم، ونظرتهم العلمية المتخصِّصة تَحجب عنهم رؤية الحقائق الكُبرى للمجتمع العريض، ومن هنا فإن هؤلاء التكنوقراطيين كثيرًا ما يتخذون قرارات ضيقة الأفق، وكثيرًا ما يجد المجتمع نفسه مضطرًّا إلى اللجوء إلى «السياسيين» غير المتخصِّصين؛ لكي يصلحوا ما أفسده العلماء الحاكمون، ولكنه يتميَّز عنهم — على الأقل — بشمول النظرة، وبالإحساس بنبض الجماهير ومعرفة وقع القرارات الحاسمة عليها.

وبطبيعة الحال فإن الوضع الأمثل هو أن يكون العالم ذا وعي سياسي في الوقت نفسه، وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يَفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمي الشاق، وانهماكُهم في كشوفهم الحاسمة، من أن يَمتدُّوا بنظرهم بحيث تتَّسع لمشاكل العالم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان في المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التي يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات. ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمي إلى الحد الذي يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالم المُحيط بها. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها في الأمور المتعلقة بالسياسة والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان؛ إذ إن العمل العلمي يزداد تعقيدًا على الدوام، ومن الطبيعي أن يكون في المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالم بما فيه الكفاية.

ومع ذلك كله فإن العالم — في عصرنا الحاضر — ينبغي أن يكون لديه حد أدنى من الوعي بالنتائج المترتبة على عمله العلمي، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضي ذلك. فحين تتغير وظيفة العلم من نشاط لا يؤثِّر إلا تأثيرًا محدودًا إلى نشاط مصيري يمتد تأثيره إلى كافة جوانب الحياة البشرية؛ يكون من الطبيعي أن تتغير نظرة المشتغل به من الإطار المهني الضيق إلى الميدان الإنساني الشامل.

ولو تأمَّلنا العالم المُحيط بنا لوجدنا أن الظروف الواقعية ذاتها — في هذا العالم — تُحتِّم وجود تداخُل وثيق بين العلم والسياسة، مفهومة بأوسع معانيها؛ أي بمعنى التنظيم الشامل لأوضاع المجتمعات البشرية، فلم يَعُد في استطاعة العالم أن يَمضي في حياته العلمية مستقلًّا، ويبحث المشاكل التي تُهمُّه أو يريد كشفها، بل إنه أصبح — كما قلنا من قبل — مرتبطًا على الدوام بمؤسسات أكبر منه، هي التي تقدم إليه الإمكانات، وتُزوِّده بالأدوات المعقدة المكلِّفة التي أصبحت شرطًا أساسيًّا للبحث العلمي في العصر الحاضر، وينطبق هذا على مختلف أنظمة الحكم القائمة في العالم؛ ففي البلاد الاشتراكية يرتبط البحث العلمي بخطة الدولة، وهي خطة سياسية في المحلِّ الأول، تحدد للعلماء مجالات البحث المطلوبة، ومقدار التمويل والتسهيلات التي ستقدمها الدولة إليها، وفي البلاد الرأسمالية يشتغل عدد كبير من العلماء في مؤسَّسات ذات أهداف تجارية مباشرة، وحتى العاملون في الجامعات يقومون بكثير من مشروعاتهم لصالح هذه المؤسسات. بل إن المُرتَّبات التي يحصل عليها علماء الجامعات ومعاهد البحث يأتي جزء كبير منها من مساهمات المؤسَّسات الصناعية والتجارية في ميزانيات الجامعات والمعاهد. ومن الطبيعي أن تفرض هذه المؤسسات اهتماماتها الخاصة على مجالات البحث، فضلًا عن أنها لا تود أن يخرج المشتغلون بالعلم عن إطار السياسة العامة التي تحافظ على مصالح هذه المؤسسات. وإذا كان يبدو أن تحكُّم «الخطة» التي تضعها الدولة في النظام الاشتراكي هو الأقوى، فإن حقيقة الأمر هي أن المؤسَّسات ذات الأغراض التجارية تحل محل الدولة في رسم السياسة المطلوبة للبحث العلمي في المجتمعات الرأسمالية؛ لأنها تُموِّل نسبة كبيرة من مشروعات البحث العلمي عن طريق التبرُّع بأموال طائلة تُخْصَم من الضرائب المستحقة عليها، وبذلك تضمن سيطرتها دون أن تخسر شيئًا وتضمن في الوقت نفسه استمرار المبادئ العامة التي تتمشَّى مع مصالِحها.

ولكن بالرغم من أن الاعتبارات السياسية تتحكَّم في العلم الحالي إلى هذا الحد، فإنَّ كثيرًا من المجتمعات تُطالب العلماء بألا يتدخَّلوا في السياسة، وتضع كثير من المؤسسات والجمعيات العلمية هذا الشرط على كل عالِم مُشتغِل بها، فالمطلوب من العلم أن يكون طاقة للمعرفة، تعمل جهات أخرى على توجيهها وتحديد الأهداف الاجتماعية التي ستَخدُمها، وإذا شاء العالم أن يعبر عن آرائه السياسية والاجتماعية، فعليه أن يفعل ذلك بوصفه مواطنًا عاديًا لا بوصفه عالمًا، وهذا هو الشرط الأساسي «لموضوعية» العالم كما تفهمُها مجتمعات كثيرة، وهذا أمر مُؤسِف؛ لأنَّ معناه هو أننا نعمل منذ البداية على استبعاد المنهج العلمي من بحث الموضوعات التي تمسُّ صميم حياة الإنسان، أعني الموضوعات السياسية والاجتماعية والأخلاقية. مع أن هذه الموضوعات قد تكون في أمسِّ الحاجة إلى أن تُبْحَثَ بالأساليب الفكرية السليمة، فحين نُعالِج هذه الموضوعات متوخِّين أن نبحث عن الأدلة النزيهة في كل حالة، ونبتعد عن أساليب الديماغوجية والتهويش، وحين نُفكِّر في سياستنا وشئون مجتمعنا تفكيرًا يَخلو من الانفعالية ولا يَعترِف إلا بالحجة المنطقية، وحين نَختبِر النظريات التي تُنظِّم وفقًا لها حياتنا الاجتماعية عن طريق التطبيق، كما يَفعل العالِم في تجاربه المعملية، وحين نبحث عن العلاقات السببية الحقيقية الظواهر الاجتماعية، حين نفعل ذلك كله فنحن — بغير شك — نُسْدِي خدمة جليلة إلى قضايا الإنسان المصيرية في مجمعاتنا، وفي هذه الحالة يكون العلم قد أثبت وجوده في المجال السياسي والاجتماعي، مما يُبدِّد تلقائيًّا تهريج المشعوذين والأفاقين الذين يتحكمون في هذا المجال الحاسم بأساليب لا تمتُّ إلى العلم أو التفكير السليم بأية صلة.

ولكن المهم في هذه الحالة هو أن يكون العلمُ نزيهًا بحق، وأن تُعْطَى له فرصة التعبير عن نفسه دون ضغط أو تأثير، وهو على أيَّة حال شرط يَصعُب إلى حد بعيد تحقيقه في معظم المجتمعات المعاصرة.

(٣) ثقافة العالم

أدَّى بنا البحث في الجوانب الأخلاقية لشخصية العالم إلى تناول مشكلة «مسئولية العلماء» في العصر الحاضر، وقد تطرَّقنا عند معالجة هذه المشكلة الأخيرة إلى موضوع حيوي، هو مدى الوعي السياسي والاجتماعي الذي يجب أن يتَّصف به العالم في وقتنا هذا، وهذا الموضوع الأخير يمثل في الواقع جانبًا واحدًا من مشكلة أعم بكثير؛ هي: إلى أي حدٍّ ينبغي أن يخرج العالم في هذا العصر عن حدود تخصُّصه؟ هذه المشكلة هي التي سنُعالجها في صورتها العامة ضمن إطار بحثنا الحالي في «ثقافة العالم».

والواقع أن هذه المشكلة قد اكتسبت — في وقتنا الحالي — أهمية كبرى، كما أصبحت في الوقت ذاته مشكلة شديدة التعقيد؛ لأن العلم يسير — على نحو متزايد — في خطَّين أو طريقين متضادين، وإن كان كل منهما لا يقلُّ ضرورة عن الآخر؛ فالعلم يتجه إلى المزيد من التخصُّص، مما يؤدي إلى تضييق النطاق الذي يدور في داخله تفكير العالم واهتمامه، ولكنه يكتسب في الوقت ذاته أهمية إنسانية واجتماعية متزايدة، مما يُحتِّم على المشتغلين به أن يمتدوا بأنظارهم إلى الآفاق الإنسانية الواسعة. وكلتا الحركتين — كما هو واضح — مضادة للأخرى، فعلى أيِّ نحو إذن ينبغي أن تتشكل شخصية العالم في هذا الميدان؟ وما نوع الثقافة التي يَنبغي أن يكتسبها العالم في عصرنا الحاضر حتى يكون مستجيبًا لمقتضيات هذا العصر؟

إن في وسعنا أن نعالج موضوع ثقافة العالم على مستويَين؛ الأول منهما هو المستوى العلمي البحت، والثاني هو المُستوى الإنساني العام، والمستويان مُتداخلان إلى حدٍّ بعيد، ولكن من المفيد أن نُفرِّق بينهما مؤقتًا، مع إدراكنا أنهما لا يُكوِّنان إلا جانبين في شخصية واحدة ينبغي أن تتَّصف بالتكامل والاتساق بين مُختلف عناصرها:
  • (١)

    من المسلَّم به أن التخصُّص في العلم يزداد بحيث تظهر على الدوام فروع جديدة لعلوم كانت موحدة وفروع للفروع، كما يضيق باطراد نطاق الميدان الذي يستطيع العالم أن يقول: إنه «مُتخصِّص» فيه؛ أي أن يَتكلم عنه ويبحث فيه عن ثقة. هذا التخصُّص قد أفاد العلم فائدة كبرى؛ إذ إنه هو الذي أتاح ذلك التراكم الهائل للمعرفة الذي يتميَّز به عصرنا الحاضر، والذي قلنا من قبل عنه أنه يؤدي إلى تضاعُف مجموع المعرفة العلمية في كل عدد قليل من السنوات. ولا شك أن هذا التخصُّص المتزايد مرتبط بالازدياد الكبير في عدد المشتغلين بالعلم؛ لأن هذه الزيادة ضرورية لمواجهة التخصُّصات والتفرعات التي تظهر بلا توقف.

    على أنه إذا كان هذا التخصُّص المتزايد قد أفاد العلم فائدة لا شكَّ فيها، فإن فائدته بالنسبة إلى تكوين العلماء أنفسهم، وبالنسبة إلى شخصية المشتغل بالعلم، هي شيء يمكن أن يكون مثارًا للجدل؛ ذلك لأن العالم الذي يُكرِّس حياته كلها لمجال شديد الضيق في فرع من فروع العلم، يتحدد تفكيره بهذا المجال ويعجز عن الخروج عنه، لا سيما وأن مقتضيات البحث العلمي وكمية المعلومات اللازمة له تزداد دوامًا في أي ميدان مهما كان ضيقُه. وهكذا يُمكن أن يُصبح كثير من المُشتغلين بالبحث العلمي أشخاصًا ذوي إنسانية ناقصة وأبعاد ضيقة؛ فهم ينمون إلى أقصى حد ملكة واحدة من ملكاتهم في ميدان محدود جدًّا، بينما تظل بقية الملكات بلا نمو، وربما ازدادت تخلُّفًا، وقد شبَّه الفيلسوف الألماني نيتشه هذا المُتخصِّص بإنسان يتألَّف من أذن أو أنف هائلة الحجم، وبقية جسمه ضئيل إلى جانبها، هذا على الرغم من أن التخصُّص في عهد نيتشه — الذي يَفصلنا عنه قرن كامل — كان أقل مما هو الآن بكثير.

    ويُمكن القول: إنَّ العالم الذي يريد أن يَنجح في ميدانه مُضطرٌّ — في وقتنا هذا — إلى أن يُعرض نفسه لهذا الخطر، فإزاء ثورة المعلومات والانفجار المعرفي، وإزاء ذلك الطوفان المُتعاظِم من الأبحاث والمقالات والكتب العلمية، يجد العالم نفسه أمام أحد أمرَين؛ إما أن يَحرص على استيعاب ما يكتب في ميدان تخصُّصه، حتى لا يُكرِّر شيئًا توصل إليه غيره من قبل، وحتى يلمَّ بأحدث التطورات فيه، فيجيء ذلك على حساب تنمية قواه الخلاقة. وإما أن يُمارس قدراته الإبداعية ولا يُكرِّس وقتًا أطول مما يَنبغي في قراءة ما هو موجود بالفعل، فيكون مهدَّدًا بتكرار بحث أجراه غيره، أو البدء من جديد في طريقٍ سبَق أن سلكه آخرون.

    ولكن هذا التخصُّص المُتزايد لا يُمثل — في الواقع — إلا وجهًا واحدًا من أوجه التطور العلمي الحديث، فمع استمرار التخصُّص وتفرُّعه يوجد اتجاه إلى كشف العلاقات بين الفروع المتباينة وإلى إجراء بحوث مشتركة بين عدة فروع Interdisciplinary Research؛ أي إن التكامل يُعوِّض جزءًا على الأقل من تأثير التخصُّص، ويُصبح لزامًا على العالم — وخاصة مَنْ كان عالمًا كبيرًا — أن يتوصل إلى نظرة متكاملة إلى علمه، فإذا كان مُتخصِّصًا في فروع من البيولوجيا مثلًا كان عليه أن يلمَّ ببقية فروعها، وأن يعالج مشكلاتها من منظور الكيمياء والفيزياء والرياضيات … إلخ. ومع ذلك فإن لهذا التكامل حدودًا لا يتعداها؛ إذ إنه يتعلق ببعض الفروع التي تتَّصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع التخصُّص، ومن المستحيل أن يكون تكاملًا «موسوعيًّا»؛ فقد اختفى منذ وقت طويل ذلك المثل الأعلى الذي ظلَّ يُمارس تأثيره حتى القرن الثامن عشر عند فيلسوف مثل «ليبنتس» الذي كان قادرًا على استيعاب مُعظَم معارف عصره والإبداع فيها، وإذا كنا نجد اليوم من آنٍ لآخَر شخصيات تتصوَّر أنها قادرة على الإحاطة بمُختلف جوانب المعرفة البشرية، وتَستعرض معلوماتها أمام الناس في مُختلف فروعها، فلنعلم أن الجانب الأكبر من هذه المعلومات ناقصة أو زائفة، وأن العملية كلها استعراضية جوفاء لا تَنطلي إلا على البسطاء وغير المتخصِّصين.
    وهكذا تكون هناك حدود «للتكامل» تجعله محصورًا في نطاق معيَّن، وتظلُّ الغالبية العظمى من المشتغلين بالبحث العلمي عاجزةً حتى عن بلوغ هذا التكامل المحدود، وتزداد أمام أعينِنا باستمرار أعداد أولئك الذين يُطلِق عليهم البعض اسم «الهمجي المتعلم» The Learned Savage، وهو شخصٌ لم تَكتمِل صفات الإنسان فيه؛ لأنه لا يَحمل من زاد الدنيا إلا المعلومات المُتعلِّقة بميدانٍ ضيق ربما لم يكن الإنسان العادي قد سمع عنه في حياته.

    ومما يزيد من فداحة المشكلة أن أمثال هؤلاء المُتخصِّصين محدودي الأفق هم — في الأغلب — أناس مُترفِّعون عن غيرهم، يَتحدَّثون فيما بينهم لغتهم الغامضة الخاصة، ويتصوَّرون أن تخصُّصَهم فيها يُكسبهم امتيازًا على كل مَنْ عداهم، مع أنهم لو خرَجوا عن ميدانهم الأصلي قليلًا لأصبَحُوا مكشوفين تمامًا أمام الغير. أمثال هؤلاء «العلماء الجهَّال»، قد يكونون أحيانًا أسوأ من الجهلاء غير المُتعلِّمين؛ لأن الأَخيرين على الأقل ليسَت لديهم ادِّعاءات، على حين أن الأولين يَتصوَّرون أن معرفتهم في ميدانهم الخاص تُبيح لهم أن يعدُّوا أنفسهم «عارفين» في الميادين الأخرى، وكثيرًا ما نجد هؤلاء الأشخاص يُكوِّنون مادة طريفة لسخرية مؤلِّفي الروايات والمسرحيات الهزلية، حين يُصوِّرونهم وقد تظاهروا بمعرفة كل شيء وهم في الواقع لا يفقهون شيئًا مما يخرج عن ميدانهم الخاص، أو حين يسخرون من ميلهم إلى تطبيق لغة تخصُّصهم واصطلاحاته الفنية على ميادين لا شأن لها به على الإطلاق، أو يعجزون عن مواجهة موقف من مواقف الحياة المعتادة؛ لأنهم لم يَعرفوا كيف يلائمون بين عقولهم التي تشكلت في قالب ضيق واحد وبين مقتضيات هذه الحياة.

  • (٢)

    أما المستوى الثاني — الذي يرتبط بالمستوى السابق ارتباطا وثيقًا — فهو المستوى الإنساني العام؛ ذلك لأن التخصُّص المفرط لا يؤدي فقط إلى عزل المشتغل بالبحث العلمي عن كافة جوانب المعرفة الأخرى، بل يعمل أيضًا على توسيع الفجوة بين العلم والإنسان؛ إذ يُحوِّل العلم إلى أداة فنية مفرطة في التعقيد، وإلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضي تدريبًا وتعليمًا مكثَّفًا؛ ومن ثم يتباعد العلم تدريجيًّا عن الإنسان في وجوه المتكامل المحسوس، وفي مشاكله الواقعية العينَية، ويَزداد الباحث العلمي عجزًا عن رؤية الصورة الكلية للحياة الإنسانية؛ لأنه يُفني عمره في قطاع شديد الضآلة من قطاعات عالم الطبيعة أو الإنسان. وإذا كان العلم في طبيعته الأصلية يستهدف أساسًا أن يزيد الإنسان وعيًا بإنسانيته، بعد أن أحرز هذا القدر من التقدم، إلى عكس هدفه الأصلي؛ أي إلى إقامة حواجز لا يمكن عبورها بين الاشتغال بالعلم وبين المنابع الأصيلة للحياد الإنسانية.

    ومن أجل هذا لم يكن يكفي العالم — الذي يُريد أن يُبقي على روابطه الإنسانية — أن يكون أوسع اطِّلاعًا في فروع المعرفة الأخرى التي تتَّصل بميدان تخصُّصه اتصالًا مباشرًا أو غير مباشر، بل إنه في حاجة إلى نوع من الثقافة الإنسانية التي تَبعُد عن العلم المتخصِّص بُعدًا تامًّا، وهذا مطلب يبدو تحقيقه عسيرًا في ضوء الجهد الضَّخم الذي يقتضيه البحث العلمي في وقتنا هذا، والذي لا يكاد يترك للعالم فراغًا لشيء غيره. ولكن الأمر الملفت للنظر هو أن عددًا غير قليل من العلماء الكبار الذين يَفخر بهم عصرنا الحاضر كانت لديهم مثل هذه الاهتمامات؛ إذ كانوا يَحرصون على أن تظلَّ لديهم هذه النافذة المفتوحة المطلَّة على عالم الأدب أو الشعر أو الموسيقى أو الفلسفة، وكانوا يَجدون متعةً كبرى في العودة من آنٍ لآخر إلى أحد ميادين الإنسانيات بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. وربما قدم البعض مبررات لذلك بالإشارة إلى أن مصلحة البحث العلمي ذاته تقتضي ذلك؛ إذ إنَّ الخروج من آنٍ لآخر عن مجال التخصُّص يُتيح للمرء أن يعود إليه بعد ذلك بعقلٍ أكثر تفتُّحًا، وبرؤية أشد خصبًا، مما لو كان مُنغمسًا فيه بلا توقُّف، كما أن العقل العلمي في حاجة إلى فترات من الراحة لاستعادة نشاطه وحيويته. وهذه مُبرِّرات صحيحة بغير شك، ولكنها ليست كافية؛ إذ إنها ترتدُّ في نهاية الأمر إلى العلم المُتخصِّص نفسه، وتجعل من العناصر الثقافية في شخصية العالم مجرد «وسيلة» يَستعين بها على تحقيق هدفه الأول والأخير؛ وهو الوصول إلى نتائج أفضل في ميدان تخصُّصه. وواقع الأمر أن كثيرًا من هؤلاء العلماء الذين يَحرصون على تأكيد الروابط بينهم وبين ميادين الإنسانيات، لا يتَّخذون من الثقافة مجرَّد وسيلة تُعينهم في عملهم العلمي، بل يَرونها غاية في ذاتها، ويُقْبِلون عليها لأنهم يُحبُّون الثقافة ويستمتعون بها بالفعل، لا لكي تكون وسيلة لقَضاء فترة فراغ أو جسرًا يعبرون عليه من بحث عِلمي إلى آخر.

    هذا الإقبال على الثقافة ذاتها — من جانب العلماء الكبار — لا يُمكن تفسيره إلا على أساس وحدة الإنسان؛ فالروح الإنسانية ينبغي أن تظلَّ محتفظة بوحدتها مهما ضاق نطاق اهتمامها الأصلي. والتخصُّص الدقيق لا يَنفي على الإطلاق أن العالم إنسان، وأنه بالتالي قادر على أن يتذوَّق ويَستوعِب الجوانب الإنسانية في الثقافة بالإضافة إلى اهتمامه العلمي. وإذا كان تقدم الحضارة الإنسانية قد حتَّم التفرُّع في ميادين نشاطنا، وجعل هذه الميادين تتشعَّب أساسًا إلى ميدان علمي وميدان أدبي أو إنساني (أو إلى ما أُطلِق عليه «سنو Snow» تلك التسمية المشهورة: «الثقافتين»، العلمية والأدبية)، وإذا كان قد حتم تفرعًا موازيًا لذلك في ملكات العقل الإنساني، فلا بدَّ أن نتذكر على الدوام أن أصل هذا كله ومنبعه الأول روح إنسانية واحدة. وهؤلاء العلماء الذين يحتفظون بتعلقهم بالميادين الإنسانية والأدبية هم الدليل القاطع على وحدة هذا المنبع الذي ينبثق منه كل نشاط عقلي وروحي للإنسان.

    والواقع أن الروابط وجوانب التشابه بين النشاط الذي يمارسه الإنسان في العلم وفي الفنون والآداب أقوى مما يبدو للوهلة الأولى، وحسبُنا أن نتأمل هنا دور «الخيال» في هذين الميدانَين؛ ذلك لأننا نتصور عادة أن الخيال ملكة ذهنية لازمة للفنان والأدب وحدهما، على حين أنَّ العالم — الذي يأخذ على عاتقه مهمَّة وصف الواقع على ما هو عليه دون أية إضافة من عنده — لا بد أن يستبعد الخيال من مجال عمله. ولكن حقيقة الأمر أنَّ العالم — وإن كان يَلتزِم بالفعل بتلك النظرة الواقعية — يجد مجالًا خصبًا لممارسة ملَكة الخيال في صميم عمله العلمي، وحين نتحدَّث هنا عن «العالم»، فنحن لا نعني المشتغلين العاديِّين بالعلم الذين يتعيَّن على كلٍّ منهم أن يُلقي الضوء على جانب معيَّن من جوانب مشكلة علمية، والذين يقومون بالمهام الروتينية المألوفة في البحث العلمي، وإنما نعني العلماء الكبار؛ أي أولئك الذين يتغيَّر بفضلهم مجرى العلم، ويتوصَّلون إلى كشوف أو نظريات علمية ثورية.

    ذلك لأن هؤلاء العلماء الكبار هم الذين يَستطيعون — بفضل النظريات التي يتوصَّلون إليها — أن يَجمعوا بين عدد هائل من الوقائع والظَّواهر في إطار واحد، ويُعبِّروا عن جوانب شديدة التعدُّد بصيغة واحدة، ولكي يَصلوا إلى هذه الصيغة يلجئون إلى عالَم وهمي، هو عالم الرموز والمعادلات الرياضية الذي لا يوجد في الواقع الفعلي، بل يوجد في ذهن العالم وحده، ولو تأمَّلنا النظرية التي يتوصَّل إليها العالم الكبير — بعد أن تَكتمِل — لوجَدناها نموذجًا فريدًا لعمل مُتناسِق أشبه بالعمل الفني الرائع؛ ذلك لأن أهم ما يُميِّز الفن هو الانسجام والتوافُق، وهذا التوافُق يُؤلِّف بين عناصر متباينة في وحدة متناغمة، والنظرية العلمية مشابهة لذلك إلى حدٍّ بعيد؛ فحين توصَّلَ عالم مثل نيوتن إلى نظرية الجاذبية، واستطاع أن يجمع علاقات الأجسام الكونية كلها، سواء منها الحجر الذي يَسقُط على الأرض، والقمر الذي يدور حول المريخ في صيغة واحدة تتَّسم بالبساطة الشديدة، كان في ذلك أشبه بمن يبده عملًا فنيًّا رائعًا. ومن المؤكد أن قدرة النظرية على تفسير مجال شديد الاتساع، وضم عدد هائل من الظواهر في وحدة واحدة، تُعطي مُكتشف النظرية — وكذلك كل من يطلع عليها ويفهمها — إحساسًا جماليًّا واضحًا. صحيح أن هذا الإحساس الجمالي — في حالة الأعمال الفنية — يكون متعلقًا بأشياء محسوسة أو ملموسة، وأنه في حالة النظرية العِلمية يكون متعلقًا «بالمجرَّدات»، بالعلاقات الذهنية غير المحسوسة بين الظواهر، ولكن التشابه بين الحالتين واضح؛ لأنه يَنصبُّ في هذه الحالة على جمع ما هو مشتَّت في وحدة متآلفة.

    ونستطيع أن نستشعر في أنفسنا الإحساس الجمالي الذي تَبعثه الفكرة العلمية المجرَّدة إذا رجعنا إلى ما يفعله التلميذ الذي يَدرس الحساب أو الهندسة في المدارس العادية. فحين يعمل هذا التلميذ على حل مسألة حسابية أو تمرين هندسي، قد يلجأ إلى خطوات مُطوَّلة مُعقَّدة، يُرهق فيها نفسه حتى يصل في النهاية — وبعد تعقيد شديد — إلى الحلِّ المطلوب، ولكنه قد يهتدي إلى هذا الحل في حالات أخرى بطريقة مختصرة توصل إلى الهدف مباشرة وتوفِّر عليه عددًا كبيرًا من الخطوات. وحين يتأمل المرء هذا الحلَّ المباشر المختصر، يجد فيه نوعًا خاصًّا من الجمال، هو جمال عقلي مجرد، تُعبِّر عنه بساطة الحل وسهولته، على حين أن الحل المعقد المطول — وإن كان بدوره حلًّا — يُثير في النفس إحساسًا بالقبح والافتقار إلى التوافق والانسجام.

    ولقد كان إدراك النظام الرِّياضي الذي تَسير عليه القوانين الطبيعية — في مطلع العصر الحديث — باعثًا لعدد من أقطاب العلم في ذلك العصر إلى أن يَروا في الكون عناصر جمالية تتحكَّم فيه، وهكذا تصوَّر كبلر Kepler — العالم الفلَكي المشهور — أن النِّسَب الهندسية الرشيقة البسيطة هي التي تسيطر على الكون، وعندما وجد أن الظواهر الطبيعية الشديدة التعقيد ذات بناء هندسي محكم، وقابلة للتعبير عنها بمُعادَلات بسيطة؛ بهَرَه هذا الكشف إلى حدِّ أنه تصور أن الله «مهندس» الكون؛ بمعنى أنه هو الذي يُشرف على جعل الحوادث الطبيعية المعقَّدة خاضعة لنِسَب رياضية بسيطة، ولم يكن ذلك راجعًا إلى أن نقص في إيمانه، بل إنه كان يؤمن حقًّا بأن المعجزة الإلهية الكُبرى في هذا الكون هي الإحكام والتوافُق والاتساق الرياضي الذي تتمثَّل عليه القوانين المتحكِّمة في مساره، وتُكرر ظهور هذه الفكرة — التي تربط بين الله وبين الرياضة أو الهندسة — لدى كِبار الفلاسفة في ذلك العصر، مثل ديكارت وليبنتس، وكان الجميع يؤمنون بأن في الكون انسجامًا عقليًّا مجرَّدًا وتناسبًا في العلاقات بين الظواهر، هو الذي تتمثل فيه أعظم الآيات الإلهية.

    وهكذا كان التداخل وثيقًا بين التجريد العلمي — متمثلًا في أعلى مظاهره وهي الرياضة — وبين الخيال الذي يسعى إلى كشفِ الجمال في كل شيء، وكان كل كشف جديد يُثير لدى العالم حساسية جمالية متزايدة، بقدر ما يوسِّع نطاق معرفته ويؤكد سيطرة العقل على الطبيعة.

    والحق أننا لا نحتاج إلا أن نذهب بعيدًا لكي نؤكِّد وجود رابطة وثيقة بين العلم وملَكة الخيال في الإنسان؛ ذلك لأنَّ حالات الإبداع العلمي ذاته تؤكِّد هذا الارتباط تأكيدًا قاطعًا؛ فالطريقة التي يَظهر بها الكشف العلمي في ذهن العالم قريبة كلَّ القرب من تلك التي تظهر بها فكرة العمل الفني في ذهنِ الفنَّان، ولو رجعنا إلى ما كتبه العلماء أنفسهم عن حياتهم الخاصة، وعن الظروف التي توصَّلوا فيها إلى كشوفهم؛ لوجدنا أن الكثيرين منهم كانوا يَهتدون إلى فكرة الكشف الجديد بصورة مفاجئة، وربما هبَطت عليهم الفكرة أثناء النوم أو في غَفوة أو حلم يقظة، وربما أثارها شيء بسيط لا يَكادُ يُثير في الإنسان العادي أية فكرة ذات قيمة كما هي الحال في قصة التفاحة التي سقطت على نيوتن أثناء جلوسه ساهمًا في الحديقة، والتي أوحت إليه بقانون الجاذبية (إذا كانت هذه القصة صحيحة)، وهنا لا نكاد نجد اختلافًا بين طريقة ظهور نظرية جديدة في ذهن العالم، وطريقة هبوط «الوحي» على الشاعر بأبيات قصيرة جديدة، أو ظهور لحنٍ موسيقيٍّ جميل في ذهن الفنان.

    بل إن التشابُه لا يقتصر على هذا الانبثاق — الذي هو أشبه بالإلهام أو الاستنارة المفاجئة الكاشفة — وإنما يمتدُّ العلمي ما هو أبعد من ذلك، فعلماء النفس يقولون: إن مثل هذا «الإلهام» لا يأتي عفوًا، وهم على حق في ذلك؛ إذ إن الفواكه وغيرها كانت تسقط على رءوس الناس منذ ألوف السنين دون أن يَستَنتِج أحد من ذلك شيئًا. كما أن ملايين الناس قد غمروا أجسامهم في الحمامات وارتفَعت المياه فيها دون أن يَستخلِصوا من ذلك أي قانون مثل قانون الطفو (كما تحكي القصة المشهورة الأخرى عن العالم اليوناني الكبير «أرشميدس»)، فلا بدَّ لظهور هذا الإلهام المفاجئ من إعداد طويل، وانشغال دائم بموضوع معيَّن، ومستوًى معيَّن من التفكير، وهذا يصدق على العالم وعلى الفنان معًا؛ إذ إن القدرة التلقائية على الإبداع دون إعداد سابق مُستحيلة في حالة العالم، كما أنها أصبحت الآن شبه مستحيلة في حالة الفنان بدوره.

    وهكذا يُمكن القول: إنَّ المنبع الذي ينبثق منه الكشف العادي الجديد والعمل الفني الجديد هو منبع واحد، وإن الجذور الأولى والعميقة للعلم والفن واحدة؛ ومن ثم فإن العالم الذي ينمِّي في نفسه حاسة التذوق الفني أو الأدبي إنما يرجع — في الواقع — إلى الجذور الأصيلة لمصدر الإبداع في الإنسان، وربما كانت رعايته لملَكة الخيال في ذهنه سببًا من أسباب إبداعه في العلم، وخاصة لأن النظريات العلمية الكبرى تحتاج إلى قدر غير قليل من الخيال حتى تَخرُج بصورتها المُتناسِقة المترابطة. صحيح أنَّ العالم يظلُّ يُلاحظ ويُراقب ويُسجِّل الظواهر ويُجْرِي التجارب عليها، ولكنه حين يبدع نظريته العامة يقوم بتلك «القفزة» المشهورة التي تتخطى الظواهر المشاهدة وتقتحم عالمًا كان مجهولًا حتى ذلك الحين، وهو في تجاوزه للواقع المُلاحَظ يَحتاج إلى كل ذرة مِن قُدرته التخيُّلية، فلا عجب أن نجد أقطاب العلم يَقترِبون من الفن اقترابًا شديدًا في طريقة إبداعهم، وفي جرأتهم على استِكشاف المجهول.

    وبعد هذا كله، فإنَّ وجود الفن بوصفه عنصرًا من عناصر ثقافة العالم — مع ملاحَظة أن كلمة «الفن» تُستخدَم هنا بأوسعِ معانيها؛ أي بالمعنى الذي يَشتمِل على الفنون المعروفة والشِّعر والأدب — يجعل من العالم إنسانًا أفضل، وإحساس العالم بنبضِ الإنسانية، واكتسابه رقَّة المشاعر التي يَبعثها الفن في النفوس، قد أصبح شيئًا ضروريًّا في عصرنا الحاضر بوجهٍ خاص، حيث يُؤدِّي التخصُّص المُفرط إلى جفاف في الرُّوح لا تُبلِّله إلا قطراتٍ من نبع الفن، وحيث تُهدِّد العالم قوى تريد أن تَستغلَّ كل إبداع علمي لأغراض مُعادية للإنسان، وهي قُوى لا يستطيع أن يصمد أمامها إلا علماء يَحرصون على حفظ روابطهم بكل ما هو شريف ورقيق وصافٍ في النَّفس الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤