الفصل الثالث

في الأدب الإنجليزي الحديث

من رسائل الكاتبة «ربيكا وست»
الكاتبة ربيكا وست Rebeeca West من أشهر الأديبات في هذا العصر، وقد كتبت في كبريات المجلات والصحف الإنجليزية والأمريكية في شئون السياسة والأدب، ومن مؤلفاتها: هنري جيمس، عودة الجندي، سباع وخراف، والصوت الأجش وسانت أوجستين.

ملك ناصية الأدب الإنجليزي قبل الحرب العالمية الماضية كتَّاب أعلام لم يبق منهم بيننا اليوم غير رجلين هما برنارد شو وهربرت جورج ويلز.

وإذا كان أولهما قد ناهز الرابعة والثمانين من عمره، ولم يعد ينفحنا كعادته بقصصه الموسوم بالتقدير الفائق، فإنه ما يزال يمنعنا بأجلِّ مواهبه المستمدَّة من طبيعته البالغة التأثير، ومرحه الساخر الذي أحلَّه منزلة شعبية مرموقة يتناهى عندها الطموح، وإنا لنلمس في أطواء نفسه شعور الإخاء الذي يبتهج به القرويون، وأرق الميول الإنسانية التي يحتفل بها المزارعون وهم يروون الشعر ويتحدثون عن الشعراء.

فسائقو السيارات في لندن، وبائعو الورد، يعرفون هذا الشيخ الأديب بلحيته البيضاء، وقامته المديدة، وسمته العجيب، وهو يذرع الشوارع والطرقات بخطاه الواسعة؛ وهذه الصحف والمجلات تتسابق إلى التقاط عبارة من آخر دعاباته وتتنافس في نقل إحدى نوادره وفكاهاته، ومن عجب أن يغلوَ هذا الشيخ المسنُّ في تهكمه حتى ليتدفق على الناشئة والأيفاع بالروح الساخر الذي تعوَّدوا هم أن يلذعوا به من يكبرونهم من الكهول والشيوخ.
figure

وبهذا استطاع «شو» أن يبرز من الإعجاب به، وحدة من حياتنا الشعبية قلَّما يُسْتَطَاعُ تحقيقها في جماهير مختلفي الأمزجة والأطوار كالذين تزخر بهم كبريات المدن.

أما ويلز فمع أنه تجاوز الثالثة والسبعين من عمره إلا أنَّه لا يزال مرموق الأثر، ملحوظًا بالاعتبار والتقدير، وفي مثل هذه السن نواجه رجلًا رصينًا راسخًا، محبًّا للعراك، حاد الطبع، خصبًا، متدفقَ الحيوية، كأنما هو في منتصف العمر الذي بلغه اليوم، وهو فوق ذلك دءوب لا يكل ولا يمل، كأنه ڤولتير إنجليزي، مع بعض متناقضات لطيفة تحببه إلينا وتجعله أثيرًا بإعجابنا.
figure
هربرت جورج ويلز

ومع أن ثورته هذه لا خطة واضحة لها، ولا شرح لمذهبها، إلا أنَّه كمصلح اجتماعي، لا يتردد في رفع عقيرتِه بالدعوة إلى اطِّراح القديم وتخلصنا من عيوب التشبث به والمنافحة عنه.

وهو يستحثنا في الوقت نفسه إلى تنظيم مستقبلنا على ضوء العلم الهادئ الواضح، ولكن حين نختلف في الرأي معه فإنه يندفع في المعترك بروح سام مشرب بالفن اندفاعًا يناقض الروح العلمي الذي يدعونا إلى اتباعه.

ولم يكن هناك خلال الحرب الماضية من طراز ذينك العلمين اللذين أسلفنا القول عنهما غير رجل واحد هو «وليم سومرست مُوَمْ William Somerest Maugham».

فنحن هنا إزاء رجل آخر يرجع جلاء قريحته وطبعه المصقول إلى العمل الذي أَحَبَّهُ وآثره، وإلى المنطق الذي استمدَّه من طوارئ حياته، كما يرجع في ذلك أيضًا إلى عائلة إنجليزية امتَدَّتْ أصولها منذ أجيال بعيدة إلى أرض فرنسية، حيث كان قد أُرْسِلَ به صغيرًا إليها عقب وفاة أمه ليكون في كنف أقارب قضى سوء الطالع أن يكونوا غير متعاطفين، ولكنه باستخفاف صبي ذي شعور مرهف، مضطرم الحنين إلى وطنه، لم يَدَّخِرْ جهدًا في إدخال السرور إلى منزل يهتم به جماعة من الغرباء النازحين في أرض أجنبية، ومنذ ذلك الحين شبَّ على غرارٍ أصيل من أرومته، فجعل قوام أعماله الأدبية النظرَ في حياة الإنجليز الخاصة، وشَحَذَ من نظرته في الحياة عمله كطبيب، وقد أورثه الدم الإنجليزي المتدفق في عروقه حب الأسفار وجوب البحار، ولم يكن يسأم الانفراد بنفسه، بل إن ذلك قد رزقه إمعان الفكر في الحياة.

وفي كتابه «قصارى القول» الذي نطالع فيه تاريخ حياته، نرى كيف مضى مطوِّفًا بأنحاء الإمبراطورية القاصية وكيف أنه استلهم هذه الحياة ما تفرد به من عقل مُحَلِّلٍ، وجأش رابط، خلق ركين، وقد يبدو عجيبًا اندماج مثل هذا الرجل في بيئات الحكام والمستعمرين، وأوساط الجنود والملاحين، الذين التقى بهم في حلاته واتصل بهم خلال عمله، ولكن ذلك ما آثره من قبله الشاعر العظيم رديارد كبلنج Rudyard Kipling وعظَّمه بحرارة ونال منه رضًى لا يحتمل تأويلًا، ولقد كتب كبلنج عن أولئك الرجال كما عرفهم، وصوَّرهم بالحالة التي رآهم عليها، أما «مُوَمْ» فقد كتب عنهم بطريقته التحليلية نافذًا إلى حياتهم من خلال علومه ومععارفه، فالغريب إذن هو أن الشعب الذي قرأ لكبلنج ما كتبه عن هؤلاء الرجال وأعجب به واستساغه، هو نفس الشعب الذي أقبل على قراءة ما كتبه مُوَمْ عنهم واستساغه أيضًا، وهذه علامة التحوُّل في الوضع دون أن يرجع ذلك إلى تفاوت في الخلق، أو فتور في العزيمة والإقدام.

ولكن «موم» استطاع أن يخدم الإمبراطورية، وستبقى الإمبراطورية التي أحلَّها اهتمامه، وحباها أعظم التقدير والتبجيل.

أجل إننا نتحول، إن عقليتنا المركبة فينا قد تطورت كثيرًا، وأصبحت أكثر قابلية لمقابلة الجدل المحتشم، وأعظم مرونة لمعالجة المسائل المعقدة، أكثر وأعظم مما كانت عليه من قبل، وللتدليل على ذلك نعرض لمستر بريستلي Priestley وأعماله الأخيرة.

فهذا مؤلف نابهٌ معروف للسواد الأعظم من الناس، تبرز في سمته شخصية مشاكس عنيد، أقرب في شدة مراسه إلى المزارعين الأقوياء منه إلى كاتب يدبِّج المقالات، إنه قوي كملاكم، يتكلم بنبرات كالقرويين إذا هضبوا بالقول، وهو لا يفتح فمه إلا بإشارات وإيماءات عنيفة، متباينة الأثر في سامعيه، فإمَّا أن تثير حقدهم عليه مدى الحياة، أو تجعلهم أصدقاءه إلى الأبد.

وهو يكتب متدفقًا متمثلًا ألوانًا من العظمة، ليحصل على مكافأة أدبية، أو ليدير مسرحًا، أو ليضرب في الأرض في رفقة أقاربه المنتشرين في كل الأصقاع، وقد أصاب النجاح بأمثال كتابه «الأصدقاء الأخيار The Good Companions» المحتفل بالرصانة والدعابة وتبسيط مبادئ الرقي المأثورة عن تعاليم شارلز ديكنز Charles Dickens.

وقد أنشأ في الوقت الأخير رسالة مسهبة بعنوان «نصف الليل في الصحراء» وقصتين تمثيليتين بعنوان «الوقت وآل كونوأي» و«كنت هنا من قبل» وتدور حوادثهما على استكناه أسرار الزمن، وهل المستقبل موجود منذ الأزل؟ وهل نُساق إليه قسرًا؟ أم نحن نصنعه بتصرفاتنا وأفعالنا مختارين؟ وإذا كان الزمن هو هذه اللفائف التي تُطْوَى؛ فهل لطوله نهاية؟ أم هو غيب مستغلق؟ أم أن الأفكار التي تمر ببالنا هي التي ترسمه كما يقول الفيلسوف العظيم نيتشه؟

ومثْلُ هذا الكاتب المتميز بصفاته الجوهرية، ومثل سُمَّاعه الذين يتبعونه بالتصفيق والتهليل، صورةٌ من إنجلترا الجديدة التي تبدو أبعد تأملًا في الحياة، وإن دلَّ ذلك على شيءٍ فعلى تحول جديد، قوامه الجرأة في التعبير على نطاق شامل مطابق للحقيقة، ولنأخذ على سبيل التدليل اتجاه «ألدُس هكسلي Aldous Huxley» هذا الذي يُشار إليه بالبنان ويبدو حجة في كل الاتجاهات التي يرمي إليها، إن طول قامته ستة أقدام وسبع بوصات، فهو أول عملاق ينصبه التاريخ مرشدًا للعقول، وكان في صغره طفل معجزات فأشار إليه «مارسيل بروست Marcel Proust» في كتابه «البحث عن الوقت المفقود» كعَلمٍ من أعلم الأدب الأوروبي الحديث مع أنه لم يكن تجاوز في ذلك الحين العشرين من عمره.
figure
ألدس هكسلي

وهو مزاج من إرادة لا تلين، وعزيمة لا يخمد أواراها، ودأب لا يخفِّف منه اعتلال صحته، وتحزُّب أعمى لآرائه، وقد جعل منه كلُّ أولئك أشهر مؤلف إنجليزي معاصر، له اتجاهاته المتشعبة في الأدب الإنجليزي وإحاطاته المتساوقة بالآداب الفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية والإغريقية، هذا إلى توجيه رفيع لفن القصة، وتلك الرشاقة وخفة الروح اللتين يجري بهما الحوار مع القصد في تصوير الطبائع، فهو لا مشبه له عندنا ولا نِدَّ له في هذا.

وينظر «ألدس هكسلي» في عمله إلى مستقبل حافلٍ بالطمأنينة كأديب بارز ولكنه لا يقنع بذلك لأنَّه يدرك أن من واجب الرجل الفنان أن يوجه نفسه حيث يشاء نبوغه، على أن يكون هذا التوجيه لخير المجتمع؛ ولذلك فقد كتب عن «الدنيا الجديدة الباسلة» فأنجز بكتابه هذا أعظم عمل فني رفيع، ومع ما توخَّى فيه من البساطة والسهولة، فقد أعدَّه هجومًا على المدنية الأوروبية حاشدًا فيه من ألوان الفكر والمعرفة ما لم يحشده الفيلسوف «إشبنجلر Spengler» في مجلديه الشهيرين.

وقد وصف في كتابه هذا عقلية شاب أبيض نشأ بين قبائل السود المتوحشة، وليس ثمة من صلة تربطه بالثقافة التي كوَّنته غير أعمال شكسبير الأدبية، فاستطاع هكسلي بهذا الوضع أن يكشف عن الوحشية وعدم التعقُّل الشائعَيْن في كثير من المُثل المتجاوبة بها عبارات شكسبير والتي هي جزء من ثقافتنا، وعمَّا في كثير من مُثُلِنَا العليا في الحب والخطيئة والسلطان من آثار هذه الوحشية.

ولكن بوصفه دنيا جديدة، بُنِيَتْ خارج نطاق تلك القبائل وعلى تخطيط من الأساليب العقلية الخالصة، حيث يعرِّف الحب بأنه تنظيم العلاقة بين الذَّكَرِ والأنثى من الحيوان، وليس ثَمَّةَ تعريفٌ للخطيئة إلا أنها ما يؤذي المجتمع، فقد أبان عمَّا في أعمق غرائزنا من العقم والمجافاة لهذه الدنيا، ورغم هذا فقد شقت عبقرية هكسلي بهذا العمل اتجاهًا جديدًا له خطره، حطَّم به البناء الثقافي الذي نعيش فيه جميعًا، وسَدَّ المنفذ الوحيد المرئي لنا، وكان من الحتم عليه إذا كان رجلًا عظيمًا بحق، أن يَدُلَّنَا على منفذ آخر أمين نجد السلامة فيه أمرًا واقعًا ملموسًا.

وفي الواقع يتعيَّن على هكسلي أن يجرد من نفسه في المستقبل كاتبًا اجتماعيًّا أكثر منه فنانًا، كما تنطق بذلك أعماله الأخيرة في رواية «ضرير في غزة Eylelss in Gaza» وفي مقاله «الغايات والوسائل Ends and Means» حيث يبشر برسالته الجديدة صريحًا مخلصًا أبلغ ما تكون الصراحة والإخلاص.

وهذه الرسالة الجديدة لا تختلف كثيرًا عمَّا بشَّر به تولستوي من قبل، أي إن الإنسان لا يستطيع أن ينقذ نفسه إلا بالتقشف والنسك والتحرر من الرغبات السفلية الوضيعة، وليس ببعيد أن يتاح لنا في حياتنا شهود هذا الطور الجديد متفردًا بشخصيته الهامة التي تفرد بها تولستوي.

وقد أثبتت عبقرية هكسلي بهذا العمل الذي استرعى كل انتباه أنه يعدُّ بحق سليل العلَّامة هكسلي الكبير، صديق داروين وحواريُّه، وأنه نشأ على غراره مشربًا بتعاليم اللاأدرية.

وقد نرى في كتَّاب كثيرين آخرين من الإنجليز ما يثبت أنهم مضوا في ذات البحث عن تعليل الوحي والوصول إلى مصدر من وراء العقل يُمَكِّنُهُم من كشف أسرار الحياة، ولقد أثَّر ذلك في بعض اللامعين من الناشئة فأخذوا بالمعتقدات الكاثوليكية التي آثروها عند الكاتب القصصي «إفلين وُف Evelyn Waugh» في رواياته «التدلي والسقوط» و«قبضة من التراب» و«الأجسام الخسيسة» التي يذم فيها المجتمع الذي قام بعد الحرب ويقدح فيه بما أبدعته مخيلته وبما رُزِقَهُ من الثروة البيانية، وكما فعل «جراهام جرين Graham Green» الذي برهن بروايته «بندقية للبيع» على أنه من أعظم كتاب الأقصوصة الموهوبين، أصحاب الشعور المرهف كما كان ويلز في صباه، وكذلك كونراد وكيلنج أيام كانا من رواة الأقاصيص.
وإذا نظرنا خارج الكنيسة فإنا نرى شارلس مورجان Charles Morgan الذي حاز نجاحًا باهرًا وتفوُّقًا منقطع النظير بقصته «الينبوع» فسجل بها فتحًا جديدًا في دراسة المثل العليا للتصوف، وكذلك «ناومي ميتشيصن Naumi Mitchison» الكاتبة القاصَّة التي اتخذت من المخلَّفات القديمة أو التراث الكلاسيكي مادة لروايات أُشْرِبَ فيها العلم بنار البشرية المشبوبة، وقد عملت مع «جيرالد هيرد Gerald Heard» الأخصائي في علم الاجتماع لإيجاد قاعدة دينية جديدة تلائم عصرنا هذا. وكانت ميتشيصن إلى جانب ذلك من السياسيات المهيجات اللاتي يتلاعبن بالعواطف، وما أكثر أولئك الذين أدَّى بهم بحثهم عن مصدر الوحي وتعليله لا إلى تغيير معتقداتهم الدينية بل معتقداتهم السياسية، ومنهم شعراء الشباب أمثال «سيسيل داي لويس Cecil Day Lewis» و«وستيفن سبندر Stephen Spender» و«ي. هـ. أودن W. H. Auden» الذين يعنون بصقل أشعارهم وتصفيتها لتمجد وتخلد بجمالها الموهوب وليس بالزخرف المجلوب، و«فورستر  E. M. Forster» الذي بقي أرق كُتَّابِ القصة وأغزرهم شاعرية، و«رالف بيتز Ralph Bates» الذي أخرج النفيس من القصص القوي المؤثر عن حركات العمال في أوروبا بقلم ناقد مرهف الحس، ومؤرخ موسيقي، وكذلك «رالف فوكس Ralf Fox» واضع تاريخ حياة جنكيز خان، و«ڤيرچينيا وولف Virginia Woolf» الكاتبة العظيمة التي أصابت نجاحًا شعبيًّا كبيرًا بروايتها «الأعوام» التي رسمت فيها تدرج اليخوت من الصبا إلى مختلف أطوار العمر في جيل كامل!

ولئن أصاب التحول والتغيير كل شيء في مضطرب هذه التيارات فقد بقي شيء واحد لا يتحول ولا يتغير، ذلك هو معدن إنجلترا وعنصرها.

فنحن ننجب الأعلام بغير ما ضنٍّ أو منٍّ، ونطلعهم مشابهين لأولئك الذين كانوا موضع المباهاة في أيام سابقة، أيام كانت لنا كل المعارف، وكانت عظمتنا سافرة لا ترقى إليها شائبة.

ولقد أنجبنا أيضًا المحسنين النافعين من رجال البيوتات الذين نلقبهم بالأرستقراطيين، ومع ما يئودهم من أثقال الخدمات العامة وما يحوطهم من المغريات الشتَّى، وصنوف العبث واللهو، ومع أنهم لم تُهيَّأ لهم الفرص ليبرزوا في مجال الأدب والفن، فقد أقبل بعضهم على عمله إقباله على لهوه بكل ما هيَّأته له الطبيعة من مزاج، وأعدته له مواهبه الفنية، فاجتمع لنا في كتبهم وخطبهم ورسائلهم لون نفيس من الأدب تتجلى فيه الفطنة والذوق الرفيع.

ولقد أعطوا في كل ما أنشأوا من الكلمات والأساليب، وصوَّروا من المعاني والأخيلة الدليلَ على أن روح الجمود لم تكن من تقاليدنا في يوم من الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤