الفصل الأول

الأرض

(١) نقطة البدء

ذات ليلة حين شعرت بالمرارة، خرجت ذاهبًا إلى التل. أبطأ الخَلَنْج المُعتم من حركة قدميَّ. في الأسفل، امتدت مصابيح الضاحية. والنَّوافذ ذات الستائر المُسدلة كانت عيونًا مُغلَقة تشاهد داخليًّا حياة الأحلام. وبعد الظلام المُمتَد على مُستوى البحر، كان ثمة منارة تومض. وفي الأعلى كان هناك ظلام. ميَّزتُ منزلنا، جزيرتنا الصغيرة في تيارات العالم المضطربة والمريرة. هناك، على مدار عَقد ونصف من الزمان، أنا وزوجتي، اللذَانِ نختلف للغاية في سماتنا الأساسية، قد نضجنا ونما أحدنا في الآخر لما كان بيننا من دعم وتغذية مشتركة، في نظام تكافلي معقَّد. هناك خططنا مهامنا العديدة كل يوم، وروينا غرائب اليوم ومضايقاته. هناك تراكمت خطابات يجب الردُّ عليها، وجوارب يجب رتقها. هناك وُلِد الأطفال؛ تلك الحيوات المفاجئة الجديدة. وهناك، تحت ذلك السقف، كانت حياتانا، نحن الاثنين — اللتان كانتا تُعاند أحيانًا كلٌّ منهما الأخرى — حياةً واحدةً طوال الوقت لحُسنِ الحظ؛ حياة أكبر وأكثر وعيًا من حياة أي منا بمفرده.

كل ذلك كان جيدًا بالتأكيد. بالرغم من ذلك، كان هناك شعورٌ بالمرارة. وتلك المرارة لم تَغْزُنا من العالم الخارجي فحسب، بل نمت داخل دائرتنا السحرية أيضًا؛ ولهذا فالرعب من لا جدوانا ومن انعدام واقعيتنا، لا من هذيان العالم فحسب، قد دفعني للخروج والذهاب إلى التل.

كنا نسرع دائمًا من مهمةٍ صغيرةٍ عاجلة إلى أخرى، غير أنَّ المحصلة كانت واهية. أيُمكن أن نكون قد أخطأنا فَهْم وجودنا بأكمله؟ أيُمكِن أننا كنا بطريقةٍ ما، نعيش انطلاقًا من فرضيات خاطئة؟ وهذه الشراكة القائمة بينَنا على وجه التحديد، هذه الدِّعامة التي تبدو رائعة التأسيس للتحرُّك في هذا العالم، ألم تكن في نهاية المطاف سوى دوامة صغيرة من الحياة المنزلية الراضخة المنعزلة، التي تدور على سطح الفيض العظيم دون جدوى، وهي ذاتها لا تحمل عمقًا ولا أهمية؟ أيُمكن أن نكون بالرغم من كلِّ شيء قد خدعنا أنفسنا؟ هل نكون كالكثيرين من غيرنا لم نَعِش في حقيقة الأمر خلف تلك النوافذ السارحة الفكر سوى حلم؟ في عالم مريض، حتى المُعافى يكون مريضًا. ونحن الاثنان؛ إذ كنا ندور في حياتنا الصغيرة دون تفكير في مُعظَم الأحيان، ونادرًا بوعيٍ صافٍ أو عزم قوي، كنا نتاج عالَم مريض.

غير أنَّ حياتنا تلك لم تكن كلها محض خيال تام وعقيم. ألم تكن مغزولة من ألياف الواقع الفِعلية والتي جمعناها في جميع مرات ذهابنا وإيابنا عبر بابنا، وجميع معاملاتنا مع الضاحية والمدينة والمدن الأبعد وكذلك أطراف الأرض؟ ألم نكن نحن نغزل معًا تعبيرًا أصيلًا عن طبيعتنا؟ ألم تُنتج حياتنا كل يوم خيوطًا متينة إلى حدٍّ ما من العيش النشط، والتي قد تداخلَت في الشبكة النامية؛ نمط الإنسانية المعقَّد الدائم التكاثُر؟

كنتُ أنظر إلى «علاقتنا» بحماس هادئ ونوع من الرهبة المبتهِجة. كيف يُمكنني أن أصف علاقتنا حتى لنفسي دون ازدرائها أو إهانتها بزخرف النزعة العاطفية المُبهرج؟ ذلك أنَّ توازننا الدقيق من الاعتمادية والاستقلالية، ذلك الاتِّصال المشترك الناقد بعقلانية والساخر بدهاء والمحب مع ذلك، كان بالتأكيد عينة مصغَّرة للرفقة الحقيقية، وكان في أسلوبه البسيط بالرغم من كل شيء مثالًا فعليًّا وحيًّا على الهدف السامي الذي يسعى إليه العالم.

العالم بأكملِه؟ الكون بأكمله؟ في الأعلى كشف الظلام عن نجمة. شعاع واحد مُرتعِش من الضوء قد انبعث من آلاف الأعوام قد أتعب الآن أعصابي بالرؤية وقلبي بالخوف. ففي كونٍ مثل هذا الكون أي أهمية قد تكون لرفقتِنا الواهية، الوليدة الصدفة، السريعة الزوال؟

لكن الآن قد استغرقتُ بصورة غير عقلانية في نوع غريب من العبادة. لم يكن ذلك التقديس تجاه النَّجمة بالتأكيد؛ فهي محضُ أتُون لم يَمنحه تلك القَداسة الزائفة سوى بُعْدِه، بل كان تجاه شيء آخر، أبرَزَه للقلب التناقُضُ الشديد بيننا وبين النجمة، لكن ما ذاك الذي قد يُمثِّل أهمية على هذا النحو؟ إنَّ الفكر حين أمعن النظر فيما يَكمن وراء النجمة لم يَكتشِف أي «صانع نجوم»؛ لم يكن هناك سوى العتمة؛ لم يكن ثمَّة حُب ولا حتى قدرة، فقط عدم. بالرغم من ذلك، سبَّح القلب.

بنفاد صبر دفعتُ عني هذه الحماقة، وارتددتُ من المُلغِز إلى المعروف والملموس. مُنحِّيًا العبادة بعيدًا وكذلك الخوف والمرارة، قرَّرتُ أن أفحص «علاقتنا» الغريبة تلك بقَدرٍ أكبر من الموضوعية، تلك الحقيقة المُثيرة للإعجاب على نحو مُدهِش، والتي ظلَّت بالنسبة إلينا أساسية للكون، بالرغم من أنها بدَتْ أمرًا تافهًا للغاية بالنسبة إلى النجوم.

حتى عند التفكير في الأمر دون التطرُّق إلى خلفيتنا الكونية المهينة، فنحن في نهاية المطاف تافهان وربما حتى سخيفان. لم نكن سوى حدث عادي، مُبتذَل للغاية ومحترم للغاية. لقد كنا زوجَيْنِ فحسب، نتدبر أمرنا كي نعيش معًا دون أعباء لا داعي لها. كان الزواج في عصرنا مريبًا. وقد كان زواجنا، بأصله الرومانسي التافه، مريبًا على نحو مُضاعَف.

التقينا للمرة الأولى حين كانت زوجتي طفلة. تلاقَت عيوننا. نظرَتْ إليَّ للحظة بانتباهٍ هادئ؛ حتى إنني تخيَّلت برومانسية أنَّ تلك النظرة ربما كانت تَحمل إدراكًا غامضًا عميقًا. على أيِّ حال، رأيتُ أنا في تلك النظرة قدَري، أو هكذا أقنعت نفسي في حمى سنِّ المراهَقة. أجل! كم بدا اتحادنا مُقدَّرًا! أما الآن، فعند النظر في الماضي، كم يَبدو تصادُفيًّا! صحيح أننا كنا مُتلائمَين في علاقة زواجنا التي امتدَّت لفترة طويلة، كشجرتَيْنِ قريبتَيْنِ إحداهما من الأخرى قد نما جذع كلٍّ منهما إلى الأعلى معًا في جذع واحد، بحيث كل منهما يُشوِّه شكل الآخر، وفي نفس الوقت يدعمُه. الآن قيَّمتُ زوجتي بموضوعيةٍ على أنها محض إضافةٍ مفيدةٍ لحياتي الشخصية، لكنها مَدعاةٌ للغضب في مُعظَم الأحيان. لقد كنا في المجمل رفيقَيْنِ رشيدَيْن. وقد ترك أحدنا للآخر قدرًا من الحرية؛ فاستطعنا أن نتحمَّل قُرْبنا المُتواصِل معًا.

تلك كانت علاقتنا. وعند ذكرها بهذه الطريقة، لم تَبدُ مهمة للغاية في فهم الكون. غير أنَّني كنت أعرف في قرارة نفسي أنها كذلك. حتى النجوم الباردة، وحتى الكون بأكمله بجميع أبعاده الهائلة العقيمة لم يستطع أن يُقنعني بأنَّ هذه الذرة الثمينة التي تُمثِّل رفقتنا — بالرغم من افتقارها إلى المثالية، وبالرغم من قصر أجلها كما لا بدَّ لها أن تكون — ليسَت بالمهمَّة.

لكن أيُمكن فعلًا أن يكون لاتحادنا الذي يتعذَّر وصفه أي أهمية تتجاوَز وجوده هو ذاته؟ هل أثبت مثلًا أنَّ الطبيعة الجوهرية للبشر هي الحب لا الكره والخوف؟ أكان برهانًا على أنَّ جميع الرجال والنساء في شتى أنحاء العالم قادرون على دعم مجتمعٍ نسيجُه الحب، بالرغم من أن الظروف قد تَمنعهم من ذلك؟ وهل أثبت مثلًا، وهو نفسه من نتاج الكون، أنَّ الحب أساسي للكون بطريقة ما؟ وهل قدَّم، من خلال تميُّزه الجوهري، ضمانًا ما بأننا، نحن الاثنين، داعماه الواهيان، لا بدَّ أننا نتمتَّع بطريقة ما بحياة أبدية؟ هل أثبت فعلًا أنَّ الحب هو الرب وأنَّ الرب ينتظرنا في السماء؟

كلا! إنَّ رفقة روحينا البسيطة الودودة المثيرة للغضب والمُثيرة للضحك، والثمينة رغم خلوها من الزخرفة، لم تثبت أيًّا من هذه الأشياء، ولم تكن ضمانًا محددًا على أي شيء سوى صحتها غير المثالية؛ لم تكن سوى تمثيلٍ ضئيل وساطعٍ للغاية لاحتمال واحد من بين الكثير من احتمالات الوجود. تذكرت حشود النجوم التي لا تُرى. تذكرت اضطراب الكراهية والخوف والمرارة في عالم الإنسان. تذكرت أيضًا خلافنا المتكرِّر. وذكَّرت نفسي بأننا يجب أن نَختفي سريعًا مثلما تختفي الموجات الصغيرة التي يُشكِّلها النسيم على المياه الساكنة.

مرةً أخرى رحت أفكر في التقابل الغريب بينَنا وبين النجوم. إنَّ قدرة الكون التي لا يُمكن حسابها قد عززت على نحو غريب من أهمية تلك الومضة الخاطفة المتمثِّلة في رفقتنا، ومن مغامرة البشرية الخاطفة غير الأكيدة. وهاتان بدورهما، قد أسرعتا من حركة الكون.

جلست على الخَلَنْج. العتمة من فوقي تتراجع الآن بالكامل. وفي مؤخِّرتها، بدأ شعب السماء المحرَّر الظهور من الاختباء، نجمة تلو النجمة.

على جميع الجوانب، امتدَّت التلال المبهمة، أو ما خمنت أنه البحر الرتيب، إلى ما وراء مدى البصر. غير أنَّ الخيال الطائر طيران الصقر قد تبعها في انحنائها إلى الأسفل تحت الأفق. تخيَّلت أنني كنت على حبة صغيرة من الصخر والمعدن قد غلفتها المياه والهواء، وأنها تدور في ضوء الشمس والظلام. وعلى القشرة الخارجية من تلك الحبة الصغيرة، كانت حشود البشر تعيش جيلًا بعد جيل في شقاءٍ وعمى، مع دفقات متقطِّعة من البهجة وصفاء الروح. وكلُّ تاريخهم بما فيه من ارتحال، وإمبراطوريات وفلسفات وعلوم شامخة، وثورات اجتماعية، وشغف مُتزايد للرفقة، لم يكن سوى وَمضة في يومٍ واحد من حياة النجوم.

لو كان للمرء أن يعرف ما إذا كانت تلك المجموعات المتلألئة تضمُّ حبات أخرى من الصخر والمعدن تسكنها الرُّوح، وما إذا كان بحث البشر المتخبِّط عن الحكمة والحب هو محض اختلاجة تافهة، أم جزء من حركة كونية!

(٢) الأرض بين النجوم

في الأعلى، زالت العتمة. امتدَّت النجوم في السماء دون انقطاع من الأفق إلى الأفق. ظهر كوكبان دون أن يُومِضا. كانت المجموعات النجمية الأكثر بروزًا تُؤكِّد فرديتهما. مجموعة «الجبار» بكتفيها وقدميها الشامخة، وحزامها وسيفها، ومجموعة «بنات نعش الكبرى»، ومجموعة «ذات الكرسي» المتعرجة، ومجموعة «الثريا» التي تعكس الحميمية، كلها تشكَّلت مثلما ينبغي لها تمامًا في الظلام. وامتدَّت مجموعة «درب التبَّانة» عبر السماء كطوق مبهم من الضوء.

أكمل الخيال ما عجز البصر وحده عن بلوغه. حين نظرت إلى الأسفل، بدا أنني أستطيع أن أرى عبر كوكب شفاف، عبر الخَلَنْج والصخر الصلب، وعبر مَقابر الأنواع المندثِرة، وعبر البازلت المنصهر المتدفِّق في الأسفل وصولًا إلى لبِّ الأرض من الحديد، ثم مرةً أخرى يبدو أني كنت ما أزال أنظر في الأسفل، عبر الطبقات الجنوبية وصولًا إلى المحيط الجنوبي والأراضي الجنوبية، وعبر جذور أشجار الصمغ وأقدام سكان الجانب الآخر من العالم المعكوسة أوضاعها، وعبر مظلاتهم الزرقاء التي ثقبتْها الشمس، وصولًا إلى الليل الأبدي حيث توجد الشمس والنجوم معًا. وهناك في الأسفل على مسافة بعيدة للغاية بدرجة تبعث على الدوار، كانت تقبع المجموعات النجمية تحت الأرضية، كأنها أسماك في أعماق بحيرة. قبتا السماء قد امتزجَتا في كرة جوفاء واحدة، سكانها من النجوم، وسوداء حتى بجوار الشمس الساطعة. القمر الصغير كان خطًّا منحنيًا متوهِّجًا. الطوق الكامل الخاص بدرب التبانة كان يُحيط بالكون. في حالة غريبة من الدوار، نظرت إلى نَوافذ بيتنا الصغيرة المتوهجة طلبًا للاطمئنان. كانت ما تزال هناك، وكذلك الضاحية بأكملها والتلال. غير أنَّ النجوم كانت تُضيء عبرها كلها. بدا الأمر وكأنَّ جميع الأشياء الأرضية قد صُنِعت من الزجاج أو من مادة بلورية أكثر شفافية ونقاءً. بصوتٍ خافت، دقت ساعة الكنيسة مُعلِنة حلول منتصَف الليل. قرعت الضربة الأولى وراحت تتلاشى إلى صوتٍ خافت.

كان الخيال الآن قد حُفز إلى نمط جديد غريب من الإدراك. عندما أخذت أنظر من نجمة إلى نجمة، لم أعد أرى السماء سقفًا وأرضًا مرصَّعَين بالجواهر، بل عمقًا يتجاوز عمق الشموس البراقة. وبالرغم من أنَّ معظم الأضواء العظيمة والمألوفة في السماء قد سطَعَت وكأنها جيراننا القريبة، فقد بدَت بعض النجوم اللامعة في حقيقة الأمر بعيدة وكبيرة، بينما كانت بعض المصابيح الخافتة ظاهرة فقط بسبب قربها الشديد. في كل جانب، كانت المسافة الواقعة في المنتصَف مُحتشِدة بجموعٍ وتيارات من النجوم، لكن حتى هذه النجوم قد بدَت الآن قريبة؛ إذ إنَّ درب التبَّانة قد تراجعَت إلى مسافة عظيمة للغاية. ومن بين الفجوات في أجزائها الأقرب، ظهر ممرٌّ تلو المَمر من الضباب اللامع، وآفاق عميقة من التجمعات النجمية.

الكون الذي وضعَني فيه القدر لم يكن غرفة لامِعة، بل دوَّامة مُدرَكة من تيارات النجوم. كلا! لقد كان أكثر من ذلك. حين حدَّقت بين النجوم في الظلمة الخارجية، رأيت أيضًا دوامات أخرى من نفس النوع والتي بدت كمَحض نقاط وبُقَع من الضوء؛ تلك المجرات التي تناثرت عن بعد في الفراغ إلى أعماق سحيقة لا يمكن سبر غورها، وامتدَّت إلى مسافات بعيدة للغاية حتى إن عين الخيال لم تجد حدًّا للمجرة الكونية الشاملة التي تضم جميع المجرات. بدا الكون لي الآن فراغًا تطفو فيه رقاقات نادرة من الثلج، وكل منها يمثل كونًا.

عند التحديق في أبعد وأخفت كون في سرب الأكوان، بدا أنني أراه بالخيال ذي القوة التلسكوبية الفائقة على أنه مجموعة من الشموس، وبالقُرب من إحدى هذه الشموس، كان ثمة كوكب، وعلى الجانب المظلم من هذا الكوكب، كان ثمة تل، وقد كنت أنا على هذا التل. إنَّ علماء الفضاء يؤكدون لنا أنه في هذا الكيان المتناهي الذي لا حدود له، والذي ندعوه بالكون، لا تؤدِّي خطوط الضوء المستقيمة إلى اللانهاية، وإنما إلى مصدرها. تذكَّرت بعد ذلك أنه إذا كان بصري يعتمد على الضوء المادي لا ضوء الخيال، فالأشعة التي تأتي إليَّ «من حول» الكون لا تُظهرني، بل تُظهر أحداثًا قد توقفَت منذ وقت طويل قبل تشكُّل الأرض، أو ربما حتى قبل تشكُّل الشمس.

مُتجاهلًا الآن ثانيةً هذه الأبعاد الهائلة، رحت أبحث مرةً أخرى عن النوافذ ذات الستائر المُنسدِلة لمنزلنا، والذي، بالرغم من أنَّ النجوم كانت قد تخلَّلته، بدا لي أكثر واقعية من كل المجرات. غير أنَّ بيتنا كان قد اختفى مع الضاحية بأكملها والتلال أيضًا وكذلك البحر. الأرض التي كنت أجلس عليها نفسها، كانت قد اختفت. وبدلًا منها، كان يَكمُن تحتي بعيدًا ظلام رقيق. أنا نفسي كنت على ما يبدو قد تحرَّرت من جسدي؛ إذ لم أستطِع أن أرى جسدي ولا أن ألمسَه. وحين أردتُ تحريك أطرافي، لم يحدث شيء. لم يكن لديَّ أطراف. الإحساس الداخلي المألوف بجسدي، والصداع الذي كان قد تملَّكني منذ الصباح، قد حل محلَّهما خِفَّةٌ وابتهاجٌ غامضَان.

حين أدركت بالكامل التغيُّر الذي حلَّ بي، تساءلت عما إذا كنت قد مت ودخلت إلى وجود جديد غير متوقع على الإطلاق. أزعَجَني بشدَّة هذا الاحتمال في البداية. وبذُعرٍ مُفاجئ، أدركت أنني إذا كنتُ قد متُّ بالفعل فلن أعود إلى ذرَّتي الثمينة المتجسدة في الاتحاد. صدَمَني عُنف انزعاجي، غير أنَّني سرعان ما رحت أُطمئنُ نفسي بفكرة أنني لست ميتًا على الأرجح بالرغم من كلِّ شيء، بل في نوعٍ ما من الإغماء وقد أُفيق منه في أيِّ لحظة؛ ولهذا فقد قرَّرتُ ألَّا أنزعج بهذا التغير العجيب دونما داعٍ، وأن أراقب، على نحوٍ علمي، كل ما سيحدث لي.

لاحظت أنَّ الظلام الذي قد حل محل الأرض كان يتضاءل ويتكثَّف. لم تَعُد النُّجوم تحت الأرضية ظاهرة من خلاله. وسرعان ما أصبحَت الأرض مِن تَحتي كسطح طاولة ضخم مستدير؛ قرص واسع من الظلام تحيط به النجوم. كنتُ على ما يبدو أُحلِّق مُبتعدًا عن كوكبي الأصلي بسرعة مذهلة. الشمس التي كانت تظهر للخيال قبل ذلك في السماء السُّفلية، قد كسفتها الأرض مرة أخرى على نحو مادي أكثر. وبالرغم من أنني كنت الآن على ارتفاع مئات الأميال من الأرض بالتأكيد، فلم أَكُن أواجه أي مُشكِلة بسبب غياب الأكسجين والضغط الجوي. لم أكن أشعر بشيء سوى انتشاءٍ مُتزايد وحالة مبهجة من جيَشَان الأفكار. اللمعان الاستثنائي للنجوم قد أثارني. وسواء بفعل غياب الأجواء المعتمة أو بفعل حساسيتي المتزايدة أو كلا الأمرَين، فقد اتخذت السماء سمة غير مُعتادَة. بدا أنَّ النجوم جميعها قد توهجت بقدرٍ أكبر من اللمعان. توهَّجت السماء. كانت النجوم الكبيرة كمَصابيح سيارة بعيدة. لم تعد درب التبانة مُغْرَقة بالظلام، بل نهرًا مُطوِّقًا من حبيبات الضوء.

الآن، على امتداد الطرف الشَّرقي للكوكب والذي قد صار الآن بعيدًا تحتي، ظهر هناك خطٌّ خافت من الضياء، والذي صار، وأنا أستمر في الارتفاع، يزداد حيوية ويتحوَّل إلى اللونين البرتقالي والأحمر. يبدو أنني لم أكن أتحرَّك باتجاه الأعلى فحسب، بل باتجاه الشرق أيضًا، وكنتُ أدورُ بسرعة في ذلك الوقت. سرعان ما ظهرت الشمس في الأفق وأخذت تَلتهِم هلال الفجر الضخم بسطوعها. غير أنه حين زادت سرعتي، رأيت الشمس والكوكب يبتعدُ أحدهما عن الآخر، بينما راح خطُّ الفَجر يزداد سمكًا ويتحول إلى مساحة عريضة غَبْشَاء من ضوء الشمس. ازدادت هذه المساحة كقمر تراه وهو يزداد، إلى أن أصبح نصف الكوكب مضيئًا. بين منطقتي الليل والنهار، كان ثمة حزام من الظل ذي لون دافئ، وعرضه كعرض شبه قارة، والذي أصبح الآن يُحدِّد منطقة الفجر. وإذ واصلت الارتقاء والسفر باتجاه الشرق، رأيت اليابسة تتأرجَح باتجاه الغرب مع حركة اليوم، إلى أن حلَّقت فوق المحيط الهادي وقتَ الظهيرة. بدا كوكب الأرض الآن كأنه فلكٌ عظيم ساطع أكبر بمئات المرات من البدر. وفي مركزه كانت هناك بقعة برَّاقة من الضوء التي هي صورة الشمس مُنعكسة في المحيط. كان مُحيط الكوكب مساحة لا متناهية من الضياء الأغبش الذي يتلاشى في ظلام الفضاء المحيط. وكان الجزء الأكبر من نصف الأرض الشمالي، والذي كان يميل بعض الشيء باتجاهي، امتدادًا فسيحًا من الثلج وقمم السُّحُب. استطعت أن أرى أجزاءً من حدود اليابان والصين، والتي تحدُّ بلونَيها البُني والأخضر الغامضين المحيط بلونَيه الأزرق والرمادي الغامضَين. باتجاه خط الاستواء حيث الهواء أنقى، كان المحيط داكنًا. ثم كانت ثمة دوَّامة صغيرة من الغيوم الساطعة كانت على الأرجح السَّطحَ العُلوي لإعصار. بعدها ظهرت الفلبين وغينيا الجديدة بدقة شديدة. واختفت أستراليا في الطرف الجنوبي المبهَم المَعالم.

كان المشهد من أمامي مُثيرًا على نحوٍ غريب. القلق الشخصي قد طمسَتْه مشاعر الدهشة والإعجاب؛ فما يتمتَّع به كوكبنا من جمالٍ خالصٍ قد أدهشني. لقد كان لؤلؤة عظيمة في سوادٍ لامع. كان مثل درة أو حجر الأوبال الكريم. كلا، لقد كان أجمل بكثير من أيِّ جوهَرة. لقد كانت ألوانُه أكثر رَوعة وأكثر أثيرية. وكان يُعبِّر عن الرقة والبراعة والتعقيد والتناغم الموجودة في الكائن الحي. غريب أنَّني في بُعدي هذا قد بدا لي أنني كنت أشعر، كما لم أشعر من قبل، بالحضور الحيوي للأرض ككائن حي لكنه مُغيَّب ويتوق على نحوٍ مُبهَم للاستيقاظ.

فكرت أنَّ أيًّا من المعالم الظاهرة في هذه الجوهرة السماوية الحيوية لا يكشف عن وجود الإنسان. بعض المراكز الأكثر ازدحامًا بالبشر كانت تتجلَّى أمامي، حتى وإن لم تكن ظاهِرة. وأسفل مني، كانت تقبع مناطق صناعية ضخمة تُسوِّد الهواء بالدخان. بالرغم من ذلك، فكل هذه الحياة المكتظَّة، والمشروعات البشرية الضخمة، لم تترك أيَّ أثر على ملامح الكوكب. فمن هذه الإطلالة المرتفِعة من خارج الأرض، لم يكن شيءٌ ليبدو مختلفًا عما كانت عليه الأرض قبل فجر الإنسانية. ما من ملاك زائر أو مُستكشِف من كوكب آخر كان سيُخمِّن أنَّ هذا الفلك اللطيف مُمتلئ بالآفات والأوبئة، وبوحوشٍ ملائكية بشكل أوَّلي، تُعذِّب أنفسها وتسود العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤