الفصل الحادي عشر

نجوم وأوبئة

(١) المجرات العديدة

كان «اتحاد عوالم المجرَّة» قد سعى إلى تحسين تواصلِه مع المجرات الأخرى. وكانت وسيلة الاتصال الأبسط هي الاتِّصال التخاطُري، غير أنه قد بدا من المرغوب أيضًا أن يكون هناك اتِّصال مادي عبر ذلك الفراغ الهائل الذي يفصل هذه المجرَّة عن التي تليها. وفي المُحاوَلة المتمثِّلة في إرسال مبعوثين في مثل هذه الرحلات، جلب اتحاد العوالم على نفسه وباء النجوم المتفجِّرة.

قبل أن أصف هذه السلسلة من الكوارث، يَنبغي أن أقول شيئًا عن ظروف المجرات الأخرى مثلما عرفناها من خلال المشاركة في تَجربة مجرَّتنا.

لقد أوضح الاستِكشاف التخاطري منذ فترة طويلة وجود عوالم عاقِلة في بعض المجرات الأخرى على الأقل. والآن، بعد تجارِب طويلة، كانت عوالم مجرتنا قد اكتسبَت من خلال عملها لتحقيق هذا الغرض بصفتها عقلًا مجرِّيًّا واحدًا، معرفة في غاية التفصيل عن الكون بأكمله. وقد ثبتَت صعوبة هذا الأمر بسبب ما يتَّسم به التوجُّه الذهني لدى عوالم كل مجرَّة من المجرات من ضيق أفق غير متوقَّع. لم يكن هناك من اختلاف كبير في التركيب الفيزيائي والبيولوجي الأساسي للمَجرات؛ إذ يضم كل منها مجموعة متنوعة من السلالات تَنتمي إلى الأنواع العامة نفسها كالسُّلالات الموجودة في مجرتنا. بالرغم من ذلك، فقد أنتج اتجاه التطور على المستوى الثقافي في كل من مجتمعات المجرات خصوصيات ذهنية هامة غالبًا ما تكون عميقة الترسُّخ حتى إنها تصبح غير متعمدة؛ ولهذا فقد كان من الصعب للغاية على المجرات المتطوِّرة في البداية أن تتواصَل مع بعضها. لقد كانت الثقافة السائدة في مجرتنا هي ثقافة السلالات التكافُلية والتي تطوَّرت في مجرة فرعية سعيدة على نحو استثنائي. وبالرغم من أهوال العصر الإمبريالي، فقد كانت ثقافة مجرتنا تتَّسم بنوع من اللطف جعل من إقامة الاتِّصال التخاطري مع المجرات الأكثر مأساوية أمرًا صعبًا. إضافة إلى ذلك، فقد كانت تفاصيل المفاهيم والقيم الأساسية التي يقبلها مجتمع مجرتنا قد تطوَّرت إلى حدٍّ كبير من الثقافة البحرية التي كانت قد سادَت في المجرَّة الفرعية. وبالرغم من أنَّ شعوب العوالم «القارية» كانت بشرية في الغالب، فقد تأثَّرت ثقافاتها الأصلية تأثرًا عميقًا بالعقلية المحيطية. ونظرًا لندرة هذا النسيج الذهني المحيطي بين المُجتمعات المجرِّية، فقد كانت مجرتنا أكثر انعزالًا من معظم المجرات.

بالرغم من ذلك، فبعد عمل قد تطلب الكثير من الوقت والصبر، نجح مجتمع مجرتنا في عمل مسح مكتمل نسبيًّا للشعب الكوني للمجرات. وقد اكتُشِف في ذلك الوقت أنَّ المجرات العديدة كانت في مراحل مختلفة من التطور الذهني والفيزيائي أيضًا. لم تكن العديد من الأنظمة الحديثة للغاية، والتي كانت المادة السديمية فيها لا تزال أكثر من النجوم، تحتوي على أيِّ كواكب بعد. أما بعض المجرات الأخرى فلم تكن الحياة فيها قد اقتربت من المستوى البشري على الإطلاق بالرغم من وجود عدد قليل من الحبات الحيوية. بعض المجرات الأخرى كانت قاحلة تمامًا من الأنظمة الكوكبية بالرغم من نضجها الفيزيائي؛ وذلك إما بسبب الصدفة المحضة أو بسبب التوزيع المتفرِّق للغاية لنجومها. وفي العديد من بين الملايين من المجرات، تمكَّنَ عالم ذكي واحد من نَشر سلالته وثقافته عبر أنحاء المجرة، مُنظِّمًا المجرة بأكملها مثلما يُنظِّم جنين البيضة في داخله جوهر البيضة بأكمله. تأسست الثقافة في هذه المجرات على نحو طبيعي للغاية، بناءً على الافتراض القائل بأنَّ الكون بأكمله سيُؤهل بالسكان من هذا الجنين الواحد. وحين جرى التوصُّل إلى الاتصال التخاطري مع المجرات الأخرى في نهاية المطاف، كان تأثيره محيرًا للغاية في بادئ الأمر. لم تكن المجرات التي تطوَّر فيها اثنان أو أكثر من هذه الأجنة على نحو مستقل ثم تواصلت معًا في النهاية بالعدد القليل. في بعض الأحيان، كانت النتيجة تتمثل في النظام التكافُلي، وفي بعض الأحيان كان ينتج عن ذلك صراع لا نهائي أو حتى تدمير متبادل. وقد كان النوع الأكثر انتشارًا على الإطلاق من المجتمعات المجرِّية هو ذلك المجتمع الذي تطورت فيه العديد من أنظمة العوالم على نحو مُستقِل، ثم تصارعت معًا، وقتلَ بعضُها بعضًا، ونتج عنها الكثير من الاتحادات والإمبراطوريات، واصطدمت مرةً تلوَ المرة بالفوضى الاجتماعية، وراحت تتصارع بين الفينة والأخرى بشيء من التردد نحو تحقيق الطوباوية المجرِّية. قلَّة منها قد حقَّقت ذلك الهدف بالفعل، غير أنها قد اكتوت بالمرارة. عدد أكبر كان لا يزال في طور التخبُّط، بينما العديد كانت قد قوَّضته الحرب حتى إنه لم تكن هناك من إمكانية كبيرة للتعافي. وقد كانت مجرَّتنا ستَنتمي إلى هذا النوع لولا الحظ الطيب للسلالات التكافُلية.

ينبغي أن أضيف أمرين إلى هذا المسح المجرِّي؛ أولهما: هو وجود أنواع معينة من المجتمعات المجرية المتقدِّمة للغاية التي كانت شاهدًا تخاطريًّا على التاريخ بأكمله في مجرَّتنا وجميع المجرات الأخرى؛ ثانيهما: هو أنَّ النجوم قد بدأت حديثًا في الانفجار وتدمير أطواقها من العوالم في عدد غير قليل من المجرات.

(٢) كارثة في مجرتنا

بينما كان اتحاد العوالم في مجرتنا يحكم رؤيته التخاطرية، ويحسن من بنيته الاجتماعية والمادية في الوقت ذاته، أرغمته الكوارث غير المتوقَّعة التي راقبناها قبل ذلك من بعيد، على الالتزام بمهمة حفظ حيوات العوالم التي يتألَّف منها التزامًا صارمًا.

كانت واقعة الحادثة الأولى هي محاولة لفصل نجم عن مساره الطبيعي وتوجيهه في رحلة عابِرة للمَجرات. كان الاتصال التخاطري مع أقرب المجرات الغريبة جديرًا بالموثوقية إلى حدٍّ ما، غير أنه قد تَقرَّر، مثلما قلت، أنَّ الانتقال المادي بين العوالم سيكون ثمينًا للغاية من أجل الفهم والتعاون المشتركَيْن؛ ومن ثمَّ فقد وُضِعت الخطط من أجل قذف العديد من النجوم بما يَسكنها من أنظمة العوالم عبر محيط الفضاء الشاسع الذي كان يفصل بين الجزيرتَين الطافيتَين للحضارة. لا شك أنَّ الرحلة كانت ستَستغرق آلاف الأضعاف من الوقت الذي استغرقته أيُّ محاولة سابقة. وعند اكتمالها، سيكون العديد من النجوم في كل مجرة قد توقَّفَت عن السطوع بالفعل، وتكون نهاية الحياة في الكون قد لاحت في الأفق بالفعل. بالرغم من ذلك، فقد ساد الشعور بأنَّ مشروع ربط المجرَّة بالأخرى في جميع أنحاء الكون على هذا النحو له ما يُبرِّره بشدة؛ إذ سيُؤدي إلى زيادة عظيمة في التفاهُم المشترك بين المجرات في آخر مراحل الحياة الكونية وأصعبها.

بعد معجزات من التجارب والحسابات، أُجريت المحاولة الأولى للسفر عبر المجرات. استُخدِم نجم قاحل من الكواكب كمستودع للطاقة العادية ودون الذرية أيضًا. ومن خلال أجهزة بارعة يَعجز عقلي عن فهمها عجزًا شديدًا، وُجِّه هذا المخزون من الطاقة بطريقة معينة إلى نجم مختار بأطواق كوكبية، كي يميل به تدريجيًّا في اتجاه المجرة الغريبة. وقد كانت المهمة المعنية بضمان بقاء كواكب هذا النجم في مداراتها الفعلية خلال هذه العَملية وخلال ما يليها من تسارع لشمسها، حساسة للغاية غير أنها أُنجِزت دون تدمير أكثر من اثنَي عشرَ عالمًا. بالرغم من ذلك، فمن سوء الحظ أنه فور توجيه النجم على النحو الصحيح، وبعد أن بدأ في اكتساب سرعته، انفجر. ثمَّة كرة من مادة وهاجة قد تمددت من الشمس بسرعة مذهلة وابتلعت جميع أطواق الكواكب ودمَّرتها. وحينها انحسر النجم.

على مدار تاريخ المجرة، كان السطوع والأفول المفاجئ لأحد النجوم أمرًا شائعًا للغاية. وكان من المعروف أنه يتألف من انفجار للطاقة دون الذرية من الطبقات السطحية للنجم. وقد كان يحدث هذا في بعض الأحيان بسبب تأثير جسم مُتجوِّل صغير لا يَزيد حجمه في معظم الأحوال عن حَجم الكويكب، وأحيانًا بسبب عوامل تتعلَّق بالتطور الفيزيائي للنجم نفسه. وفي كلتا الحالتَين، كان اتحاد عوالم المجرة يستطيع أن يتنبأ بالحدث بدقة كبيرة وأن يتَّخذ خطوات لتغيير اتجاه الجسم المتطفِّل، أو لإبعاد نظام العوالم المهدَّد عن طريق الأذى. غير أنَّ هذه الكارثة المحددة لم تكن متوقعة على الإطلاق، ولم يُعرف لها سبب محدد. وقد أخلَّت بالقوانين الفيزيائية الراسخة.

وبينما كان اتحاد العوالم يُحاول فهم ما قد حدث، انفجر نجم آخر. وقد كان هذا النجم هو شمس أحد أنظمة العوالم الرائدة. كانت المحاولات قد أُجريت حديثًا من أجل زيادة إخراج الإشعاع من هذا النجم، وقد ساد الاعتقاد بأنَّ تلك الكارثة لا بد أنها تتعلَّق بهذه التجارب. وبعد فترة، انفجَرَ المزيد والمزيد من النجوم، مدمِّرةً جميع عوالِمها. وفي العديد من الحالات، كانت المُحاولات قد أُجريت مؤخرًا إما لتغيير مسار النجم أو الانتفاع بطاقته المخزنة.

انتشرت المشكلة، ودُمِّرت العديد من أنظمة العوالم واحدًا تلو الآخر. كانت جميع محاولات التدخل في آليات عمل النجوم قد نُبِذَت الآن، غير أنَّ وباء «المستعرات» قد استمر، بل ازداد. وفي جميع الحالات كان النجم المنفجر شمسًا لنظام كوكبي.

في مرحلة «المُستعِر» المُعتادة، لم يكن الانفجار يحدث نتيجة للاصطِدام بل بفعلِ قوى داخلية، وكان من المعروف أنها تحدُث في مرحلة شباب النجم أو نضوجه المبكِّر، ونادِرًا ما كانت تَحدُث أكثر من مرة في حياة النجم، هذا إن حدثَت على الإطلاق. أما في هذه المرحلة المتأخِّرة من المجرَّة، كان عدد النجوم التي مرَّت بمرحلة «المستعر» الطبيعية يفوق عدد النجوم التي لم تمرَّ بها؛ ومن ثمَّ فقد كان من الممكن نقْل أنظمة بأكملها من العوالم من النجوم الأحدث المُعرَّضة للخطر وتوطينها في مدارات قريبة حول النجوم الأقدم. وبكمية ضخمة من الطاقة، أُجريت هذه العملية مرات عدة. لقد وُضِعت الخطط البطولية لنقل مجتمع المجرَّة بأكمله من خلال الهجرة إلى النجوم الآمنة، وتطبيق القتل الرحيم على باقي شعوب العوالم التي لم يكن من المُمكن استيعابها بتلك الطريقة.

وفي أثناء التنفيذ، فشلت هذه الخطة بسبب حلول سلسلة جديدة من الكوارث. إن النجوم التي انفجَرت بالفعل، قد طوَّرت القدرة على الانفجار مرةً تلوَ الأخرى عند تطويقها بالكواكب. علاوةً على ذلك، بدأ نوع جديد من الكوارث في الحُدوث. لقد بدأت النجوم القديمة للغاية والتي كانت قد تجاوزت الفترة التي يُمكن أن تحدث فيها الانفجارات منذ وقت طويل، تتصرَّف على نحو مُحيِّر؛ إذ تنطلق نفثة من المواد المتوهجة من غلافها الضوئي، ومع دوران النجم تتجه هذه النفثة إلى الخارج على شكل دوامة زاحفة. في بعض الأحيان، كان هذا الشكل الخرطومي المتَّقد يتسبَّب في تكلُّس أسطح جميع الكواكب في جميع المدارات، مما يُؤدِّي إلى قتْل جميع مظاهر الحياة عليها. وفي بعض الحالات، إذا لم يحدث اجتياح هذا الشكْل الخرطومي في مستوى المدارات الكوكبية، كان عدد من الكواكب يتمكَّن من الهروب من التدمير. بالرغم من ذلك، ففي العديد من الحالات التي لم يَحدُث فيها التدمير بالكامل منذ البداية، كان هذا الشكل الخرطومي يتمكَّن تدريجيًّا من الدخول إلى المُستوى الكوكبي بقدر أكبر من الدقة ويُدمِّر ما تبقَّى من العوالم.

وسرعان ما أصبح من الواضح أنه إذا لم يتمَّ كبْح جماح هذَين النوعين من الأنشطة النجمية، فسوف تنتهي الحضارة أو ربما تَندثِر الحياة بأكملها من على المجرة. لم تقدم المعرفة الفلكية أي إشارة لسبب المُشكلة أيًّا كان. كانت نظرية تطور النجوم تبدو مثالية للغاية، غير أنها لم تتضمَّن أيًّا من هذه الأحداث الفريدة. في هذه الأثناء، كان اتحاد العوالم قد انطلَق في مهمَّة التفجير الاصطناعي لجميع النجوم التي لم تمرَّ بمرحلة «المستعر» تلقائيًّا بعد. وقد كان المرجو أن يُؤدِّي هذا إلى جعلها آمنة نسبيًّا، ثم استخدامها مرةً أخرى بصفتها شموسًا. أما الآن وقد أصبحت أنواع النجوم جميعها على الدرجة ذاتها من الخطر، فقد تخلَّى اتحاد العوالم عن هذه المُهمة. وبدلًا من ذلك، وُضِعَت الترتيبات من أجل الحصول على الإشعاع اللازم للحياة من النجوم التي توقَّفَت عن السطوع. إن التفكُّك المحكوم لذراتها سيجعل منها شموسًا مرضية لفترة من الوقت على الأقل. وبالرغم من ذلك، فمن سوء الحظ أنَّ وباء النفثات المتَّقدة كان يزداد بسرعة كبيرة. وراحَت أنظمة العوالم الحية بأكملها تُمحى من الوجود نظامًا تلوَ النظام. وأخيرًا، توصلَتِ الأبحاث المُستميتة إلى طريقة لتحويل مسار المجس المتَّقد بعيدًا عن مستوى مدار الشمس. غير أنَّ هذه العمَلية لم تكن مضمونة على الإطلاق. وإضافةً إلى ذلك، فحتى إذا نجَحَت، فسوف تطلق الشمس نفثة متَّقدة أخرى بعد وقتٍ طالَ أو قَصُر.

كانت حالة المجرة تتغيَّر بسرعة كبيرة. حتى ذلك الوقت، كانت هناك كميةٌ هائلة من الطاقة النجمية، غير أنَّ هذه الطاقة كانت تَهطل الآن كما يهطل المطر من غيمة رعدية. وبالرغم من أنَّ انفجارًا واحدًا لم يكن يُؤثِّر بشدة في قوة النجم، فإنَّ تكرار الانفجارات كان يُصبح أكثر إنهاكًا مع ازديادها في العدد. كانت العديد من النجوم الحديثة تَتداعى إلى الشيخوخة. وكانت الغالبية العُظمى من النجوم قد تجاوزت الآن أوجها؛ فصار الكثير منها محض فحم مضيء أو رماد معتم. العوالم العاقلة كانت هي أيضًا قد تناقَص عددها بدرجة كبيرة؛ إذ بالرغم من جميع إجراءاتها المبتكَرة للدفاع، كانت الأضرار ما تزال جسيمة. وقد كان هذا التناقُص في عدد العوالم هو الأخطر؛ إذ إنَّ اتحاد عوالم المجرَّة كان في أوجه على درجة عالية من التنظيم. لقد كان أشبه بالدماغ منه بالمجتمع في بعض الجوانب. وقد كادت تطمس الكارثة بعضًا من «مراكز الدماغ» العليا، وقللت من فاعلية جميع المراكز بدرجة كبيرة. وقد أعاقت أيضًا بشدة الاتصال التخاطري بين أنظمة العوالم من خلال إرغامها على التركيز على مشكلتها الفيزيائية العاجلة المتمثِّلة في الدفاع ضد الهجمات التي تتعرَّض لها من جانب شمسها. وكان العقل المشترك لاتحاد العوالم قد توقف الآن عن العمل.

التوجه العاطفي للعوالم قد تغيَّر هو أيضًا. اختفَى الحماس تجاه تأسيس الطوباوية الكونية، وتلاشَى معه الحماس لاستكمال مغامَرة الرُّوح من خلال اكتمال المعرفة وإشباع الملَكة الإبداعية. والآن وقد بدا أن لا محيص عن الانقراض خلال فترة قصيرة نسبيًّا، ظهرت إرادة مُتزايدة لملاقاة المصير بسلام ديني. الآن بدت الرغبة في تحقيق الهدف الكوني البعيد الذي كان فيما سبق هو الدافع الأسمى لجميع العوالم المتيقِّظة نوعًا من الترف بل الإثم؛ فكيف للكائنات الضئيلة المتمثِّلة في العوالم المتيقِّظة أن تلمَّ بمعارف الكون بأكمله وبما هو إلهي؟ بدلًا من ذلك، إنَّ عليها أن تؤدِّي دورها في المسرحية وتَحتفي بنهايتها المأساوية بشيء من التجرد والتلذُّذ الإلهي.

وهذه الحالة المزاجية المتمثِّلة في الاستِسلام الجذل، والتي تَليق بكارثة لا مَحيص عنها، قد تغيَّرت سريعًا بفعل اكتشاف جديد. على مدار فترة طويلة، ساد الشك في بعض المناطق بأنَّ هذا النشاط غير المنتظِم للنجوم ليس تلقائيًّا في حقيقة الأمر بل هو عَمدي، وأنَّ النجوم حية في حقيقة الأمر وتُحاول التخلص من آفة الكواكب. بدا هذا الاحتِمال في البداية خياليًّا للغاية، غير أنه قد اتَّضح تدريجيًّا أنَّ تدمير النظام الكوكبي لأحد النجوم هو النهاية التي تُحدِّد فترة النشاط غير المنتظِم. وقد كان من المحتمَل بالطبع أنَّ وجود العديد من الأطواق الكوكبية قد تسبَّب في حدوث الانفجار أو ظهور الطرف المتَّقد، بطريقة آلية محضة وإن كانت غير مفهومة. غير أنَّ الفيزياء الفلكية لم تَستطِع أن تقترح أيَّ آلية قد تؤدي إلى هذه النتيجة. كانت الأبحاث التخاطرية تُجرى الآن من أجل اختبار نظرية الوعي النجمي، وإقامة اتصال مع النجوم العاقلة إن أمكن. كانت هذه المحاولة عقيمة تمامًا في بداية الأمر. لم يكن لدى العوالم أيُّ دراية بالطريقة الصحيحة التي يُمكن الوصول بها إلى عقول، إن كان لها أي وجود على الإطلاق، فستكون مختلفة تمام الاختلاف عن عقولنا. بدا من المحتمَل للغاية أنه لا تُوجد أيُّ عوامل في عقلية العوالم العاقلة ستكون على درجة كافية من الشبه بالعَقلية النَّجمية لتشكيل وسيلة للتواصُل. وبالرغم من أنَّ العوالم قد استخدمت قدراتها التخيُّلية على أفضل نحو مُمكِن لديها، وبالرغم من أنها استكشفت جميع المَمرات والدهاليز الباطنية لعقليتها، إن صح التعبير، وراحت تُصغي في كل مكان أملًا في الحصول على الإجابة، فإنها لم تَستقبِل شيئًا. وبدأت نظرية الغائية النجمة تبدو غير معقولة. ومرة أخرى، بدأت العوالم تتَّجه إلى التعزِّي في القبول، بل الابتهاج به. بالرغم من ذلك، فقد استمر عدد قليل من أنظمة العوالم التي تخصَّصت في الأساليب النفسية، في أبحاثها، واثقةً بأنها إذا تمكنت فقط من التواصُل مع النجوم، فسوف يكون من المُمكِن تحقيق قدر من التفاهُم والاتفاق المُشترَك بين أعظم مرتبتَين عقليتَين في المجرَّة. وأخيرًا، تحقق التواصُل المرتجى مع العقول النجمية. وهو لم يتحقَّق من خلال جهود العوالم العاقلة غير المصحوبة بالمساعدة لمجرَّتنا فحسب، بل تحقَّق جزئيًّا من خلال تأمل مجرة أخرى كانت العوالم والنجوم الموجودة فيها قد بدأ كل منها يُدرك وجود الآخر.

كانت العقلية النَّجمية حتى لعقول العوالم مُكتملة اليقظة غريبةً بدرجة يصعب تصورها. أما بالنسبة إليَّ أنا البشري الضئيل، فكل ما كان مُميزًا فيها قد أصبح الآن عصيًّا جدًّا على الفهم. بالرغم من ذلك، فعليَّ الآن أن أُحاول تلخيص سَمتها الأبسط بأفضل ما أستطيع؛ إذ إنها من الأمور الجوهرية في قصتي. قامت العوالم العاقِلة بأول تواصُل لها مع النجوم التي بلَغَت المستوى الأعلى من الخبرة النجمية، غير أنني لن أتتبع الترتيب الزمني لاستكشافاتها. وعوضًا عن ذلك، سوف أبدأ بعرض سمات الطبيعة النجمية والتي لم يتمَّ التوصُّل إليها إلا على نحو متقطع بعد تواصل كان قد أصبح على درجة جيدة من التأسيس. ولعلَّ الطريقة الأسهل التي يُمكن للقارئ أن يدرك بها شيئًا عن الحياة الذهنية للنجوم هي من خلال التعرف على الطبيعة النجمية الحيوية والفيسيولوجية.

(٣) النجوم

إن أفضل وصفٍ للنجوم هو أنها كائنات حية، لكنها من نوع فيسيولوجي ونفسي عجيب للغاية. تتألَّف الطبقة الخارجية والطبقة الوسطى في النجم الناضج على ما يبدو من «أنسجة» محبوكة من تيارات الغازات المتوهِّجة. وهذه الأنسجة الغازيَّة تعيش وتحافظ على الوعي النجمي من خلال اعتراض جزء من ذلك الفيضان الضخم من الطاقة، والذي يخرج من باطن النجم المحتقن العنيف النشاط. ولا بد أنَّ أعمق الطبقات الحيوية هي شيء شبيه بالجهاز الهَضمي الذي يُحوِّل الإشعاع الخام إلى الأشكال اللازمة للحفاظ على حياة النجم. وخارج المنطقة الهضمية هذه، تَكمُن طبقة تنسيقية يُمكن أن نعدها دماغ النجم. الطبقات الخارجية بما فيها الهالة، تستجيب إلى المحفزات الشديدة الخفوت والتي تصدر عن البيئة الكونية للنَّجم، وإلى ضوء النجوم المُجاوِرة وإلى تأثير الشهب وإلى ضغوطات المد والجزر التي تنجم عن تأثير جاذبية الكواكب أو النجوم الأخرى. لا يُمكن لهذه التأثيرات بالطبع أن تنتج أي انطباع واضح إلا بفضل نسيج غريب من أعضاء الحس الغازيَّة، والتي تميز بينها فيما يتعلق بالنوعية والاتجاه وتنقل هذه المعلومات إلى طبقة «الدماغ» الرابطة.

وبالرغم من أنَّ الخبرة الحسية للنجوم غريبة للغاية علينا، فقد ثبت أنه من الممكن في النهاية فهمها بعض الشيء. لم نجد صعوبة مُفرِطة في الوصول التخاطري إلى الإدراك الحسي للنجم للدغدغات واللمسات والنقرات والشرارات اللطيفة التي كانت تَصل إليه من بيئة المجرَّة. كان من الغريب أنَّه بالرغم من وجود جسم النجم في حالة من السطوع الشديد، فإنَّ هذا الضوء المتدفِّق إلى الخارج لم يكن ذا تأثير على أعضائه الحسية على الإطلاق؛ إذ لم يكن يرى سوى الضوء الخافت الصادر من النجوم الأخرى. وقد كان هذا يُوفِّر للنجم إدراكًا حسيًّا لسماء محيطة تتألَّف من مجموعات نجمية وامضة، والتي لم تكن تقبع في الظلام، بل في ظلام مُصطبِغ بلون الأشعة الكونية الذي لا يُمكن للبشر أن يتخيلوه. كانت النجوم أنفسها تتخذ مظهرًا مُلوَّنًا وفقًا لنمطها وسنِّها. وبالرغم من أنَّ الإدراك الحسي لدى النجوم كان مفهومًا بالنسبة إلينا بعض الشيء، فقد كان الجانب الحركي من الحياة النجمية عصيًّا على فهمنا إلى حدٍّ كبير في البداية. كان علينا أن نُكيِّف أنفسنا على طريقة جديدة تمامًا لرؤية الأحداث الفيزيائية؛ إذ بدا أنَّ النشاط الحركي الإرادي العادي للنجوم لا يختلف على الإطلاق عن حركتها الفيزيائية العادية التي تدرسها علومنا، وهي الحركة المتعلقة بالنجوم الأخرى وبالمجرة ككل. لا بد أن النجم يكون واعيًا على نحو مُبهم بتأثير الجاذبية الخاص بالمجرة بأكملها، وتزداد دقة هذا الوعي فيما يتعلق بقوة «الشد» التي يبذلها عليه جيرانه القريبون منه، بالرغم بالطبع من أنَّ هذا التأثير يكون في معظم الأحيان طفيفًا بدرجة لا تسمح للأدوات البشرية بالكشف عنه. ويستجيب النجم لهذه التأثيرات بالحركة الإرادية، والتي تبدو لعلماء الفلك في العوالم العاقلة الضئيلة على أنها ميكانيكية محضة. بالرغم من ذلك، يشعر النجم دون شك وهو محق في شعوره هذا، بأنَّ هذه الحركة هي تمثيل الإرادة الحرة لطبيعته النفسية الخاصة. كانت تلك على الأقل هي النتيجة التي تكاد لا تُصدَّق والتي فرضت نفسها علينا بناءً على الأبحاث التي أجراها اتحاد عوالم المجرَّة.

من هذا يبدو أنَّ الخبرة المُعتادة لأحد النجوم تتألَّف من إدراكه الحسِّي لبيئته الكونية، إلى جانب تغيُّرات إرادية مُستمرة داخل جسمه وفي موقعه بالنسبة إلى غيره من النجوم. ولا شكَّ بأنَّ هذا التغيُّر في الموقع يتألف بالطبع من الدوران والمرور. يُمكننا إذن أن نتخيَّل الحياة الحركية للنجم على أنها حياة من الرقص أو التزلُّج الفني على الجليد، وهي تُنفَّذ بمهارة فائقة وفقًا لمبدأ مثالي يَنبثق إلى الوعي من أعماق الطبيعة النجمية ويزداد وضوحًا مع نُضجِ عقل النجم.

لا يُمكن للبشر فهم هذا المبدأ المثالي إلا من خلال تجلِّيه العمَلي في المبدأ الفيزيائي المشهور والمعروف باسم «مبدأ الفعل الأدنى» وهو أن يَتبع الجسم المسار الذي تكون فيه لقوة الجاذبية وغيرها من الظروف أقل تأثير مُمكن. أما النجم نفسه، فمن خلال ما له من تأثير على المجال الكهرومغناطيسي للكون، يبدو أنه يرغب في اتخاذ هذا المسار المثالي وينفذ هذه الرغبة بانتباه ودقَّة في الاستجابة لا يَختلفان عما يُمارسه أحد السائقين وهو يشقُّ طريقه بحرص بين حركة المرور على طريق مُتعرِّج، أو إحدى راقصات الباليه وهي تؤدي أكثر الحركات تعقيدًا بأعلى درجات الاقتصاد في المجهود. من شبه المؤكد أنَّ النجم يختبر سلوكه الفيزيائي بأكمله على أنه سعيٌ نحو الجمال الشَّكلي، مُمتلئ بالنعيم والانتشاء ويُكلَّل دائمًا بالنجاح. وقد تمكَّنت العوالم العاقلة من اكتشاف هذا الأمر من خلال خبرتها الجمالية الشكلية. واقع الأمر أنَّ هذه الخبرة هي أول ما مكَّنَها من التواصُل مع العقول النجمية. غير أنَّ الإدراك الفِعلي للصواب الجمالي (أو ربما الديني) للقانون الغامض، والذي تقبَّلتْه النجوم بكل حماس، قد ظل بعيدًا عن النطاق الذهني للعوالم العاقلة. يمكننا أن نقول إنها اضطُرَّت لتَقبله من باب الثقة. من الجليِّ أنَّ هذا القانون الجمالي كان يرمز من ناحية ما، إلى حدسٍ رُوحاني قد ظل محتجبًا عن العوالم العاقِلة.

إنَّ حياة الواحد من النجوم لا تَقتصِر على الحركة الفيزيائية فحسب، بل هي دون شك على نحوٍ ما حياة ثقافية وروحانية. كل نجم يَعي بطريقة ما وجود زملائه من النجوم على أنها كائنات واعية. وهذا الوعي المشترَك حدسي وتخاطُري على الأرجح، وإن كان من المحتمَل أيضًا أنه يحظى بدعم مُستمِر من الاستدلال عن طريق ملاحظة سلوكيات الآخرين. ومن العلاقات النفسية للنجوم، انبثَقَ عالم بأكمله من الخبرات الاجتماعية والذي كان غريبًا للغاية على العوالم العاقِلة حتى إنه يكاد ألَّا يكون هناك ما يُمكن قوله عنها.

ربما يكون هناك سبب للاعتقاد بأن السلوك الحر للنجم الفردي لا يتحدَّد بناءً على القوانين الصارمة للرقص فحسب، بل يتأسَّس أيضًا على الإرادة الاجتماعية للتعاون مع الآخرين. لا شك بأنَّ العلاقة بين النجوم اجتماعية تمامًا. لقد ذكَّرتني بالعلاقة بين العازفين في الفرق الموسيقية الأوركسترالية، لكنها فرقة أوركسترالية تتألَّف من أفراد يتركز كامل اهتمامِهم على المهمَّة المشتركة. من المُحتمَل، وليس من المؤكد، أنَّ كل نجم في أدائه لدَوره لا يكون مدفوعًا بالدافع الجمالي أو الديني الخالص فحسب، بل أيضًا بالرغبة في أن يُوفِّر لشركائه فرصة شرعية للتعبير عن الذات. وإذا كان ذلك صحيحًا، فإنَّ هذا يعني أنَّ النجم لا يختبر حياته على أنها التنفيذ المثالي للجمال الشَّكلي فحسب، بل على أنها أيضًا التعبير المثالي عن الحب. بالرغم من ذلك، فلن يكون من الحكمة أن ينسب للنجوم أي عاطفة أو شعور بالصداقة بأي معانيَ بشرية لهما. إنَّ جُل ما يُمكن قوله باطمئنان، هو أنَّ إنكار وجود عاطفة تجمع الواحدة منها بالأخرى، سيكون أكثر خطأً من تأكيد أنها قادرة على الحب بالفعل. اقترحت الأبحاث التخاطُرية أنَّ خبرة النجوم تختلف في نسيجها قلبًا وقالبًا عن خبرة العوالم العاقِلة. وربما يكون حتى أن يُنسَب لها القدرة على التفكير أو الرغبة في أي شيء، هو نوع من إضفاء السمات البشرية عليها فحسب. بالرغم من ذلك، فلا يُمكن الحديث عن خبرتها بأي مُصطَلحات أخرى.

من شبه المؤكد أنَّ الحياة الذهنية للنجم هي تقدم من العقلية الطفولية المُبهَمة إلى الوعي المميز الذي تتسم به مرحلة النضج. والنجوم بأكملها، حديثة وقديمة، تتسم بعقلية «ملائكية»، بمعنى أنها جميعًا ترغب بحرية وسعادة في «الإرادة الخيِّرة» والتي تتمثَّل في نمط الأفعال الصائبة الذي توصلت له حتى الآن، غير أنَّ النجوم الضخمة قليلة الكثافة، والصغيرة في السن، كانت تبدو بطريقة ما ساذجة من الناحية الروحانية أو طفولية مقارنة بالنجوم المحنكة الأكبر سنًّا، وإن كانت تؤدي دورها في رقصة المجرة على نحو مثالي؛ ولهذا فبالرغم من عدم وجود شيء كالخطيئة بين النجوم، وليس هناك اختيار مُتعمَّد للمسار المعروف بأنه خطأ من أجل تحقيق غاية معروف أنها غير ملائمة، فهناك الجهل وما ينتج عنه من الانحراف عن النمط المثالي مثلما يتجلَّى للنجوم التي تتَّسم بعقلية أكثر نُضجًا بعض الشيء. غير أنَّ الطبقة الأكثر تيقظًا من النجوم كانت على ما يبدو تتقبَّل هذا الانحراف من جانب الصغار؛ إذ كانت ترى أنَّه هو نفسه من العوامل المرغوبة في نمط الرقص في المجرة. ومن وجهة نظر العلوم الطبيعية كما تعرفها العوالم العاقِلة، فإنَّ سلوك النجوم الصغيرة السن يكون على الدوام بالطبع تعبيرًا دقيقًا عن طبيعتها الشابة، ويكون سلوك النجوم الأكبر سنًّا تعبيرًا عن طبيعتها أيضًا. بالرغم من ذلك، فمن أكثر ما يُثير الدهشة أنَّ الطبيعة الفيزيائية للنجم في أيِّ مرحلة من مراحل نموه، تكون بصفة جزئية تعبيرًا عن التأثير التخاطُري لغيره من النجوم. لا يُمكن قط الكشف عن هذه الحقيقة من خلال الفيزياء المحضة في أي عصر من العصور؛ إذ يقوم العلماء عن جهل باشتقاق القوانين الفيزيائية الاستقرائية المتعلِّقة بالتطور النجمي من بيانات تعد في حد ذاتها تعبيرًا ليس عن التأثيرات الفيزيائية المعتادة فحسب، بل أيضًا عن التأثيرات الفيزيائية غير المعروفة لنجم على آخر.

في العصور المبكِّرة من الكون، اضطرَّ «الجيل» الأول من النجوم إلى أن يجد طريقه من الطفولة إلى النضج دون مساعدة، أما «الأجيال» اللاحقة فقد أرشدتها خبرة النجوم الأكبر سنًّا، كي يتسنى لها المرور بسرعة أكبر وعلى نحو شامل أكثر من مرحلة إبهام الوعي إلى صفائه فيما يتعلَّق بطبيعتها الروحانية، وللكون الروحاني الذي كانت تسكنُه. ومن المرجَّح للغاية أنَّ آخر النجوم التي تكثفت من السديم البدائي، قد تقدمت (أو سوف تتقدم) بسرعة أكبر من تلك التي تقدمت بها سابقاتها، وقد كان الاعتقاد السائد لدى المضيف النجمي أنَّه في الموعد المناسب، حين تكون النجوم الحديثة قد بلغت مرحلة النضج، فإنها سوف تتفوق على أرقى الرُّؤى الرُّوحانية التي توصلت إليها النجوم الأكبر سنًّا منها. ثمة سبب وجيه للقول بأنَّ الرغبتَين المهيمنتَين لدى كل النجوم هما الرغبة في أداء دورها في الرقصة المشتركة على نحو مثالي، والرغبة في السعي إلى الأمام من أجل الوصول إلى الرؤية الكاملة بشأن طبيعة الكون. كانت الرغبة الأخيرة هي أكثر ما تمكَّنت العوالم العاقلة من فهمه في العقلية النجمية. تحدث الذروة في حياة النجم حين يكون قد مرَّ بالمرحلة الطويلة من الشباب، والتي يُسميه علماء الفلك من البشر خلالها ﺑ «العملاق الأحمر». وقرب نهاية هذه المرحلة، يتضاءَل النجم بسرعة إلى حالة القزم التي تمرُّ بها شمسنا الآن. ويبدو أنَّ التغير الفيزيائي العنيف هذا يأتي مصحوبًا بتغيرات ذهنية بعيدة الأثر؛ ومن ثمَّ بالرغم من أنَّ النجم يؤدِّي دورًا أقل جاذبية في إيقاعات الرقص في المجرة، فإنه على الأرجح يُصبح واعيًا على نحو أوضح وأعمق. إنه يُصبِح أقل اهتمامًا بشعائر الرقص النجمي، وأكثر اهتمامًا بدلالته الروحية المفترضة. وبعد هذه المرحلة الطويلة جدًّا من النضج الفيزيائي، تأتي أزمة أخرى. يتضاءل النجم إلى الحالة المتناهية الدقة والكثافة والتي يدعوها علماؤنا الفلكيُّون باسم «القزم الأبيض». بدا في أبحاث العوالم العاقلة أنَّ عقلية النجم خلال الأزمة الفعلية منيعة لا يُمكن النفاذ إليها. بدا أنها أزمة من اليأس والأمل المعاد توجيهه؛ ومن ثمَّ فقد كان عقل النجم يطرح على نحو متزايد نوعًا مربكًا وحتى مُخيفًا من السلبية؛ انعزالًا باردًا وحتى تشاؤميًّا، وهو ما شكَكنا بأنه ليس سوى رهبة من نشوة مَخفية عنا. وأيًّا كان كُنْه الأمر، يُواصِل النَّجم المُسنُّ أداء دوره في الرقصة بدقة، لكنَّ مزاجه يتغير على نحوٍ عميق. إنَّ ولع الشباب بالنواحي الجمالية، وإرادة النُّضج الأكثر هدوءًا والمتَّقدة في الوقت ذاته، وما تشهده مرحلة النُّضج من تفانٍ في السعي النشط نحو الحكمة، كل ذلك يتلاشى الآن. ربما يكون النجم قد أصبح راضيًا في ذلك الوقت عن إنجازه، كما هو عليه، ولا يَبغي سوى الاستمتاع بالكون المحيط بهذه الحالة من التجرُّد والرُّؤى التي توصَّل إليها. ربما يكون هذا هو الوضع، لكنَّ العوالم العاقلة لم تَستطِع الجزم بما إذا كان العقل النَّجمي المسن يتجاوَز فهمها نتيجةً لتفوق إنجازه، أم عن اضطراب مُبهَم في الرُّوح. يظل النجم في هذه الحالة من التقدم في السن لفترة طويلة جدًّا، يفقد خلالها طاقته تدريجيًّا وينسحب ذهنيًّا إلى داخل ذاته، إلى أن يغرق في غيبوبة مُستغلَقة من الشيخوخة. وأخيرًا ينطفئ نوره وتتحلَّل أنسجته إلى الموت. ومنذ ذلك الوقت يستمر في الانسياب في أنحاء الفضاء، غير أنه يفعل ذلك على نحو غير واعٍ يراه زملاؤه الواعون كريهًا.

ذلك الوصف التقريبي للغاية، سيَبدو أنه وصف للحياة العادية للنجم الاعتيادي، غير أنه تُوجد تنويعات عديدة داخل النوع العام. إنَّ النجوم تَختلف في حجمها الأصلي وفي التركيب، ومن المحتمَل أنها تَختلف أيضًا في تأثيرها النفسي على جيرانها. ومن أكثر الأنواع الغريبة انتشارًا، هو نوع النجم المزدوج الذي يتألَّف من كرتين عظيمتين من النيران تتراقصان معًا في الفضاء، وتقتربان من التلامس في بعض الأحيان. وكجميع العلاقات بين النجوم، تكون هذه الشراكات مثالية وملائكية. بالرغم من ذلك، فمِن المحال أن نجزم بما إذا كان أفرادها يختبرون أي شيء قد يُدعى عن وجه حق، مشاعر الحب الشخصي، أو ما إذا كان ينظر أحدهما إلى الآخر باعتباره شريكًا لأداء مهمَّة مشتركة فحسب. لقد أوضحت الأبحاث بكل تأكيد أنَّ الكائنَين يتحرَّكان في مساريهما الملتفَّين في حالة من السرور المشترك، والسعادة بالتعاون الوثيق في تدابير المجرة، لكن هل هناك مشاعر حب فيما بينهما؟ محال أن نجزم بذلك. في الوقت المناسب، ومع فقدان الزخم، يتلامس النجمان بالفعل. ثم فيما يبدو على أنه وهج مُوجِع من الألم والفرح، يَندمِجان. وبعد فترة من غياب الوعي، يَنتج النجم الجديد الكبير أنسجة حية جديدة، ويتَّخذ مكانه بين الصحبة الملائكية. وقد ثبت أنَّ النجوم المتغيِّرة «القيفاوية» الغريبة هي الأكثر إرباكًا من بين جميع أنواع النجوم؛ إذ يبدو أنَّ هذه النجوم هي وغيرها من النجوم المتغيِّرة الأخرى التي تعيش على مدار فترة أطول كثيرًا، تتبدَّل ذهنيًّا بين الحماس والهدوء، في تناغُم مع إيقاعها الفيزيائي. أما ما يتعدَّى ذلك، فهو مما لا يُمكننا الجزم به على الإطلاق.

ثمة حدث واحد لا يقع إلا لأقلية صغيرة من النجوم في مسار حياة الرقص التي تعيشها، يتمتَّع بأهمية نفسية كبيرة على ما يبدو. وهو يتمثَّل في الاقتراب الشديد لنجمَين أو ربما ثلاثة بعضها من بعض، وما يَتبع ذلك من قذف للشرر من أحدها تجاه الآخر. في هذه اللحظة الشبيهة ﺑ «قُبلة الفَرَاشة» هذه، وقبل تفكُّك الشرر وميلاد الكواكب، فإنَّ كل نجم يَختبر على الأرجح شعورًا بانتشاء مادي شديد القوة لكن يَعجز البشر عن فهمِه. ويَبدو أنَّ النجوم التي تمرُّ بهذه التجربة يُفترض أنها تكتسب إدراكًا واضحًا بدرجة فريدة لاتِّحاد الرُّوح والجسد. أما النجوم «البِكر» فبالرَّغم من أنها لم تَنعم بهذه المغامَرة الرائعة، فلا يبدو أنها ترغَب في الإخلال بقوانين الرَّقص المقدَّسة من أجل تدبير فرص لمثْل هذه اللقاءات. كل منها يتمتَّع برضا ملائكي فيما يتعلَّق بأداء دوره المُخصَّص، ومُشاهَدة انتشاء هذه النجوم التي فضَّلها القدر. لا شك بأنَّ وصْف عقلية النجوم هو وصفُ ما لا يُمكن فهمه باستخدام الاستعارات البشرية التي يُمكن فهمها لكنها تُزيِّف الحقيقة. وتتَّخذ هذه النزعة أهمية كبيرة في وصف العلاقات الدرامية بين النجوم وبين العوالم العاقِلة؛ إذ يبدو أنَّه تحت تأثير هذه العلاقات، اختبرت النجوم للمرة الأولى مشاعر تُشبه المشاعر البشرية على نحو سطحي. وما دام المجتمع النجمي كان محصنًا من تدخل العوالم العاقِلة، ظل كل فرد فيه يتصرف باستقامة تامة ويحظى بنعيم تام في التعبير المثالي عن طبيعته وعن الرُّوح المشتركة. حتى الشيخوخة والموت كانا يُقبِلان بهدوء؛ إذ كانت جميع النجوم ترى أنهما جوهريان في نمط الوجود، وما كان يَرغب فيه كلُّ نجم، لم يكن الخلود لا لنفسه ولا للمجتمع، بل التحقق المثالي للطبيعة النجمية. غير أنه في النهاية حين بدأت العوالم العاقلة من كواكبها في أن تتدخَّل على نحو ملحوظ في طاقة النجوم وحركتها، دخل على الأرجح إلى خبرات النجوم شيء جديد وفظيع وعلى درجة كبيرة من الإبهام والتعقيد. وجدت النجوم المصابة نفسها في صراع عقلي مشتِّت. فلسبب لم تَستطع تحديده وجدت نفسها تخطئ، بل وجدَت أنها ترغب في أن تُخطئ. لقد أذنبت في واقع الأمر. وبالرغم من أنها كانت ما تزال تعشق الصواب، كانت تختار الخطأ.

قلت إنَّ الخطب لم يكن مسبوقًا، غير أنَّ ذلك ليس صحيحًا تمامًا. يبدو أنَّ شيئًا لا يختلف كليًّا عن ذلك الخزي العام قد حدث في الخبرة الخصوصية تقريبًا لكل نجم من النجوم. غير أنَّ كل مَن كان يعاني قد نجح في الاحتفاظ بخزيه سرًّا إلى أن يُصبِح محتملًا مع الاعتياد أو ينجح النجم في التغلب على مصدره. وقد كان من المُدهِش بالطبع أن نجد كائنات تختلف طبيعتها للغاية في العديد من الجوانب عن الطبيعة البشرية ولا يُمكن فهمها، تشبه «البشر» بدرجة صارخة في هذا الجانب على الأقل.

في الطبقات الخارجية للنجوم الصغيرة السن، دائمًا ما تظهر كائنات دقيقة مستقلة من النيران، وهي لا تظهر على النحو المُعتاد فحسب، بل تظهر أيضًا على شكل طفيليات. ولا يزيد حجم هذه الكائنات في معظم الأحيان عن حجم غيمة في الهواء الأرضي، لكنها تبلغ حجم الأرض نفسها في بعض الأحيان. تتغذَّى هذه «السمادل» على الطاقات المتدفِّقة من النجم مثلما تتغذَّى عليها أنسجة النجم الأساسية نفسها، أو تتغذى ببساطة على هذه الأنسجة مباشرة. وككل مكان آخر، تَنطبِق قوانين التطور البيولوجي هنا أيضًا، وقد تظهر بمرور الوقت سلالات من الكائنات الذكية الشبيهة باللهب. وحتى مع عدم وصول الحياة السمدلية إلى هذا المستوى، كان من الممكن أن يبدو أثرها على أنسجة النجم على هيئة مرض في البشرة وأعضاء الحس أو حتى في الأنسجة الأعمق خاصتها. يبدأ النجم بعد ذلك في اختبار مشاعر لا تَختلف عن المشاعر البشرية من الخِزي والذعر، وبقلق وصبغة شديدة الشبه بالطبيعة البشرية، يُخفي سره عن المتناول التخاطري لرفاقه.

لم تتمكَّن السلالات السمدلية على الإطلاق من سيادة عوالمها المتَّقدة باللهب. إن العديد منها كان يخضع بعد وقتٍ طال أو قَصُر إما إلى كارثة طبيعية أو إلى صراع داخلي ضَروس أو إلى أنشطة التطهير الذاتي التي يقوم بها مضيفها القوي. على الجانب الآخر، كان ينجو البعض منها، لكن يتسبَّب في حالة أقل خطرًا نسبيًّا؛ فلا يزعج النجوم إلا بتهيج خفيف ومسحة طفيفة من عدم الصدق في جميع تعاملاتها بعضها مع بعض. كانت الثقافة العامة للنجوم تتجاهَل الآفة السمدلية تمامًا. لقد كان كل نجم يعتقد أنه هو وحده مَن يعاني وأنه الآثم الوحيد في المجرة. وقد كان للآفة تأثير واحد غير مباشر على التفكير النجمي، وهو أنها قدمت له فكرة النقاء؛ فقد صار كلُّ نجم يُعلي من قيمة مثالية المجتمع النجمي بدرجة أكبر بسبب شعوره السري بعدم النقاء.

حين بدأت الكواكب العاقلة تتلاعَب بالطاقة النَّجمية وبالمدارات النجمية على نحوٍ خطير، لم تكن النتيجة خزيًا خاصًّا، بل فضيحة علَنية. لقد صار من الواضح لدى جميع المُلاحِظين أنَّ الجاني قد انتهك قوانين الرقص. قوبِلَت الاضطرابات الأولى بالارتباك والرعب. وانتشر بين جموع النجوم البكر أنه إذا كانت نتيجة الصلات بين النجوم، والتي هي مُقدَّرة بشدة والتي انبثقت منها الكواكب الطبيعية، هي هذا الشذوذ المُخزي، فربما كانت التجربة الأصلية نفسها آثمة إذن. اعترضَت النجوم المخطئة بأنها ليست آثمة وإنما ضحية لتأثير مجهول من الحبات التي تدور حولها. غير أنها كانت تشكُّ بنفسها سرًّا. أيُمكِن أن تكون منذ زمن بعيد، في نشوة اجتياح نجم لنَجم آخر، قد انتهكت في نهاية الأمر قانون الرقص؟ وقد اعتقدت أيضًا أنها كانت تستطيع أن تفعل شيئًا بخصوص هذه الانحرافات التي كانت تخلق الآن هذه الفضيحة العلنية، كانت تستطيع إذا أصرت على رغبتها بالدرجة الكافية، أن تتمالك نفسها وتُحافظ على مساراتها الحقيقية بالرغم من المهيجات التي أثرت فيها.

في هذه الأثناء، زادَت قوة العوالم العاقلة. وراحت بجرأة توجِّه الشموس لتناسب أغراضها. وقد بدا للشعب النجمي بالطبع أنَّ هذه النجوم المخطئة مجاذيب خطرين. حلت الأزمة مثلما قلت بالفعل، حين قذفت العوالم بأول رسول لها باتجاه المجرَّة المُجاوِرة. ارتعب النجم المندفع من سلوكه الجنوني؛ فانتقم بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. لقد انفجر إلى حالة «المستعر» ونجح في تدمير كواكبه. من وجهة النظر النجمية التقليدية، كان هذا التصرف إثمًا عظيمًا؛ إذ كان تدخلًا أثيمًا في النظام الإلهي المعد لحياة النجوم. بالرغم من ذلك، فقد كان يُحقِّق الغاية المطلوبة، وسرعان ما تبنَّتْه النجوم اليائسة الأخرى. أتى من بعد ذلك عصر الهلع الذي قد وصفته من قبل من وجهة نظر اتحاد العوالم. ولم يكن الأمر بأقل بشاعة من وجهة النظر النجمية؛ فسرعان ما صارت حالة المجتمع النجمي ميئوسًا منها. لقد ضاع ما كان في الأيام الخوالي من مثالية وسعادة. وتفكَّكت «مدينة الإله» وتحولت إلى مكان للكراهية وتبادل الاتهامات واليأس. وصارت حشود النجوم الحديثة السن أقزامًا مبتسرة حانقة، بينما أُصيب معظم الكبار بالخرف. تحوَّل نمط الرقص إلى الفوضى. ظل الشغف القديم تجاه قوانين الرقص موجودًا، غير أنَّ مفهومها كان ضبابيًّا. أذعَنت لحياة الرُّوحانية إلى الضرورة المتمثِّلة في الإجراءات العاجلة. ظل الشغف بتكوين رُؤًى بشأن طبيعة الكون قائمًا أيضًا، غير أنَّ الرُّؤى نفسها قد صارت ضبابية. علاوةً على ذلك، تلاشى الشعور الساذج السابق بالثقة الذي كان يشعر به الصغار والناضجون على حدٍّ سواء، ذلك اليقين بأنَّ الكون مثالي وأنَّ القوة التي تكمن خلفه هي قوة فاضلة، وحلَّ محلَّه اليأس.

(٤) التكافل المجرِّي

كانت تلك هي حالة الأمور حين حاولت العوالم العاقلة للمرة الأولى أن تقوم باتصال تخاطري مع النجوم العاقلة. ولستُ في حاجة لأن أروي المراحل التي تطور مجرد الاتصال من خلالها إلى نوع مُتزعزِع وواهٍ من التواصل. لا بد أنَّ النجوم قد بدأت تدرك بمرور الوقت أنها ليسَت في مُواجَهة مع قوى فيزيائية فحسب، ولا هيَ في مواجهة مع شياطين بعد، بل هي في مواجهة مع كائنات، بالرغم مما يكمن في طبيعتها من غرابة شديدة، تتشابه في صميمها مع طبيعتها النجمية. شعر بحثنا التخاطري على نحو غامض بالدهشة التي انتشَرت بين الشعب النجمي. وبدا أنه انبثق منها تدريجيًّا رأيان أو سياستان أو حزبان.

كان أحد هذَين الحزبَين مُقتنعًا بأنَّ الكواكب العاقلة مخادعة بالتأكيد، وأنَّ الكائنات التي يتجسَّد تاريخها في الإثم والصراع والقتل لا بد وأن تكون شيطانية الجوهر، وأنَّ التفاوض معها سيُؤدِّي إلى كارثة. وقد حثَّ هذا الحزب والذي كان يمثل الأغلبية في البداية، على مواصلة الحرب إلى أن يتم تدمير كل الكواكب.

أما الحزب الذي كان يُمثِّل الأقلية فقد كان يطالب بالسلام. وأكد أنَّ الكواكب كانت تسعى بطريقتها الخاصة إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه النجوم. لقد اقترح أيضًا أنَّ هذه الكائنات الدقيقة بخبرتها الأكثر تنوعًا وطول عهدها في التعامل مع الشر، يُمكِن أن تتمتَّع ببعض الرؤى التي تفتقر إليها النجوم، تلك الملائكة الساقطة. ألا يُمكن أن يخلق هذان النوعان من الكائنات معًا مجتمعًا تكافليًّا مجيدًا، ويُحقِّقا معًا تلك الغاية الأعز لديهما، وهي اليقظة الكاملة للروح؟ مرَّ وقت طويل إلى أن استمعت الأغلبية إلى هذا الرأي. استمر الدمار وأُهدِرت الطاقات الثمينة الموجودة في المجرة. ودُمِّرت أنظمة العوالم الواحد تلو الآخر. سقط النجم تلوَ الآخَر في هُوَّةِ الفناء والسبات. في هذه الأثناء، تبنَّى اتحاد العوالم موقفًا سلميًّا؛ فما عاد يستغل الطاقة النجمية أو يُغيِّر المدارات النجمية أو يفجر النجوم على نحوٍ اصطِناعي.

بدأ الرأي النجمي في التغير. هدأت حملة الإبادة وتمَّ التخلِّي عنها. تلا ذلك فترة من «الانعزالية» تركت فيها النجوم، التي قد عزمَت على جمع شتات مجتمعها المبعثر، أعداءها السابقين بمفردهم. وتدريجيًّا، بدأت محاولة تدريجية للمؤاخاة بين الكواكب وشموسِها. وبالرغم من أنَّ كلا النوعين من الكائنات كان كلٌّ منهما مختلفًا للغاية عن الآخر، حتى إنهما لم يتمكَّنا من فهم السمات المميِّزة لكلٍّ منهما على الإطلاق؛ فقد كانا يتمتعان بدرجة عالية من صفاء الوعي تقيهما من الانخراط في العواطف القبلية المحضة. لقد قرَّرا التغلب على جميع المعوقات وأن يَدخُلا إلى نوع جديد من الاتحاد. وسرعان ما أصبحت رغبة كل نجم هي أن يُطوَّق بالكواكب الاصطناعية وأن يدخل في نوع من شراكة «الاتحاد النفسي» مع رفاقه الذين يُطوِّقونه؛ إذ كان قد اتضح الآن للنجوم أنَّ «الآفات» كان لديها الكثير الذي يُمكِن أن تُعطيه إياها. كانت خبرة كل من نوعي الكائنات مُكمِّلة لخبرة الآخر من نواحٍ عديدة. كانت النجوم ما تَزال تَحتفِظ بفحوى الحكمة الملائكية التي بلغتْها في عصرها الذهبي. في حين برعت الكواكب في الجانب التحليلي والمجهري وفي الإحسان الذي اكتسبته من معرفتها بأسلافها الضعاف الذين اختبروا المعاناة. علاوةً على ذلك، كانت النجوم في أشد حالات الحيرة من قدرة رفاقها الضئيلة على أن يتقبَّلوا كونًا من الواضح أنَّه مُمتلئ بالشر، ليس باستِسلامٍ فحسب، بل ببهجة أيضًا.

في الوقت المناسب، ضمَّ المجتمع التكافلي من النجوم والأنظمة الكوكبية المجرة بأكملها. غير أنه كان مجتمعًا جريحًا في بداية الأمر، وصارت المجرة مسلوبة الخصوبة إلى الأبد. لم يتبقَّ من ملايين الملايين من النجوم الموجودة فيها، سوى قلة فقط هي التي لا تزال في أوجها. صارت جميع الشموس الممكنة مطوقة بالكواكب. وحُفِّزت العديد من النجوم الميتة على تفكيك ذراتها لبناء شموس اصطناعية. واستُخدِم العديد غيرها على نحو أكثر اقتصادية. وتمت تربية سلالات خاصة من الكائنات الذكية أو صُنِّعت لكي تسكن أسطح هذه العوالم العظيمة. وبعد فترة قصيرة، صارت النجوم التي انفجرت من قبل تعجُّ بشعوبٍ تنتمي إلى عدد لا يُحصى من الأنواع والتي قد أنشأت حضارة صارمة. عاشت هذه الشعوب على طاقة البراكين الموجودة في عوالِمها الضخمة. راحت الكائنات الدقيقة المصمَّمة بالطرق الاصطناعية، والشبيهة بالديدان تزحف بدأبٍ على السهول حيث لم تكن الجاذبية الشديدة تسمح حتى لحجر بأن يرتفع عن المستوى العام. لقد كانت الجاذبية عنيفةً للغاية بالتأكيد، حتى إنَّ الأجساد الصغيرة لهذه الديدان كان من الممكن أن تتمزَّق عند سقوطها لمسافة نصف بوصة فحسب. وفيما عدا الإضاءة الاصطناعية، عاش سكان العوالم النجمية في ظلام أبدي لا يُخفِّف منه سوى ضوء النجوم، ووهج الثورانات البركانية والوميض الفسفوري المنبعث من أجسادها. قادتها حفاراتها تحت الأرضية إلى مراكز البناء الضوئي الشاسعة التي حوَّلت الطاقة الحبيسة داخل النجوم إلى استخدامات الحياة والعقل. لم يكن الذكاء في هذه العوالم الضخمة خاصية الأفراد المُنفصلين بالتأكيد، بل خاصية الحشود العاقِلة. وكما هي الحال لدى السلالة الحشرية، حين كانت هذه الكائنات الضئيلة تنفصل عن الحشد، تُصبِح حيوانات غريزية فحسب، لا تدفعها سوى رغبتها العارمة في العودة إلى الحشد.

لم تكن الحاجة إلى إعمار النجوم الميتة بالسكان لتنشأ لولا أنَّ الحرب قد قلصت على نحو خطير من عدد الكواكب العاقلة وعدد الشموس التي يُمكن أن تضمَّ أنظمة كوكبية جديدة إلى الحد الأدنى اللازم لتوفير حياة مُشترَكة بكامل تنوعها. لقد كان اتحاد العوالم وحدة منظمة بدقة كان لكل عنصر فيها وظيفته الخاصة، ولمَّا لم يكن من المُمكن إعادة العوالم المفقودة، فقد كان من الضروري إنتاج عوالم جديدة لتُعيض عنها في تأدية الوظائف، وإن كان ذلك بدرجة تقريبية على الأقل.

وتدريجيًّا تغلَّب المجتمع التكافلي على الصعوبات الضخمة التي واجهها في إعادة التنظيم وبدأ يوجه انتباهه إلى السعي نحو تلك الغاية التي هي الغاية النهائية لجميع العقول اليَقِظة، وهي الهدف الذي تُناصره حتمًا وبكل سرور لأنه كامن في طبيعتها الجوهرية. ومنذ ذلك الوقت، منح المجتمع التكافلي كامل انتباهه وأفضله إلى تحقيق أعلى درجة من يقظة الروح.

غير أنَّ هذه الغاية التي كانت الصحبة الملائكية من النجوم واتحاد العوالم الطموح يأملان في تحقيقها في الماضي على مستوى الكون بأكمله لا على مستوى المجرة فحسب، قد بدأت تقلُّ أهميتها. لقد أدركت النجوم والعوالم أنَّ الحشد الكوني من المجرات يقترب من نهايته، لا المجرة الأم لهما وحدها. إن الطاقة الفيزيائية التي كانت تُرى من قبل على أنها مخزون لا يَنضب، صار توفُّرها يقلُّ للحفاظ على الحياة. لقد كانت على نحو مُتزايد تُوزِّع نفسها بالتساوي على الكون بأكمله. ولم تتمكَّن الكائنات العاقلة من كبح نقصانها إلا بين الحين والآخر وبصعوبة. وسرعان ما سيتحول الكون إلى الشيخوخة الفيزيائية؛ لذا كان لا بد من التخلِّي عن جميع الخطط الطموحة. لم يعد أمر السفر المادي بين المجرات مطروحًا؛ فتلك المشروعات سوف تَستهلك الكثير من القدر الضئيل الذي تبقَّى من الثروة بعد إسراف الدهور السابقة. تخلَّت العوالم أيضًا عن التنقل غير الضروري داخل المجرة نفسها. وظلت العوالم على مقربة من شموسها، وراحت الشموس تَبرُد على نحو مُستمر، وكلما زادت برودتها، قلصت العوالم التي تدور حولها من مداراتها للحصول على الدفء.

وبالرغم من الفقر الفيزيائي للمجرة، فقد كانت طوباوية من نَواحيَ عدة. كان المجتمع التكافلي المؤلف من النجوم والعوالم يعيش في تناغُم مثالي. صار الصراع بين النوعين ذكرى من الماضي البعيد، وأصبح ولاؤهما بالكامل للهدف المشترك. لقد عاشا حياتهما الخاصة في تعاون حيوي وخلافات ودية ومنفعة متبادلة. وقام كلٌّ بدوره في استكشاف الكون وفهمه وفقًا لقدراته. كانت النجوم الآن تحتضر بسرعة أكبر مما كانت تفعل من قبل؛ إذ أصبح الجمع الكبير من النجوم الناضجة حشدًا من الأقزام البيضاء العُجُز. وعند موتها، كانت تهبُ أجسادها لخدمة المجتمع، لاستخدامها كمُستودَعات للطاقة دون الذَّرية، أو كشموس صناعية أو حتى عوالم مأهولة بالشعوب الذكية من الديدان. صارت العديد من الأنظمة الكوكبية تتمركَز الآن حول شموس صناعية. كان هذا البديل كافيًا من الناحية المادية، غير أنَّ الكائنات التي صارت تَعتمِد ذهنيًّا على الشراكة مع نجم حي كانت تَنظر إلى الشموس الصناعية التي هي أفران فحسب، بقنوط ويأس. ولمَّا كانت الكواكب تتوقَّع تبدُّد النظام التكافُلي على مستوى المجرَّة، فقد راحت تبذُل كلَّ ما في وسعها كي تَستوعِب الحكمة الملائكية للنجوم. بالرغم من ذلك، فبعد بضعة دهور فحسب، اضطُرَّت الكواكب نفسها إلى أن تبدأ في تقليص عددها. لم يَعُد بإمكان العوالم الكثيرة أن تحتشد على مقربة كافية من شموسها الآخذة في البرودة. وسرعان ما ستبدأ القوة الذهنية للمجرَّة في الذبول لا محالة، بعد أن كانت قد تمكَّنت حتى الآن من الحفاظ على وجودها في أعلى المستويات.

غير أنَّ مزاج المجرة لم يكن حزينًا، بل مُبتهجًا. كان التكافل قد حسَّن من فن التبادل التخاطري بدرجة كبيرة، وأخيرًا صارت أنواع الروح المتعدِّدة التي تؤلف مجتمع المجرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا في الرؤية المشتركة؛ فانبثَقَ من تنوعها المتناغم عقل حقيقي للمجرة تفوَّق مستواه الذهني على عقل النجوم والعوالم بالدرجة التي تفوق بها عقل هذين النوعين على عقل الأفراد منهما.

أما عقل المجرة، والذي لم يكن سوى عقل كل فرد من النجوم والعوالم والكائنات الدقيقة التي تسكنها، والذي تمتع من كل هذا بالثراء واليقظة إلى مستوى أرقى من البصيرة، فقد رأى أن لم يتبقَّ لديه سوى وقتٍ قصير يعيشه. وإذ راح ينظر إلى الماضي ويُراجع تاريخ المجرَّة عبر العصور، وعبر الآفاق الزمنية المكتظة بالشعوب المتعاونة المتنوعة، رأى أنه هو نفسه نتاج عدد لا يُحصى من الصراعات والأحزان والآمال الخائبة. وقد واجه جميع الأرواح المعذبة في الماضي بابتسامة الرضا، لا بالشفقة ولا بالندم، فكان شعوره في ذلك شبيهًا بما قد يشعر به المرء تجاه محن طفولته. وقد قال داخل عقل كل فرد من أفراده: «إنَّ شقاءها الذي بدا لها شرًّا عقيمًا هو الثمن الضئيل لمستقبلي الآتي. صائب وعذب وجميل هو الكيان الذي تحدُث فيه هذه الأشياء؛ فأنا الفردوس الذي يجد فيه جميع أسلافي على اختلافهم الثواب، وتتحقق فيه رغبة قلوبهم. وفي الوقت القليل الذي يتبقى لي، سأسعى أنا وجميع رفاقي في الكون بأكمله لكي نتوج الكون بالرؤية المثالية البهيجة، ونُسبِّح صانع المجرات والنجوم والعوالم بما يليق به من حمد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤