الفصل الحادي عشر

مصر منذ عهد الأتراك العثمانيين إلى فجر القرن الثالث عشر للهجرة

بعد أن استولى السلطان سليم العثماني على مصر أخذ يجمع الأسلاب، ويقال إنه قد حمل معه إلى الأستانة ألف جمل محملة ذهبًا وفضة ونفائس وكتب، بعد أن فوض القاهرة إلى خاير بك أحد المماليك، وكان قد انحاز إليه ضد «قانصوه» في معركة «مرج دابق» كما أبقى في القلعة واليًا تركيًّا، واستصحب معه الخليفة المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة، وجمعًا غفيرًا من أبناء السلاطين والأمراء والعلماء والصناع، حتى انحطت القاهرة من الوجهة العلمية والصناعية انحطاطًا ظاهرًا، وخصوصًا بعد أن تحكمت فيها العساكر الأتراك وجموع «الانكشارية» الذين كانوا يفسدون البلاد ويؤذون العباد.

أما السلطان سليم فإنه لما وصل القسطنطينية ومعه الخليفة أكرمه أول الأمر، ثم لم يلبث أن تغير وضعه معه، وألقى به في السجن إلى أن مات، فلما ولي ابنه السلطان سليمان في سنة ٩٢٦ﻫ أخرج الخليفة من سجنه، وسمح له بالعودة إلى مصر على شريطة أن يتنازل للعثمانيين عن حقه في الخلافة، فقبل وظل في القاهرة إلى أن مات، وأضحت مصر في عهد السلطان سليمان إحدى إيالات الدولة الثانوية يديرها خاير بك والباشا التركي، ويعاونهما نفر من القضاة والموظفين الأتراك على الشكل الذي سنفصله، ولما مات خاير بك استقل بمصر مصطفى باشا في سنة ٩٢٦ﻫ إلى أن عزل بأحمد باشا في سنة ٩٣٠ﻫ، ولما بلغه أن الصدر الأعظم «رئيس الوزارة» في الأستانة يريد عزله والفتك به، أعلن عصيانه على الباب العالي، وأمر أن يُخطب له في مصر، وأن تُضرب النقود باسمه، وأساء معاملة الأهلين، فثاروا عليه، وقتلوه، وعلقوه على باب زويلة في سنة ٩٣١ﻫ، فأرسل السلطان العثماني قاسم باشا واليًا على مصر، ولم يبقه فيها طويلًا خشية من أن يعلن استقلاله بالبلاد، بل استبدله بعد تسعة أشهر بإبراهيم باشا، وكان هذا رجل خير وإصلاح ونظام، فأراد تنظيم البلاد ونشر العدل، ولكن قصر مدته حال دون ذلك، فإنه عُزل في سنة ٩٣٣ﻫ وأقيم سليمان باشا مقامه، وكان السلطان واثقًا به كل الثقة فأبقاه في مصر نحوًا من عشر سنوات أصلح فيها شأن البلاد، وشاد كثيرًا من الدور والأبنية العامة، ومن جملتها جامع سارية في القلعة.

وفي سنة ٩٤١ﻫ أمر السلطان بإيفاده على إيران والهند، فأناب عنه خسرو باشا، ثم عاد إلى ولايته حتى عام ٩٤٥ﻫ فتولى باشوية مصر داود باشا وأقام فيها اثنتي عشرة سنة، وكان حاكمًا فاضلًا ورجلًا خيِّرًا محبًّا للعلم وللأفاضل، حريصًا على نشر الفضائل والآداب، وقد جمع خزانة كتب نفيسة من الكتب النادرة المخطوطة، وغدت مصر في عهده على أحسن حالة إلى أن مات في سنة ٩٥٦ﻫ، فتولى مكانه علي باشا، وكان عمرانيًّا شاد عدة بنايات، ورمم كثيرًا من القصور والمساجد العتيقة، واقتدى به الأهلون فجعلوا يشيدون المساجد ودور العلم، وفي سنة ٩٦١ﻫ خلفه محمد باشا وكان ظالمًا جبارًا شريرًا، فلقيت مصر في عهده ويلات ومصائب، وكثرت شكاوى المصريين عليه للباب العالي فعُزل وحوكم، وحُكم عليه بالقتل في سنة ٩٦٣ﻫ وأخذت بعده الباشوات تتوالى على ولاية مصر، ولا يلبث أحدهم إلا فترة قصيرة حتى يُعزل، فاضطربت أحوال البلاد، وغصت باللصوص والأشرار، وعمها الفساد، إلى أن كانت سنة ٩٧٣ﻫ فتولى مصر محمود باشا وهو آخر من تولاها في أيام السلطان سليمان فزاد في الطنبور نغمة، وجاء من الأستانة بموكب عظيم، فلما وصل القاهرة استقبله متولي الصيد محمد بن عمر على قارب فيه كثير من الهدايا مع خمسين ألف دينار، فأخذ الباشا كل ذلك ثم أمر بخنقه، كما أمر بعد فترة بخنق القاضي يوسف العبادي؛ لأنه لم يأتِ لملاقاته ولم يقدم إليه هدية، واستمر على هذه الطريقة الظالمة حتى قتل كثيرًا من الأعيان والأهلين، وكان لا يسير في القاهرة إلا ومعه «الشوباصي» وهو رئيس الجلادين، فإذا مر بأحد الناس وأراد قتله أمر «الشوباصي» فهجم عليه وفتك به حتى ضاق الناس به، وبينا كان مرة يومًا بين بساتين القاهرة فاجأته جماعة فقتلته، فلما بلغ خبره إلى السلطان سليم الثاني بن سليمان سنة ٩٧٢ﻫ أمر بنقل سنان باشا من ولاية حلب إلى القاهرة، فأقام فيها فترة ثم جاءه الأمر بالتوجه إلى اليمن سنة ٩٧٦ﻫ وأن ينيب عنه إسكندر باشا الجركسي، ثم سار هو إلى اليمن ففتحها، ورجع في سنة ٩٧٩ﻫ فأخذ ينظم أمور مصر، ويعمل على نشر العدل والعلم، وإشادة كثير من دور العبادة والخانات والحمامات، وما يزال مسجده الشامخ في القاهرة شاهدًا على ذلك، وفي سنة ٩٨٠ﻫ تولى مصر حسين باشا وكان كذلك من خيار الولاة محبًّا للعدل والعلم والأدب، ولم يكن يعاب عليه شيء إلا تساهله في إقامة الحدود؛ فقد كثرت اللصوص في عهده، وفي أيامه تسلطن مراد بن سليم ٩٨٢–١٠٠٣ﻫ/١٥٧٤–١٥٩٤م فعزله وبعث مسيح باشا إلى مصر وكان خاندار السلطان سليم، فلما قدم مسيح باشا وجَّه عنايته إلى القضاء على اللصوص حتى قيل إنه قتل منهم نحو عشرة آلاف وأراح البلاد منهم، ثم عكف على إصلاح شأنها، ورعاية زراعتها، وتنمية تجارتها، وإشادة العمائر، ومنها مسجده الضخم في القرافة.

وفي سنة ٩٨٨ﻫ عُزل بحسن باشا الخادم، وكان سيئ الإدارة انصرف إلى جمع الأموال وقبول الرشى، ولما عُزل من القاهرة فرح الناس بذلك، وتولى مصر بعده إبراهيم باشا، وكان رجلًا عادلًا أقام موظفًا خاصًّا في مسجد السلطان فرج بن برقوق لاستماع شكاوى المظلومين من الباشا السابق، فاطلع على مظالم فظيعة لا تحصى، وكتب بذلك إلى السلطان فأمر بخنق حسن باشا، وأخذ إبراهيم باشا يطوف في أرجاء القطر ويتفقد أحوال الناس إلى أن كانت سنة ٩٩٢ﻫ فاستقال من منصبه، وتوالت من بعده الباشوات، ولم يكن في أعمالهم شيء يذكر حتى تولى السلطنة محمد الثالث بن مراد ١٠٠٣–١٠١٢ﻫ/١٥٩٤–١٦٠٣م فبعث إلى مصر قورت باشا، وكان الناس يحبونه لحسن سيرته وكياسته وتنشيطه لأهل العلم والفضل، وخلَّف آثارًا جليلة في «الجامع الأزهر» والمشهد الحسيني، وفي سنة ١٠٠٦ﻫ تولى مصر خضر باشا، وكان شديدًا عنيفًا أمر بقطع الجرايات عن العلماء، وحرم حقوق الكثيرين من الجند والانكشارية فثاروا عليه، وعُزل فتولى مصر بعده علي باشا السلاصدار، وكان جبارًا سفاحًا قتل من الأهالي عددًا كبيرًا، وأصاب البلاد في عهده قحط، وظل في ولايته حتى توفي السلطان محمد وخلفه ابنه أحمد الأول ١٠١٢–١٠٢٦ﻫ/١٦٠٣–١٦١٧م فبعث إلى مصر إبراهيم باشا، وقد أراد منذ وصوله أن يقف أمام طلبات الجند والانكشارية فثاروا عليه، ووقعت في البلاد أثناء ذلك فتنة عظيمة انتهت بقتله وإقامة القاضي مصطفى أفندي واليًا، فلما علمت الأستانة بذلك بعثت محمد بك الكرجي الخادم واليًا على مصر، فلما وصلها شرع في التفتيش على مثيري الفتنة فقبض على نفر وقتلهم وسكن البلاد، ولم يلبث فترة حتى عُزل، وتوالت على مصر بعده عدة باشوات كان الواحد منهم لا يبقى في الولاية إلا شهرًا، وكانت البلاد لا تكاد تخلو كل سنة من فتنة أو ثورة يقوم بها «الانكشارية» أو الجنود أو بعض المتغلبين، إلى أن تولى مصر في سنة ١٠١٦ﻫ الوزير محمد باشا، وكان شريفًا حازمًا، فشرع منذ وصوله إلى مصر في تثبيت دعائم الحكم وإنصاف الرعية، وفي سنة ١٠١٧ﻫ ثار عليه الجنود والانكشارية؛ لأنه لم يوافقهم على إبقاء الضرائب الجائرة فأعلنوا عصيانهم، وولوا على البلاد واليًا منهم، ونادوا به سلطانًا، وساروا إلى الدلتا يعيثون فيها فسادًا، وسار إليهم محمد باشا في جمع من الجند، والتقى الطرفان، واستطاع الباشا أن يقضي عليهم فاستسلموا، ولما استتب الأمر قتل زعماءهم، وانصرف إلى إصلاح حال البلاد، ومراقبة جباة الضرائب بنفسه، والإشراف على أحوال الأسواق، ففرح الناس به كثيرًا، وعادت الطمأنينة إلى النفوس، وكان عهده على قِصَرِه عهد يمن وبركة، ولما نقل من ولاية القاهرة تسابق الناس إلى تكريمه وتقديم الهدايا إليه، وخلفه في سنة ١٠٢٠ﻫ محمد باشا الصوفي وكان كذلك رجلًا صالحًا حازمًا، وفي سنة ١٠٢٢ﻫ جاءه أمر من السلطان يطلب ألف جندي مصري؛ لينضموا إلى الجيش العثماني الذاهب إلى إيران فبعث بهم.

ثم توالت الولاة على مصر بعده خلال سنوات عشر، وكان الوالي لا يلبث أكثر من أشهر قليلة، والسر في ذلك أن كرسي الخلافة قد تقلَّب عليه في هذه الفترة ثلاثة خلفاء هم: مصطفى الأول وعثمان الثاني ثم مصطفى الأول ثانية، إلى أن كانت سنة ١٠٢٢ﻫ/١٦٢٣م فتولى السلطنة مراد الرابع، وبعث إلى مصر علي باشا، وقبل وصوله إليها اجتمع الجنود، وساروا إلى القائمقام عيسى بك يطلبون إليه عطاءهم الذين يعطونه بمناسبة تعيين الولاة الجدد فانتهرهم القائمقام وقال لهم: أفي كل ثلاثة أشهر تجددون هذه الطلبات، فقالوا: وما المانع والسلطان يغيِّر كل ثلاثة أشهر واليًا؟! وإذا أراد أن يولي كل يوم واليًا فنحن نطلب عطاءنا، فحاول القائمقام صرفهم ولم ينجح، فقالوا له: إننا نصر على طلبنا إلا إذا بقي الوالي السابق مصطفى باشا، وكان الوالي الجديد قد وصل الإسكندرية فبعثوا إليه يبلغونه قرارهم، وأنهم لا يقبلونه إلا إذا دفع إليهم عطاءهم، فكتب إليهم الوالي يسترضيهم فلم يقبلوا، فثار عليهم وقبض على وفدهم وسجنهم في قلعة الإسكندرية، وعلم الجند في القاهرة بذلك فأعلنوا الثورة واضطروه على مغادرة الإسكندرية، وأنزلوه في قارب وأخرجوه من الميناء، ولما صار في عرض البحر أطلقوا عليه المدافع فغادر البلاد، وبعد فترة وصلت رسالة من السلطان بتثبيت مصطفى باشا في الولاية، وفي هذه الفترة أصيبت البلاد بوباء هلك به خلق كثير، قيل: إن عددهم بلغ ثلاثمائة ألف نسمة، وكان مصطفى باشا ينصب نفسه وريثًا شرعيًّا على أموال الأغنياء من الموتى حتى ضاق الناس به، فاشتكوا إلى الباب العالي فعزله، وأرسل بيرام باشا ليحاكم مصطفى باشا على أعماله، وفي سنة ١٠٣٦ﻫ قدِم بيرام باشا ليحاكم مصطفى باشا وحكم عليه باستصفاء أمواله وإعادة المسروقات إلى أصحابها، وحُكم عليه بالموت، ولما استقرت الأمور لبيرام باشا شرع في زيارة الأقاليم والمديريات ومراقبة أحوالها ونشر العدل بين أهلها، وتعميم التعليم، وتنشيط التجارة، وإقامة المشروعات العامة المفيدة، وتنظيم الضرائب، ثم عزل محمد باشا في سنة ١٠٣٩ﻫ وكان هذا محبًّا للخير والعدل فحمد الناس سيرته، وفي سنة ١٠٤٠ﻫ استُدعي من القاهرة، وسُمِّي موسى باشا مكانه، فأساء السيرة، وأفسد أحوال البلاد، ولقي منه الناس شرورًا، وطلبوا من السلطان أن يبعده عنهم، فاستبدله في سنة ١٠٤١ﻫ بخليل باشا، وأخذت الولاة تترى على مصر، والنكبات والمظالم تتوالى عليها حتى تسلطن إبراهيم بن أحمد خان ١٠٤٩–١٠٥٩ﻫ/١٦٤٠–١٦٤٨م فتفاءل الناس بالخير لما اشتهر عنه، ولكن شيئًا من ذلك لم يحصل؛ فقد كانت ولاته على نمط ولاة سابقيه من السلاطين عسفًا وتعدِّيًا، وزاد الطين بِلَّة كثرة الأوبئة والطواعين التي لم يَخْلُ منها تاريخ مصر في تلك الآونة، وكان من أعظم تلك الطواعين طاعون سنتي ١٠٥٢ و١٠٥٣ﻫ فقد هلك فيهما آلاف مؤلفة حتى دفن الناس موتاهم بدون صلاة، ويقال: إن نحوًا من ٢٣٠ قرية وبليدة خربت في ذلك الطاعون، كل هذا والولاة ساهون منصرفون إلى جمع الأموال واختلاسها، ويظهر أن الوالي مقصود باشا الذي تولى في سنة ١٠٥٣ﻫ قد حاول إصلاح الأمور، ولكنه عُزل في سنة ١٠٥٤ﻫ، وتردد على مصر نفر من الولاة أكثرهم ظالم مخرب أو جمَّاع أموال، حتى صار الوالي التركي لا همَّ له إلا اكتساب المال عن أي طريق كان، وتسليم النفوذ إلى البكوات المماليك، وذلك طوال عهد محمد الرابع ١٠٥٩–١٠٩٩ﻫ/١٦٤٨–١٦٨٧م وعهد سليمان الثاني وأحمد الثاني ومصطفى الثاني ١٠٩٩–١١١٥ﻫ/١٦٨٧–١٧٠٣م وعهد أحمد الثالث ١١١٥–١١٤٣ﻫ/١٧٠٣–١٧٣٠م.

وفي سنة ١١١٩ﻫ تولى مصر حسن باشا، فلما دخلها كان شيخ البلد قاسم عوض «عيواظ» بك فأحسن استقباله، وقدم له من الهدايا ما جعله يركن إليه، ويتركه يتصرف في البلد تصرف المالك، وعظم نفوذه، والوالي لا همَّ له إلا جمع المال وقبول الهدايا والرشى، وفي زمنه وقعت الفتنة بين مماليكه المعروفين بالقاسمية والمماليك الفقارية التابعين لذي الفقار بك أحد كبار المماليك، فتضاربوا وأفسدوا البلاد وعم البلاء، وانتشر الغلاء فترة طويلة إلى أن مات قاسم عوض، وتولى مشيخة البلد مكانه ابنه إسماعيل، فأحسن التصرف بعض الشيء، واتفق مع المماليك الفقارية ضد الباشا التركي، وضد الباشوات الذين تعاقبوا على مصر إلى أن قُتل في سنة ١١٣٦ﻫ فتولى المشيخة بعده شركس بك، ولم يلبث أن قُتل فتولاها ذو الفقار بك إلى سنة ١١٤٢ﻫ وأصاب مصر في تلك الفترة طاعون أتى على كثير من سكانها، وفي سنة ١١٤٣ﻫ/١٧٣٠م تولى السلطنة محمود الأول، وتوالت ولاته على مصر إلى سنة ١١٦٨ﻫ/١٧٥٤م، ولم يكن هؤلاء أحسن حالًا من أسلافهم، وظلت السلطة الحقيقية في مصر بيد مشايخ البلد من المماليك، وفي هذه الآونة نبغ في مصر من البكوات المماليك فتى كان له أثر كبير في تاريخ مصر، واسمه علي بك الكبير.

نشأ علي بك الكبير في كنف أحد مشايخ البلد إبراهيم كتخدا، وكان فتى شجاعًا فيه كثير من مزايا الزعماء والقادة، وحدث في سنة ١١٦٥ﻫ أن قدم إلى مصر واليًا راغب محمد باشا وكان رجلًا فاضلًا خيرًا، سار بالناس سيرة حسنة فأحبوه، ويظهر أن الباب العالي قد أحس بخطر مشايخ البلد والبكوات، فأراد التخلص منهم وكتب إلى الوالي بذلك، وقد تردد الوالي في أمرهم، ثم قرر قتلهم، فاستدعاهم وطلب إلى رجاله أن يفتكوا بهم بعد أن يستقروا عنده، ففعلوا وقتلوهم جميعهم إلا إبراهيم كتخدا، فعمد إلى إثارة الفتن في القاهرة وسائر البلاد، واختصم هو وإبراهيم بك الشركسي، فقتله الشركسي، وعظم ذلك على مولاه علي بك، فأخذ يعمل للانتقام لمولاه، وشرع في شراء المماليك وتدريبهم على القتال، ويظهر أن بعض البكوات واسمه حسين كش كش بك قد شعر بما يهيئ علي بك فناصبه العداء، واضطر علي بك أن يفرَّ بطائفة من مماليكه إلى الصعيد، فلما استقر هناك أخذ ينظم أمره حتى اجتمع لديه جمع كبير، فزحف على القاهرة، وطرد حسين كش كش بك، وحاول أن يفتك بشيخ البلد خليل ففر هذا إلى طنطا، فبعث إليه علي بك كاشفه محمد بك أبا الذهب، واستطاع أن يقبض عليه وينفيه إلى الإسكندرية، وهكذا قوي نفوذ علي بك ابتداء من سنة ١١٧٧ﻫ فتسلم مشيخة البلد، وقتل إبراهيم الشركسي انتقامًا لسيده إبراهيم كتخدا، ولكن مماليك الشركسي غضبوا له، وحاولوا الانتقام لمولاهم، فاضطر علي بك أن ينجو بنفسه، ويفر إلى عكا لاجئًا إلى أميرها الشيخ ظاهر العمر، فأكرم هذا وفادته، وسعى في إعادته إلى القاهرة ظافرًا قويًّا إلى أن كانت سنة ١١٨٠ﻫ فثار بعض أعراب الصعيد، وبعث إليهم مملوكه أحمد بك على رأس حملة قوية فقتل من الأعراب مقتلة عظيمة حتى لُقب بالجزار، وهو الذي تولى عكا فيما بعد، وعُرف بأحمد باشا الجزار، ثم انصرف علي بك إلى تنظيم أموره في سائر القطر فأحسن تدبيره، ونمَّى تجارته وزراعته، ورأى فساد حال الموظفين الذين كانت الدولة العثمانية تبعث بهم فعزل أكثرهم، وأقصى كثيرًا من العساكر العثمانية عن مراكزهم، ووضع محلهم جماعة من مماليكه، وحظر على البكوات والكشاف أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك واحد أو اثنين.

وفي سنة ١١٨٢ﻫ أعلنت الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا، فبعثت الدولة العثمانية إلى علي تستمده، فأخذ يجمع الجند ويرسلهم إلى الأستانة حتى نفى من البلد أكثر من كان يخشى مناوأتهم، فلما تمَّ له ذلك أعلن عصيانه بمصر، وكتب إلى الوالي التركي ينذره بلزوم مغادرة مصر في مدى يومين وإلا قتله وأن مصر أضحت بلدًا مستقلًّا، وكتب بذلك إلى حليفه الشيخ ظاهر العمر أمير عكا ففرح به وآزره وكتب إليه يهنئه، فلما بلغت هذه الأخبار مسامع الخليفة في الأستانة كتب إلى واليه في دمشق أن يزحف نحوه فسار في خمسة وعشرين ألف مقاتل، حتى إذا بلغ بلاد عكا تلقاه ظاهر العمر وردَّه شر ردَّة، ثم انشغلت الدولة العثمانية بحربها مع روسيا، فشرع علي بك ينظم أموره، ويوطد أركان دولته، ويصلح شئونها، ويرعى زراعتها وتجارتها، وفي سنة ١١٨٣ﻫ ثار عليه الشيخ هامان زعيم قبائل الهوارة في الصعيد، فبعث إليه محمد بك أبا الذهب ففرق جموعه، ثم شرع في الزحف على اليمن حتى استولى عليه وعلى سواحل البحر الأحمر، وتوغلت جنوده في أرض جزيرة العرب فاستولى عليها، وخُطب له في مكة وضُربت النقود باسمه، وأراد الاستيلاء على الشام فأخذ يستعد له، وسعى في عقد محالفات مع البلاد التي تضمر عداء للعثمانيين كملك البندقية وملكة روسيا، ثم سيَّر جيوشه إلى الشام بقيادة أبي الذهب ومعاونة ظاهر العمر فحاصرت دمشق ودخلتها، وأخذت دولة الأستانة تعمل بدسائسها ففرقت بينه وبين أبي الذهب، وأراد أبو الذهب الاستيلاء على مصر وطرد علي بك، فقفل راجعًا إلى مصر فاستولى على أسيوط في سنة ١١٨٥ﻫ، وسار نحو القاهرة فاستولى عليها، واضطر علي بك إلى الفرار منها إلى عكا ومعه كنوزه وأمواله، فلما وصلها زوده الشيخ ظاهر العمر بجيش عليه علي بك الطنطاوي؛ لاسترجاع ما استولى عليه أبو الذهب، والتقى الجيشان في محرم سنة ١١٨٧ﻫ وخذل علي بك جنوده بانضمام قسم كبير منهم إلى أبي الذهب، وقتل عدد كبير من رجالات علي بك، وقاتل هو نفسه قتال المستميت على الرغم من مرضه، ثم جرح وسيق أسيرًا إلى أبي الذهب، فأمر بسجنه في القاهرة حيث مات، وحزن الناس عليه لحسن سيرته وبطولته، ولكثرة آثاره الحميدة في القاهرة وطنطا، ومن أجلِّها مسجده العظيم وقبته على مقام السيد أحمد البدوي مع المضبأة الكبيرة والمنارتان الشامختان والسبيل، وقبته على ضريح الإمام الشافعي، والحق أن خسارة مصر بموته كانت جليلة؛ فقد اضطرت إلى الخضوع من جديد للدولة العثمانية، واستسلم أبو الذهب للوالي الذي بعثت به الأستانة، وعاد من جديد نفوذ الإقطاعيين من البكوات المماليك، ورجعت الفوضى إلى البلاد، وأضحى منصب شيخ البلد بيد المماليك البكوات يتصرفون فيه بما يشاءون ولا همَّ لهم إلا جمع الأموال وتقديم الرشى للوالي التركي، وعمَّ الفساد إلى أن كانت سنة ١٢٠٠ﻫ فضاق السلطان عبد الحميد بما عليه حالة مصر، وأرسل عمارة بحرية لتأديب البكوات والمشايخ ففر كثير منهم إلى الصعيد، ولكنهم لم يلبثوا أن رجعوا إلى القاهرة بعد سفر العمارة البحرية، وقد لمع في هذه الفترة نجم مملوكين لقيت مصر منهما ضررًا بالغًا وهما مراد بك وإبراهيم بك، فظلَّا يفسدان فيها ويختلسان الأموال إلى أن استولى نابليون بونابرت عليها سنة ١٢١٣ﻫ/١٧٩٨م.١
١  راجع تفاصيل أحوال مراد بك وعلي بك، وأخبار هذه الحقبة من تاريخ مصر في الكتاب الممتع الذي ألَّفه صديقنا الأستاذ المحقق محمود الشرقاوي بعنوان: «مصر في القرن الثامن عشر» في ثلاثة أجزاء، طبع مصر سنة ١٩٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤