الفصل الثاني

العراق في القرن الثامن للهجرة

أطلَّ القرن الثامن على العراق ومحمود غازان هو سلطان على إيران والعراق، وهو طامع في السيطرة على الديار الشامية، وطرد المماليك المصريين منها، وقد تم له فتْحُ قسمٍ من بلاد الشام، وكان يطمع في فتحها كلها وضمها إلى مملكته، ولكن جيشه كُسِر في سنة ٧٠٢ﻫ/١٣٠٢م، وقُتِل منهم مقتلة عظيمة، كما أُسر منهم جماعات، وقد اهتم غازان لهذه الحادثة كثيرًا فلحقته من ذلك حُمَّى حادة، ومات مكمودًا،١ وكان قد أوصى بالملك من بعده لأخيه السلطان ألجايتو، فتولى الأمر في الثاني من ذي الحجة سنة ٧٠٣ﻫ، وكان أول عمل قام به هو أنه أعلن إسلامه وتُسمَّى محمدًا وتلقَّب بغياث الدين خدابنده ومعناها «عبد الله»، ثم انصرف إلى ترتيب أمور ممالكه وخاصة العراق، فإنها قد كانت مضطربة بعد الكسرة التي مُنِي بها الجيش المغولي في الديار الشامية.
ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى عادت المياه إلى مجاريها، وانتظم حبل الأمن وخمدت الثورات واستقرت له الحالة في كافة الولايات؛ لأنه أعلن أن مَن تحدِّثه نفسُه بشقِّ عصا الطاعة فسينال أقصى العقوبة، ثم أرجَعَ الأمورَ إلى ما كانت عليه أيام أخيه، فانتظمت الأحوال واستقرت، لولا أنه قام بعملٍ ضاق الناسُ به ذرعًا ولم يتحمَّلوه وثاروا عليه من أجله، وهو أنه في سنة ٧٠٧ﻫ/١٣٠٧م أظهر التشيُّع ودعا الناس إليه بعنف، وكان قبل هذا التاريخ جاريًا على منهج أهل السُّنة، أما في هذه السنة فإنه أمر بحمْلِ الناس على التشيُّع وكتب بذلك إلى العراقين، وفارس، وأذربيجان، وأصفهان، وكرمان، وخراسان، وبعث الرُّسلَ إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها ذلك بغداد وشيراز وأصفهان، فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم، وهم أهل السنة — وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل — وقالوا: لا سمْعَ ولا طاعة، وأتوا المسجدَ الجامع يوم الجمعة في السلاح، وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قالوا له: نحن اثنا عشر ألفًا في سلاحهم، وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها، فحلفوا له أنه إن غيَّر الخطبة المعتادة أو زاد فيها أو نقص منها فإنهم قاتِلوه، وقاتِلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاء الله. وكان السلطان قد أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة، ولا يُذكَر إلا اسم علي ومَن تبعه كعمَّار رضي الله عنه، فخاف الخطيب من القتل وخطب الخطبة المعتادة.٢ ولما رأى الرسول شدةَ حصاة العراقيين رجع وأخبر السلطان بما رأى، فتساهَلَ معهم ولم يقسرهم على شيء، إلا أنه ظلَّ يفضِّل آلَ البيت عليهم السلام ويكرمهم، وكانت سيرته في الغالب سيرةً حسنة، وقد سعى في نشر الدين بين قبائل التتار حتى دخلوا فيه أفواجًا، وقد كان شديدَ التعصُّب لإسلاميته، مضيِّقًا على أهل الذمة، وقد احتال اليهود في عهده كثيرًا وقاموا بأعمال إجرامية، وتستَّرَ بعضهم بستار الإسلام وهو يُبطِن اليهودية، ومن أخبث اليهود الذين لعبوا دورًا هامًّا في هذه الفترة امرأةٌ أظهرت الإسلامَ وتزوَّجت الخواجة سعد الدين الوزير، واتفقت هي والطبيب اليهودي نجيب الدولة الذي أظهَرَ الإسلامَ أيضًا، وأخذا يلعبان أدوارًا أقضَّت مضجعَ الأهلين، وفتكا بطائفةٍ كبيرة من الأعيان والأشراف، وقد كانت هذه العصابة المجرِمة، وعلى رأسها نجيب الدولة وتلك المرأة الخبيثة، سببَ نكبةِ طائفةٍ من الأغنياء والوجوه.

ومَن يلاحظ في عهد السلطان محمد أن الأعراب وسكان البادية قد قوي أمرهم، وأضحَوْا أصحاب نفوذ، وتدخَّلوا في شئون الحاضرة، ومن العشائر الكبيرة التي كان لها نفوذ في سورية والعراق هذه الفترةَ آلُ الفضل، ورئيسهم مهنَّا بن عيسى، وزميله أحمد بن عميرة، وهذه العشيرة كان لها نفوذ كبير، وهي من أفخاذ بني طي، وقد تملَّكت رحبةَ مالك بن طوق وما إليها، وربما تملَّكت الموصل، فقد روى المؤرخون أن أحمد بن عميرة ذهب إلى السلطان في تبريز، وطلب إليه أن يولِّيه على الموصل وما إليها فولَّاه إياها، وكان مهنا بن عيسى يُلقَّب ملك العرب، وقد لعب دورًا خطيرًا لما وقعتِ الفتنةُ في العراق وسورية بين الملك الناصر وبين أمرائه في سورية قراسنقر المضوري وعز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي، فإن هؤلاء كانوا شقوا عصا الطاعة على الملك الناصر، وتركوا ولاياتهم في الشام، وذهبوا إلى مهنا بن عيسى طالِبين إليه أن يُعِينهم بعشيرته، فوافَقَهم على ذلك وسار الجميع إلى ملك المغول خدابنده وأطمعوه في السيطرة على الديار الشامية والمصرية والقضاء على دولة المماليك، وأنهم سيساعدونه على الوصول إلى ذلك، فاقتنع بفكرتهم، وتوجَّهَ بنفسه على رأسِ جيشٍ كبير إلى رحبة مالك، وكان ذلك في شعبان سنة ٧١٢ﻫ.

ولما طال حصاره للمدينة، وتعذَّر عليه فتحها، ووقع المرض في جنده، وقلَّت المواد الغذائية عنده؛ اضطر إلى أن يرجع إلى بلاده بعد أن حاصَرَها شهرًا. أما قراسنقر وعيسى بن مهنا وجماعتهم فقد اضطروا إلى أن يرجعوا معه إلى العراق، ولما وصلوا العراق أقطعهم بعض الولايات، فكان نصيب عيسى مدينة الحلة وما إليها، ثم إنه عاد إلى خدمة الملك الناصر بعد أن أخذ مواثيق، فأذن له في أن يستمر في إقطاعه ببلاد الشام وهو مدينة سرمين وما إليها من أعمال حلب، وهكذا استطاع أن يمتلك إقطاعين أحدهما في العراق والآخر في الشام، فأقام ولده سليمان نائبًا عنه في مدينة الحلة، وأقام ولده الثاني موسى نائبًا عنه في مدينة سرمين، وظل هو يتردد بين البلدين وينال الخلع والعطايا من الجانبَين. وكان يحرِّك أولاده وعشيرته فيَثُورون إذا ما تأخَّر ملوك الشام أو العراق عن تقديم العطايا والمِنَح إليه، وكانت أعظم هذه الثورات الثورةُ التي قام بها ابنه سليمان في سنة ٧١٥ﻫ/١٣١٥م، فقد أغار مع عشيرته في أواخر ذي الحجة من تلك السنة مع جماعات من المغول على القبائل العربية المرابِطة في تدمر، وفتكوا بهم وخربوا بيوتهم وغنموا منهم مغانم كثيرة، ثم قفلوا إلى العراق، وقد شجَّعهم السلطان خدابنده كثيرًا على ذلك، كما شجَّع عرب الحجاز على الثورة حينما قصد إليه أميرُهم الشريف حميضة بن أبي نمي مستنصرًا إياه على أخيه الشريف رميثة أمير مكة، وقد أرسل خدابنده مع حميضة حاكم البصرة مع عدد كبير من المغول وبني خفاجة للسيطرة على الحجاز وإقصاء رميثة التابع لنفوذ مماليك مصر، وقد وقعت بين الجانبَين مواقع كثيرة، ولولا أن جاء الخبر بموت خدابنده لما قُضِي على هذه الفتنة.

ولما مات خدابنده في سنة ٧١٧ﻫ/١٣١٧م، تولَّى الأمرَ مِن بعده ابنُه بهادر خان وهو طفل لم يتجاوز العاشرة، فقام بالأمر جوبان وكان أميرًا داهية ذا سيرةٍ سيئة، سلك مسلك السلطان خدابنده وتمَّم مشاريعَه. وفي سنة ٧١٨ﻫ حضر إليه الأمير فضل بن عيسى بن مهنا، وقدَّمَ إليه تقدمةً من الخيول العربية والهدايا النفيسة، فعهد إليه بإمارة البصرة وما حولها، واستمرت له إقطاعاته التي كانت بالشام، ويظهر أن سلطان مصر المملوكي قد أحس بالدور الخطير الذي يلعبه هؤلاء الأعراب، فأراد أن يسلط عليهم بعض العشائر البدوية، وعمل على إغراء بني عقيل عليهم، كما أثار أعراب الأحساء والقطيف ضدهم، ولقيت مدينة البصرة منهم جميعًا ويلات ومِحَنًا شِدادًا، حتى قِيل إن بني عقيل أخذوا من بني مهنا ومن أهل البصرة ما يزيد على العشرة آلاف بعير.٣ ولولا أن فتنةً وقعت بين أمراء المغول أنفسهم، لَاستمرَّ جوبان على إغرائه بين العرب. وتفصيل أمر هذه الفتنة أن أمراء المغول كرهوا انفرادَ جوبان بالأمر من دونهم، وخصوصًا بعد أن وزَّعَ نيابةَ السلطنة في الممالك العراقية والإيرانية بين أولاده.
فلما رأوا ذلك عزموا على الثورة عليه، ووقعت الفتنة بين الجانبَيْن، وقُتل منهما قرابة ثلاثين ألفًا،٤ حتى كاد أن يزول مُلك المغول لولا أن جوبان أظهر براعةً عظيمة فقضى على خصومه، واستتبَّ له الأمر.٥ ثم إنه رأى أن أول ما يجب عليه عمله هو أن يُهادِن سلطان مصر الملك الناصر ويتقرَّب إليه، ففي سنة ٧٢٠ﻫ/١٣٢٠م بعث رُسلًا من قِبَله ومن قِبَل بهادر خان، ومن قِبَل الوزير علي شاه إلى سلطان مصر الناصر، وهم يحملون الهدايا والتحف والجواري والمماليك مما قيمته خمسون تومانا، وكانت قيمة التومان وقتَئذٍ عشرةَ آلاف درهم،٦ ولما وصلوا إلى مصر أكرَمَهم السلطان الناصر، ومما قاله له رئيس الوفد: «إن أخاك الملك أبا سعيد يسلِّم عليك ويقول إن أباه خدابنده كان يقول: أنا والسلطان الملك الناصر شيء واحد، والمسلمون جيش واحد، ونُسكِّن الفِتَنَ القديمة، ونُقِيم المِلَّةَ الإسلامية.» وقد أجابه الملك الناصر جوابًا لطيفًا دل على استحسانه واستجابته، ثم عقد بين الجانبَيْن عهدَ صُلحٍ تضمَّنَ النقاطَ الآتية:
  • (١)

    أن يمنع مَلِكُ المغول حضورَ الفداوية من بلاده، فلا يدخل أحدٌ منهم.

  • (٢)

    أن مَن حضر مِن مصر إلى بلاد ملك المغول يكون لاجئًا ولا يُطلَب، وأن مَن حضر من بلاد المغول إلى بلاد مصر فلا يعود إلا أن يكون ذلك برِضاه.

  • (٣)

    ألَّا يدخل بلادَ ملك المغول مُغِيرٌ من العرب أو التركمان.

  • (٤)

    أن تكون الطريق بين البلادَين مفتوحةً يدخل فيها التاجر وغيره، فلا يُعارض.

  • (٥)

    أن يكون لملك المغول سنجق سلطاني يحمل في الركب الذي يخرج إلى مكة أثناء موسم الحج.

  • (٦)

    ألَّا يُطلب قراسنقر ولا يُذكر بشرٍّ؛ لأنه لاجئٌ إلى ملك المغول، ونزيلٌ عنده فوجبتْ عليه حرمته.

  • (٧)

    أن يبعث السلطانُ الملك الناصر إلى الملكِ المغولي رجلًا معروفًا بالجودة والأمانة ممَّن يُوثق به في الأمور، وتكون معه نسخةُ يمينٍ من السلطان، وأن الملك المغولي يحلف على ذلك، ويستمر هذا الصلح، ويصير الإقليمان إقليمًا واحدًا.

وهكذا تم الاتفاق بين الطرفَين وعاد الوفد من مصر بعد أن أنعم عليهم السلطان بالهدايا والخلع، وكتب كتابًا إلى ملك المغول بإقرار العقد، وأن العرب من آل مهنا قد كَثُر فسادُهم في البلاد وأنهم خارجون عن طاعة السلطان المصري، فيجب على السلطان المغولي ألَّا يمكنهم من بلاده أيضًا، ومما جاء في الجواب: «وإن العرب آل عيسى بن مهنا قد كثر فسادهم في البلاد وخرجوا عن طاعتي، وقد أخرجتهم من بلادي وأريد أنا أيضًا ألَّا تمكِّنوهم من الدخول إلى بلادكم وتمنعوهم، وأنا أُخرِج عسكرًا من عندي وأنتم أخرِجوا عسكرًا من عندكم، فنشيل سائر العرب.»٧

ويظهر أن الجانبين كانا يلاقيان ضروبًا من الفتن بسبب هؤلاء الأعراب المنتشرين في بادية الشام، وعلى سيف الصحراء، وعلى الحدود الشامية العراقية، وقد مرَّ بنا قبلًا ما كان نصيبهم في الفتنة التي وقعت بين سلطانَيْ مصر والعراق، ومما يُلاحَظ أيضًا في عهد الصلح السابق أن الفداوية (الفدائية) كانوا يحتمون في مصر ويقومون بأعمال العنف المزعجة في الديار العراقية؛ ولذلك كان أول شرط شرطه أبو سعيد ملك المغول والأمير جوبان هو منع هؤلاء من الإقامة بأرض مصر، وأن يُفرَّق شَمْلهم، ويظهر أن المصريين كانوا قد شجَّعوا نفرًا منهم لاغتيال بعض أمراء المغول أو قتل نفر من المماليك المصريين الذين لجئوا إلى العراق بعد حصول الفتنة بين سنقر وعز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي.

وقد استمرت مكاتبات الصلح هذه حتى سنة ٧٢٣ﻫ/١٣٢٣م، فقد ذكر أبو الفداء أن في هذه السنة ذهبت رُسل السلطان أبي سعيد ورُسل نائبه الأمير جوبان وتوجَّهوا إلى سلطان مصر بالقاهرة ثم عادوا إلى بلادهم،٨ وهدأ العراقان وبلاد الشرق ومصر بعد فترة طويلة من الفوضى والاضطراب، وقد زار العراق في هذا الوقت الرحَّالة العربي ابن بطوطة، وكان السلطان أبو سعيد هناك، فوصفه وتحدَّث عن بعض مجالسه ولَهْوه وأحواله وأحوال صاحب دولة جوبان وأحوال ابنه دمشق خواجه، وكيف كانت نهاية جوبان وأولاده جميعًا مما سنراه مفصلًا بعد.
إن من المؤكد أن العراق وجميع البلاد الخاضعة لحكم المغول كانت في الربع الأول من هذا القرن تحت سيطرة جوبان وأولاده يتحكَّمون فيها كما يشاءون، وليس للسلطان أبي سعيد إلا الاسم والمظاهر السلطانية، وقد ضاق السلطان بهذا الأمر ذرعًا فعمل على التخلص من دمشق خواجه فقتله، ثم أراد الفتك بأبيه فالتجأ إلى ملك هراة غياث الدين شاه فأكرمه أول الأمر ثم دبَّر قتله وبعث برأسه إلى أبي سعيد، وتفرَّقت بقية أولاده في البلاد، ثم أُلقِي القبض عليهم وقُتِلوا جميعًا،٩ وقد تولَّى الوزارة بعده غياث الدين محمد بن الخواجة رشيد الدين، وكان رجلًا عاقلًا اعتمده السلطان فأحسَنَ سياسةَ الأمور، وأبطل كثيرًا من المكوس والضرائب الظالمة، وحَسُنت أحوال الناس في عهده، وقويت تجارةُ العراق مع البلاد المجاورة وخاصة الشام وإيران والروم، وكانت البلاد العراقية على حالة حسنة؛ لأن واليها علي باش كان على جانب من الكياسة والدين، وظلت أحوال البلاد حَسَنةً طول عهد السلطان إلى أن فتَكَ به داء الصرعة في ربيع الآخر سنة ٧٣٦ﻫ/١٣٣٥م وله من العمر بضع وثلاثون سنة،١٠ فلما مات وقعت الفتنة في البلاد؛ لأنه لم يكن له ولد، وطمع في الملك بعده خصومُه وأمراء مملكته، فقد كان علي باش أمير بغداد طامعًا في ذلك، وكان الأمير أربا خان — وهو من كبار رجال الدولة — يحلم بذلك، وهو امرؤ قوي النفوذ والشكيمة، فنادى بنفسه ملكًا على البلاد، واستولى على إيران والعراق واشتعلت نار الفتن في البلاد جميعها، وخصوصًا حين غُلِب علي باش على أمره، وذهب إلى السيدة دِل شاو زوجة السلطان أبي سعيد وطلب إليها أن تذهب معه إلى بغداد وكانت حاملًا، فذهبت معه وأعلن للناس أن المُلك ينبغي أن يكون لمَن ستَلِده هذه السيدة، وبعث الدعاة بذلك إلى البلاد، ثم إنه أخذ يضيِّق على البغداديين وسائر العراقيين، ويطلب إليهم أن يدفعوا إليه الأموال للدفاع عنهم من غارات «أربا خان»، فجمع أموالًا جسامًا، حتى قيل إنه لم يُبْقِ مع الأعيان والأغنياء شيئًا، ثم سيَّر جيشه إلى مدينة سلطانية عاصمة المغول، وعمَّت الفوضى في البلاد، وتحكَّم فيها الفساد والمتمردون، وقُطِعت الدروب وعمَّت الفتن، ثم وردت الأخبار بقتل أربا خان في سنة ٧٣٦ﻫ، وتسلطن بعده موسى خان، فلم تَطُل مدته سوى شهرين، وكانت مملوءةً بالشرور والثورات.
ويمكننا أن نعتبر أن سلطان المغول قد انقرض بتولي هذا السلطان، وكان ذلك على يد الشيخ حسن الكبير الأبلخاني أمير بلاد الروم، فقد زحف على البلاد العراقية، ووقعت بينه وبين موسى خان وعلي باش معركة كبيرة في تبريز، انتهت بتفرُّق جُنْدِ علي باش، وهروب موسى خان، وأَسْر علي باش وقتله.١١

وهكذا انقرضت الدولة المغولية في العراق والمشرق كله سنة ٧٣٨ﻫ/١٣٣٦م، على الرغم من بقاء بعض الأمراء المتغلبة المغول الذين أخذوا يعلنون سلطنتهم واستيلاءهم على بعض بقاع الدولة مثل: سلطان محمد، وطفا تيمور، وصاتي بك، وسليمان خان، وجيهان تيمور، وغيرهم من الأمراء الذين كان لا يدوم ملكُ أحدهم أكثر من شهرين أو ثلاثة، وقد لقي العراق منهم في هذا القرن فتنًا وويلات عظيمة، كما مرَّت به سنواتُ قحطٍ شديدات إلى أن توطَّدت الأمور للدولة الأبلخانية الجلايرية الجديدة على يد رئيسها الشيخ حسن الكبير.

انتظمت أمور هذه الدولة الجديدة بعد القضاء على المغول واستقرار الشيخ حسن الكبير في بغداد وتنصيبه ابنه السلطان أويس حاكمًا على العراق، ولكن الأمور لم تستتب إلا في سنة ٧٤٠ﻫ/١٣٣٩م، فقد استولتْ الدولة الجلايرية على الحلة وكانت تحت نفوذ الشريف أحمد بن رميثة بن أبي نمي صاحب الحجاز، سلَّمه إياها السلطان أبو سعيد كما سلَّمه أمرَ عربِ العراق، فأحسن الشريف أحمد الإدارةَ فترةً من الزمن، ولكنه فُوجِئ بمجيء الشيخ حسن الجلايري واضطر أن يستسلم إليه، ولكن هذا قتله بعد أن أمَّنه، وكانت زوجته «دل شاه» بنت دمشق خواجه ملكة العراق، وصاحبة الحل والعقد فيه، وكان أمرها نافذًا في الممالك العراقية كلها، وكانت امرأة ذكية تحب فعل الخيرات، وتعطف على أهل العلم والأدب والصلاح، وتُعنى بإشادة العمارات، وهي والدة السلاطين: أويس، وقاسم، وزاهد، ودوندي، وقد لعب كل واحد من هؤلاء أدوارًا هامة في تاريخ العراق خلال هذه الفترة، وفي عهدهم رجع إلى بغداد بعض رونقها الذي كان لها أيام الدولة العباسية، فقامت العمائر الضخمة وشيدت المدارس الجليلة، وكثر الأدباء والعلماء والشعراء، ومن أشهرهم الخواجة سليمان الساوجي، وكان شاعرًا مجيدًا بالفارسية والعربية، وقد مدح السلطان أويس واختص به؛ لأنه ربَّاه وعلَّمه الشعر، وفي ديوان الساوجي هذا كثير من وصف حالة بغداد وأخبار فتوحات السلطان أويس الذي تولَّى الملك بعد أبيه في رجب سنة ٧٥٧ﻫ/١٣٥٦م، وأقام في الملك ثلاث سنوات عمرت فيها البلاد بالمدارس والرُّبُط والقصور الفخمة، لولا الطوفان الكبير الذي غرقها في سنة ٧٥٧ﻫ، وأهلك نحو أربعين ألفًا من أهلها.

ومن الأمراء الكبار في هذا العهد الخواجة مرجان بن عبد الله الأولجاني أمير بغداد، وقد كان من أهل الفضل، وقف وقوفًا جليلة على أهل العلم، وشاد مدرسة على غرار المدرسة النظامية الكبرى التي بناها الوزير الأعظم السلجوقي نظامُ الملك، ولا تزال مدرسة مرجان ماثلةً إلى يومنا هذا شاهِدةً بما بلغته في العهد الجلايري من العظمة والرُّقي، ومن آثار مرجان أيضًا دارُ الشفاء التي شادها لتكون معهدًا ومستشفى، كما بنى كثيرًا من الخانات والأسواق الضخمة، وقد استمر مرجان هذا في ولايته حتى عصى على السلطان في سنة ٧٦٥ﻫ، وحاوَل الاستقلال ببغداد فبعث إليه السلطان مَن أخضعه فاستسلم وسلَّم المدينة، ثم عزله السلطان وعهد إلى سلطان شاه بولاية بغداد في سنة ٧٦٦ﻫ، فدخلها هذا وبعث جنده إلى الموصل فأخضَعَها، واستمر في بغداد إلى أن مات في سنة ٧٦٩ﻫ، فطلب مرجان من السلطان أن يُعِيده إلى ولاية بغداد بعد أنْ حلف له على الطاعة، فقبل منه وأعاده عليها للمرة الثانية، فسار بالناس سيرةً حسنة وأتم ما كان شرع فيه من الأعمال والمشاريع العامة، وحمد الناس له سِيرته، وكمل في ولايته الثانية هذه ست سنوات ومات في سنة ٧٧٤ﻫ/١٣٧٢م، فوليها بعده الخواجة سرور، ولم يُقِمْ فيها إلا أشهرًا قليلة حتى أُصِيبتْ بالغرق العظيم، فطفا الماء على بغداد وما حولها، وتهدَّمت أكثر قصورها وآثارها، كما تهدَّمت الآلاف من دورها، ومات جمعٌ غفير من أهلها، وكانت الخسارة عظيمة، فلما بلغت أخبارها إلى السلطان وهو بتبريز تأثَّر جدًّا فسأل أمراءَه عمَّن يريد أن يتولى إيالة بغداد وينقذها من الخراب الذي أحاط بها، ويكون مدة خمس سنوات مطلقَ اليد في خراجها، على أن يعمِّرها فقبل الأمير إسماعيل بن زكريا الدامغاني بذلك، ودخلها في سنة ٧٧٥ﻫ/١٣٧٣م، وحدب عليها وعطف على أهلها، وحفر الأنهار، ونظم المجاري، واعتنى بالزراعة، ونظم شئون البلاد حتى ازدهرت، وفي هذه الفترة مات السلطان أويس ووُلِّي ابنه جلال الدين حسين مكانه في سنة ٧٧٦ﻫ/١٣٧٤م، فأقرَّ الأوضاعَ كما كانت في عهد أبيه، ومرت الممالك العراقية بفترة استقرار لولا حادثتان، أولاهما أن الخواجة بيرام بك ثار في الموصل وتغلَّب عليها في سنة ٧٧٧ﻫ/١٣٧٥م كما تملَّكَ بلاد سنجار، وقوي أمره، واشتد بطشه؛ والثانية وقوع فتنة في بغداد في سنة ٧٨٠ﻫ/١٣٧٨م ذهب بسببها الأمير الدامغاني قتيلًا بسبب ثورة الجند عليه، وقد أسف الناس لمقتله لما كان عليه من الصفات النبيلة والعدل، وإعادة السكينة والرخاء إلى بغداد خاصةً، والبلاد العراقية عامة.

ولما قُتِل الأمير إسماعيل الدامغاني اضطربت الأحوال ووقعت فِتَنٌ كثيرة بين السلطان حسين وإخوته الطامعين في الملك والسيطرة على بغداد، إلى أن كانت سنة ٧٨٢ﻫ/١٣٨٠م فتمت فيها الغلبة للشيخ علي أخي السلطان حسين، وتولى على بغداد قسرًا بمعاونة نفر من أهلها؛ لأنه كان أميرًا عادلًا صالحًا على عكس ما كان أخوه السلطان حسين.

وفي هذه الفترة أحبَّ السلطانُ حسين التقرُّب من سلطان مصر والشام وأن يقوِّي نفوذه عنده، فبعث إليه بالقاضي زين الدين علي بن العبايقي الآمدي قاضي بغداد وتبريز، وبالصاحب شرف الدين بن عز الدين الواسطي وزير السلطان، ومعهما نفر من الوجوه والأعيان، ولما وصلوا إلى الديار الشامية أكرَمَهم أهلها إكرامًا كثيرًا، ولما وصلوا إلى الديار المصرية تلقَّاهم السلطان برقوق أحسن تلقٍّ، وقد قوَّت هذه الوفادة أواصرَ المودة بين العراق وبين الشام ومصر وحكَّامهما. ويذكر المؤرخون أن القاضي زين الدين لما رجع إلى العراق كان يُكثر من الثناء على أهل الشام ومصر، ويظهر أن السلطان حسينًا لم يفد كثيرًا من هذه الوفادة؛ فإن النزاع قد قوي بينه وبين إخوته، فإنهم غاروا من ذلك، وأخذوا يُفسِدون عليه خططه التي هدف إليها من وراء هذه الوفادة، وفي سنة ٧٨٤ﻫ/١٣٨٢م تغلب عليه الأمير أحمد وقتله واستقل بالأمر بعده، ثم انصرف أحمد لقتال سائر إخوته، وابتدأ بقتال الشيخ علي صاحب بغداد الذي نادى بنفسه سلطانًا عليها بعد مقتل أخيه السلطان حسين، ووقعت بين الطرفين معارك عديدة قُتِل فيها الشيخ علي واضطربت حالة بغداد، وتسلَّط الأوباش والسُّوقة على المدينة، واجتمع وجوهها وبعثوا إلى أمير يُسمى «عادل آغا» وصاحب نفوذ كبير في مدينة تبريز طالبين إليه أن يبعث إليهم واليًا يضبط أحوال المدينة وينظم فَوْضاها، فبعث إليهم بالأمير طورسن ليتولى بغداد، وبقوام الدين النجفي ليتولى وزارة بغداد، فلما وصلا إلى المدينة لم يستطيعا وضْعَ الأمور في نصابها، ولم تتبدَّل الحالة بل ازدادت سوءًا على سوء؛ لأنهما شرعا في جمع الأموال ومصادَرة الأهلين، وخصوصًا حين بلغ الناسَ خوفُ السلطان أحمد من تيمورلنك الذي أخذ نجمه يظهر في هذه السنة، ٧٨٦ﻫ/١٣٨٤م، والذي سيطر على المشرق كله من تركستان إلى بخارى وسائر بلاد ما وراء النهر، وأنه متجه الآن لفتح الأراضي الغربية في خراسان وسائر المماليك الإيرانية والعراقية والشامية والمصرية.

وفي سنة ٧٨٦ﻫ/١٣٨٤م زحفت جيوش تيمورلنك على تبريز وأذربيجان فاستولى عليهما وفتك بأهلهما، وفرَّ السلطان أحمد إلى بغداد فتخاوَف الناس، وتذكَّروا أيام هولاكو وجنكيز خان، وبينما كان تيمورلنك يريد الزحف على العراق، إذا بالأخبار تَرِد إليه أن بعض الثوَّار ظهروا في بلاده، وخرجوا عليه، فرجع إليهم من حيث أتى واستقر هنالك فترةً وطَّد فيها أركانه، وقضى عليهم، ثم عاد إلى العراق فلقيه جيش العراق على ما سنفصله فيما يلي.

١  انظر «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٥٢.
٢  انظر «رحلة ابن بطوطة»، ٢: ١٢٣.
٣  راجع تفاصيل هذه الحروب في «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٨٧؛ و«تاريخ ابن الوردي»، ٢: ٣٦٦.
٤  راجع التفاصيل في «تاريخ الغياثي»، ص١٦٦.
٥  راجع التفاصيل في «تاريخ الغياثي»، ص١٦٦.
٦  راجع التفاصيل في «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٩١.
٧  انظر «العراق بين احتلالين» للعزاوي، ١٠: ٤٧١، نقلًا عن «عقد الجمان» ٢٢: ٢٢١.
٨  «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٩٥.
٩  راجِع تفصيل ذلك في «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٩٩.
١٠  «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٩٩؛ وكتاب «شذرات الذهب» لابن العماد، ٦: ١١٣.
١١  انظر تفصيل هذا في «الدرر الكامنة»، ٤: ٤٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤