الفصل الثالث

العراق والكارثة التيمورية

ظهر تيمورلنك عام ٧٧٣ﻫ/١٣٧١م في بلاد سمرقند فاستولى عليها، ثم استولى على بلاد بخارى جميعها، ثم قصد بلاد هراة وما إليها فضمَّها إلى مملكته، ولم تأتِ سنة ٧٧٧ﻫ حتى كان مستوليًا على جميع بلاد ما وراء النهر وتركستان وخوارزم، وفي سنة ٧٨٤ﻫ قوي نفوذه جدًّا، وخرج بجموعٍ كثيرة من المغول والتتار ودخل بلاد خراسان ففتحها، ثم اتجه إلى بلاد أذربيجان فخربها، واستولى على أموالها وفعل الأفاعيل بأهلها؛ لأنهم حاوَلوا مقاوَمته، ثم سار نحو أصفهان فأخضعها، واتجه نحو تبريز فاجتاحها، واضطر السلطان أحمد بن أويس أن يهرب بنفسه على ما بيَّنَّاه في الفصل الثاني.

وبلغت أخبار تيمورلنك إلى العراق فخاف أهله خوفًا شديدًا، وأخذ كل واحد يُعدُّ العدةَ للهروب بنفسه والنجاة بأولاده وماله. أما السلطان أحمد فإنه رأى أن يكتب إلى صديقه سلطان مصر مستنجِدًا، ومحذِّرًا من فتْكِ هذا الطاغية الجبَّار، وأخذ السلطان أحمد يجهِّز نفسه فأعدَّ عسكرًا عظيمًا وتلاقَى جيش العراق بجيش تيمورلنك عند مدينة سلطانية، ولكن الجيش العراقي العربي لم يستطِع الوقوفَ طويلًا أمام الجيش التيموري، وتفرَّقَ جنده، وعمَّت الفوضى بين رؤسائه وقادته، ثم اتجه الجيش التيموري صوب بغداد، وأخذ جندُه يفتكون بالقرى والمدن التي تعترض طريقَهم، وكانوا يستخلصون الأموالَ ويعذِّبون الأهلين، ويقتلون كلَّ حي حتى النساء والأطفال والشيوخ، ويهدمون الدورَ والقصور ويحرقون الزرع والشجر، ويَسْبون الغلمان والفتيات. أما السلطان أحمد، فإنه جمع أموالَه ونفائسَ قصوره وكنوزه وأهل بيته، وأرسَلهم في صحبة ابنه الأمير ظاهر إلى قلعة جد حصينة يقال لها «قلعة النجاء» في بلاد شروان، ثم فرَّ هو وبعض قادته وأمرائه إلى بلاد الشام في يوم ٢٠ شوال سنة ٧٩٥ﻫ، ودخل تيمورلنك مدينة بغداد وبعث جنده إثرَ السلطان أحمد، فساروا إلى «الحلة» وفتكوا بأهلها، وكادوا يلحقون بالسلطان أحمد ويفتكون به، ولكنه استطاع أن ينجو بنفسه بعد أن سبى المغولُ حريمَه واستولَوا على جنده، وركض هو مُسرِعًا ناجيًا بنفسه حتى دخل مدينة «الرحبة» واستجار بأميرها نصير أمير عرب الفضل فأكرَمَه، ثم نصحه أن يتجه نحو حلب فسار إليها وأكرَمَه نائبها، ثم كتب إلى السلطان في مصر يُعلِمه بمقدمه ويخبره أن السلطان أحمد راغبٌ في السفر إلى مصر، فجاءه الجواب بالموافَقة وسار السلطان إلى مصر.

أما تيمورلنك فإنه بعد أن استولى على بغداد وفتك بأهلها أفظع الفتك، وأتلفَ تحفَها وذخائرها ودُورَها وقصورها ومكاتبها ومرافقها ومدارسها وجوامعها وحمَّاماتها، واستولى على كنوزها وتُحَفها وغالي أثاثها ورياشها، بعث جنوده فاستولوا على سائر النواحي المحيطة بالعاصمة، وقد لقي الناس منهم أشدَّ الويلات حتى أقفرت المدن، وأضحى جميع أهلها فقراء أو كالفقراء، ومات ناسٌ كثيرون من التعذيب والجوع والأوبئة.

وفي سنة ٧٩٦ﻫ/١٣٩٣م توجَّه نحو ديار بكر وتكريت فاستولى عليهما وفتك بأهلها فتكًا ذريعًا، حتى قيل إنه بنى من رءوس القتلى من أهلهما مئذنتَين وثلاث قباب عاليات، وجعل مدينة تكريت خرابًا يبابًا، ثم اتجه نحو «إربل» فحاصرها أشد حصار حتى جعل صاحبها الشيخ علي يخضع له فقبل خضوعه، وأبقاه أميرًا على المدينة على أن يقدِّمَ له في كل سنة جُعلًا مسمى، ثم بعث بولده على رأس جيش كبير من المغول والتتار إلى بلاد البصرة وجزائر البحرين، فالتقى بأميرها صالح بن صيلان، فقاوَمه صالح أشدَّ المقاوَمة، وفتك بالجيش التتاري، وأسرَ ابن تيمورلنك، ولما سمع تيمورلنك بذلك غضب أشد الغضب، وغادَر بغداد بعد أن ولَّى عليها الخواجة مسعود الخراساني، ولما وصل إلى البصرة دحرَ أميرها وفتك بأهلها واستنقذ ولده، ثم اتجه صوب «رأس العين» فدخلها وانساح جنودُه في الجزيرة والموصل فسيطر على كل تلك الأقاليم، وكان في عزمه أن يتجه صوب حلب فعدل عن ذلك؛ لأن الأخبار جاءته مُعلِنةً أن الأمير «طقتمش خان» صاحب بلاد الدشت والقفجاق قد مشى من بلاده يريد غزو بلاد تيمورلنك، فرجع هذا إلى تبريز، ثم اتجه لقتال الأمير طقتمش خان، فالتقيا ودام القتال مدةً ثم انهزم طقتمش خان وأخذ تيمورلنك ينظم أمور بلاده، ويوزِّع إدارتها على أولاده وقادته، ولما أتمَّ ذلك كله كتب إلى السلطان الملك الظاهر برقوق صاحب مصر والشام يطلب إليه أن يسلِّمه السلطان أحمد بن أويس، وبعث إليه بكتابٍ طويل أرغى فيه وأزبد، وهدَّد وأوعد،١ فأجابه السلطان برقوق بكتابٍ أطول أنشأه الكاتب الأشهر ابن فضل الله العمري، وقد ردَّ فيه على تيمورلنك توعُّدَه وإنذاره.

ثم إن السلطان برقوق جهَّز السلطان أحمد بجيشٍ كبير، فسار إلى دمشق وأقام فيها مدةً أتمَّ فيها استعداداته، ثم توجَّهَ إلى العراق سنة ٧٩٧ﻫ/١٣٩٤م مع طائفة من القواد والأمراء، فبلغ بغدادَ وأميرُها حينئذٍ الخواجة مسعود الخراساني، فحارَبه حتى اضطره إلى الهرب، وتسلَّم المدينة في مطلع عام ٨٠٠ﻫ/١٣٩٧م، ثم أخذ ينظم أمور المدينة حتى أعادها إلى رونقها وسالف مجدها، ولما بلغت هذه الأخبار مسامعَ تيمورلنك غضب أشدَّ الغضب ونظم حيلة لاغتيال السلطان أحمد، فبعث الأمير شروان إلى بغداد طالبًا إليه أن يتظاهر بالالتجاء إلى السلطان أحمد، ولما دخل هذا إلى بغداد أكرَمَه السلطان أحمد، ثم أخذ الأمير شروان يعمل في الخفاء على إثارة الفتنة، ويوزِّع الأموال على الأمراء والأعيان، وأحسَّ السلطان أحمد بالحيلة ففتك به وبطائفةٍ كبيرة من الأمراء والأعيان المتآمِرين معه، ولكنه ظلَّ على الرغم من ذلك خائفًا من دسائس تيمورلنك وعيونه. وفي سنة ٨٠٢ﻫ/١٣٩٩م عزم على ترك العراق والذهاب إلى بلاد الروم والالتجاء إلى ملوكها الأتراك العثمانيين، فقد بلغه أن تيمورلنك عازمٌ على الإغارة على بغداد بجيش كبير، فاتجه السلطان أحمد نحو بلاد الروم والتجأ إلى السلطان بايزيد العثماني، بعد أن أبقى في بغداد حاكمًا عليها يُدعى الأمير فرج، ولما بلغ ذلك تيمورلنك توجَّه إلى بغداد فدخلها في سنة ٨٠٣ﻫ، وفتحها للمرة الثانية، وأعمل في أهلها سيفَه حتى لم يَكَدْ يبقى من أهلها إنسان، ولا من بنائها آثار، وأحرق الزرع والشجر، وأهلك كل ما لم يستطِع جنوده على سرقته وحمله.

قال المؤرخ ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب»: «سار على بغداد وحاصَرَها أيضًا حتى أخذها عنوةً يوم عيد النحر من هذه السنة ٨٠٣ﻫ، ووضع السيف في أهلها وألزم جميع مَن معه أن يأتي كلُّ واحدٍ برأسَيْن من رءوس أهلها، فوقع القتل حتى سالت الدماء أنهارًا، وقد أتوه بما التزموه، فبنى من هذه الرءوس مائةً وعشرين مئذنة، ثم جمع أموالها وأمتعتها، وسار إلى قراباغ فجعلها خرابًا بلقعًا.»٢
وقال الرحَّالة ابن بطوطة في رحلته: «أخبَرَنا شيخُنا قاضي القضاة أبو البركات بن الحاج أعزَّه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق ومعه ابن أخ له، فتفاوَضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتار بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبقَ منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه.»٣

ولما أتمَّ الطاغية تيمورلنك فِعْلته النكراء هذه ترك بغداد بعد أن ولَّى عليها أبا بكر بن ميران شاه، ثم توجَّهَ إلى بلاد الروم، ووقعت بينه وبين السلطان بايزيد حروبٌ طال أمرها، أما السلطان أحمد فإنه حاوَل الرجوع إلى بغداد فرجع إليها، ووقعت بينه وبين أبي بكر واليها حربٌ شديدة، ثم وقعت بينه وبين ابنه الأمير طاهر حرب، وانتهت كل هذه الفتن بسيطرة السلطان أحمد من جديد على بغداد في مطلع عام ٨٠٦ﻫ بعد موت تيمورلنك، ولما هلك تيمورلنك استراحت الدنيا من شروره وتدميره ومزعجاته، وعادت السكينة بعض الشيء إلى الديار العراقية، ولكن السلطان أحمد عاد إلى سِيرته الأولى، فأخذ يزعج الناس ويُصادِر أغنياءهم، ثم طمع في استرداد تبريز فجهَّز جيشًا كبيرًا استردَّ به مدينة تبريز عام ٨٠٩ﻫ/١٤٠٦م، ولما دخلها فرح الناس بدخوله وظنوا أنه مقلع عن غيِّه وظُلمه لما ناله من التشريد والبؤس وصروف الدهر، ولكنه خيَّب آمالهم ورجع إلى ضلاله القديم، فلما ضاق الناس ذرعًا به ثاروا عليه وسعوا لدى الميرزا أبي بكر أن يعلن ثورته عليه وأطمعوه في التغلُّب على السلطان، فقدم إلى تبريز وأخرَجَ السلطان منها واستولى عليها، فرجع السلطان إلى بغداد واتخذها مقرًّا له، ثم وقعت بينه وبين الأمير قرا يوسف صاحب التركماني مُشاحَناتٌ وحروب انتهت بوقوع السلطان أسيرًا بيدِ قرا يوسف، فطلب إليه أن يتنازل له عن السلطنة وأن يفوِّض إيالة أذربيجان إلى ابنه الأمير بير بوداق، وإيالة بغداد إلى الشاه محمد، فقبِلَ ووقَّع له المراسيم المتعلقة بذلك، ولكن هذا لم يمنعه من الاغتيال، وكان ذلك في سنة ٨١٣ﻫ، وبموته قُضِي على ملك من أكبر ملوك العراق في هذه الحِقبة، فقد عاش قرابة ثلاثين سنة وهو ملك على العراق يحاول بسْطَ نفوذه على إيران والعراقين وأذربيجان، وكان لا يعرف الكلال ولا الملل، وهو بحقٍّ آخِرُ الملوك الجلايرية العِظام، وسنرى فيما بعدُ أن مَن خلفه لم يكونوا شيئًا مذكورًا، ولم تمضِ على وفاته إلا فترةٌ حتى انقرضت هذه الدولة تمامًا كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد.

١  أورد نص الكتاب المؤرخ القرماني في كتابه «أخبار الدول»، ص٢٠٦.
٢  انظر «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»، الجزء ٧، حوادث سنة ٨٠٣.
٣  انظر «رحلة ابن بطوطة»، ١: ٢٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤