الفصل الرابع

العراق في القرن الثامن

الدولة البارانية – والدولة البايندرية

رأينا في الفصل السابق أن تيمورلنك قد اجتاح العراق في العشر الأخير من القرن الماضي، وأن حكمه قد استمر طوال حياته، وأن السلطان أحمد الجلايري صاحب العراق وآخر ملوك الدولة الجلايرية قد لقي منه ويلات شدادًا، وأنه حاول القضاء عليه فلم يتمكن منه، ولما مات تيمورلنك واضمحل أمر مملكته وعاد السلطان أحمد إلى العراق كما بيناه في الفصل الماضي، وتلقاه أهل العراق بالفرح الشديد والابتهاج مؤملين للبلاد على يديه كل خير، راجين أن يكون قد أقلع عن غيه القديم وعسفه، فقدموا له الأموال، وتفانوا في خدمته، ولكنه ظل سادرًا في لهوه ولعبه، مسترسلًا في غيه وضلاله حتى قتل في سنة ٨١٣ﻫ، كما ذكرناه قبلًا.

فلما قُتل بعد أن تنازل عن المُلك للأمير محمد شاه بن قرا يوسف الباراني رحل محمد شاه هذا إلى العراق للاستيلاء عليه في سنة ٨١٤ﻫ، ولما وصل بغداد قاومه واليها من قِبل السلطان أحمد كما قاومته زوجة السلطان أحمد، وكانت امرأة ذات دهاء وخبث فأذاعت في المدينة أن السلطان أحمد ما يزال حيًّا، وأنه عما قريب عائد إلى مقر ملكه، ثم عمدت إلى الوالي فقتلته، وأخذت تعمل على الانفراد بالأمر والاستيلاء على الحكم، ولكنها خُذلت، واضطرت أن تنهزم، أما الشاه محمد فدخل هذا إلى بغداد في أوائل سنة ٨١٤ﻫ/١٤١١م واستقرت الأمور له فيها.

وبانقضاء عهد السلطان أحمد وزوجته انقضى عهد الدولة الجلايرية الحقيقي، على أنه قد بقي هناك بعض الأمراء الجلايريين ظلوا يتحكمون في بعض المناطق العراقية والإيرانية مثل السلطان محمود بن شاه ولد، فقد حكم مدينة تستر وما إليها مدة سنتين، ومثل أخيه أويس الثاني الذي حكم تستر وخوزستان نحوًا من خمس سنوات، ومثل أخيه السلطان محمد الذي حكم خوزستان ثلاث سنوات، ومثل ابن عمهم السلطان حسين الذي تولى الأهواز إلى سنة ٨٣٥ﻫ، وفي هذه السنة انتهى الحكم الجلايري تمامًا، وتمكن الأمراء البارانية من توطيد أركان الدولة الجديدة البارانية المعروفة باسم دولة «قرا قويونلو».

(١) الدولة البارانية

تنتسب هذه الدولة — المعروفة أيضًا «بالدولة القرا قويونلية» ومعنى «قرا قويونلو»: الأغنام السود؛ لأنها كانت شعارهم — إلى باران أحد رؤساء التركمان الذين هاجروا من بلاد تركستان إلى خراسان، ثم تفرقوا في جميع الأراضي الفارسية والعراقية، وقد كانوا قومًا أشداء استعان بهم السلطان أويس الجلايري على قهر خصومه، وتوطيد أركان مملكته، وقرَّب رئيسهم بيرام خجا بن تورمش، وعهد إليه ببعض أموره الحربية، وأخذ أمره يقوى يومًا فيومًا حتى مات السلطان أويس فطمع بيرام خجا في السيطرة، ثم تم له ما أراد واستولى على ديار الموصل وسنجار في سنة ٧٧٦ﻫ/١٣٧٤م، وأخذ أمره يقوى منذ ذلك الحين إلى أن مات في سنة ٧٨٢ﻫ، فتولى الأمر من بعده أخوه مراد خجا فلم يبقَ إلا مدة حتى هلك، فتولى الأمر من بعده قرا محمد بن تورمش بن مراد خجا، وكان شابًّا ذا قوة ودهاء، وسَّع ملك أسلافه وامتد سلطانه إلى ماردين، وعظم نفوذه في كافة هاتيك الأصقاع حتى إن السلطان أحمد الجلايري تزوج ابنته، ولما هلك في سنة ٧٩١ﻫ/١٣٩٠م تولى الأمر من بعده الأمير قرا يوسف الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، وكان من الرجال الأذكياء الأقوياء، وقد استطاع بذكائه وقوة إرادته التسلط على المملكة العراقية بكاملها وطرد الجلايريين منها، واستخلاصها لنفسه، ولما استقل قرا يوسف بالأمر بعث ابنه شاه محمد إلى بغداد فقضى على بقايا الجلايريين، أما هو فإنه اتخذ تبريز عاصمة له، وعادت بغداد من جديد تابعة لتبريز، ثم شرع في توطيد أركان مملكته وتوسيعها في البلاد الإيرانية والتركية، ففي سنة ٨١٨ﻫ بعث ابنه شاه محمد صاحب بغداد إلى بلاد «سيس» ففتحها وضمها إلى مملكته، وظل يعمل على توسيع رقعة مملكته إلى أن هلك في سنة ٨٢٣ﻫ/١٤٢٠م، وقد امتد سلطانه إلى الشرق والغرب، ولقيت البلاد العراقية منه ومن ابنه شدة وويلات حتى قال صاحب «المنهل الصافي»: «ومات في ذي الحجة … وأراح الله الناس منه، نسأل الله أن يلحق به من بقي من ذريته؛ فإنه هو وأولاده الزنادقة الكفرة كانوا سببًا لخراب بغداد وغيرها من العراق، وهم شر عصبة، لا زالت الفتن في أيامهم ثائرة والحروب قائمة إلى يومنا هذا، وطالت مدتهم بتلك البلاد التي كانت كرسي الإسلام ومنبع العلم ومدفن الأئمة الأعلام»،١ وبعد موت قرا يوسف وقعت الاختلافات بين أولاده وتقارعوا بالسيوف، فاستولى أحدهم وهو «شاه رخ» على «تبريز»، واستقل الإسكندر بمدينة كركوك، واستولى «أسبهان» على بغداد، ثم تلاقى «شاه رخ» والإسكندر في ميادين القتال، وانهزم «شاه رخ» فارًّا إلى أرض الفرات، أما الإسكندر فإنه رجع إلى خراسان، واستقل بها وببلاد تبريز، وأما «أسبهان» فإنه استولى على بغداد، ووقعت بينه وبين أخيه محمد شاه اختلافات طويلة حتى أقام هو في الجانب الغربي من المدينة في عمارة السلطان أحمد، وأقام أخوه محمد شاه في الجانب الشرقي، واستمرت الحالة على ذلك مدة، والناس يقاسون ويلات من الأميرين حتى اضطر «أسبهان» إلى أن ينسحب ويستقل بلواءي دبالى، والحلة، وما إليهما.

ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأمراء الجلايرية قد طمعوا في استعادة سلطانهم بعد موت قرا يوسف ورؤيتهم اختلاف أولاده، ففي سنة ٨٢٤ﻫ هاجم الأمير أويس الثاني بغداد، ولكنه رد عنها خائبًا، وفي سنة ٨٢٥ﻫ عاد إليها ثانية فهاجمها ورُدَّ عنها خائبًا، ولكنه استطاع الاستيلاء على الحلة، وفي سنة ٨٢٧ﻫ هاجم الأمير علاء الدين ابن السلطان أحمد مدينة الحلة، واستولى عليها وطرد الأمير أويس، وفي سنة ٨٣٠ﻫ عاد السلطان أويس فطرده واستولى على الحلة، وحارب محمد شاه ببغداد وفيها قتل.

•••

إلى هذا الأمر صار حال العراق بعد موت قرا يوسف، ولم تمضِ سنوات قليلة حتى توسعت الأمور اضطرابًا، وزادت الانقسامات والفتن بين أولاد قرا يوسف حتى تفانوا، ولم يبقَ منهم إلا الأمير «أسبهان»، فإنه استولى على أكثر البلاد، ولكنه لم يكن حسن السيرة، وقد لقي العراق منه مثل ما لقي من أخويه، وقد رووا أنه كان مهملًا للبلاد، معذبًا للناس، مستوليًا على أموالهم، ولم تكد البلاد تستعيد شيئًا من نضارتها بسبب جودة المواسم حتى أقبل عليها بخيله ورجله ففتك بأهلها، وصادر تجارها في سنة ٨٤٢ﻫ، وشرع في هذا العام يجمع الأموال ويصادر الرجال ليتوجه بهم إلى قتال الأمير حمزة سلطان البايندرية المعروفين باسم «آق قويونلو»، ولما تم له ما أراد توجه إلى بلاد سنجار لقتال الأمير حمزة فقهره هذا، وفرق جنده، واضطره إلى أن يعود إلى بغداد ليستعد من جديد لقتال البايندرية، فأقام سنة يستعد لهم، ولما تمت له أسباب القوة ذهب إلى بلاد «ماردين» و«إربل» للانتقام من البايندرية ففتك بطائفة منهم، وأنزل بإربل شرَّ البلاء ثم رجع إلى بغداد، وفي هذه الفترة ذاع أمر ظهور المهدي المشعشع في سنة ٨٤٤ﻫ/١٤٤٠م في أرض واسط، وكان هذا رجلًا يعرف شيئًا من السحر وعلم المخاريق، فالتف الأعراب حوله في واسط والخوزستان والحويزة وجزائر البحرين، ولما رأى كثرة تابعيه طمع في التملك وجهز جيشًا حارب به حاكم الحويزة وقهره، وتسلط على كافة هاتيك الأصقاع، ثم استولى على البصرة، وانتشرت جماعته التي عرفت بالمشعشعين تنشر دعوتها في العراق كله، حتى خاف الأمير «أسبهان» منه ووجه إليه جيشًا تغلب على المشعشع، واستمرت دعوته في الانتشار، ولما مات الأمير «أسبهان» في سنة ٨٤٨ﻫ/١٤٤٤م خلا له الجو فازداد نفوذه، وخصوصًا حين وقعت الفتنة بين خلفاء «أسبهان» وأمرائه؛ لأن كلًا منهم كان يطمع في التملك، كما أن أخاه جهان شاه أراد الاستيلاء على بغداد فوقعت الحروب والفتن بينهم جميعًا، وانتشر أمر المشعشع وابنه علي انتشارًا عظيمًا، ووقعت حرب كبيرة بين المشعشع وبين جهان شاه الذي استولى على بغداد في سنة ٨٥٠ﻫ، ثم استولى على البصرة وطرد المشعشع، وبعد أن وطد جهان شاه ملكه في هاتين العاصمتين رجع إلى تبريز بعد أن أقام في العاصمتين نائبين عنه، وفي سنة ٨٥٧ﻫ/١٤٥٤م هاجم علي بن المشعشع بغداد، بعد أن حاصر واسطًا والحلة، وقطع نخلهما، وضيَّق الأمر على أهلهما، وهدم المشاهد والأضرحة، وفي سنة ٨٦٠ﻫ توجه علي بن المشعشع إلى «مهروز» و«بعقوبا» فنهبهما، وقتل أهلهما، وأسر عددًا كبيرًا، ثم رجع إلى الحويزة فأقام فيها قليلًا، ثم توجه إلى «بهبهان»، فحاصرها وقُتل في أثناء الحصار سنة ٨٦١ﻫ.

أما أبوه المشعشع، فقد كان يزعم للناس أنه على خلاف مع ابنه وأنه لا يُقِرُّهُ على أعمال العنف التي يقوم بها، وأنه يحمد الله على موته؛ لأن دعوته يجب أن تقوم بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالسيف والعنف، وقد استمر المشعشع في دعوته إلى سنة ٨٦٦ﻫ وفيها مات فخلفه ابنه المحسن، وكان رجلًا حازمًا مدبرًا تمكن من الاستيلاء على جزائر البحرين كلها، وعلى أكثر أنحاء بغداد وبلاد البختيارية في فارس.

أما الأمير «أسبهان» فإنه أخذ يقوي نفسه ويعمل على القضاء على المشعشعين حتى اكتسح أكثر نواحي بغداد، ثم انحدر إلى واسط وهي من معاقلهم فاستولى عليها، ثم عاد ثانية إلى بغداد فحاصرها وفيها أخوه شاه محمد فتغلب عليه، ودخل المدينة وفرَّ أخوه إلى الموصل، وقد لقيت بغداد ما اعتادت عليه من المآسي في مثل هذه المحن المتكررة عليها، ولما وصل شاه محمد إلى الموصل تسلطن فيها وامتد سلطانه إلى بلاد «إربل» وكركوك، ثم طمع في استعادة بغداد من أخيه فتوجه إليها، وقُتل في أثناء المعركة، وقد دام ملكه نحوًا من ثلاث وعشرين سنة لم يعمل خلالها عملًا صالحًا، بل خرَّب البلاد وبخاصة بغداد، قال صاحب «المنهل الصافي»: «كان فاسقًا زنديقًا، لا يتدين بدين، وأبطل بتلك الممالك شعائر الإسلام، وقتل العلماء، وكان سماطه في رمضان يُمَدُّ في ضحوة النهار، كما يمد في الإفطار، على رءوس الأشهاد، والويل لمن كان لا يأكل منه، وأبطل صلاة الجمعة والجماعة، وفسدت السابلة، ورحلت الناس عن بغداد فوجًا فوجًا، وانقطع ركب الحاج من بغداد سنين، ونفرت القلوب، إلى أنْ غلبه أخوه «أسبهان»، وكان أكفر من أخيه شاه محمد وأظلم، وأولاد قرا يوسف بأجمعهم هم أوحش خلق الله، وفي أيامهم خربت ممالك العراق، وأطراف العجم، ودار السلام، وهدمت تلك المساجد والمعاهد الجليلة، فالله تعالى يُلحق بهم من بقي من آخرتهم وأقاربهم؛ فإنهم عار على بني آدم لما اجتمع فيهم من المساوئ والقبائح.»٢
والحق أن صاحب «المنهل الصافي» لم يبالغ في أقواله؛ فقد كان هؤلاء من شرار الحكام، وبخاصة شاه محمد؛ فقد لقيت البلاد منه في عهده كل شرٍّ وسوء، كما لقيت من إخوته مثل ذلك، فقد رأينا سوء أعمالهم قبل موت شاه محمد، أما بعد وفاته فإن الأمير «أسبهان» زحف على «إربل» بعد موت أخيه فقاتل صاحبها وهو ابن أخيه علي شاه، وهدم المدينة، ولم يتركها إلا بعد أن ألقى السم في مياهها، ومات من أهلها خلق كثير، ثم إنه رحل إلى الموصل فاستولى عليها في سنة ٨٣٩ﻫ/١٣٤٥م، ثم قصد بغداد واستولى عليها، وأخذ ينظم أموره فيها، ومما هو جدير بالذكر أنه أهمل حالة المدينة فعمت فيها الأمراض والأوبئة، حتى قيل: إنه حصل وباء في سنة ٨٤١ﻫ/١٣٤٧م هلك بسببه ناس كثيرون، وكان العمل الوحيد الذي قام به هو تركه المدينة ونجاته بنفسه وبجنده، ولم يرجع إليها إلا بعد أن قضى الوباء على أكثر سكانها، قال المقريزي في السلوك: «وخربت المدينة، ولم يبقَ بها جمعة ولا جماعة، ولا أذان ولا سوق وجفَّ معظم نخلها، وانقطع أكثر أنهارها بحيث لا يطلق اسم مدينة بعد أن كانت سوق العالم.»٣
وأما الأمير جهان شاه فإنه لم يكن أحسن حالًا من «أسبهان»، وقد وقعت الفتنة بينه وبين ابنه بير بوداق «بير بضغ» صاحب بغداد لما بلغه أنه يقسو على الناس، ويجمع أهل الفسق والإلحاد ويقربهم، فكتب إليه ينصحه أن يقلع عن فساده فسخر بالكتاب وبأبيه أمام الرسول، فلما علم الأب بذلك جهز جيشًا كبيرًا، وزحف على بغداد في سنة ٨٦٩ﻫ لتأديب ابنه ووقعت بين الاثنين معركة عنيفة قاست بغداد من جرائها ويلات، ولقي سكانها شرًّا عظيمًا؛ لأن الحصار دام نحوًا من سنة ونصف السنة إلى أن قتل «بير بوداق»، ودخل أبوه المدينة سنة ٨٧٠ﻫ، ففتك جنده بأهلها، ولم يكن حالهم مع الأب أحسن من حالهم من الابن.٤

ولما استتبت الأمور لجهان شاه أقام في بغداد نائبًا عنه اسمه بير محمد الطواشي ورجع هو إلى تبريز، وما بقي فيها قليلًا حتى توجه عزمه على قتال السلطان حسن الطويل البايندري صاحب ديار بكر، فسار إليه في جمع من الجنود، ولكن الدائرة دارت عليه وعلى كثير من جنوده فقتل في سنة ٨٧٢ﻫ/١٤٦٧م كما قتل عدد من الأمراء والقادة البارانية أمثال محمد ميرزا، وأبي يوسف ميرزا ولدي جهان شاه وبير زادة، ولما أصيب الجيش الباراني بهذه النكبة تفرقت فلوله في البلاد، وفكر بعض قادتهم في لمِّ الشمل، وقر رأيهم على أن يذهب الأميران شاه علي وشاه إبراهيم، ويعملا على إنقاذ أحد أولاد جهان شاه واسمه حسن علي من قلعة كان محبوسًا فيها، فأنقذوه وساروا به إلى تبريز فدخلوها، وأخذوا يهيئون أنفسهم للانتقام من السلطان حسن الطويل والتقى جمعاهما عند تبريز في سنة ٨٧٣ﻫ/١٤٦٨م، فانكسر الأمير حسن وجماعته وتفرق جنده واستولى السلطان حسن الطويل على تبريز، فلما بلغت هذه الأخبار مسامع والي بغداد بير محمد الطواشي أخذ يستعد للقاء السلطان حسن الطويل، ولكنه فوجئ بمرض هلك على إثره، فعمد الأمراء في بغداد إلى تسليم المدينة إلى أحدهم واسمه حسن علي بن زينل، وكان أميرًا حسن السيرة رقيق القلب، ولكنه لم يلبث في حكمه طويلًا حتى مات، فتسلم الأمر من بعده أخوه منصور بن زينل وكان جبارًا فاتكًا فكره الناس عهده وعملوا على التخلص منه فقتلوه وبموته انتهت الدولة البارانية، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ٨٧٤ﻫ/١٣٦٩م، وقد حكمت الأسرة البارانية العراق وما إليه قرابة نصف قرن، لقي العراق فيها أشد الويلات على الرغم من أنه كان مستقلًّا شبه استقلال عن العاصمة تبريز، فقد كان والي بغداد يتولى أمرها مستقلًّا بنفسه، وخصوصًا في عهد شاه محمد وأسبهان وبير بوداق، ولكن حالة بغداد وسائر المدن العراقية كانت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وخصوصًا حين ازداد الطنبور نغمة بظهور المشعشع الذي اتخذ الدين شعارًا، ولحقه عدد من الغوغاء والأعراب، وأخذوا يفتكون بالناس من أهل الحاضرة، ويدكون القصور، ويخربون المساجد والمعاهد والأماكن العامة، ويعملون على تقطيع أوصال البلاد.

(٢) الدولة البايندرية

تنتسب هذه الدولة إلى «بايندر بن كون» أحد زعماء التركمان الذين جاءوا لمعاونة أمراء الدولة البارانية من بلاد التركستان إلى البلاد الإيرانية، على ما أسلفناه، ثم ما زال أمرهم يقوى إلى أن ظهر تيمورلنك، فذاع صيت أحدهم واسمه قرا عثمان فقرَّبه تيمورلنك لشجاعته وفتكه، وظهرت منه بطولات نادرة في حروب تيمورلنك فقربه هذا إليه، ولما هلك تيمورلنك طمع بايندر في السلطان، وفي تأسيس دولة كدولة بني جلدته البارانيين، وطمع في القضاء عليهم واستصفاء أراضيهم، وأخذ يعمل لذلك حتى تم له ما أراد وأسس دولته بعد أن تملك ديار بكر وبلاد «إربل» والموصل وماردين، واتخذ مدينة آمد عاصمة له، وأطلق اسم «آمد قويونلو» على دولته؛ لأنها اتخذت الأغنام البيض شعارًا لها بمقابلة «قرا قويونلو» الذين كانوا يتخذون الأغنام السود شعارًا لهم، وظل قرا عثمان يعمل طوال حياته على تقوية أمر دولته، وتوسيع رقعتها إلى أن مات.

فلما مات وقع الاختلاف بين أولاده وأحفاده فتفرقوا شيعًا، ولكن أحدهم وهو حفيد جهان كير بن علي بيك، كان فتى همامًا داهية أحبه أبناء جلدته، والتفوا حوله، واتخذ آمد مقرًّا منذ عام ٨٤٨ﻫ، ثم أخذ سلطانه يقوى إلى أن مات فخلفه أخوه السلطان حسن الملقب بالطويل، وكان رجلًا قويًّا استطاع ترتيب أمور الدولة وتنظيم جيش كبير لها، وفي سنة ٨٧١ﻫ جمع جهان شاه ملك الدولة البارانية جيشًا أراد به القضاء على السلطان حسن الطويل، فاستعد هذا للقائه، ولما التقى الجمعان تغلب جيش السلطان حسن وتفرق جند جهان شاه في البلاد، وخاف هذا سوء العاقبة ففر بنفسه، ولكن أحد جنود السلطان حسن استطاع اللحاق به وقتله في سنة ٨٧٢ﻫ كما أسلفنا تفصيل ذلك.

ولما قتل جهان شاه ذهب جنده شذر مذر، أما حسن الطويل فإنه جمع جموعه وتوجه إلى الموصل ففتحها ثم سار إلى تبريز، وبعث بجنوده ليفتحوا له الحصون والقلاع المحيطة بها ففتحوها، ولما وصل إلى تبريز علم أن السلطان أبا سعيد ميرزا صاحب خراسان قد تجهز للمسير إلى العراق فجمع سراياه وبعوثه وأرسل موفدًا إلى السلطان أبي سعيد يستعطفه، فرد السلطان رسوله، ولما نشب القتال انتصرت جنود السلطان حسن وجمعت من الأسلاب والغنائم ما لا يُقدر، وكانت هذه المعركة في سنة ٨٧٧ﻫ، وتم له الاستيلاء على إيران جميعها، وبعد أن وطد أقدامه وزع البلاد بين أولاده ورجع إلى العراق وحاصر بغداد ودخلها كما مرَّ في كلامنا عن الدولة البارانية.

ولما استولت جيوش السلطان حسن الطويل على بغداد خاف أهلها خوفًا عظيمًا لما قد بلغهم من عسف البايندرية وقتلهم للنساء والأطفال والأبرياء، ولكن الأمير مقصود بيك ابن السلطان حسن الطويل طمأنهم، وأعلن للملأ أنه نصب نفسه واليًا على بغداد، وهكذا توطدت أركان الدولة البايندرية في إيران وكرجستان والعراق.

وفي سنة ٨٧٨ﻫ/١٤٧٣م بعث المحمل العراقي إلى الحجاز ودخل المدينة المنورة وفيه جمهرة كبيرة من أهل الدين والعلم والقضاء، فلما وصلوها طلبوا من خطباء مساجدها أن يخطبوا للسلطان «الملك العادل حسن الطويل»، وأنه خدم الحرمين الشريفين، وبلغت هذه الأخبار مسامع سلطان مصر، فغضب لهذا أشد الغضب، وكادت أن تقع فتنة بين الطرفين، ولكن وسطاء السلام توسطوا بينهما فانتهت الأزمة بسلام.٥

وفي هذه السنة أيضًا وقيل بل في السنة التي تلتها وقعت بين السلطانين العثماني والبايندري حرب في مدينة قيسارية انهزم البايندري على أثرها، وكانت إحدى الحروب العظيمة التي قام بها السلطان حسن، وكان انكساره فيها انكسارًا قويًّا جعله يقلع تمامًا عن التفكير في محاربة العثمانيين.

وفي سنة ٨٨٢ﻫ/١٤٧٧م مرض السلطان حسن مرض الموت، وهلك بعد أن حكم العراق مدة غير قصيرة كان فيها ملكًا خيِّرًا محبًّا للرعية رءوفًا بها، وكان يحب العلم وأهله، كما كان يحب إشادة المساجد والمدارس والمرافق العامة، ولما شاع خبر موته طمع محسن المشعشع في الاستيلاء على بغداد، ولكن السلطان البايندري الجديد خليل بيك بعث إليه من وقف في سبيله ورده، ولم تمضِ فترة طويلة حتى ثار يعقوب بيك أخو خليل بيك على أخيه، ووقعت فتنة بين الأخوين، قُتل على أثرها السلطان خليل بيك وتولى المُلك بعده أخوه يعقوب بيك في سنة ٨٨٣ﻫ، وساس البلاد سياسة لا بأس بها، وعم الأمن في الديار العراقية وانتشر العدل بين الناس، ولكنهم لم يكادوا يستريحون من الفتن والحروب حتى فاجأهم محسن المشعشع بغارة شعواء، ووصل إلى حدود العاصمة ونهب وأسر، واضطر الجيش البايندري إلى التقهقر، ولكن السطان يعقوب عاد فنظم جنده، وطرد المشعشع، وأخذت الأمور تستقر له، وفي سنة ٨٨٨ﻫ شرع في بناء عمارته المشهورة بالجنات الثمان «هشت بهشت» فجاءت آية في روعتها وعظمتها، وفيما احتوت عليه من ضروب اللذات، وروائع الجنات، وكان يقضي فيها معظم أوقاته يستمع إلى الشعراء، ويشجع العلماء، وظل على هذا إلى أن هلك في سنة ٨٩٦ﻫ.

اضطربت الأحوال العامة في البلاد بعد موته ووقعت الفتن من جديد بين أمراء التركمان، حتى استطاع ابنه الأمير بايسنقر أن يستولي على زمام الأمر، وهدأت الفتن قليلًا، ثم عادت إلى الاضطراب ثانية، وصار الأمراء شيعًا وأحزابًا، واختل حبل الأمن، وثار الأمراء عليه، واضطروه إلى الهرب، وسلطنوا الأمير رستم بيك، وكان ذلك في سنة ٨٩٧ﻫ، وكان رستم رجلًا خيِّرًا، استطاع أن ينظم الأمور ويوطد دعائم المملكة بعد القضاء على خصمه بايسنقر، وقتله في سنة ٨٩٨ﻫ، ولم يكد يستقر قليلًا حتى فوجئ بالسلطان علي بن حيدر الصفوي صاحب بلاد أربيل يهاجمه، ووقعت بين الجانبين معركة قُتل فيها السلطان علي وأولاده إلا الشاه إسماعيل الصفوي فإنه استطاع أن يهرب ويلجأ إلى بلاد كيلان عند أميرها الميرزا علي، فكتب هذا إلى السلطان رستم بيك يطلب الأمان له والصفح، ثم استقرت الأمور في بلاد العراقين وفارس لرستم بيك إلا أنه لم يكن ملكًا صالحًا، فانصرف إلى اللهو والعبث؛ واختل نظام البلاد في عهده، وتحكمت النساء في تصريف أمور الدولة؛ لأنه كان هو وأكثر قادته منصرفين إلى الفساد، حتى ضاق الناس بهم وكاتبوا الأمير أحمد ميرزا بن محمد بن حسن الطويل الذي كان لاجئًا إلى السلطان «بايزيد» العثماني أن يجيء إليهم وينقذهم، فجاء على رأس جيش، والتقى الجمعان عند نهر أرس، وقتل رستم بيك في سنة ٩٠٢ﻫ، واستولى الأمير أحمد ميرزا على زمام السلطنة، وشرع في ترتيب الدولة، ورام أن يجري في هذه البلاد نظام نواب وساسة الملك على ما شاهده في بلاد العثمانيين، فلم يرُق ذلك أمراءه المطبوعين على الظلم، وثقل عليهم أمره، فاتفقوا على خلعه، وكاتبوا مراد بيك بن شاه يعقوب، وتآمروا معه على قتل السلطان أحمد ميرزا، فتم لهم ما أرادوا، وقتل أحمد في سنة ٩٠٣ﻫ ولم تطل مدته إلا نحوًا من سنة،٦ والحقُّ أن أحمد كان على سنن صالح، محبًّا للخير، ساهرًا على شئون الرعية، عاملًا على نشر العلم والفضيلة والتنظيم على غرار ما شاهده في بلاد الدولة العثمانية الفتية الناشئة، ولكن الأشرار من أمراء دولته الذين طاب لهم أن يستمروا في العبث بحرية الشعب، وابتزاز أمواله قضوا عليه.

وحين قضي على السلطان أحمد ميرزا التفت الأمراء فلم يجدوا من نسل السلطان حسن الطويل مؤسس الدولة البايندرية سوى ثلاثة أطفال هم مراد بن يعقوب، وكان في شروان، وألوند بن يوسف، وكان في أذربيجان، وأخوه محمدي، وكان في يزد، فانقسم الأمراء ثلاثة أقسام كل يريد تنصيب واحد، ولم تنتهِ الحالة إلا حين تغلب جماعة محمدي فسلطنوه، وكان ذلك في سنة ٩٠٤ﻫ، ولكن لم يمضِ عليه عهد طويل حتى عادت الفتن بين أنصار ألوند ومراد، واضطربت الأمور وقتل محمدي في سنة ٩٠٥ﻫ، وانقسم الأمراء قسمين: قسم مع ألوند، وقسم مع مراد، وانتهوا بعدئذ إلى تقسيم البلاد بينهما، فاستقل أنصار ألوند بأذربيجان، واستقل أنصار مراد بالعراق وفارس، وأخذ نجم الدولة يخبو منذ ذلك الحين حتى كانت سنة ٩١٤ﻫ، وتغلب الشيخ إسماعيل الصفوي عليهم جميعًا كما سنراه في الفصل الآتي.

١  انظر «المنهل الصافي»، مخطوط القاهرة في حوادث سنة ٨٢٣ﻫ.
٢  انظر «المنهل الصافي»، مخطوط القاهرة في حوادث سنة ٨٦٦ﻫ.
٣  انظر «السلوك في دول الملوك» للمقريزي، مخطوط القاهرة، حوادث سنة ٨٤١ﻫ.
٤  راجع «شذرات الذهب» لابن العماد في حوادث سنة ٨٧٠ﻫ.
٥  راجع تفاصيل ذلك في «بدائع الزهور» لابن إياس، ٣: ٨٤–٨٧.
٦  راجع تفاصيل الخبر في «تاريخ القرماني»، ص٣٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤