الفصل الخامس

العراق من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر

رأيت في آخر الفصل الرابع كيف أن الدولة البايندرية قد اضمحلت في أخريات القرن الماضي، وبخاصة في أيام رستم بيك ٨٩٨–٩٠٢ﻫ، روى المؤرخ القرماني أن في أوائل شهور سنة ٨٩٨ﻫ أطلق السلطان رستم بيك أولاد الشيخ حيدر الصفوي من السجن على شريطة أن يقاتلوا معه خصمه بايسنقر، ولما قضى على بايسنقر تنمر الصفويون لرستم بيك، فحاول أن يفتك بزعيمهم الشيخ علي الصفوي الذي تحصن بأردبيل واتخذها دار ملك له، فبعث رستم بيك إليه مَن قتله وشرد إخوته، فلجأ أحدهم — واسمه شاه إسماعيل — إلى صاحب بلاد كيلان الميرزا علي، ولما بلغت أخباره إلى رستم بيك بعث إلى الميرزا علي يطلب إليه أن يسلمه الشاه إسماعيل فاعتذر عن ذلك، وضاق السلطان رستم بيك وعزم على أن يتوجه لقتاله بنفسه، ولكنه فوجئ بثورة بعض أمرائه عليه وعلمه بأنهم كاتبوا الأمير أحمد بن محمد حسن الطويل أن يحضر إليهم وينقذهم من ظلم رستم بيك، وكان الأمير أحمد مقيمًا لدى السلطان «بايزيد» العثماني، وقد حضر الأمير أحمد فعلًا على رأس فرقة كبيرة، والتقى الجمعان، ووقع رستم بيك أسيرًا بيده فقتله واستولى على البلاد، وكان الأمير أحمد رجلًا حازمًا مصلحًا فأراد أن ينقذ البلاد مما كانت عليه من الفوضى وسوء الإدارة، وأن يطبِّق النظام الذي وجده في المملكة العثمانية الفتية، ولكن الأمراء لم يعجبهم ذلك فثاروا عليه وقتلوه، وانقسموا فيما بينهم على من سيولونه كما بيناه في آخر الفصل الماضي.

وانتهى أمر العراق إلى أن استولى عليه مراد بيك في سنة ٩٠٤ﻫ/١٤٩٨م، وأخذت نيران الفتن والاضطرابات تشتعل في العراق لسوء إدارة القائمين بالأمر، فرأى الشاه إسماعيل الصفوي أن الفرصة سانحة له، فجمع جموعه وسار إلى العراق في سنة ٩٠٧ﻫ/١٥٠١م، فلاقى جماعة ألوند بيك في بلاد النخجوان، ففرق شملهم ثم استولى على بلاد أذربيجان، وفرح الناس بمقدمه لتخليصهم من ظلم البايندرية، ثم سار نحو العراق في سنة ٩١٤ﻫ/١٥٠٨م للقضاء على مراد بيك وجماعته، وفرَّ مراد بيك إلى ديار بكر، وكان ببغداد والٍ يسمى باريك بيك، فلما سمع بزحف قوة الشاه إسماعيل عليه بعث إليه يسترضيه بالهدايا، وعرض عليه خضوعه في الظاهر، وأخذ يستعد للقائه في الباطن فمتَّن قلاعه، وحصن عاصمته، وجمع الذخائر والميرة وفرض على الأهلين ضرائب باهظة، وحصر الأقوات كلها تحت تصرفه ليقوى على تحمل الحصار، وألقى القبض على نقيب الأشراف السيد محمد بن كمونة الذي كان هواه مع الشاه الصفوي فسجنه، وبينما هو كذلك إذ بلغه أن الشاه إسماعيل قد بعث في مقدمة جيشه فرقة على رأسها حسين بك لاله، وكان مشهورًا ببطشه، فلما سمع باريك بيك اضطرب أشد الاضطراب وخاف مغبة الأمر؛ فجمع ذخائره ونفائسه وأهله، وفرَّ إلى بلاد الشام، ودخل حلب لاجئًا إلى صاحبها، أما أهل بغداد فإنهم لما عرفوا بهروبه أطلقوا النقيب ابن كمونة من سجنه، وسلموا إليه مقاليد أمورهم، ولما وصلت طلائع الجيش الصفوي الإيراني خرج ابن كمونة لاستقباله ومعه وجوه المدينة مرحبين.

وكان أول عمل قام به الشاه في بغداد زيارته مراقد آل البيت وترتيبه لشئون المدينة وتسميته الأمير خادم بيك أميرًا على المدينة بعد أن لقَّبه بلقب «خليفة الخلفاء»، وأوصاه برعاية أهل الخير، ثم رجع الشاه إلى الجنوب، فحارب المشعشع وجماعته وفرق جنده واستولى على خوزستان والحويزة، وعمل على محو مذهب المشعشعين، ونشر مذهب الجعفريين والطريقة الصفوية،١ ويظهر أن الأتراك العثمانيين قد أحسوا بخطر الشاه إسماعيل وقوته، واعتبروا ظهوره منافسة قوية تحول دون امتداد سلطانهم إلى العراق بعد أن كانوا ينتظرون انحلال الدولة البايندرية، ويعملون على تفكيك أوصالها، ولما اعتلى عرشهم السلطان ياوز سليم أحسَّ بقوة الشاه إسماعيل فعزم على أن يفاجئه بالمهاجمة في عقر داره، وأخذ يهيئ للأمر عدته، وعلم الشاه إسماعيل بالأمر فأخذ يهيئ نفسه أيضًا للقائه، ولا شك في أن العراق المسكين سيكون ميدان هذا العراك، وهكذا كان، فلاقى العراق ويلات شديدات فترة طويلة من الزمن كما سنرى.
رأينا أن الشاه إسماعيل قد سمى الأمير حازم بيك خليفة الخلفاء، واليًا على بغداد، وثبت ابن كمونة من نقابة الأشراف، فأخذ الاثنان يعملان بنشاط على تثبيت أقدام الدولة الصفوية في العراق، وكان السلطان ياوز سليم العثماني يعمل على نشر نفوذه في العراق، فبثَّ عيونه وهيأ نفسه لقتال الصفويين، وكان التقاء الطرفين عام ٩٢٠ﻫ/١٥١٤م في تبريز وفي الموقع المعروف باسم «جالديران»، وكان في الجيش الإيراني الصفوي حاكم بغداد ونقيب أشرافها وعدد من الأعيان، ولم تطل الموقعة حتى تم النصر فيها للعثمانيين وقتل حاكم بغداد والنقيب، وبضعة آلاف من العراقيين، وكانت هذه الكسرة مبدأ تفوق الجيش العثماني، وانتشار فتوحاته في العالم الإسلامي، وكان من نتائج هذه المعركة أن أهل آمد كتبوا إلى السلطان سليم يخبروه أنهم طردوا واليهم الإيراني الصفوي، وأنهم يسلمونه مدينتهم ويرجونه أن يبعث إليهم واليًا عثمانيًّا، فبعث إليهم ببقلو محمد بيك، وجعله أميرًا على كل هاتيك الأصقاع، فجاءها وفتح بلاد ماردين والموصل وسنجار حتى بلغ جزيرة ابن عجر،٢ وكان ذلك في عام ٩٢١ﻫ، ولما اطمأن السلطان سليم العثماني إلى بسط نفوذه في هاتيك الديار عزم على المسير إلى الشام ومصر لفتحهما، ومحاربة «قانصوه الغوري» سلطانهما المملوكي، الذي بلغه أنه يتآمر عليه مع الشاه إسماعيل الصفوي، فتم له ما أراد وكان ذلك في مطلع عام ٩٢٢ﻫ كما سنفصله فيما بعد في الفصل الخاص بسورية ومصر.
ولما تم للسلطان سليم فتح الديار الشامية والمصرية، قويت في نفسه آمال السيطرة على العراق العربي والعراق العجمي، وخصوصًا بعد أن أعلن نفسه خليفة للمسلمين، وشرع في الاستعداد للقضاء على الصفويين، وأخذ يبعث الدعاة إلى العراق يطعنون في عقيدة الصفويين، ويهدمون طريقتهم الصوفية، ويقولون إن هذه الطريقة «القزل باشية» ليست سوى طريقة أهل الضلال والمارقين عن الإسلام، حتى أصبحنا نجد على الشاه إسماعيل في كتب معاصريه من الأتراك والشاميين والمصريين حملات جد عنيفة، ونضرب على ذلك مثلًا بما ذكره ابن العماد الحنبلي المؤرخ الكبير في كتابه «شذرات الذهب» حيث يقول: «وفي أيامه — أي أيام السلطان سليم العثماني — ظهر إسماعيل شاه، واستولى على سائر ملوك العجم، وملوك خراسان، وأذربيجان، وتبريز، وبغداد، وعراق العجم، وقهر ملوكهم، وقتل عساكرهم بحيث قتل ما يزيد على ألف ألف، وكان عسكره يسجدون له، ويأتمرون بأمره، وكان يدعي الربوبية، وقتل العلماء وأحرق كتبهم ومصاحفهم، ونبش قبور المشايخ من أهل السنة وأخرج عظامهم وأحرقها، وكان إذا قتل أميرًا أباح زوجته وأمواله لشخص آخر، فلما بلغ السلطان سليم ذلك تحركت همته لقتاله، وعدَّ ذلك من أفضل الجهاد، فالتقى معه بقرب تبريز بعسكر جرار، وكانت وقعة عظيمة فانهزم جيش شاه إسماعيل»،٣ ويقول المؤرخ قطب الدين صاحب: «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» عن الشاه إسماعيل: «قَتل خلقًا لا يُحصون … وقَتل عدة من أعاظم العلماء بحيث لم يُبْقِ أحدًا من أهل العلم في بلاد العجم، وأحرق جميع كتبهم ومصاحفهم … وكلما مر بقبور المشايخ نبشها وأخرج عظامها وأحرقها، وإذا قتل أميرًا، أباح زوجته وأمواله لشخص آخر.»٤

فأنت تحس من هذه العبارات أن السلطان سليمًا قد أحسن نشر الدعاوة ضد الصفويين، وعمل على تنفير الناس منهم، مع أنهم لم يكونوا على الشكل الفظيع الذي وصفهم به ابن العماد والقطب، ولكنها السياسة ما دخلت شيئًا إلا أفسدته.

أما الشاه إسماعيل فإنه بعد أن تلقى تلك الصفعة القوية في معركة جالديران رجع إلى بلاده، وأخذ يعد نفسه للانتقام، ولكنه لم يلبث قليلًا حتى مات في سنة ٩٣٠ﻫ/١٥٢٣م، فخلفه ابنه طهماسب الأول ٩٣٠–٩٨٤ﻫ، وكان شجاعًا داهية، خلَّف له أبوه مملكة واسعة فأحسن تصريف أمورها، ووقعت بينه وبين العثمانيين عدة حروب لقي العراق العزيزُ منها، وبسبب هاتين الأسرتين الحاكمتين، ويلاتٍ وضوائق، وخلاصة ذلك أن العراق بعد أن هلك الشاه إسماعيل تسلط عليه أمير من أمراء الأكراد اسمه ذو الفقار، فطرد الأمراء الصفويين واستقل به لنفسه، وكان رجلًا داهية شجاعًا جوادًا فأحبه العراقيون وأذعنوا له، وحين أحس بأن طهماسب الصفوي يريد مبادهته كتب إلى السلطان سليمان بن سليم العثماني يعرض عليه خضوعه، وأنه يضرب الدراهم باسمه، ويخطب له على المنابر، فلما بلغت هذه الأخبار أسماع الشاه طهماسب جهز جيشًا قويًّا، وأمَّ العراق في سنة ٩٣٦ﻫ وحاصر بغداد، وكانت مقاومة ذي الفقار أميرها شديدة، حتى تم له النصر على الجيش الفارسي، ولكن الشاه طهماسب استطاع أن يخدع أخوي ذي الفقار، ويغريهما على الوقوف في وجه أخيهما وقتله فقتلاه، ودخلت الجيوش الفارسية إلى بغداد من جديد بعد أن انقطعت صلتها بهم فترة قصيرة، ولم يخرج طهماسب من العراق حتى أعاد ترتيب إدارة البلاد إلى نظامها الفارسي القديم، وسمَّى حكامًا في كل مقاطعة، وجعل في بغداد الأمير محمد خان تقلو آل شرف الدين واليًا، فظل هذا في ولايته إلى أن دخلت جيوش السلطان سليمان القانوني العثماني في سنة ٩٤١ﻫ/١٥٣٤م.

وهكذا قُضي على النفوذ الفارسي في العراق، وكان عهد الدولة الصفوية — على الأغلب — عهدًا أسود مظلمًا، تركوا فيه لولاتهم الحبل على الغارب، يفعلون فيه ما يشاءون، ويسخِّرون الأهلين في سبيل مصالحهم الخاصة ومطامعهم الشخصية، حتى ضاقوا بهم، وتمنوا نصرة العثمانيين عليهم، وأعانوهم على ذلك.

ولما استولى الأتراك العثمانيون على العراق عمدوا إلى تنظيمه، والعناية بشئونه واستقرت أحواله طوال قرن تتعاقب عليه الولاة، الذين كان فيهم الصالح، ومنهم الطالح، ولم ينسَ الملوك الفرس العراق، بل ظلوا يطمحون إلى السيطرة عليه؛ لأن فيه العتبات المقدسة التي تضم رفاة الأئمة، والمشاهد المقدسة في النجف والكوفة وكربلاء وبغداد، وظل النفوذ التركي، والنفوذ الفارسي يسيطران على العراق إلى أن كانت سنة ١٠٣٢ﻫ/١٦٢٣م، فاستطاع شاه فارس الصفوي أن يحتل بغداد بسبب خيانة أحد العصاة الانكشارية، وخضع العراق كله من جديد للنفوذ الفارسي الصفوي خمس عشرة سنة، ثم استرده العثمانيون، وطردوا الفرس، وقاسى الأهلون ويلات وشدائد بهذه الفتن،٥ ولم يصفُ جو البلاد إلا في عهد نفر من الولاة المصلحين، وفي طليعتهم حسن باشا الأيوبي الذي تولى العراق سنة ١١١٦ﻫ/١٧٠٤م، وكان مصلحًا عمرانيًّا محبًّا للعلم وأهله رءوفًا بالناس، وخلفه من بعده ابنه أحمد باشا بعد وفاة أبيه في سنة ١١٣٦ﻫ/١٧٢٣م على بغداد، ودام حصار العاصمة سبعة أشهر لقي الناس أثناءها بلاءً عظيمًا، وتم الاتفاق بين نادر شاه وبين أحمد باشا على المصالحة وعقد معاهدة تقضي بجعل منطقة حرام بين العراق وفارس، ورأت الدولة العثمانية نقل واليها أحمد باشا من بغداد، فبعثت به إلى حلب وأرسلت إلى العراق في سنة ١١٤٧ﻫ/١٧٣٤م إسماعيل باشا والي طرابزون، فتأسف الناس لسفر أحمد باشا؛ لِمَا كان عليه من حسن الإدارة والإصلاح، وعملوا لدى الباب العالي على إعادته إليهم، وتم لهم ما أرادوا في سنة ١١٤٩ﻫ/١٧٣٦م فسار بهم سيرة حميدة، وعمل للقضاء على النفوذ الفارسي والفساد الانكشاري والثورات البدوية إلى أن توفي سنة ١١٦٠ﻫ/١٧٤٧م، وتعاقب على العراق بعده ولاة قساة إلى أن كانت سنة ١١٨٢ﻫ/١٧٧٣م وجرت الحرب بين الدولتين العثمانية والإيرانية، واستولى الإيرانيون على العراق ولقي الأهلون منهم مآسي فظيعة، ثم استعاد العثمانيون البلاد وتعاقب عليها ولاة لم يكن في أعمالهم ولا في تصرفاتهم ما يستحق الذكر إلى أن أطلَّ القرن الثالث عشر للهجرة.
١  تنسب هذه الطريقة إلى مؤسسها الشيخ أبي إسحاق صفي الدين الأردبيلي جدِّ الشاه إسماعيل، ويسميهم الأتراك العثمانيون «القزل باشية» أي أصحاب الطراطير الحمر؛ لأنهم كانوا يضعون على رءوسهم طراطير حمرًا طويلة ذات اثني عشر ضلعًا.
٢  راجع تفاصيل هذه المعارك في «تاريخ القرماني»، ص٣١٥.
٣  «شذرات الذهب»، ٨: ١٤٤.
٤  الأعلام للزركلي، ص١٢٦.
٥  راجع تفاصيل هذه الحوادث في كتاب «العراق بين احتلالين» للأستاذ عباس العزاوي، في الجزءين الرابع والخامس، طبع بغداد سنة ١٩٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤