الفصل التاسع

مصر منذ القرن السابع للهجرة حتى نهاية عصر المماليك البحرية

أطل القرن السابع الهجري على الديار المصرية والديار الشامية، وهما في أشد حالات الاضطراب والفوضى كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الخاص بتاريخ الشام في ذلك الحين؛ وذلك لأن الأسرة الأيوبية الحاكمة في القطرين قد فقدت بأسها بعد أن هلك الملك العادل ٥٩٦–٦١٥ﻫ/١٢٠٠–١٢١٨م الذي استطاع أن يعيد مملكة أخيه الملك صلاح الدين إلى وحدة أجزائها بعد أن تقاسمها أبناؤه وإخوته، ومزقوا شملها، فانتهز الصليبيون هذا التفرق، وجمعوا جموعهم في عكا، وساروا نحو مصر، وحاصروا مدينة دمياط، وفتكوا بأهلها فتكة مات الملك العادل على أثرها مكمودًا مكبودًا، وعادت الفوضى من جديد إلى صفوف الأيوبيين بعد وفاته، فقد تملك بعده ابنه الملك الكامل في مصر، وتملك كل من إخوته الفائز والمعظم والأشرف في الشام والجزيرة، والصليبيون ما زالوا محاصرين دمياط.

وقد عمَّ البلاء كافة الديار المصرية، والملك الكامل يراسل إخوته وأعمامه، ويستحث أمراء الإسلام طرًّا لمعاونته على طرد الصليبيين الذين ضيقوا عليه الخناق فلم ينصره أحد، وسقطت دمياط بعد حصار ستة عشر شهرًا هلك به من أهلها خلق كثير، وغنم الصليبيون ما لا يقدر من الأموال والذخائر، وقد ظل الصليبيون يحتلون ذلك الجزء من القطر المصري ثلاث سنوات وأربعة أشهر، ثم عقد الملك الكامل معهم معاهدة صلح ظهر فيها بمظهر المستخزي الضعيف، وزاد في استخزائه أنه طلب إليهم أن يعاونوه على الفتك بأخويه الملك الأشرف والملك المعظم، وأغرى الإمبراطور فريدريك الثاني ملك الصليبيين على اغتيال أخيه الملك المعظم وإخراج دمشق من سلطانه، فتم له ما أراد، ورجع — أي فريدريك — إلى فلسطين، وسيطر على القدس وما حولها، ثم توجه إلى عكا وصور فاستولى عليهما، واستقر في ملك فلسطين خمسة عشر عامًا وهو السيد المطاع في كافة أرجائها.

أما الملك الكامل فإنه رضي بخزيه، وظل في مصر إلى أن هلك في رجب سنة ٦٣٥ﻫ/١٢٣٨م فتولى الأمر بعده ابنه الملك العادل الثاني، ولم يطل عهده أكثر من سنتين لم يأتِ فيهما بعمل صالح ذي قيمة، ثم تآمر عليه أخوه الملك الصالح في سنة ٦٣٧ﻫ/١٢٤٠م فخلعه عن العرش، واستولى على الشام ومصر، وحاول توطيد أركان دولته، والقضاء على من يناوئونه من الأمراء، ففر الملك الجواد يونس صاحب ما بين النهرين لاجئًا إلى الصليبيين في عكا، وسعى في التوفيق بينهم وبين الملك إسماعيل صاحب دمشق والملك إبراهيم صاحب حمص، وألَّف الجميع جبهة واحدة ضد الملك الصالح صاحب مصر، والتقت الجيوش المصرية بالجيوش الصليبية ومن معهم، ودارت الدائرة على الصليبيين فرُدوا على أعقابهم خاسرين، وبلغت أخبار هذا الانكسار إلى أوروبة؛ فخجلت من انكسارات جيوشها الصليبية المتواصلة، وعزمَ ملوكها وأمراؤها ورجال الكنيسة فيها أن يغسلوا عار هذه الانكسارات بحملة قوية يرأسها الملك القديس لويس التاسع صاحب فرنسة، فجمعوا جيشًا كبيرًا قوامه خمسون ألف مقاتل مزودين بشيء كثير من الذخيرة والعدد والمراكب، فلما علم الملك الصالح بذلك حصَّن مدينة دمياط، وأعد أسطولًا كبيرًا قويًّا للقائهم، والتقى الفريقان، وانتصرت الجيوش العربية، وأسرت الملك لويس التاسع، ومات الملك الصالح ولم يكن له من البنين إلا ابنه طوران شاه، ولم يكن حازمًا فلم تطل مدته وقتله الأمراء، وتولت الأمر من بعده شجرة الدر زوجة الملك الصالح، وكانت سيدة ذكية سياسية، فنظمت الجيوش المصرية خير تنظيم، وقاتلت الصليبيين، وكسرت جموعهم عند مدينة فارسكور وانخذل الصليبيون تمامًا، وكانت هذه الحملة آخر حملاتهم على بلاد الإسلام، وكفى الله المؤمنين شرهم.

•••

كان الملك طوران شاه ابن الملك الصالح آخر الملوك الأيوبيين، فتولى الملك سنة ٦٤٧ﻫ/١٢٤٩م بعد أن مات أبوه وهو ببلاد الشام، فلما علم بوفاته قدم إلى «المنصورة» حيث كانت ترابط الجيوش المصرية الظافرة، وتقدم الصليبيون يطلبون المصالحة وفداء الملك لويس، فقبل طوران شاه بفدائه مقابل مبلغ عظيم من الذهب، ولكن الأمراء المماليك غضبوا لهذه العَملة وثاروا عليه ثم قتلوه في سنة ٦٤٨ﻫ/١٢٥٠م واختلفوا فيمن يولونه، ثم اتفقوا على تولية شجرة الدر، واتفقت مع المملوك عز الدين أيبك أن يعينها في مهمتها فتم لها ما أرادت، وتلقبت بعصمة الدين أم خليل المستعصمية، وكان ذلك في صفر سنة ٦٤٨ﻫ وخُطب باسمها على المنابر، وسمت المملوك عز الدين أيبك أتابكا أي مربيًّا لولي العهد الطفل، ولم ينكر أحد عليها أن تتولى عرش الأيوبيين؛ لما كانت عليه من الحزم والكرم والسياسة إلا أن نقطة واحدة كانت تزعجهم وهي كونها امرأة، ومن هنا قام بعض الأمراء يستفتون خليفة بغداد في هذا الأمر، فأجابهم بكتاب فيه: «… أعلِمونا إن كانت الرجال عدمت عندكم حتى نسيِّر إليكم رجلًا يصلح للسلطنة، أما سمعتم في الحديث عن رسول الله أنه قال: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة …» ولما بلغت هذه الرسالة القاهرة اضطربت شجرة الدر، وأخذت فكرة التملك تخامر نفوس نفر من كبار المماليك، كما عزم قوم منهم على تولية بعض بقايا الأيوبيين، فاختاروا الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك واستطاع جماعة الأمير عز الدين أيبك أن يُكرهوا شجرة الدر على التنازل لأيبك، فتنازلت له على أن يتزوجها، وكان لها ما أرادت، ونودي بالأمير عز الدين أيبك الجاشنيكر المملوك التركماني الأصل ملكًا على البلاد في آخر ربيع الثاني سنة ٦٤٨ﻫ، ويظهر أن هذا الحل لم يرق سائر المماليك؛ فاجتمع رؤساؤهم أمثال: فارس الدين آق طاي، وركن الدين بيبرس، وسنقر الرومي، وعزموا على أن يولى الأمر إلى أحد الأمراء الأيوبيين على أن يكون أيبك «أتابكًا» للمملكة، واختاروا لذلك الملك الأشرف الأيوبي، وكان فتى لم يتجاوز العشرين من عمره، فخُطب لهما على المنابر معًا، هذا سلطان وذاك أتابك، والحل والربط لا لهذا ولا لذاك؛ بل لشخص ثالث هو السيدة شجرة الدر.

figure
هذا ما كان من أمر السلطنة في ديار مصر، أما في الشام فإن الملك الناصر صاحب حلب أخذ يعد نفسه للاستيلاء على الشام، فزحف إلى دمشق واستولى عليها، وجمع حوله من بقي من أمراء الأيوبيين؛ لمعاونته في استعادة ملك مصر، وكتب إلى الملك لويس التاسع المقيم في عكا يستمده العون على المصريين، ويعِده أن يسلمه بيت المقدس إذا ما تم لهما النصر، فانتهز لويس هذه الفرصة، وكتب إلى مصر يهدد مماليكها بأنه سينضم إلى الملك الناصر إذا لم يجيبوه إلى عقد معاهدة صلح جديدة تتضمن البنود الستة الآتية:
  • (١)

    إلغاء معاهدة «المنصورة» التي أُطلق بموجبها الملك لويس من أسره.

  • (٢)

    إعادة الأطفال الفرنسيين والنصارى الذين أُكرهوا على اعتناق الإسلام إلى دينهم.

  • (٣)

    إعادة رءوس النصارى الصليبيين التي كانت مطمورة في متاريس القاهرة.

  • (٤)

    إلغاء مبلغ المائتي ألف دينار التي يتعهد الملك لويس بدفعها بعد فكاك أسره كل سنة.

  • (٥)

    أن تعاد إليه مدينة القدس.

  • (٦)

    اتفاق الجيشين الصليبي والمملوكي ضد الملك الناصر.

ولما وصل رسوله بكتابه إلى القاهرة وجد المماليك فيها أن لا مندوحة لهم من قبول هذه البنود وعقد هذا العقد فقبلوه، ويظهر أن أمر هذه المراسلة بين المماليك وبين لويس قد علم بها الناصر؛ فبعث بجيش كبير حال دون التقاء الجيش الصليبي بالجيش المملوكي، ثم توجه لقتال المماليك، فالتقى بهم في غزة، ثم في بلبيس، وكادت الدائرة تدور على المماليك، ولكنهم ظفروا أخيرًا على الملك الناصر وأصحابه، واضطر أن يخضع لهم، وأن يعود إلى بلاد الشام، وألا يتعدى حدود الأردن، وصفا الملك بعدئذ لمعز الدين أيبك، فخلع الملك الأشرف موسى، واستأثر بالملك دون سائر المماليك، وأخذت نفسه تتعاظم وتستعلي حتى على شجرة الدر، فلم تطق احتمال ذلك، وأمرت بعض جواريها ومماليكها فقتلوه وهو في الحمام، وبلغ خبر اغتياله إلى أصدقائه وزملائه من المماليك، فاحتالوا على شجرة الدر وعملوا على قتلها وتولية الأمير علي بن معز الدين أيبك ولما يبلغ الخامسة عشرة في سنة ٦٥٥ﻫ/١٢٥٧م وسموا الأمير قطز «أتابكًا» عليه ونائبًا للسلطنة، وكان قطز داهية؛ فساس البلاد خير سياسة، وفي عهده كان الهجوم التتري على بغداد، ولما بلغت مصرَ أخبارُ التتار وأعمال هولاكو وما فعله بالخليفة وبالعاصمة الإسلامية، وما يبيته لمصر والشام رأى الأمراء المماليك وجوب تمليك رجل قوي على العرش؛ فاختاروا قطزًا، والتفوا من حوله.

تولى الملك المظفر سيف الدين قطز عرش مصر والشام؛ فعمل على توطيد أركان الأمن في البلاد، والقضاء على الفوضى ومسببيها، ورأى أن العدو الأول الذي يجب القضاء عليه هو أولئك الشذاذ من الصليبيين الأوروبيين الذين أزعجوا البلاد، وتبين له أن أول ما يجب عمله هو أن يردم مصب النيل من جهة دمياط؛ ليعيق مراكبهم من العبور في مياهه التي كانوا يحتلون الشواطئ المصرية عن طريقها، ثم إنه أتم تخريب أسوار المدينة التي كان المماليك قد هدموها في أيام الملك أيبك سنة ٦٤٨ﻫ خوفًا من مسير الإفرنج إليها، ومحيت بروج المدينة وأسوارها وما فيها، ولم يبقَ منها إلا جامع يُعرف بجامع الفتح وبعض غرف للفقراء، ثم انصرف إلى تحصين القاهرة، وترتيب أمورها، والعناية بحالة البلاد عامة، وبينا هو منشغل بهذا العمل جاءه رسول هولاكو بكتاب ينذره فيه بزحفه، ويحذر الذين يخالفون أمره أن يصيبهم ما أصاب أهل بغداد، ومما قال فيه:

… ويا أهل مصر أنتم قوم ضعاف، فصونوا أنفسكم ودماءكم مني، ولا تقاتلوني فتندموا.

ولما قرأ قطز كتاب هولاكو غضب بشدة، وقتل رسول هولاكو، وردَّ عليه بكتاب يتوعده فيه، فلما بلغ الرسول إلى سورية رأى أن هولاكو قد رحل عنها إلى بلاده، وسلم أمر الجيش إلى قائده كتبغا، ولم يلبث قطز أن جمع زعماء المماليك ورجالات البلاد، وخطب فيهم مبينًا لهم سوء معاملة المغول وقسوتهم، ومعددًا لهم سوء أحوالهم وأعمالهم الوحشية التي ارتكبوها في دار الخلافة وعواصم الشام، وذكر لهم أن الخطر محدق بهم إذا ما تهاونوا في قتال عدوهم، فعاهدوه على الاستماتة في سبيل البلاد والذود عن حياضها، ثم أخذ ينظم جيشه، ويُعِدُّ عُدَّتَهُ، وسار نحو فلسطين حيث التقى الجيشان في عين جالوت، ودارت الدائرة على المغول، وقُتل قائدهم كتبغا، وأُسر ابنه، وتفرق جنده، وغنم المصريون غنائم عظيمة، وعاد الجيش المصري وعلى رأسه الملك قطز إلى مصر وهو مرفوع الرأس، ولكن لم يتم له الفرح؛ فقد تآمر عليه بعض مماليكه وقتلوه وهو في الطريق، ولم يدم حكمه إلا نحوًا من سنة، وولوا مكانه المملوك بيبرس البندقداري ٦٥٨–٦٧٦ﻫ/١٢٦٠–١٢٧٢م وكان رجلًا حازمًا بطلًا سار بالناس خير سيرة؛ ففرحوا به، وأول عمل قام به هو أنه اتخذ الأمير الصالح بلباي الخارتدار نائبًا للسلطنة؛ لما يعرفه عنه من الإقدام والإخلاص والدهاء، وسلمه إدارة شئون البلاد، فأطلق من كان في السجون من المماليك، ووزع عليهم الأموال والهدايا، وأحسن إليهم فأحبوه، ودعاهم إلى الالتفاف حوله للدفاع عن بلادهم من غارات الصليبيين والمغول، ثم التفت إلى العامة فأزال عنهم كثيرًا من الضرائب والمكوس الظالمة، وأخذ أموال الزكاة بحسب الفريضة الشرعية، وفتح باب قصره لاستماع شكاوى الناس، وأرسل كتبًا ورسلًا إلى عمال الولايات والممالك يوصيهم بأن يسيروا بسيرته، ويحذرهم من الظلم، فعمَّ الخير وانتشرت الطمأنينة.

ولما رأى التتار في الديار الشامية هذه السياسة الجديدة التي يتبعها الملك بيبرس خافوا مغبتها، وسعوا إلى إيقاع الفتنة بينه وبين عماله، وتمكنوا من إثارة الأمير سنجر صاحب الديار الشامية ضده، فشق عصا الطاعة ونادى بنفسه سلطانًا، وتَلقَّب بالملك المجاهد، فسار إليه بيبرس، ولكن جيوش التتار تلقت بيبرس، فتغلب عليهم وسار نحو سنجر، وعلم بذلك سنجر فاعتصم بدمشق التي قنطت من فوزه، ففتحت أبوابها لبيبرس، ونال المماليك الموالون لسنجر ما يستحقون، ورجع بيبرس إلى مصر وقد انتظمت له أمور الشام ومصر، وهدأت البلاد؛ فعكف على الإصلاح وإشادة المدارس العظيمة والمدارس الضخمة التي ما تزال آثارها ماثلة إلى أيامنا.

وفي السنة الثانية لولايته ٦٥٩ﻫ فكر في إعادة الخلافة الإسلامية العباسية إلى سابق مكانتها؛ ليقوِّي عرشه، ويرفع من شأن مصر في العالم الإسلامي، وكان قد علم أن أحدًا من بني العباس قد نجا من مذبحة هولاكو، واسمه الإمام أحمد، وهو ابن الخليفة الظاهر ابن الخليفة الناصر ابن الخليفة المستنصر، فكتب إليه يدعوه إلى مصر، وخرج للقائه بنفسه من المطرية في كوكب مهيب، ثم توجَّها إلى القاهرة معًا، ودخلاها من باب النصر، واستقبلا استقبالًا لم يُسمع بمثله، ولما وصلا القلعة حيتهما أمراؤها ووجوه البلدة، وبعد أيام أراد بيبرس أن يثبت نسب الإمام أحمد، فعقد لذلك مجلسًا شرعيًّا أثبتت فيه صحة نسبه، ثم بايعه بالخلافة، وتلقب بالخليفة المستنصر بالله، ولم يكن لهذا الخليفة أي نفوذ سياسي أو عسكري، وإنما كان سلطانه دينيًّا، وهذا ما كان يهدف إليه بيبرس.

ولما استقرت الأمور لبيبرس في مصر والشام، رغب في العراق وجهَّز جيشًا أنفذه مع الخليفة لإخراج التتار من بغداد، وقد بلغت أخبار هذا الجيش إلى العراق، فجمع التتار جموعهم، والتقوا بالجيش المصري ففرقوه وقتلوا الخليفة، فتولى الخلافة من بعده أحد بنيه، وتلقب بالحاكم لأمر الله، وما أن بلغ الصليبيين خبر انكسار الجيش المصري طمعوا في مصر من جديد، وعلم بهذا عيون بيبرس في الشام فكتبوا إليه، فاستعد لهم، وكتب إلى صاحب بلاد القفجاق عدو أبقا خان ملك التتار يطلب إليه أن يحالفه ضدهم، كما كتب إلى القيصر صاحب القسطنطينية يحالفه ضد الصليبيين والبابا خصم القيصر، فقويت أواصر المودة بين القيصر وبيبرس حتى شاد القيصر في القسطنطينية مسجدًا للمسلمين في حاضرته، واستحصل من بيبرس على إذن بالسماح لبطريك الطائفة الملكانية في دولته،١ ولم تقتصر مساعي بيبرس على هذا؛ بل إنه قوَّى صلاته بالعالم وعظماء ملوكه كملك إسبانيا، وملك نابولي، وسلاجقة آسيا الصغرى فحالفوه ضد التتار الطغاة الذين طبقت قساوتهم الآفاق.

ولما رتب بيبرس أموره الداخلية والخارجية عزم على قتال الصليبيين الذين لا يزالون يتحكمون في بعض بقاع فلسطين؛ فهاجم مدينة قيصرية، وهدم أسوارها المنيعة، واشترك هو بالمعارك، وهدم الأسوار، وتحمس الجنود المصريون، وأعملوا سيوفهم في بقايا الصليبيين فأثاروا في قلوبهم الرعب، ثم توجَّهوا إلى دمشق ففتحت لهم أبوابها، ولم يجدوا فيها عدوًّا؛ لأن هولاكو كان قد مات؛ فتشتت شمل جنوده المغول، ثم رجعوا إلى القاهرة فاستقبلهم أهلها أجلَّ استقبال، ولم يستقر بيبرس في القاهرة حتى وجَّه حملة قوية إلى أرمينية ففتح بلادها وهدم عاصمتها «سيس» واستولى على غنائم كثيرة، وفي سنة ٦٦٦ﻫ استأنف حروبه مع بقايا الصليبيين؛ فاستولى على يافا وأنطاكية وصافيتا ومرقب، ثم جهز أسطولًا قويًّا لفتح جزيرة قبرص التي كان الصليبيون يستعملونها قاعدة لهم ولتموينهم، ولكنه لم يوفَّق في حملته فقد تحطم الأسطول بعواصف شديدة لاقته في طريقه، ولم يفل هذا من عزمه في القضاء على الصليبيين في سورية وما جاورها، فقد جمع جيوشه واتجه من جديد نحو قلاع الصليبيين في سورية؛ فحطمها حصنًا حصنًا، وبعد أن تم له الاستيلاء على كافة قلاعهم في الساحل السوري، وفي سنة ٦٧٠ﻫ سار لمحاربة الباطنيين الملاحدة في شمال سورية والعراق؛ فقضى عليهم، ثم توجَّه لقتال التتار الذين حاولوا غزو سورية من جديد، والتقى الجيشان عند مدينة البيرة، وانكسر التتار، ثم توجَّه إلى أرمينية ففتحها من جديد بعد أن نقض الأرمن عهدهم.

وفي سنة ٦٧٤ﻫ قام بحملة على بلاد النوبة الذين شرعوا في مهاجمة جنوب مصر فأدَّبهم، وتعهدوا له بدفع الجزية مع عدد من الفيلة والزراف والتحف، وفي سنة ٦٧٥ﻫ وافته الأخبار بأن التتار أغاروا على آسية الصغرى وشمالي الشام، فتوجَّه إلى حلب والتقى بجمعهم، وكان له النصر، ولحق بسلطانهم الفار أباقا خان عند الأبلستين، وكانت معركة هلك فيها من الطرفين عدد كبير وانكسر التتار، وفي سنة ٦٧٦ﻫ سار نحو أنطاكية لزيارة جنده المرابطين في الثغور، وبينا هو في رحلته هذه إذ شعر بالحمى، فقصد دمشق، وأدركه الأجل وهو في طريقه إليها، فكتم الأمراء خبره إلى أن وصلوا إلى دمشق فدفنوه في الثامن عشر من المحرم سنة ٦٧٦ﻫ تحت قبة المدرسة الظاهرية الكبرى، وبموته انطوت صفحة خالدة فيها كثير من أنباء البطولة والصلاح وحب الخير وحماية الإسلام والعروبة ونشر الفضل والعلم، وقد امتد نفوذه من جنوبي بلاد مصر إلى أقاصي الفراتين، ومن تخوم آسية إلى سيف البحر الأحمر، وقد شاد في عواصم هذا الملك كثيرًا من القصور والمساجد والمدارس والبيمارستانات والخوانق والربط والخانات التي ما يزال أكثرها مزدهيًا بجماله العمراني وحسن ريازته، ومن أجمل هذه الآثار دار الكتب الظاهرية التي تضم رفاته في دمشق.

ولما توفي الظاهر بيبرس اتفق الأمراء جميعًا على مبايعة ابنه الأمير محمد بركة خان في سنة ٦٧٦ﻫ/١٢٧٧م وتلقب بالملك السعيد في حفلة جد فخمة، وكان الملك السعيد فتى لم يتجاوز التاسعة عشرة، وكان فيه كثير من نزق الشباب وطيشه، ولكنه ورث عن أبيه شيئًا من الشدة والحزم، وما أن اعتلى أريكة الملك حتى أقصى الأمراء والمماليك الذين كانوا مقربين في عهد أبيه، وقرب إليه طائفة من المماليك الشباب الأغرار؛ فتباعدت عنه رجالات الحل والعقد والحكمة والكياسة، وتألم زعماء البلاد من هذا التصرف الأخرق، وعزموا على التخلص منه، ولكن فتنة وقعت في دمشق جعلتهم يغضون النظر عن الملك السعيد وتصرفاته، فقد وردت أخبار من بلاد الشام بأن الأمير سنجر الأشقر صاحب دمشق قد أعلن عصيانه على مصر وسمَّى نفسه سلطانًا وتلقب بالملك الكامل كما أسلفنا، واضطر الملك السعيد أن يسير إليه، وبينا كان يحاصره في دمشق وجد أحد أمرائه أن الجند أخذوا يتسللون هربًا فأعلمه بذلك، وعلم أن جنده سيخذلونه فرجع إلى القاهرة، ولكن جنده منعوه من دخولها، فلجأ إلى قلعة الجبل، ولكن الجند حاصروه، فاضطر أن يسلم نفسه، وكادوا أن يقتلوه لولا أن الخليفة الحاكم بأمر الله منعهم من ذلك، فخلعوه في ربيع الأول سنة ٦٧٨ﻫ/١٢٧٩م ونفوه إلى قلعة الكرك، ولم يطل عمره بعد ذلك إلا فترة قصيرة، ثم ولَّوا أخاه الأمير بدر الدين سلامس، ولم يكن له من العمر إلا سبع سنوات وأشهرًا، وأقاموا الأمير سيف الدين قلاوون الألفي أكبر الأمراء «أتابكًا» عليه، فلم يلبث قلاوون أن خلع سلامس، ونادى بنفسه سلطانًا في أواخر سنة ٦٧٨ﻫ وتلقب بالملك المنصور، ولم يلبث قليلًا حتى داهمت جيوش المغول بلاد الشام، وأخذت تفتك بالأهلين وتحرق المدن، وقد لقيت الديار الحلبية وحلب نفسها من فظائعها ما يضيق القلم عن ذكره، ولما بلغت أخبارهم دمشق هاج أهلها، وسار قلاوون على رأس جيش إلى الشام فالتقى الجيشان، وتشتت شمل المغول وقتل أميرهم منكو تمر، ومما هو جدير بالذكر في هذه الفترة أن فلول الصليبيين الذين كانوا في بعض ثغور الشام انتهزوا فرصة هجوم التتار فأغاروا على البلاد، وفتكوا ببعض المدن والقرى، فلما انتهى السلطان قلاوون من تشتيت المغول زحف على أولئك الصليبيين فأخضعهم، وعقد معه البرنس بومنت ملك طرابلس هدنة أعلن فيها خضوعه، ثم رجع السلطان إلى مصر، وأخذ ينظم أمور البلاد الداخلية، وعهد بولاية عهده إلى ابنه علي الصالح، ولكن عليًّا قضى في سنة ٦٨٧ﻫ، فحزن عليه أبوه أشد الحزن، وآلى على نفسه أن يخرج في حملة قوية ضد الصليبيين يفرج بها عن كرهه، فزحف على رأس جيش كبير إلى طرابلس الشام، وكانت تحت نفوذ الصليبيين منذ أكثر من قرن ونصف قرن فافتتحها، وذبح من الصليبيين مذبحة عظيمة ثم رجع إلى مصر، ولكن حرقته على ابنه ما زالت مسيطرة عليه إلى أن أدركه أجله في سنة ٦٨٥ﻫ/١٢٩٠م فحزن الناس لموته، ودفن في البيمارستان العظيم الذي شاده في القاهرة، وكان قلاوون ملكًا عادلًا شجاعًا مقدامًا، وطد الأمن في البلاد الشامية والمصرية والحجازية، وأذاق الصليبيين والمغول مر العذاب، وله آثار عمرانية جليلة أهمها: البيمارستان القلاووني، والمدرستان في القاهرة، وكثير من الخانات والربط والجوامع، كما أنه كان مغرمًا بالاستكثار من المماليك حتى قيل إنه كان يملك اثني عشر ألف مملوك جركسي ومغولي، وقد أسكن نحوًا من أربعة آلاف واحد منهم في بروج القلعة، وقد عرفوا بالمماليك البرجية تمييزًا لهم عن المماليك البحرية، وقد لعبوا بعد وفاته دورًا هامًّا في تاريخ مصر والشام.

ولما مات قلاوون تولى المُلك بعده ابنه السلطان صلاح الدين خليل ٦٨٩ﻫ/١٢٩٠م وتلقب بالملك الأشرف، وكان سلطانًا حازمًا جهز في سنة ٦٩٠ﻫ .  حملة بقيادته على الصليبيين في عكا التي كانت الحصن الحصين الوحيد الذي بقي بيد الصليبيين، فدكَّه وشرد جموعهم على الرغم من نجدة أهالي جزيرة قبرص لهم،٢ وعلى أثر سقوط عكا خاف الصليبيون من المسلمين على أنفسهم؛ فتركوا سائر قلاعهم وحصونهم في بيروت وصيدا وصور، وفرَّ قسم كبير منهم من البلاد، وعاد السلطان إلى القاهرة ظافرًا وبين يديه آلاف من الأسري الصليبيين، وبسيفه البتار قضى عليهم قضاء مبرمًا، ولم ترتفع لهم عقيرة بعدئذ.

ثم وجَّه السلطان خليل همته إلى قتال المغول؛ ففي سنة ٦٩٢ﻫ اتجه نحو حلب ومنها إلى آسية الصغرى حيث أعمل السيف فيهم وفيمن معهم من الأرمن، وفتح بلاد أرزن الروم، وذاع صيته في البلاد الشمالية والشرقية كلها وهابه الناس، ثم رجع إلى القاهرة، ولم يلبث طويلًا حتى فاجأه أحد المماليك بضربة خنجر أردته قتيلًا في سنة ٦٩٣ﻫ/١٢٩٣م ونادى هذا القاتل — وكان اسمه بيدار — بنفسه سلطانًا، وتلقب بالملك القاهر، فلم يلبث إلا يومًا واحدًا حتى قتله أحد مماليك السلطان خليل، وبايعوا أخاه محمد بن قلاوون ملكًا ولقبوه بالملك الناصر، وكان هذا فتى لم يتجاوز التاسعة من سنيه، فأقاموا الأمير زين الدين كتبغا قيمًا عليه و«أتابكًا»، وكان من مماليك أبيه، ولكنه لم يلبث أن خلع الناصر ونفاه إلى الكرك، ونادى بنفسه سلطانًا، وتلقب بالملك العادل في سنة ٦٩٤ﻫ/١٢٩٤م، وفي عهده أصابت الديار المصرية مصائب عظام من طاعون وقحط وبؤس، وهلك من أهلها خلق كثير لسوء إدارته، وكانت ثالثة الأثافي في عهده حادثة العويراتية وهم قبيلة من المغول فرت من بلادها لاجئة إلى الديار الشامية، فلما بلغ خبرها إلى كتبغا استقدم أكابرها إلى مصر؛ لأنهم من جنسه، وكانوا نحوًا من ثلاثمائة رجل، فأنعم على رئيسهم طرغاي برتبة عالية وعليهم، ومكنهم من وظائف الدولة فعاثوا فيها فسادًا حتى قال محمد بن دينار الشاعر يصف حالة البلاد بسببهم:

‌ربنا اكشف العذاب عنا فإنا
قد تلفنا في الدولة المُغْلِيَّة
جاءنا المُغل والغلا فانسلقنا
وانطبخنا في الدولة المغلية

ولكن السلطان سكت عنهم وشجعهم على الرغم من كل أعمالهم الظالمة، فغضب أهالي مصر وكثير من أمراء المماليك، وثاروا على السلطان وجماعته المغول، فاضطر إلى الهرب والنجاة بنفسه، وذهب إلى دمشق، ولكنه فوجئ بأن نائبه فيها الأمير حسام الدين لاجين قد خلع طاعته، ونادى بنفسه سلطانًا، فأذعن له، وأشهد على خلع نفسه، ثم إن لاجين نادى بنفسه سلطانًا على مصر والشام في سنة ٦٩٦ﻫ/١٢٩٦م وتلقب بالملك المنصور، وسمح لكتبغا أن يقيم في صلخد، وأمسك طرغاي وكثيرًا من أمراء العويراتية وسجنهم في الإسكندرية، ثم انصرف إلى تنظيم شئون البلاد، ومحو كثير من الضرائب الظالمة، وتقوية الجيش حتى تمكن من تسيير حملة قوية إلى آسية الصغرى فتحت بلاد «سيس» وآدنة.

وفي سنة ٦٩٨ﻫ/١٢٩٩م بعث الأمير قفجاق على رأس فرقة عسكرية إلى حلب، فقد بلغه أن المغول ينوون مهاجمتها، وسارت الحملة إلى حلب، ولكن الأمير قفجاق تآمر مع المغول، وانضم إلى ملكهم غازان، فغضب السلطان من مقلته اللئيمة هذه، وعزم على التوجُّه بنفسه إلى حلب، ولكن بعض أنصار الأمير قفجاق انقض عليه وقتله وهو يلعب بالشطرنج في أواخر تلك السنة، ثم تولى الأمير سيف الدين طقجي على السلطنة، وتلقب بالملك القاهر، ولم يلبث إلا يومًا واحدًا؛ إذ قتله أنصار الملك الناصر بن قلاوون، وأعادوا صاحبهم من منفاه في قلعة الكرك تلك السنة ٦٩٨ﻫ وكان عمره خمس عشرة سنة فسلطنوه، وأقاموا أحدهم الأمير سلار المنصوري نائبًا للسلطنة، كما أقاموا الأمير بيبرس الجاشنيكر رئيسًا للقصر، واشتد التنافس بين هذين، وكادت الفتنة أن تقع بينهما لولا أن الخطر المغولي داهم البلاد، فإن غازان عاد من جديد يريد الاستيلاء على الشام فلاقته جيوش مصر سنة ٦٩٨ﻫ عند مدينة سلمية، وكان عدد المغول نحوًا من مائة ألف مقاتل، والجيش المصري يبلغ ثلث هذا العدد، فدُحر الجيش المصري بعد أن أبلى بلاء حسنًا.

ونكبت البلاد من جديد بالمغول؛ فتهدمت مدنها، واحترقت زروعها، وأخذ الناس يهجرونها، ولما قارب وصول غازان إلى دمشق خرجت إليه وفود من أهلها تعلن خضوعها، فأمَّنهم على أنفسهم وأهليهم، ثم دخل المدينة، وأعلن من على منبر جامع بني أمية أنه لن يؤذي أحدًا مسالمًا، وأنه يكفل للناس جميعًا من مسلمين وأهل ذمة حقوقهم ما داموا مسالمين، ثم إنه سمى نائبًا عنه في المدينة وغادرها، ولما بلغت أخبار دخوله إلى الملك الشاب ثارت ثائرته، وجمع جمعه وسار نحو الشام، والتقى بالمغول فشتت شملهم، ودخل دمشق، وطهر البلاد من المغول، ثم قفل راجعًا إلى مصر، ثم علم أن بعض أعراب الصعيد في مصر السفلى قد عصوا، فبعث إليهم من أخضعهم، وهدأت له البلاد، وأخذ نجمه يعلو على الرغم من حداثة سنه، وبينا كان منصرفًا إلى تنظيم أمور الدولة جاءته أخبار من عيونه في الشام أن غازان المغولي قادم إلى سورية من جديد، وأنه كتب إلى الصليبيين في إيطالية وإنكلترة يستنفرهم على قتاله، فكتب إليه منذرًا موبخًا على استنصاره بالكفار مع أنه مسلم،٣ ويظهر أن غازان قد استحى من عمله، فكتب إلى السلطان الناصر يعتذر ويهادن، واستراحت البلاد فترة ما، فانتهز السلطان الفرصة وجهَّز حملة بحرية على الصليبيين في جزيرة أرواد ففتحها، واستولى على بعض القلاع التي كانت باقية في أيديهم.

وفي سنة ٧٠٣ﻫ/١٣٠٣م زحف المغول من جديد على الشام بجيش فيه نحو مائة ألف مقاتل وعلى رأسهم قطلو شاه، فلاقاه السلطان، وكادت الدائرة تدور على الجيش المصري لولا أن السلطان الشاب سار في الطليعة فنصره الله، وجهَّز في سنتي ٧٠٤-٧٠٥ﻫ حملتين إلى آسية الصغرى التي كان أهلوها من الأرمن لا يفتئون يعبثون بمن حولهم من المسلمين، وكانت هاتان الحملتان درسين قويين للأرمن، ووقع صاحب مدينة «سيس» عاصمة الأرمن في حصار شديد، واضطر أن يدفع كل ما كان متأخرًا عليه من الجزية للملك الشاب.

وفي سنة ٧٠٨ﻫ شجر خلاف قوي بين الأمير سلار نائب السلطنة وبين الأمير بيبرس رئيس القصر، وانقسمت البلاد قسمين، فأراد الملك الناصر التخلص منهما جميعًا، واتفق هو وأمير القلعة على قتلهما، ولكنهما أحسَّا بالأمر فاتفقا عليه، وأرادا الفتك به، فاستطاع أن يفلت من حبالتهما، وتوجَّه يريد الحجاز، فلما بلغ الكرك، وكان له فيها أموال وعقار، فاستولى عليه وهيأ نفسه للقائهما، ويظهر أنه لم يرَ بُدًّا من التخلي عن الملك مؤقتًا، فأعلن تنازله عنه، وبعث بالختم السلطاني إلى أهل مصر، واجتمع أهل الحل والعقد فيها سنة ٧٠٨ﻫ وأجمعوا أمرهم على انتخاب بيبرس سلطانًا عليهم ولقبوه بالملك المظفر، وكان رجلًا كيسًا صالحًا، فجمع حوله الأمراء والمماليك، وأبان لهم الخطر المحدق بالبلاد، واقترح عليهم إقامة جسر من القاهرة إلى دمياط خوفًا من قدوم الصليبيين بحرًا في أيام الفيضان فيتعذر الوصول إلى دمياط فوافقوه على ذلك، واشترك في العمل أكثر من ٣٠ ألف رجل و٦٠٠ رأس بقر، وتم ذلك في قرابة شهر، وكان طوله من دمياط إلى قليون، وعرضه أربع قصبات من أعلاه وست من أسفله، تمشي عليه ستة رءوس من الخيل صفًّا واحدًا،٤ ثم انصرف إلى إدارة البلاد بحزم وكياسة، وشيد بعض المساجد والقصور، ولكنه فوجئ بتحرك أنصار الملك السلطان الناصر بن قلاوون وعملهم على إقصائه وإعادة زعيمهم، وزاد نشاطهم حينما بلغهم أن الناصر قد غادر الكرك إلى دمشق، وأن أمراءها بايعوه ونبذوا عهد بيبرس، وأنه عما قريب قادم إليهم في مصر، فثاروا على بيبرس واضطروه إلى أن يخلع نفسه ويفر إلى الصعيد في سنة ٧٠٩ﻫ/١٣٠٩م ولم يمضِ غير فترة حتى دخل الناصر مصر فرحب به أهلها، وبايعوه للمرة الثانية على عرش مصر، فلم يلبث طويلًا حتى قتل الأمير سلار، وصادر أمواله وكنوزه،٥ ثم انصرف إلى تهيئة جيش لمحاربة الأعداء التقليديين في آسية الصغرى، وبلغ الجيش ملاطية وفتك بأهلها، ثم كتب إلى السلطان أبي سعيد ملك المغول فعقد صلحًا على ما بيناه في أخبار العراق، وعاشت البلاد الشامية والمصرية في هدوء ومأمن من المغول إلى أن كانت نكبة تيمورلنك.
وفي عهد الملك الناصر عمرت بلاد الحجاز، واستتب فيها الأمن، وبُعثت البعوث إلى جنوب وادي النيل حتى بلغت سواكن، وفي عهده بلغت دولة المماليك أوجها، واستكثر هو من المماليك حتى قيل إنه كان يقدم لهم كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل دقيق، وأن عددهم كان اثني عشر ألف مملوك،٦ وظل هو في الملك ثلاثًا وثلاثين سنة، ومات سنة ٧٤١ﻫ/١٣٤١م فتولى الأمر من بعده ابنه سيف الدين أبو بكر وتلقب بالملك المنصور، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى عزله المماليك ونفوه إلى «قوص» في مصر العليا إلى أن مات في سنة ٧٤٢ﻫ/١٣٤٢م وولوا أخاه علاء الدين كجك، فتلقب بالملك الأشرف، وله من العمر ست سنوات، ولم يبقوه إلا خمسة أشهر حبسوه بعدها في القلعة ثم قتلوه، وبايعوا أخاه شهاب الدين أحمد الملك الناصر، الذي كان منفيًّا في الكرك، ولم يبقوه كثيرًا حتى أعادوه إلى منفاه في سنة ٧٤٣ﻫ ثم بايعوا أخاه عماد الدين أبا الفداء إسماعيل الملك الصالح، فظل في الملك ثلاث سنوات، قتل خلالها أخاه الملك الناصر، وفي سنة ٧٤٦ﻫ بايعوا أخاه الخامس زين الدين شعبان الملك الكامل، ولم يبقَ أكثر من سنة وبضعة أشهر عزلوه بعدها وولوا أخاه السادس زين الدين حاجي الملك المظفر، وكان سفاحًا شريرًا، ولم يبقَ أكثر من سنة وبضعة أشهر ذبحوه بعدها في سنة ٧٤٨ﻫ، وبايعوا أخاه السابع ناصر الدين حسن الملك الناصر، فحكم ثلاث سنوات وعشرة أشهر خلعوه بعدها وسجنوه، وولوا في سنة ٧٥٢ﻫ أخاه الثامن صلاح الدين الملك الصالح فحكم ثلاث سنوات وثلاثة أشهر خلعوه بعدها في شوال سنة ٧٥٥ﻫ، ثم أطلقوا سراح الملك الناصر من سجنه وأعادوه إلى العرش فبقي ست سنوات وسبعة أشهر ثم قتلوه في سنة ٧٦٢ﻫ، وله آثار عمرانية منها: مسجده العظيم المعروف في القاهرة بجامع السلطان حسن، ثم بايعوا ابن أخيه محمد ابن الملك المظفر وله أربع عشرة سنة ولقبوه بالملك المنصور في سنة ٧٦٤ﻫ/١٣٦٢م، ولم يبقَ طويلًا حتى اضطروه إلى أن يتنازل لابن عمه شعبان بن حسن وله من العمر سنوات عشر ولقبوه بالملك الأشرف، وجعلوا الأمير يلبغا العمري نائبًا للسلطنة، وكان رجلًا حازمًا مدبرًا، وكانت أيامه أيام سكينة لولا أن سنة ٧٦٤ﻫ كانت سنة قحط اضطر الناس فيها إلى أكل لحوم الكلاب والقطط، وفي سنة ٧٧٦ﻫ وقعت فتنة أهلية؛ فقد قتل بعض المماليك الأمير يلبغا العمري، وكادوا أن يقتلوا السلطان نفسه، ولكن أنصاره تمكنوا من إنقاذه، ووقعت البلاد في هرج ومرج عظيمين، ولم تنتهِ هذه الفتنة حتى تمكن المماليك خصومه من قتله خنقًا في سنة ٧٧٨ﻫ، وولوا ابنه علي علاء الدين ولقبوه بالملك المنصور، وأقاموا عليه الأمير سيف الدين برقوق وصيًّا إلى أن مات علي في سنة ٧٨٣ﻫ فبايعوا أخاه زين الدين حاجي الملك الصالح وكان طفلًا له ست سنوات، واستمر برقوق في وصايته، ولكنه عزم أخيرًا القضاء على هذه الأسرة من المماليك البحرية أو التركمانية، ونصب نفسه ملكًا لأسرة من المماليك جديدة هي أسرة المماليك الشراكسة المعروفة بالبرجية.
١  راجع ترجمة «تاريخ دولة المماليك» لوليم موير، الجزء الثالث.
٢  راجع التفاصيل في «تاريخ أبي الفداء»، ٤: ٢٥.
٣  راجع تفصيل هذه الأخبار في ترجمة كتاب «تاريخ المماليك» لوليم موير، ج١، ص٧١.
٤  راجع «تاريخ مصر الحديث» لجرجي زيدان، ١: ٣٣٥.
٥  انظر تفصيل هذه الكنوز في «تاريخ ابن إياس»، سنة ٧١٠.
٦  انظر «تاريخ مصر الحديث» لجرجي زيدان، ١: ٣٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤