الفصل الأول

الحالة الاجتماعية في العراق بعد سقوط بغداد

اضطربت الحالة الاجتماعية في أواخر العهد العباسي تبعًا للاضطراب السياسي؛ فقصر الخليفة أضحى مجمعًا لأقوام من الحثالات الترك والكرد والفرس والروم والصقالبة، كل يتكلم بلغته ويعمل على بسط نفوذه والقضاء على خصومه، والخليفة المسكين بينهم كالدمية يتلاعبون به ويسيِّرونه كما يشاءون.

وإذا كانت هذه هي الحالة في القرنين الخامس والسادس للهجرة والخلافة هي الخلافة، والسلطان العباسي على جانب عظيم من القوة، فماذا تكون الحالة في أواخر القرن السابع، وقد اضمحل كل نفوذ عربي أو كاد، وأصبح الخليفة قانعًا بمطعمه وملبسه ونسائه وجواريه وغلمانه، ولقد أدى هذا الأمر إلى انزواء المرأة العربية الشريفة ذات الماضي المجيد، والنشاط القوي، وحلَّت محلها السُّرِّيَّات والجاريات من بنات الأتراك والروم والفرس والكرد والصقالبة، وتولى أمر قصور الخلافة وقصور الأمراء والأعيان — وراء ذلك — شراذم من المماليك الترك، فعلت كلمتهم على كل كلمة، وارتفع صوتهم على صوت أسيادهم، واستمر نفوذهم في تعمق حتى صاروا يولون الخليفة ويعزلونه ويقتلونه، وأصبح ولاة العهد وشبان البيت المالك العباسي عُشراء المماليك والخدم، فتخلقوا بأخلاقهم، وأفضوا إليهم بأسرارهم وأحوال قصورهم، وصار هؤلاء المماليك سادة القصور وأمراءها الحقيقيين، وكان بلاء هؤلاء القوم يزداد حينما يتولى أحدٌ من هؤلاء الشبان الخلافة أو غيرها من كبار أعمال الدولة، فإنهم كانوا يتصرفون بأعمال هؤلاء الشبان، والخليفة والأمير لا حول له ولا طول، يقضي أوقاته في الصيد واللهو واللعب؛ فهذا الخليفة المستعصم بالله كان حينما تولى الخلافة شابًّا شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه في التنعم والملذات لا يراعون له صلاحًا، وكتبت له الرقاع، في أبواب دار الخلافة، فمن ذلك:

قل للخليفة مهلًا
أتاك ما لا تحب
ها قد دهتك فنون
من المصائب غرب
فانهض بعزم وإلا
غشاك ويل وحرب
كسر وهتك وأسر
ضرب ونهب وسلب
كل ذلك وهو عاكف على سماع الأغاني،١ وإذا كانت هذه حال الخليفة فإن حالات الأمراء والوزراء والأعيان أقبح وأشنع.
أما مظاهر الترف فقد بلغت حدًّا يفوق الوصف؛ لأن الأموال التي كانت تجبى لمصالح العامة، أضحت أموالًا يتصرف بها الخليفة ومماليكه وأمراؤه، ولا ينفقونها في السبيل التي جمعت من أجلِّها من كري الأنهار، وفتح الطرق، وعمارة المؤسسات العامة، وخدمة مصالح الشعب، بل أخذوا ينفقونها في شراء الألبسة الثمينة والفراء الغالي والرياش الفاخرة، ويتأنقون في الأطعمة والأشربة وأدواتهما، كما كانوا يغالون في استحضار ما اشتهر بطيبه من ألوان الفاكهة والطيوب والعطور واللحوم والطيور، وكانوا يكنزون الذهب والفضة والحجارة الكريمة، مع أن جماعة الشعب في أشد حالات الضيق والبؤس والعري والمرض والجهل، وقد ذكر المؤرخون أن هولاكو حينما دخل قصر الخلافة وطلب من الخليفة أن يحضر إليه كنوزه ونفائس رياشه وذخائره، كان الخليفة «يرجف من الخوف، ومندهشًا لدرجة أنه عاد لا يعلم مفاتيح خزائنه، فأمر أن تكسَّر الأقفال، فأخرجوا ما يقدر بألفين من الثياب، وعشرة آلاف دينار، ونفائس مرصعات، وجواهر عديدة، فلم يلتفت هولاكو إلى هذه الأشياء، ووزعها على الأمراء الحاضرين، ثم خاطب الخليفة: بأن الأموال الموجودة في سطح الأرض ظاهرة، فنريد أن تبين الدفائن وموضعها وماهيتها، فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء من الذهب في وسط السراي، فأخذوا يحفرون المكان الذي عيَّنه فوجدوه مملوءًا من الذهب الإبريز، وكانت كل قطعة منه بزنة مائة مثقال، ثم أمر أن يحصوا حرم الخليفة فوجدوا سبعمائة من النساء والسرايا، وألفًا من الخدم.»٢ وقد يكون هذا العدد مبالغًا فيه، ولكنه على أي حال عدد مخيف، فإن أمَّة كُتِبَ عليها أن تنحط إلى الحضيض يفعل خلفاؤها مثل هذا الفعل، ويقتنون هذه المئات العديدة من السرايا والخدم والنساء، ويروي المؤرخون أنه كان للخلفاء أسِرَّة مرصعة بالجواهر والآبنوس المنزَّل بالعاج، وأنهم كانوا ينصبون منائر الذهب وقد أوقدت فيها الشموع، كما أنهم كانوا يزينون غرف قصورهم بالحصر المنسوجة بخيوط الذهب المكللة بالدر والياقوت و…
أما عامة الشعب فكانوا على أسوأ حالة من الفقر والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، يحكم فيهم المماليك والعبيد من شذاذ الآفاق، ويُقصى عن الحكم الأشراف وأهل الفضل والعلم، حتى صار من الطبيعي المعتاد أن يصل إلى مناصب الدولة الكبيرة الخطيرة أبناء الأرقاء والسوقة، فقد رووا أن ابن الدرنوس كان حمَّالًا جاهلًا توصل إلى أن يكون برَّاجًا في بعض أبراج قصر الخليفة المستنصر بالله، وما يزال يرتفع في وظائف الدولة، وما زال يحسن التوصل إلى ولد المستنصر بالله — وهو المستعصم بالله — وكان في زمن أبيه محبوسًا، ويتعهده بالخدمة إلى أن جلس على سرير الخلافة، فعرف له حق الخدمة، ورتبه مقدم البرَّاجين، ثم استحجبه، حتى بلغ أن صار إذا دخل الوزير ينهض له ويخلي له المجلس لعله جاء في مشافهة من عند الخليفة،٣ وما زال يعظم نفوذه حتى لقبه الخليفة ﺑ «نجم الدين الخاص»، وأرسله الخليفة رسولًا عنه إلى هولاكو قبل دخوله بغداد.
فإذا كانت أمور الدولة بين البرَّاجين والسجانين، ومن يعتمدون عليهم من طبقتهم من الحمالين والسوقة، فترقب الزوال القريب لهذه الدولة العجيبة، وليت الأمور وقفت عند إسناد مناصب الدولة إلى المسلمين والنصارى ممن رأيت؛ بل إنها تعدتها إلى اليهود المجرمين، فقد أُسند إليهم في عهد الخليفة المستنصر بالله كثير من مناصب الدولة، كما أُسند إليهم في عهد ابنه المستعصم عدد من أمهات الوظائف الجليلة، ومن أشهر هؤلاء اليهود ذلك اليهودي الخبيث المعروف بابن صفي الذي لقَّبه الخليفة ﺑ «سعد الدولة» وسلمه الأمور المالية في الخلافة، وقد استمر هذا اليهودي الماهر في أعماله حتى بعد الاحتلال المغولي، وتقرب من السلطان أرغون بعد أن طرده والي العراق «قطلغ شاه» من وظيفته، فقد رووا أنه بعد أن طرده والي العراق رحل إلى السلطان أرغون، وما زال يتقرب منه حتى قربه إليه ثم أعاده إلى العراق، ودخل بغداد، وتسلم ديوان الممالك، وتحكم في أهلها بقسوة وعنف، وسمَّى أخويه فخر الدولة وأمين الدولة في منصبين من أكبر مناصبها، وقد بلغ من تدجيل سعد الدولة اليهودي مما يرويه عنه بعض المؤرخين المنافقين أنه زار في سنة ٦٨٨ﻫ مشهد الإمام موسى بن جعفر — رضي الله عنه — وفتح المصحف الموجود في المشهد متفائلًا فخرجت له الآية: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ وأنه استبشر كثيرًا بهذه الآية، وأطلق للعلويين والقوَّام على المشهد مائة دينار، وفي سنة ٦٨٧ﻫ وصل بغداد جماعة من اليهود من أهل تفليس وقد رتبوا ولاة على تركات المسلمين، فأجروا الأمر على أن لا يورثوا ذوي الأرحام، وأنكر ذلك عليهم الأمير أروق والي العراق، وأمر أن يعمل بمذهب الإمام الشافعي كما كان قديمًا،٤ ولما ضاق الناس ذرعًا بتحكم اليهود اجتمع أهل العاصمة في سنة ٦٨٩ﻫ وكتبوا محضرًا بعثوه إلى السلطان أرغون وقد ملئوه طعنًا شديدًا على سعد الدولة واليهود، وضمَّنوه آيات من القرآن والأحاديث مما جاء ضد اليهود، وختموا ذلك المحضر بقولهم: وإن اليهود طائفة قد أذلهم الله تعالى، ومن حاول إعزازهم أذله الله عز وجل، ولما علم سعد الله بالمحضر بعث إلى السلطان أرغون يطلبه، فأرسله إليه، ثم شرع في التنكيل بمن وقعه من الأعيان والوجوه والأشراف.

وقد ظل نفوذ اليهود قويًّا إلى أن هلك أرغون وقُتل سعد الدولة وقُبض على إخوته وقُتلوا شر قتلة، ولما تم هذا العمل، وتخلص الناس من شرورهم انتهزت العامة هذه الفرصة فأقدمت على دكاكين اليهود وبيوتهم فأحرقتها، وبلغت هذه الأخبار سائر مدن العراق؛ ففعل الناس فيها ما فعله أهل العاصمة بيهودها، وقد حفظ لنا التاريخ مقطوعات تتضمن استياء عامة الناس وخاصتهم من أعمال هؤلاء المجرمين، وإليك بعض هذه المقطوعات:

يهود هذا الزمان قد بلغوا
مرتبة لا ينالها فلكُ
الملك فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا معشر الناس قد نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
فانتظروا صيحة العذاب لكم
فعن قليل تراهم هلكوا

فأنت تقرأ من وراء كلمات هذه المقطوعة شدة نقمة الناس، لا على اليهود؛ بل على أولئك القادة والأمراء والملوك الذين قدموهم، واستعانوا بهم، وأبلغوهم معالي الأمور وأعالي الرتب حتى صار الملك ومستشاره وقواده طوع أيديهم، فلا سبيل للناس إلا أن يتهودوا بعد أن تهود الكون والفلك نفسه، ولكن أنَّى لهم أن يعلوا والله سبحانه قد أذلهم، ولا بد للناس من أن يأتيهم نصره، ويأخذ اليهود المجرمين أخذ عزيز مقتدر، فقد كتب عليهم الذل والمسكنة وباءوا بغضب منه، ولن يكون حالهم اليوم في دويلتهم الهزيلة التي أوجدوها في فلسطين الحبيبة، إلا كحالهم بالأمس فلن يقوم لهم ملك، ولن تنتظم لهم دولة مهما تعالوا ومهما سموا.

ذلك ما كانت عليه العاصمة الإسلامية — بغداد — وذلك ما كانت عليه مدن الدولة العباسية من أقصاها إلى أقصاها قبل دخول التتار، وعقبه من تحكم السوقة واليهود وأبناء الجمالين والبرَّاجين في أمور الدولة.

أما حالة الشعب من عُري ونوائب صحية وطواعين وأوبئة وفقر وجهل، فحدِّث بها بما شئت ولا حرج، وقلما كانت تمضي خمس سنوات دون أن يحدق بالبلاد جميعها طاعون أو وباء، أو أن تصيبها جائحة سماوية تأتي على الأخضر واليابس، وترتفع الأسعار، ومن أفظع ما حدثنا التاريخ به عن هذه الحقبة ما حدث سنة ٦٨٤ﻫ فقد غلت أسعار الخبر غلاءً فاحشًا حتى بيع كل ثلاثة أرطال بدرهم، وحتى باع الفقراء أولادهم وبناتهم، وألقت النساء بنفوسهن في دجلة من الجوع، وقد حدثنا التاريخ أيضًا أن امرأة جاعت وجاع أولادها، وسألت الناس فلم يعطوها شيئًا، فوضعت نفسها وأولادها في جوالق ودفعته إلى دجلة فالتهمه، وقد استمرت هذه الحال نحوًا من سنة حتى أكل الناس عروق القصب والبردي وأوراق الحلفاء وأعشاب الأرض،٥ وقد قاسى العامة بل الخاصة من الويلات ما يشيب الطفل من روايته فكيف بالوقوع فيه، ولم تكن تلك حالة عابرة مرت على العراق أيام فتنة هولاكو ثم ذهبت بذهابه، بل إنها كانت كثيرًا ما تقع بين الفينة والفينة، وليس هذا بغريب بعد أن تحكَّم التتار في البلاد، واستولوا على خيراتها، وقضوا على موارد الثروة فيها، ولما ذهبوا عن البلاد خلفهم التركمان، ولم يكونوا إلا أسوأ حالًا وشرًّا في أفعالهم، فقد رأيت في القسم السياسي من هذا الكتاب أن كثرة السلاطين التركمان من البايندرية والبارانية كانت لا تعرف الرحمة ولا تحس بآلام الشعب، وإنما كان همها أن تأكل في صحاف الذهب، وتتمتع بما تستطيع من المتع، وعلى الشعب العربي النبيل أن يتحمل، وأن يقدم لها ولأمرائها وحاشيتها من شذاذ الآفاق الذهب والفضة والطعام والشراب والكساء والزينة، ولو حرم الشعب من ضروريات الحياة، فكم ماتت أطفال من الجوع، وكم استعبدت شريفات من الفاقة، وكم اشتغل فلاحون وحصادون حتى يقدموا للأمير أو الوزير المغولي أو التركماني أو العجمي الطعام الشهي، والكساء البهي والعيش الهني، فقد روى أكثر مؤرخي العراق في هذه الحقبة أنه في سنة ٦٧٠ﻫ لمع نجم الخواجة شرف الدين هارون ابن الصاحب شمس الدين الجوني، وهو شاب عجمي من أسرة خدمت الدولة المغولية، وسمت به وظائف الدولة حتى صار يلقَّب بحاجب ديوان الممالك في العراقين، وطمحت نفسه إلى أن يتزوج بحفيدة الخليفة المستعصم بالله، فتم له ما أراد، ويقال: إنه قد عرض عليها مهرًا لا يكاد يصدق العقل وقوعه، وهو مائة ألف دينار فقبلت أمها به على شريطة أن يكف عن شرب الخمر فقبل بذلك، وقد عجب المؤرخون لهذه الحادثة حتى قال ابن أبي عذيبة في تاريخ دول الأعيان وكان صداقها مائة ألف دينار، وهذا ما سُمع بمثله إلا لملكٍ، فإن القائم بأمر الله أصدق خديجة السلجوقية مائة ألف دينار، وكذلك المكتفي بالله زوَّج ابنته زبيدة بالسلطان مسعود بن محمد ملكشاه على صداق مائة ألف دينار،٦ فهل جُمعت هذه الآلاف المؤلفة من دنانير الذهب من غير الفلاحين والبائسين، والسوقة المعوزين الذين كانوا يعطون أموالهم عن يد وهم صاغرون.

ومن الأمور التي يلاحظها المرء أثناء تتبعه لحوادث العراق في هذه الفترة أن الأخلاق العامة قد فسدت فسادًا بارزًا على وجه العموم، فقد كثر الدجالون والأفاكون والأشرار والمفسدون، وخصوصًا الذين كانوا يسمون أنفسهم «الشُّطَّار» الذين كانوا يعيثون في البلاد فسادًا، وينضم إليهم طبقات من الجهال وأهل الاحتيال فيزداد شرهم، ويلقى المستورون وأصحاب السكينة والفضيلة منهم كل شر، وربما فرضوا على بعض الناس الفرائض، وطالبوهم بجعالات وضرائب، فإن دفعوها نجوا من شرهم، وإلا هددوهم بالقتل والحرق، وسلب الأولاد والتعدي عليهم، وكم حرقوا من بيوت وأفسدوا من زروع، ورجال الشرطة وضابطة الأمن وأهل الاحتساب لاهون ساهون، أو أنهم كانوا يخافونهم فلا يستطيعون إيقاف أعمالهم المريبة أو الشائنة، أو الحيلولة دون جرائمهم الشيطانية الغريبة التي كانوا يؤذون بها الناس ويفسدون عليهم أعمالهم، والحق أن موجة الفساد قد انتشرت في البلاد عامة بعد احتلال المغول، فكثر الغش وعمَّ الفساد ومرضت الضمائر، وهذا أمر طبيعي بعد أن تحكم الأشرار في أمور الدولة، وصار الأمناء والمخلصون منزوين، وأضحى الموظفون الشرفاء لا يستطيعون الاستمرار في أعمالهم بما تقتضيه المصلحة العمومية، ولا يستطيعون البقاء في عملهم؛ إما خوفًا من الأشرار أو مجاراة لهم، والعواصم والمدن الكبرى في العادة تكون مألفًا لهم ولأمثالهم في أيام العزة والسلطان القوي النفوذ، فكيف بها في أيام الفتن والويلات والحروب والسلطان الضعيف الذي يتحكم فيه من لا أخلاق لهم ولا دين يردعهم؟!

أما حالة الأسرة فلم تكن أفضل من غيرها، وقد أخذت كثير من عراها تتفكك، وتسوء بانحطاط شأن المرأة العربية بعد أن حلت محلها الجواري، وطغت عليهن طغيانًا فظيعًا، وعلى الرغم من أن الجواري قد كنَّ سيطرن على المنزل العربي منذ العهد العباسي الأول بسبب كثرة الرقيق، فإنه قد كان أيامئذ شيء من العزة القومية وقوة الدولة يمنع الناس من الانصهار المطلق في البوتقة الأعجمية، أما في هذا العصر الذي نؤرخه فقد انحل كل شيء عربي حتى لم يكد يبقى له من أثر، وساءت الأسرة، وانحطت عقلية المرأة، وبانحطاطها انحط مستوى أولادها، وفسدت حالاتهم العامة.

أما من ناحية العلم والمعرفة والمشاركة في التوجيهات الاجتماعية والثقافية: فلم تكن حالة المرأة أفضل، بعد أن كانت لها مكانة مرموقة في ذلك منذ فجر العصر العباسي حتى أواخر القرن السادس للهجرة، فكم ظهرت منهن فواضل بوارع في الأدب والعلم والسياسة والحرب، أما في هذا العصر فقد ساءت أحوالها بشكل خطير، وانحصر علمها في حفظ شيء من كتاب الله وبعض المعلومات الساذجة، والإلمام بكثير من الخرافات والجهالات، وهكذا انحط مستواها العقلي، وفقدت سجاياها العربية الكريمة من عزة النفس والاستقلال في التفكير، وصار الرجل يقسو في معاملتها، ويمنعها من الخروج إلى المجامع العامة، ويسدل عليها ستار الجهل، ويشدد عليها في الحجاب والانزواء عن مجالس العلم، وحلقات الأدب، التي كانت تغشاها في العصور السابقة منذ عصر الانبثاق.

١  الفخري لابن الطقطقي، ص٣٣، ٤٤، ٢٩٧.
٢  «العراق بين احتلالين» للعزاوي، ١: ١٧٩.
٣  الفخري، لابن الطقطقي، ص٣٣.
٤  راجع «العراق بين احتلالين»، ١: ٣٤٢.
٥  راجع «العراق بين احتلالين»، ١: ٣٣٥.
٦  انظر «العراق بين احتلالين»، ١: ٢٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤