الفصل الرابع

الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد

نضجت العلوم والآداب والفنون في العصر الفاطمي والعصر الأيوبي — كما رأينا — وكانت هذه الحركة الثقافية الرفيعة امتدادًا للحركة الثقافية في العصر العباسي، وقد تنافس الخلفاء والملوك والأمراء في نشر العلم وبناء دوره، وتشجيع أصحابه، واقتناء كتبه، وتأسيس خزائنه، وفتح مدارسه ومعاهده، والإكثار من دور القرآن والحديث خاصة، وكان الخلفاء والملوك والأمراء يرعون هذه الحركة بأنفسهم، ويشيدون المعاهد برعايتهم، ويقتنون الكتب لخزائنهم والخزائن العامة، ويجزلون العطاء للكُتَّاب والمؤلفين والخطاطين والنساخين، ويرعون طلاب العلم بالإنفاق عليهم، ولما جاء عهد المماليك استمرت هذه الحركة؛ لأنهم كانوا على الرغم من بعدهم عن العروبة يؤمنون بالإسلام ويخلصون له، ويتحمسون لعلومه وآدابه ولغته، وقد أبقوا لنا مدارس كثيرة في الشام ومصر والحجاز ما تزال شاهدة على حرصهم الشديد على نشر العلم وتعميمه، ولم يَخْلُ عصر أحدهم من إشادة مدرسة أو بناء جامع فيه مدرسة أو خزانة كتب، أو تأسيس كُتاب للأطفال، أو دار قرآن للأيتام، أو دار حديث للطلاب، وقد أُلفت كتب كثيرة في تاريخ هذه المعاهد والمدارس وأحوالها، وبخاصة في العصرين الأيوبي والمملوكي، ومن أشهر هذه الكتب كتاب «الدراس في المدارس» لابن حجي الحسباني وهو مفقود فيما أعرف، وكتاب «تنبيه الدارس» للقمي، وقد نشره المجمع العلمي العربي بدمشق، ومختصره للعلموي، و«مساجد دمشق» لابن عبد الهادي، وقد نشرته.

ومما هو جدير بالذكر أن بعض المماليك كان على جانب عظيم من العلم والمعرفة والفضل، فكان طبيعيًّا جدًّا أن يشجع العلم وأهله، ويهتم بإشادة المدارس وعمارة بيوت العلم أمثال الملك المنصور قلاوون، فقد بنى في مصر بناء ضخمًا اشتمل على «بيمارستان» مستشفى ومدرسة، ومكتبة، وجعل في البيمارستان عدة غرف واسعة مفروشة بالأسرة للمرضى الفقراء والأغنياء على السواء، وجعل فيه غرفًا خاصة بالنساء، وسمَّى فيه عدة أطباء وكحالين وممرضين ومدرسين يدرسون فنون الطب والكحالة، وجعل إلى جانبه معملًا كيماويًّا جهَّزه بكل أنواع المعدات والآلات الطبية، وبنى إلى جانبه خزانة كتب ضخمة فتح أبوابها للجمهور، وملأ خزائنها وأدراجها بالنفائس من مخطوطات الطب والعلم والأدب والدين من كل فن، وعهد إلى جماعة من أهل العلم بالإشراف عليها ومساعدة روادها وطلاب العلم، وجعل إلى جانب ذلك مدرسة واسعة، سمَّى فيها المدرسين والفقهاء على المذاهب الأربعة، وبنى إلى جانب ذلك مكتبًا لتعليم الأطفال، ودار قرآن لتعليم القراءات، وميتمًا واسعًا لتربية الأيتام، ولا تزال آثار هذه الجامعة العظمى شاخصة إلى أيامنا هذه تشهد لبانيها الملك الصالح العادل العالم بالفضل والخير وحب الإصلاح.

ومن المماليك الأفاضل البارعين بعلوم العربية والدين: الملك الناصر بن قلاوون، فقد كان مثل أبيه، ورووا أنه كان بارعًا بعلوم الفقه والحديث والأصول، كما كان عارفًا بالآداب العربية وعلومها، وكان يجلب العلماء إلى مجلسه ويناقشهم في مسائله، ويقرب أفاضلهم، ويجزل عطاءهم، وهو الذي بنى كثيرًا من دور العلم، وهو الذي أعاد إلى المؤرخ العالم الجليل إسماعيل بن علي المشهور بأبي الفداء مملكة حماه، وما ذلك إلا لفضله، وقد خلَّف لنا كثيرًا من دور العبادة والتدريس، ومن أعظمها: مسجده المعروف بالجامع الجديد في القاهرة، وبنى جامعًا آخر بجانب جامع أبيه العظيم في شارع النحاسين بالقاهرة، كما بنى دار العدل العظمى وعددًا كبيرًا من المدارس في كثير من المدن الشامية والمصرية.

وكان الملك الظاهر جقمق محبًّا للعلم والفنون الجميلة، كما كان حريصًا على بناء دور العلم، وتزويدها بالمصاحف المتقنة الجميلة، والكتب النادرة، والتحف النفيسة.١

ومما هو جدير بالملاحظة أن الديار المصرية والشامية كانتا حافلتين منذ القديم بمعاهد العلم من مدارس ودور كتب، ومن أشهر هاتيك المعاهد في القديم: دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله في سنة ٣٩٥ﻫ وحمل إليها الكتب من خزائن القصور الملكية والمساجد القديمة، ووقف عليها ما تحتاج إليه، وعهد بإدارتها إلى جماعة من أهل الفضل يتعهدونها، ويعملون على تثقيف الناس فيها، سواء بمحاضراتهم يلقونها فيها، أو بمناظراتهم بين المترددين إليها، وقد ظلت هذه الدار عامرة بالعلم وأهله حتى دخل صلاح الدين إلى مصر وحوَّلها إلى مدرسة للشافعية.

ومن آثار الفاطميين في مصر أيضًا: خزانة كتب الخليفة العزيز بالله، فقد كان محبًّا للعلم حريصًا على تثقيف الناس، ولذلك بنى دارًا عظيمة ملحقة بقصره، جمع فيها كثيرًا من المؤلفات القيمة في الأدب والتاريخ والحكمة والفلسفة والفقه، وقالوا: إن عدد كتبها بلغ نحوًا من مليون وستمائة ألف كتاب، وذكروا أنه كان من بينها كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي، ونيف وثلاثون نسخة متقنة، منها نسخة عليها خط المصنف، كما كان فيها نيف وعشرون نسخة من «تاريخ الطبري»، ونسخة من كتاب «الجمهرة في اللغة» لابن دريد، وكان العزيز بالله يتردد إليها ويتحدث إلى قيِّمها، ويناقشه في مسائل العلم وأحوال الكتب.

وأعظم أثر علمي خلَّد اسم الفاطميين على الدهر هو «الجامع الأزهر» المعمور الذي بناه الأمير جوهر الصقلي بأمر الخليفة المعز لدين الله في سنة ٣٦٣ﻫ وجعله مدرسة كبرى لتعليم العلم وتهذيب النفس، وأقام إلى جانبه خزانة كتب غنية، وقد ظلت هذه المؤسسة الضخمة عامرة بالعلم، عاملة على نشر المذهب الفاطمي الشيعي إلى أن جاء الناصر صلاح الدين الأيوبي، فحوَّلها إلى مدرسة شافعية، وما زال شأنها يسمو في عصر الأيوبيين حتى دُرست فيها المذاهب الأربعة واللغة والآداب والرياضيات والفلك، فلما استولى المماليك على مصر زادوا العناية بها، وأكثروا مواردها وعظموا عدد طلابها وشيوخها، كما أنهم وسعوا بناءها، وزادوا أروقتها وبخاصة في عهد الملك الظاهر بيبرس والملك «قايتباي» والملك «قانصوه» الغوري، وقد أضحت هذه المدرسة بل الجامعة العظمى الملجأ الحصين للغة والدين في عصور الانحلال والانحدار، ولم يكن أثر الأزهر الشريف مقصورًا على أهل مصر وحدها؛ بل كان المسلمون يقصدونه منذ العصر الأيوبي من كافة أنحاء العالم الإسلامي حتى من بلاد المغرب واليمن والهند وأواسط أفريقيا، وأخذت هذه الصلة تقوى بين الأزهر وبين البلاد الإسلامية حتى أضحى في العصر العثماني مأوى المسلمين وحصنهم المتين في كافة بقاع الإسلام من بلاد الشركس والقفقاس إلى بلاد الهند والأفغان، وقد بلغ عدد طلابه في القرن التاسع للهجرة نحوًا من ألف طالب.٢

هذا وقد وقف الأمراء والمماليك كثيرًا من دور العلم والعبادة منذ عهد صلاح الدين في الشام ومصر، وقد أكثرَ هو نفسه من بناء هذه المعاهد في مصر والإسكندرية والقدس ودمشق وحلب وحماه، وخلفه أبناؤه ورجال أسرته فساروا على غراره، ولما جاءت دولة المماليك بعدهم أكثروا من بناء المدارس كثرة واضحة حتى قال المقريزي في خططه: إن مدارس المماليك في الشام ومصر قد بلغت نحوًا من سبعين مدرسة ومعهدًا للتدريس، ويقال: إن مثل ذلك العدد كان في الأصقاع والولايات التابعة لهم.

وهكذا ازدهرت المدارس، وارتفع شأن العلم في عصر المماليك على الرغم من انحطاط شأن العرب السياسي، فلما جاء الأتراك العثمانيون، واحتلوا الشام ومصر تأخرا من الناحية الثقافية، وبخاصة الناحية الأدبية بشكل بارز، فقد نكب الأدباء والشعراء وتفرقوا في البلاد، وفشت الجهالة وعلى الأخص حين وقعت الفتن والحروب بين الأتراك وبقايا المماليك، فتأخر الأزهر، وانحطت مدارس الشام الكبرى، وهدم أكثر معاهد العلم، وظلت حالة الجهل متفشية في عهد السلطان محمد الثالث، ففي سنة ١٠٠٤ﻫ بعث إلى مصر محمد باشا واليًا عليها؛ فاهتم بالمعاهد الدينية، وأحيا شعائرها، وأعاد بناء «الجامع الأزهر» إلى ما كان عليه، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ تفرق على الطلبة الفقراء، كما رمم المشهد الحسيني، وأخذ الأزهر منذ ذلك الحين يستعيد نشاطه الفكري، كما شرع رجاله يعنون بنشر العلم والتأليف والوعظ والإرشاد، واستمرت هذه الحالة حتى جاء نابليون وأوجد تلك النهضة المعروفة التي سنتحدث عنها فيها بعد.

ومما يجدر بنا ذكره هنا أن اللغة العربية وعلومها كانت مزدهرة في العصر المملوكي؛ لأن المماليك كانوا يتعلمونها ويعلمونها أبناءهم ومماليكهم ويشجعونهم على إتقانها والبراعة فيها وفي آدابها وعلومها، كما أسلفنا، فلما جاء العهد التركي ضعفت اللغة العربية، وانحطت آدابها، وتدنت أساليب تدريسها، وسفلت طرائق كتابتها، وقد زعم بعض المؤرخين أن السلطان سليمًا العثماني أراد حين فتح الشام ومصر أن يجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية بدلًا من اللغة التركية وأنه كان مصممًا على ذلك، ولكن المنية عاجلته قبل إتمام هذا المشروع الهام حتى قال المرحوم الأستاذ محمد كرد علي: «والغالب أنه نشأ له هذا الفكر يوم افتتح مصر والشام، وخُطب له في الحرمين الشريفين؛ فسُمِّيَ فاتح ممالك العرب، فرأى أن العرب في مملكته أصبحوا قوة لا يستهان بها، وأن الترك وهم عنصر الدولة الأصلي لا يشق عليهم أن يستعربوا، ولو وفق السلطان سليم إلى إنفاذ هذه الأمنية لخلصت الدولة العثمانية في القرون التالية من مشاكل عظيمة، ودخلت في جملة العرب عناصر كثيرة مهمة، ولارتقت اللغة العربية فأضحت الأستانة موطنًا لها كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة.»٣

•••

أما عن الحالة الاجتماعية: فقد بلغت في مصر أثناء العصر الفاطمي وأوائل العصر الأيوبي درجة رفيعة في الحضارة والرقي والسمو الاجتماعي حتى صارت زعيمة البلاد الشامية والحجازية، وكانت ثروتها نعم المعين لها على نشر هذه الحضارة وتعميم أسباب العلم، ولكن انشقاق الأيوبيين بعد وفاة زعيمهم صلاح الدين وانقسامهم وتقسيمهم مملكة صلاح الدين الواسعة الممتدة من مصر إلى الشام والموصل واليمن والحجاز قد ضعضع تلك الدولة، فاختل التوازن الاجتماعي حينًا من الدهر بعد هذه التجزئة، واضطرب حبل الأمن، وباضطرابه اختلت القيم الأخلاقية، وكثرت الدسائس في البلاط الملكي وفي قصور الأمراء، ووصلت هذه الدسائس والفتن إلى صفوف الوجهاء وطبقات الشعب، ولم يأتِ القرن السابع للهجرة إلا وأسرة صلاح الدين قد جعلت بأسها بينها، فضعفت عصبيتها، واختل نظامها، ورأت أن تستمد قوة من بعض العناصر الأجنبية كالشركس والروم والأتراك والصقالبة ممن دخلوا في الدين الحنيف، وأخذوا يتحينون الفرص لاستعادة سلطانهم المفقود عن طريق الدس أو الاحتيال أو إيقاع الفتن بين صفوف رجال الأسرة الحاكمة أو بين الشعب وطبقاته.

وقد كان لهؤلاء الأجانب أثرهم القوي في الحياة الاجتماعية، وخصوصًا حين قوي أمرهم، وأضحى الملوك والأمراء الأيوبيون ألعوبة في أيديهم يصرفونهم كما يشاءون، كما أضحى الشعب مدفوعًا إلى تقليدهم والاقتباس من أحوالهم وأخلاقهم، على أن هؤلاء المماليك الأجانب كما أثروا في أهل البلاد، قد تأثروا بهم واقتبسوا كثيرًا من أخلاقهم وأوضاعهم، وأحبوا البلاد التي نزلوا فيها، ونذروا على أنفسهم الدفاع عنها من الغزاة الذين أرادوا القضاء عليها كما قضوا على العراق وفارس، والحق أن هؤلاء المماليك كانوا حماة بلاد الشام ومصر من أن يفعل بها المغول ما فعلوه في إيران والعراق، وبخاصة بغداد قلب الإسلام وعروس بلاده، ولهؤلاء المماليك الفضل الأكبر في الإبقاء على سلامة البلاد وإنقاذها من شرور الصليبيين الذين أرادوا أن يفرضوا نظمهم وقوانينهم وأحوالهم الاجتماعية على البلاد، ولكن المماليك أقصوهم وردوهم شرَّ رد.

ولا يسعنا الأمر أن نترك الحديث عن أبناء الشعب على الرغم من قلة المعلومات التي لدينا عنهم في هذه الحقبة، وأغلب الظن أنهم كانوا مسوقين كالقطعان، يعملون على تقليد أمرائهم من الأيوبيين والمماليك؛ لأنهم في نظرهم قد غدوا القدوة الصالحة، على الرغم مما هم فيه من السوء وفساد الخلق، إلا من رحم ربك، وسلَّمه الحظ إلى مالك كريم النفس علَّمه الدين والخلق وبعث به إلى حلقات الذكر أو مدارس العلم فتهذبت نفسه وسما عقله، وقد كان لهؤلاء المماليك تقاليد وأحكام وشارات يتميزون بها عن غيرهم، كما كان بطبقتهم أنظمة خاصة بها، وكان لهم طبقات؛ فطبقةٌ شاراتُها صور بعض الحيوانات كالأسد والفهد والنمر والصقر والطاووس، وطبقة شاراتها صور الزهور كالزنبق والأقحوان والياسمين والقرنفل، وطبقة شاراتها صور بعض الأدوات الحربية كالسيوف والسناجق والكئوس والمغافر، وكان لكل طبقة قرطق خاص تلبسه ومناطق معينة تتخصص بها في ألوان جميلة مختلفة اختصت كل طبقة بلون خاص.

ومما هو جدير بالذكر أن كثرة هؤلاء الأمراء من الأيوبيين ثم من المماليك كانت تميل إلى نشر الرخاء بين طبقات الشعب، وإلى تعميم أسباب الحضارة فازدهرت مصر والشام في عهدهم، وارتقتا من الوجهة الاجتماعية رقيًّا ملحوظًا، والسبب في ذلك — على ما نرى — هو أن هؤلاء الأمراء من أيوبيين ومماليك كانوا يحبون أن يجاروا الخلفاء الفاطميين والعباسيين الذين ورثوا أرضهم وملكهم، ومن المعلوم أن مصر بلغت في عهد الفاطميين درجة شامخة في الحضارة والرقي الاجتماعي، فقد كان للفاطميين في القاهرة دور وقصور ومدارس ومعاهد ومكاتب وخانات وحمامات وأسواق وإسطبلات، حشوها بالكثير من مظاهر الرقي والترف من أقداح البلور الصافي، والصحوف الفضية والذهبية والبلورية الفاخرة، والأواني الخزفية والخشبية، والأقمشة البارعة من حريرية وقطنية وكتانية وصوفية، ومن عدد الخيل والحرب … وما إلى ذلك من ضروب الحضارة والرقي، ومن الطبيعي جدًّا أن يكون الأيوبيون ثم المماليك قد توارثوا هذه الحضارة عن أسلافهم من أملاك هذه الديار، وأن يتمتعوا بها في حياتهم الاجتماعية، كما أنهم كانوا قدوة للخاصة والعامة في ديارهم، يقلدونهم في أعمالهم، ويتخذون طريقتهم قدوة لهم، ويظهر أن الترف قد بلغ حدًّا بعيدًا في أيام المماليك؛ لأن مصر والشام كانتا أرضًا غنية تجتمع فيهما أسواق العالم من الشرق والغرب، وتتوافد إليهما التجار من كافة أصقاع الدنيا؛ ولهذا نجد الناس قد تفننوا في البذخ والترف والشراء، فقد رووا أن المماليك قد رصَّعوا عصائب شعور نسائهم وثيابهن وخفافهن بالجواهر واللآلئ، كما رصَّعوا آنية شرابهم وطعامهم بالذهب والحجارة الكريمة، واتخذوا من مجالس شرابهم ولهوهم آنية وتماثيل ودمى من الذهب المرصع بالحجارة الكريمة واللؤلؤ، ولبسوا الثياب المزخرفة، وتمنطقوا بالشال الهندي، وتسربلوا بالحرير، وافترشوا الدمقس والخز والديباج والمخمل، واستعملوا آلات الشطرنج والنرد المصنوعة من الذهب والفضة والآبنوس والعاج والعود، ووُجد في خزائن بعضهم من أصناف الثياب والحلي والرياش والأثاث ما يقدر بملايين الدنانير.

وقد استتبع هذا الأمر أن فشت بينهم كثرة من الأمراض الاجتماعية التي تنتج عن الترف الزائد كشرب المكسرات، وتدخين الحشيش، وفعل الموبقات، والتفنن في المنكرات، حتى اضطر الملك بيبرس سنة ٦٦٥ﻫ في القاهرة، حين عزم على القيام بإحدى غزواته الحربية، أن ينظم داخليته، ويصدر مراسيم بإبطال تدخين الحشيش وإبطال ضمانه، ويأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المنكرات، ومنع الحانات والخواطي في المحلات العمومية بمصر والشام جميعًا حتى قال بعض الشعراء:

ليس لإبليس عندنا أرب
غيرُ بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معًا
حرَّمتا ماءه ومرعاه
ويظهر أن الملك قد عرف بأن بعض الرعية لم يأتمر بأمره، وظل يعاقر الخمور، ويعمل ما اعتاده من الفواحش، فأمر بمنع النساء الخواطئ من التعرض للبغاء، وأمر بنهب الخانات التي كانت معَدة لذلك وسلب أهلها جميع ما كان لهم ونفى بعضهم، وحبس النساء حتى تزوجن، وكتب بجميع ذلك توقيعًا سلطانيًّا قرئ على المنابر في الجوامع.٤
والحق أن الأخلاق قد اضطربت في أواخر القرن السابع اضطرابًا ظاهرًا، وانتشرت المسكرات والموبقات انتشارًا مخيفًا، حتى اضطر الملك بيبرس إلى الوقوف من أصحابها هذا الموقف الخشن، وفي عهده أيضًا أمر عماله في كافة المقاطعات بتنظيم نظام الحسبة، والتشديد على أهل الغش، والضرب على أيدي الدجاجلة، كما أمر عماله أن يكثروا عدد موظفي الحسبة في البلاد؛ ليراقبوا أحوال الناس والباعة، وليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويراقبوا الموازين والمكاييل بعد أن فشا التطفيف، ولينظروا في أمر الأسعار ويتشددوا في مراقبتها، وفي تحديد الأرباح بالإنصاف والعدل بين المشتري والبائع، ويجدر بنا أن نلاحظ هاهنا أن رجال الأخلاق وأهل الوعظ والإرشاد لما شاهدوا الحالة الاجتماعية المنحطة التي صار إليها الناس، وخصوصًا في الأحوال المعاشية، أخذوا يكتبون الكتب والرسائل — وهي بمثابة الصحافة في أيامنا — لدعوة الناس إلى سبيل الخير والإقلاع عن جادَّة الشرِّ، ومن هذه الرسائل والكتب كتب الحسبة ورسائل الإصلاح الاجتماعي العديدة، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء نفر من المؤلفين كتبوا في هذه الفتن عن هذه الأمور أمثال: عبد الرحمن بن نصر الشيرزي (؟–٥٨٩) صاحب كتاب «نهاية الرتبة في طلب الحسبة»، وهو من أمتع الكتب التي أُلفت في الاحتساب، تعرض فيه مؤلفه إلى كثير من مسائل المحتالين، وأنواع غشهم، وطريقة احتيالهم على الناس في دكاكينهم من حلوانيين، وطباخين، وسمانين، وعطارين، وبزازين، وقطانين، وصباغين، وبياطرة، وصيادلة، وأطباء، وكحالين، و… وقد أحصى في كتابه كثيرًا من أخبار الحيل، وطرائقها، وأنواع الغش الغريبة التي كان الباعة في القرن السادس يعمدون إليها؛ ليوهموا الناس ويغشوهم.٥
ومنهم أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي مؤلف كتاب «الإشارة إلى محاسن التجارة»، وقد ضمَّن رسالته فصولًا قيمة بحث فيها عن التجارة ومحاسنها ومعرفة قيم الأشياء، وطريقة تمييز جيد المتاع من رديئه، وتبيين تدليس المدلسين، وأنواع حيلهم.٦
ومنهم عبد الرحمن بن أبي بكر الدمشقي الجوبري الذي كان عائشًا في سنة ٦١٨ﻫ، وله كتاب ممتع اسمه «المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار»، وقد ضمَّنه بحوثًا قيمة جدًّا عن حيل البائعين، وغشهم، وكشف أسرارهم، وهتك حيلهم وتدليساتهم في البضائع.٧
ومنهم الإمام الكبير تقي الدين بن تيمية الحراني الدمشقي (؟–٧٢٨ﻫ)، وفي كتبه وفتاويه بحوث قيمة عن هذا الأمر، وله رسالة عنوانها: «الحسبة في الإسلام»، وقد ضمَّنها كثيرًا من البحوث المفيدة التي دعت إلى مكارم الأخلاق، وصيانتها، والعناية بأحوال الباعة والسوقة، ومراقبة الطبقة العامة وأحوالها المعاشية.٨

ومنهم الإمام نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة المصري الشافعي (؟–٧١٠ﻫ)، وكان محتسبًا في القاهرة، وله كتاب سماه «الرتبة في الحسبة»، وقد ضمَّنه بحوثًا قيمة، وقد فُقد فلم نعثر على ذِكر له في فهارس الخزائن.

ونحن إذا رحنا نعدِّد الآثار الباقية أو التي فُقدت مما كتبه المصريون أو الشاميون في انتقاد الوضع الاجتماعي أثناء هذه الفترة جئنا بالشيء الكثير، فقد كثرت التآليف؛ لكثرة المحتالين وأهل الذمم الفاسدة، ومن شر هؤلاء المحتالين: محتالو الصيادلة، فقد ذكر صاحب نهاية الرتبة في الباب السابع عشر في الحسبة على الصيادلة: أكد تدليس هذا الباب والذي بعده — أي باب تدليس العطارين — كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، فرحم الله من نظر فيه وعرف استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه تقرُّبًا إلى الله، فهي على الخلق أشد خطرًا من غيرها، فالواجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في ذلك، وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم العقوبة والتغرير، ويعتبر عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع، ثم سرد طائفة من أنواع حيلهم وعشوشهم الخبيثة، وختم هذا الفصل بقوله: وقد أعرضت عن أشياء كثيرة في هذا الباب لم أذكرها؛ لخفاء غشها، وامتزاجها بالعقاقير، ومخافة أن يتعلمها من لا دين له فيدلس بها على المسلمين.

وقد اهتم الناس في هذا العصر بتربية الخيول والبغال وما إليها من عدد القتال والأسفار والقوافل والتجارات، وكانت للأيوبيين والمماليك عناية شديدة بهذه الأمور، وبخاصة فنون البيطرة وأمراض الخيل ومداواتها وعلاجات عللها، وكان كثير من أمرائهم ورجالات دولتهم يهتمون بإقامة أسواق الخيل وحلبات السباق، وبخاصة الملك الظاهر بيبرس فإنه كان فارسًا للخيل مهتمًّا برعاية أحوالها، وخصوصًا الجياد العربيات، كما كان مهتمًّا برمي النبال، وقد كانوا ينشئون الميادين العامة، والحلبات الخاصة للتسابق والمران، ومن الميادين المشهورة لذلك في مصر: الميدان القبق، والميدان الأسود، وميدان العبد، والميدان الأخضر، ومن ميادين دمشق وحلب عدد كبير قد خُصص لذلك، ولا يزال عدد من هذه الميادين محافظًا على اسمه ووضعه، وقد كانوا يبنون إلى جانب هذه الميادين مصاطب يجلسون عليها ويشاهدون اللاعبين، قال الأستاذ جرجي زيدان في تاريخه للسلطان بيبرس: «وكان محبًّا لركوب الجياد ورمي النبال فأنشأ ميدانًا سماه ميدان القبق، وميدانًا للسباق، وكان شاغلًا بقعة من الأرض تمتد بين النقرة التي ينزل إليها من قلعة الجبل وبين قبة النصر التي هي تحت الجبل الأحمر، وبني فيه مصطبة سنة ٦٦٦ﻫ للاحتفال برمي النشاب والتمرين على الحركات العسكرية، وكان يحث الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك، فكان ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر فلا يركب منها إلى العشاء، وهو يرمي ويحرِّض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، وما برح من بعده أولاده ومن بعدهم يمارسون في هذا الميدان جميع الألعاب الحربية.»٩ وقد اهتم المماليك اهتمامًا خاصًّا بالفروسية وما إليها؛ لأنهم قوم وصلوا الملك والإمارة عن طريق الفروسية، ولذلك كان أكثر همهم أن يعتنوا باقتناء المماليك ويمرنونهم على ركوب الخيل، ورمي النبال، وأعمال الفروسية، والحروب.
ومما ينبغي الإشارة إليه مسألة الملابس وتعدد هيئاتها، وتنوع ألوانها، وكثرة التألق فيها، فقد كان الناس في صدر الإسلام يلبسون ما تصل إليه أيديهم من اللباس الساذج، وكذلك كان الأمر في عصر بني أمية إلا في أواخره وأوائل العصر العباسي، فلما تعمق العباسيون في الملك تفننوا في التأنق والتبرج، وبخاصة النساء والغلمان، وقد حذا الفاطميون في مصر حذو العباسيين والأندلسيين، فلما انقرض هؤلاء وجاء عصر الأيوبيين والمغول والمماليك، اضطربت الأزياء والأشكال اضطرابًا واضحًا، فكثرت الألوان وتعددت الهيئات، وأخذ الناس يلبسون في رءوسهم أنواعًا غريبة من لباس الرأس بعد أن كانت السذاجة في العصور السابقة واضحة، فلبسوا في هذه العصور: الكلوتات، والطواقي، والكلاهات، والدنباكيات، والأقباع، وما إلى ذلك من ألبسة الرأس العديدة من دون أن يضعوا عليها الشاش التقليدي أو الطيلسان القديم، وكانوا يطيلون شعورهم، ويجعلونها في أكياس من الحرير الأحمر أو الأصفر إلى خلفهم، وكانوا يشدون في أوساطهم بنودًا من صنع مدينة بعلبك، كما كانوا يشدُّون فوق قماشهم إبزيم جلد وفيه نحاس، وفي ذلك الإبزيم ملعقة من الخشب كبيرة وسكين كبيرة، وكانت لهم مناديل من الخام بمقدار فوطة كبيرة لمسح أيديهم، وقد ظلت هذه الهيئات حتى استقبحها بعضهم، ولكن أحدًا لم يجرؤ على الدعوة إلى تغييرها ولبس الثياب الساذجة ذات الألوان البسيطة والهيئات العادية حتى تولى الملك السلطان قلاوون، وكان من عظماء ملوك المماليك، فأمر بمنع لبس هذه الثياب المضحكة الشنيعة.١٠ وقد لاحظ بعض هذه الأمور مؤلف كتاب «نهاية الرتبة» فعقد فصلًا مطولًا لطيفًا في الحسبة على الخياطين قال فيه: يؤمرون بجودة التفصيل، وحسن فتح الجيب، وسعة التخاريس، واعتدال الكُمين والأطراف، واستواء الذيل، والأجود أن تكون الخياطة درزًا لا شلًّا، والإبرة دقيقة والخيط في الخرم قصيرًا؛ لأنه إذا طال اتسخ، ومما ذكره من طريف حيل الخياطين في ذلك الوقت قوله: فمنهم من إذا خاط ثوبًا حريرًا أو نحوه وقف كفَّه وحشاه رملًا وأشراسًا، ويسرق كقدره من الثوب إذا كان موزونًا عليه، ومما ذكره في الكلام عن الرفائين: أن يحلفهم — صاحب الحسبة — على أن لا يرفوا لأحد من الخياطين والقصارين ثوبًا مخرَّقًا إلا بحضرة صاحبه، ولا ينقل المطرز أو الرقام رقم ثوب إلى ثوب آخر.

وبعد، فتلك هي نبذة من أحوال الناس الاجتماعية في العصر الذي نؤرخه، وهي، كما ترى، أحوال غلب عليها الشر، وسيطرت عليها الدناءة في الغالب، ولذلك كثر المصلحون ودعا الداعون إلى الخير واتباع نهج الفلاح.

١  راجع «تاريخ المماليك» لموير، ص١٤٥.
٢  راجع «تاريخ التمدن الإسلامي» لجرجي زيدان، ٣: ١٩٣.
٣  راجع «خطط الشام»، ٢: ٢٣٢.
٤  راجع «تاريخ مصر الحديث» لجرجي زيدان، ١: ٣٢٠.
٥  ما يزال الكتاب مخطوطًا، وفي خزانتنا نسخة جيدة منه.
٦  طبع هذا الكتاب في مطبعة المؤيد بالقاهرة، سنة ١٣١٨ﻫ.
٧  طبع هذا الكتاب في القاهرة ودمشق مرات عديدة.
٨  طبع هذا الكتاب مرات في القاهرة ودمشق.
٩  انظر «تاريخ مصر الحديث» لجرجي زيدان، ١: ٣٢٥.
١٠  انظر «تاريخ مصر الحديث» لجرجي زيدان، ١: ٣٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤