الفصل الخامس

الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة العثمانية

من المعلوم أن إدارة البلاد في الشام ومصر قد بقيت في العصر الأيوبي على النمط الذي كانت عليه في العصر الفاطمي، فإن الأيوبيين كانوا قومًا أصحاب دولة حديثة غلبوا قومًا هم أصحاب دولة عريقة في النظام والإدارة، ولذلك كان طبيعيًّا أن يحافظ هؤلاء على أسلوب الإدارة القديمة إلا ما اقتضته طبيعة السياسة الجديدة من إقصاء بعض العناصر الحاكمة أو الطرق المخالفة لمذهب الدولة الجديدة، فأقصوا الموظفين الشيعيين، وغيروا خطط القضاء، وأحلوا المذهب الشافعي محل المذهب الفاطمي.

وكان السلطان أو نائبه في أيام الأيوبيين هو الحاكم المطلق المتصرف بشئون البلاد، وكان إلى جانبه في القاهرة أو إلى جانب نائبه في الشام جماعة من الموظفين والقضاة يساعدونه في إدارة البلاد من النواحي المدنية أو القضائية، وكان الملك العادل نور الدين محمود قد أنشأ في دمشق حين تملكها دارًا ضخمة سماها «دار العدل»، كان يجلس فيها للفصل في القضايا الواقعة بين الناس وللقيام بالأعمال الإدارية والإصلاحية، ولما احتل السلطان صلاح الدين ديار مصر بنى لنفسه فيها «دار عدل» للنظر في المظالم والعمل على إحقاق الحقوق، وكان يجلس في تلك الدار في أيام مخصوصة ومن حوله قضاة المذاهب الأربعة، ومعهم صاحب بيت المال وأمراء الجيش، ومن ورائهم جمهرة من أرباب الوظائف الكبرى، والحرس وموظفي الإدارة، وكانت الظلامات والقصص تتلى عليه فيراجع القضاة وكبار الموظفين، ويناقش القضية معهم ثم يحكم فيها، وهكذا كان يفعل نوابه في الأقاليم في دُور العدل التي شادوها على غرار داره، وكانت للأمراء والملوك الأيوبيين عناية شديدة وحرص زائد على إحقاق الحقوق، ورفع الظلم عن المظلومين، وكان للمحتسب في عهدهم شأن كبير؛ فهو الذي يفتش عن أهل المنكر والمفسدين وأهل الغش، ويؤدبهم ويقمع مفاسدهم، ويعمل على مراقبة الطرق وتنظيفها وتوسيعها، والحكم على أهل المباني المتداعية بإزالتها، وكان محتسب القاهرة يجلس في جامعي القاهرة والفسطاط يومًا بعد يوم، ويبعث نوابه ووكلاءه إلى الشوارع والمنعطفات يفتشون أحوال المدينة، وأوضاع الباعات والسوقية، ويقدمون إليه التقارير عما رأوا من المنكر فيزيله، وكان صاحب الشرطة يعاونه، كما كان القاضي يعاونه في تنفيذ العقوبات، وإقامة التعزيزات، وتأديب أهل المنكرات، وكان صاحب الشرطة أيضًا من كبار رجال الدولة وأكثرهم نفوذًا وجاهًا، وكان له مقرٌّ خاص يجلس فيه ويبعث أعوانه ووكلاءه لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.

ومن الوظائف الإدارية الرفيعة لديهم: وظيفة الحاجب، وهو الموظف الكبير الذي يتولى أمر باب السلطان أو النائب فلا يأذن لأحد في الدخول عليه إلا إذا استأذنه.

وكان الأيوبيون يكثرون من الحجاب والمماليك الأتراك والجراكسة للجندية وحفظ الحدود والثغور وإدارة شئون البلاد، فلما ضعف الأيوبيون استولى هؤلاء المماليك على الدولة، كما رأيت، وقد قسم هؤلاء المماليك الأمور الإدارية في دولتهم على النمط الأيوبي، ولكنهم زادوا في شُعب الإدارة، ونظموا أحوال المماليك؛ لأنهم كانوا عماد الدولة، وكان رأس المماليك هو السلطان نفسه، فإذا كان طفلًا تولى الأمر عنه قيِّم يسمونه «أتابكًا» أو «وصيًّا» وله التصرف في أمور المملكة،١ ويليه رأس الجيش وهو كبير الأمراء ويسمى «أتابك» العسكر، وهو الذي يتولى أمور الجيش وله شأن عظيم عندهم، ويليه «مقدمو الألوف»، وكان عددهم في مصر أربعًا وعشرين، وفي خدمة كل واحد منهم مائة مملوك، وهو مقدم على ألف جندي، وتُدقُّ على بابه طبول وزمور يوميًّا بشكل معروف وأوقات معروفة، ومن وظائف مقدمي الألوف: إمارة السلاح، وإمارة المجلس، وإمارة الدواتدار الأولى، وإمارة الآخور السلطاني، وإمارة الحجاب، وإمارة الحج.

ويلي مقدمي الألوف طبقة «أمراء الطلبخانات» ولهم وظائف معينة هي: إمارة الدواتدار الثانية، ونيابة القلعة، ونيابة الآخور السلطاني، وتليهم طبقة «أمراء العشراوات» وعدتهم خمسون، ثم طبقة أمراء الخمسات وعددهم ثلاثون، ومنهم: أمير الطبر، وشادُّ القصر، وشادُّ الأحباس والوقوف، وشادُّ دور الضرب، وشادُّ الأسواق، هؤلاء هم كبار موظفي الدولة المماليك العسكريون.

أما كبار موظفي الدولة الدينيون: فهم رجال الوظائف الدينية، ورأسهم «قاضي القضاة» وهو أكبر رجال الدين مكانة، وعليه مدار مصالح الأمة، ويليه «القضاة» الأربعة، وأجلُّهم مكانة الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي، ويليهم «النواب» وهم الذين ينوبون عنهم في القضاء، ويحكمون في الأقاليم والمقاطعات، وقد بلغوا في القرن التاسع نحوًا من نيف ومائة نائب، ويليهم «نقيب الأشراف» وهو أجلُّ السادة الأشراف وأعلاهم مكانة، وبه يرتبط مشايخ الصوفية وأرباب الطرق والزوايا.

وأما كبار موظفي الدولة المدنيين: فأعظمهم «الوزير» وهو المنصوب لمهمات أمور الدولة، وإليه يَعهد السلطان بتنظيم الممالك إداريًّا، وله الإشراف على «الديوان» و«بيت المال» و«المواريث»، وهو الذي يتولى أمور رواتب الموظفين التي كانوا يطلقون عليها اسم «العلوفات» كما يتولى جميع أمور نفقات الدولة وخرجها، وقد بلغت في زمان السلطان برقوق في كل شهر خمسين ألف دينار، أما في زمن السلطان خليل الظاهري فقد بلغت أقل من ذلك بشيء يسير،٢ ويليه في المرتبة «ناظر الإنشاء» وهو كاتب السر وكاتمه، وفي ديوانه عدة موقِّعين يكتبون الرسائل، وتحت هؤلاء الموقِّعين عدد من الكُتاب والمراقبين، ومن الوظائف الإدارية الكبرى: المشرف على أبراج الحمام الزاجل، وأول ما أنشئ عمله في الموصل أيام العباسيين، وحافظ عليه الفاطميون، وبالغوا في أمره حتى أفردوا له ديوانًا خاصًّا، وجعلوا له جرائد معينة بأنساب الحمام وأحواله، وللشيخ محيي الدين بن عبد الظاهر كتاب خاص بأبحاثه سماه: «تمائم الحمائم»، ثم اعتنى به الملكان نور الدين وصلاح الدين، إلى أن كانت الدولة الأيوبية ثم الدولة المملوكية، فازدادت العناية به؛ لما فيه من فوائد ربط البلاد ببعضها وتنظيم أخبارها.
ومنها: الحاجب المشرف على مراكز الثلج من دمشق إلى القاهرة، وقد اعتنوا بتحميل الثلج عناية شديدة في أيام المماليك، وخصوصًا أيام الملك برقوق فقد أمر بحمله على الهجن، ورتب له ترتيبات خاصة، وكان قبل ذلك يُحمل في البحر من بيروت إلى بولاق في النيل، ثم يُنقل على البغال إلى الشراب خانة، ويخزن في صهريج، أما في عهد السلطان خليل الظاهري فقد كانوا يحملونه من حزيران إلى تشرين الثاني في عدة نقلات تبلغ ٧١ نقلة، ويُجهز مع كل نقلة بريدي ومعه ثلاج خبير بحمله ومداراته.٣

ومنها: وظيفة حاجب الخزانة الشريفة، التي كانت تحتوي على عدة خزائن وصناديق مملوءة بالحلي والجواهر والأواني من ذهب وفضة وأمتعة حسنة.

ومنها: وظيفة صاحب السلاح خانة، التي كانت تحتوي على جميع آلات الحرب وعدده، وما يتعلق بها.

ومنها: وظيفة صاحب الأهراء والشون، وتحتوي على الحبوب والأتبان المخزونة، وما إلى ذلك.

ومنها: وظيفة صاحب الشكاركاه، وهي تتعلق بطيور الصيد وحيواناته وأسلحته وما شابه ذلك.

ومنها: وظيفة صاحب الشراب خانة، وهي تتعلق بالأشربة والسكر والحلواء والعقاقير والفواكه وما شابه ذلك.

ومنها: وظيفة صاحب الطشت خانة، وهي تتعلق بالملبوسات الملكية والأقمشة والكسوات وما يتعلق بها.

ومنها: وظيفة صاحب الفراش خانة المتعلقة بالبسط والمفروشات والخيام والأسمطة والقناديل والسرادقات وما شابه ذلك.

ومنها: وظيفة صاحب الطبل خانة، وهي تتعلق بالكوسات والطبول والزمور والنفر وسائر الآلات الموسيقية التي تُستعمل على باب السلطان وكبار المماليك والجيش وما شابه ذلك.٤
وفي أيام المماليك كانت الدولة منقسمة إلى تسعة ممالك:
  • أولاها: المملكة المصرية، وحاضرتها القاهرة المعزية، وهي مقر الخليفة والسلطان وكبار رجال المماليك، وفيها الديوان الشريف، ومنه تصدر كافة التعيينات، وتسير الجيوش، وتُنظم الغزوات والفتوح.
  • وثانيتها: المملكة الشامية، وبها كافل الديار الشامية وهو الذي ينوب عن السلطان، وله عظمة تحاكي عظمته، وتحت يده آلاف من المماليك؛ قسم منهم ملكه الخاص، وقسم ملك للدولة، وعلى رأس هؤلاء المماليك جميعًا مملوك يسمى «أمير كبير»، ومملوك يسمى «حاجب الحجاب»، وتُقسم هذه المملكة إلى عدة مراكز في كل مركز والٍ ينصِّبه الكافل.
  • وثالثتها: المملكة الكركية، وتشتمل على بلاد الكرك وقلعتها وما حولها، ويتولاها في العادة «أتابك» العساكر.
  • ورابعتها: المملكة الحلبية، وهي تلي المملكة الشامية في العظمة، وكافلها من أعظم الكفال، ويعاونه في الإدارة ناظر الجيش ونائب القلعة وأربعة قضاة وأمير كبير، وتقسيمها الإداري هو نفس تقسيم المملكة الشامية.
  • وخامستها: المملكة الطرابلسية، وكافلها من أعيان الكفال، ويكون فيها أربعة قضاة وأمير كبير.
  • وسادستها: المملكة الحماوية، وتكون في الغالب تابعة للمملكة الطرابلسية، وتقاسيمها هي تقاسيم طرابلس.
  • وسابعتها: المملكة السكندرية، وتكون في تراتيبها وتقسيماتها وموظفيها كالمملكة الطرابلسية.
  • وثامنتها: المملكة الصفدية، وتكون في تقاسيمها كالمملكة الطرابلسية.
  • وتاسعتها: المملكة الغزاوية، وكافلها مقدم العساكر، وترتيبها الإداري هو ترتيب المملكة الصفدية.

أما أرض مصر: فقد كانت مقسمة إلى أربعة وعشرين قيراطًا، يختص السلطان منها بأربعة قراريط، والمماليك والأجناد يختصون بعشرة، والباقي وقدره عشرة موزع بين الأهلين جميعًا، وقد ساءت حالة الأجناد قبيل تولي السلطان لاجين، فإن كبار المماليك كانوا يستولون على الأراضي ولا يعطون الأجناد إلا الشيء القليل من غلالها أو ثمن غلالها.

وأما الضرائب: فكانت تختلف باختلاف السلاطين، فإن كان السلطان ظالمًا أكثرَ منها وأرهق المكلفين من الأهلين، وإن كان رحيمًا خفف من وطأتها، ومن المماليك السلاطين الذين كانوا يرأفون بالأهلين: الملك الناصر، فقد قضى على إقطاعات المماليك التي كانت تنقص دخل بيت المال، ومسح الأراضي المصرية، وأعاد النظر في مصروفات الدواوين،٥ وعمل على الإقلال من الضرائب المفروضة على الأسواق وصغار الباعة، وفي عهد برسباي صدر قرار مؤداه أن التجارة الخارجية في البلاد كلها يجب أن تأتي إلى ميناء المملكة السكندرية ثم إلى القاهرة حيث تُفرض عليها الضرائب، ثم تنقل منها إلى سائر الممالك، قال المؤرخ المستر موير في الفصل الذي خصصه للسلطان برسباي: إن الحكومة قد احتكرت التوابل الشرقية وخاصة الفلفل، فحدا ذلك دول أوروبة إلى الشكوى والانتقام، وقد أثقل كاهل الناس عبء آخر، وبخاصة في زمن الوباء، وهو التضييق على صناعة السكر بل على زراعة قصب السكر، والحقيقة إن الحكومة دخلت في كل فرع من فروع التجارة وكانت تراقب الأسواق، حتى أسواق اللحم والقمح، مراقبة أدت إلى أن هجرها الناس أحيانًا هجرًا نجم عنه الهياج والثورة.٦

هذا ما كان عليه الأمر في أيام المماليك، فلما استولى العثمانيون تبدلت الأمور تبدلًا كليًّا، وفقدت مصر استقلالها، وفقد الشام استقلاله، وأضحيا خاضعين للباب العالي في الأستانة؛ يُرسل إليهما الولاة، ويتحكمون فيهما على الشكل الذي رأينا في القسم السياسي.

ومن أظهر معالم التغير الذي طرأ بعد الاحتلال العثماني: انقضاء عهد الخلافة العباسية التي أحياها المماليك في القاهرة كما أسلفنا بيانه، فقد قضى العثمانيون الأتراك على الخلافة العباسية في مصر والشام، وتغلبوا عليها، فإن السلطان سليمان خلع آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة، ونادى بنفسه سلطانًا وخليفة للمسلمين على الرغم من كونه غير عربي، والخلافة إنما هي في قريش، ووجد من رجال الدين من زوَّر له نسبًا قرشيًّا عربيًّا، وقد قسَّم السلطان سليم السلطة في مصر إلى ثلاثة أقسام:
  • أولاها: سلطة الباشا، وهو الوالي المرسَل من قبله.
  • وثانيتها: سلطة الوجاقات — أي الفرق العسكرية — وهي مؤلَّفة من الأجناد والعساكر العثمانية التي تقيم في مصر وسائر القطر، وهي ستة وجاقات وهي: (١) وجاق المتفرقة للمراسم وهم نخبة من حرس السلطان. (٢) وجاق الجاويشية لجمع الخراج والضرائب. (٣) وجاق الهجانة. (٤) وجاق التفكجية وهم أرباب البنادق المحاربون. (٥) وجاق «الانكشارية» وهم عامة الأجناد الأخلاط. (٦) وجاق العرب وهم الأجناد العرب من سكان البلاد، وعلى كل وجاق «آغة» و«كيخية» و«دفتردار» و«خزندار» و«رزنامجي»، ومن رؤساء الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا.
  • وثالثتها: سلطة المماليك الذين استبقاهم السلطان سليم من بقايا المماليك السابقين حفظًا للتوازن بين الباشا والوجاقات، وقد قسم السلطان سليم الديار المصرية إلى اثنتي عشر «سنجقلية»، يحكم كل واحدة منها سنجق من المماليك يسميه الديوان — أي مجلس شورى الباشا التركي.

وقد نتج عن هذا التقسيم الإداري الجديد أن اضطربت البلاد وقاست ويلات، ولكن الباب العالي أصر على تنفيذه فنفذ، وبذلك استطاع الأتراك السيطرة على البلاد وحكمها حكمًا مباشرًا.

أما أرباب الإقطاعات القديمة: فقد ظلوا في الشام ومصر بعد الفتح العثماني على الحالة التي كانوا عليها من قبل في أيام المماليك، وقد ظهرت في أيام الأتراك العثمانيين في كلا القطرين أسر حكمت بعض المقاطعات حكمًا استقلاليًّا، مثل أسرة «الشهابي» و«المعني» و«الحرفوش» وغيرهم، وكان زعماء هذه الأسر يجمعون الأموال من الأهلين، ويقدمون بعضها إلى الوالي التركي، وبعضها إلى الباب العالي، ويحتفظون لأنفسهم بحصة الأسد، وكثيرًا ما كان يغضب الوالي التركي على أحد أصحاب الإقطاعات فيبعث إلى فرقة من «الانكشارية» أو الأجناد «القبوقول» فيحرقون داره، ويسبون أهله، ويقطعون الشجر في بلاده حتى يخضع للوالي.

ومما هو جدير بالذكر في العهد العثماني أن كثيرًا من الولاة والحكام كانوا يشترون مناصبهم بالمال، وربما نالوها بالمزايدة، وينقل الأستاذ كرد علي عن تقرير لأحد القناصل البندقيين أن منصب الوالي كان في الأستانة يكلف من «٨٠ إلى ١٠٠» ألف دوكا، ومنصب الدفتردار كان يباع ﺑ «٤٠ أو ٥٠» ألف دوكا، ومنصب القاضي كان يساوي أقل من هذه القيم، وكلهم إذا جاءوا البلد الذي عينوا له كانوا يسلبون النعمة ويعرقون اللحم، ويكسرون العظم،٧ وكان من الطبيعي أن هذا الوالي أو الدفتردار أو القاضي الذي وصل إلى منصبه بالمزايدة أو الشراء، يعمل على استرداد مبلغه من الأهلين، ويهلك حرثهم ونسلهم، ويسلب قوتهم، وقد ساعد هؤلاء الموظفين المرتشين بُعدُهم عن دار السلطنة — إستانبول — من جهة، وتعامي السلطان وأهل الحل والعقد في العاصمة عن سماع أصوات المتظلمين من جهة ثانية، قال المرحوم كرد علي نقلًا عن المؤرخ التركي جودت: إن الدولة العلية لما انتقلت من دور البداوة إلى الحضارة لم يتخذ رجالها الأسباب اللازمة لهذا الانتقال، وحصروا أوقاتهم في حظوظ أنفسهم وشهواتهم، يقيمون في العاصمة القصور الفخمة، ويفرشونها بأنواع الأثاث والرياش مما لا يتناسب مع رواتبهم، فاضطروا إلى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزيم البلاد وأقطاعها بالأثمان الفاحشة، فضاق ذرع الأهلين، واضطر كثير من أهل الذمة أن يهجروا الأرض العثمانية إلى البلاد الخارجية، وترك غيرهم القرى وجاء إلى الأستانة فرارًا من الظلم، فلم يبقَ مكان في الأستانة، وتلاصقت الدور وتضايقت أنفاس الناس وكثر الحريق والأوبئة،٨ وإذا كانت هذه حال الدولة وهي في أوج عزها، فإنها حين ضعفت في القرن الثاني عشر أضحت بحالة يرثى لها من الانحدار الخلقي والإداري، على الرغم من اتساع رقعة بلادها من ڤيننا إلى أقصى بلاد العرب، ومن إيران إلى المغرب الأقصى، وماذا تعني سعة الرقعة والبلاد يعمها الجهل، وينتشر فيها المرض، وتفتك بها الثورات الداخلية، والولاة تسلب الحكام، والحكام تسلب الأهالي، والجند يعيثون في الأرض فسادًا على اختلاف طبقاتهم وأنواع وجاقاتهم من قبوقولية، وانكشارية، ولاوند، وسكبان، وغير ذلك من الفرق والطبقات التي كانت كل واحدة منها حربًا على أختها من جهة، وحربًا على الأهلين من جهة ثانية.

أما جباية الأموال فكانت على غير قاعدة، ولا في سبيل الفائدة العامة، وكان همُّ الولاة والقضاة وسائر الحكام أن يجمعوا الضرائب والفرائض من الأهلين على اختلاف طبقاتهم بالقوة، وإذا ما رفع أحدهم صوته أو اشتكى خنقوه أو قتلوه أو نفوه أو صادروه، والويل كل الويل لمن يجرؤ على العصيان، ومخالفة أمر أولي الطاعة والسلطان، فإنهم حاكمون بأمرهم وبأمر السلطان ظل الله على الأرض، وصاحب الكلمة المطلقة، الذي لا يُسأل عما يفعل، وله وحده الطول والحول والقوة.

ولقد قاست بلاد الشام ومصر ويلات شدادًا لسوء إدارة ولاتهما وفساد الحكم فيهما.

١  انظر «زبدة كشف الممالك» لغرس الدين خليل الظاهري، طبعة باريس، ص١١٢.
٢  انظر «زبدة كشف الممالك» لغرس الدين خليل الظاهري، طبعة باريس، ص٩٨.
٣  انظر «كشف الممالك» لغرس الدين خليل الظاهري، طبعة باريس، ص١١٧.
٤  راجع تفاصيل أعمال هذه الوظائف وأحوالها في «صبح الأعشى» للقلقشندي، وفي «زبدة كشف الممالك»، ص١٢٢–١٢٧.
٥  انظر «تاريخ المماليك» لموير، ص٨٨.
٦  انظر «تاريخ المماليك» لموير، ص١٣٦-١٣٧.
٧  خطط الشام، ٢: ٢٨٣.
٨  خطط الشام، ٢: ٢٣٥-٢٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤