الفصل السادس

الحالة الاجتماعية والثقافية والإدارية في الجزيرة العربية بعد سقوط بغداد

كانت أكثر بقاع الجزيرة العربية في أواخر العصر الأيوبي خاضعة لحكم هذه الأسرة المسلمة المحافظة التي أعادت إلى الديار المقدسة والجزيرة العربية برمتها رونقها، ورفعت من شأن سكان هذه البلاد الكريمة، وأغدقت عليهم الأموال، وبعثت إليهم بالخيرات وفاخر الأثاث، وجعلتهم يشعرون بعناية الدولة بهم وبتقديرها إياهم، وقد كان أكثر الأمراء الأيوبيين يتنافسون في تقديم الوقوف والهدايا والعطايا لسكان الحرمين خاصة، والمدن الحجازية عامة، وكانوا يحبسون الأحباس الدارَّة عليهم، حتى عاش أهل هذه البقاع في نعيم وخير، أضف إلى ذلك أن الأمن المستتب كان يسهِّل انتقال خيرات اليمن السعيدة ونجد الميمون إلى الحجاز، فعاش أهله عيشة هنية، وكثر سكانه، وأخذ كثير من مسلمي الدنيا يؤمونه، ويعيشون في ظلال البيت الحرام والروضة النبوية.

فلما جاء عهد المماليك بعدهم، واضطربت أحوال العالم الإسلامي، أصاب الحجاز ونجدًا واليمن ما أصاب سائر الأقطار المجاورة لها، فاشتد الضيق على الأهلين وساءت أحوالهم، ولما أطل القرن السابع، ونكب العراق والشام ومصر بالتتار والصليبيين واضطربت أحوال هذه الديار — امتدت الفوضى والاضطرابات إلى الجزيرة العربية، وبخاصة إلى الحجاز، فإن أهله أخذوا يقاسون الويلات من المعيشة الضنكة والتجارة الكاسدة، وقد نتج عن هذا الفساد الاقتصادي فساد اجتماعي؛ فساءت أخلاق الناس، وكثرت حوادث السلب والنهب، ولاقت قوافل الحجاج وزوار الحرمين من بدو الحجاز وسائر الجزيرة أمورًا مقلقة، وكثيرًا ما فتك البدو الأشرار بحجاج بيت الله وسلبوهم أموالهم، وملكوا نساءهم وأطفالهم، ولم تمر الجزيرة العربية بعصر أسوأ من هذا العصر؛ فقد تفشت الأمراض الاجتماعية في البادية، وانتقلت منها إلى الحاضرة، وتحكم الأشرار من الولاة والأشراف بالأهلين وساموهم سوء العذاب، وكثرت الفتن وعمَّ الغلاء، وامتلأت صفحات تاريخ الجزيرة بذكر حوادث الغلاء الشديد والبؤس المخيف، ومن أفظع حوادث الغلاء والبؤس والفتن الداخلية حوادث سنة ٨١٧ﻫ، فقد اضطر الناس فيها إلى بيع أولادهم كالعبيد ليقتاتوا، وقال بعض المؤرخين: إن هذه السنة كانت سنة فظيعة لِما لقي الناس فيها من الغلاء والضيق، ولم يمر بالحجاز عام سوء مثلها سوى عام هجوم القرامطة عليها، وقال أحمد بن زيني دحلان: ولا أعلم فتنة أعظم منها بعد فتنة القرامطة، وكان القائد الذي وقعت الفتنة بسببه يقال له جراد، واتُّفق أن تلك السنة كانت سنة غلاء، فقال بعض الأدباء في ذلك:

وقع الغلاء بمكة
والناس أضحوا في جهاد
والخير قلَّ فهاهمُ
يتقاتلون على جراد١
وفي سنة ٨١٥ﻫ أيضًا وقع غلاء شديد، وبيعت غرارة الحنطة وهي حمل جمل بعشرين دينارًا ذهبًا، وكان عامًّا في جميع المأكولات بحيث بيعت البطيخة بدينار ذهب،٢ ونحن إذا رحنا نحدثك عن حوادث الغلاء والقحط اللذين لقيهما الحجاز أو نجد أو اليمن — الغني بخيراته — جئناك بالمزعج المؤلم، الذي لا تكاد تصدقه، ويظهر أن هذا البؤس قد أثَّر في أخلاق الناس وأحوالهم الاجتماعية فساءت أخلاقهم، وفسدت نفوسهم، فأضحوا كالأنعام لا يحللون شيئًا ولا يحرِّمون، وديدنهم هو جمع الأموال، ومصادرة أهل الحقوق والغش والخداع والكذب، وقد نجم عن ذلك كله أن ساءت نفوس الناس، وانتشرت بينهم أمراض اجتماعية مفسدة كالسرقة وقطع الطرقات والاحتيال وعدم رد الأمانات إلى أهلها، أضف إلى ذلك أمراضًا أخرى يجب أن تتنزه عنها أرض الحرمين الشريفين، ولكن الجوع كافر كما يقولون، فقد زاد البلاء حينما أخذ الناس يفرون من ديارهم في العراق والشام ومصر خوفًا من الصليبيين والتتار قاصدين الحجار وسائر الجزيرة العربية طمعًا في السكينة والأمن والعيش الهادئ والنجاة بأموالهم وأنفسهم وألادهم، ولكن شيئًا من ذلك لم يحصل، بل الذي حصل هو العكس، فقد كبرت نفوس أهل مكة حتى اضطر صاحبها الشريف أن يُخرج الناس منها ويسفرهم إلى بلادهم، وأمر أحد الأشراف وهو الشريف مسعود أن ينادى في سنة ١١٤٩ﻫ على جميع الغرباء المقيمين بمكة من جميع الأجناس أن يتركوها ويتوجهوا إلى بلدانهم،٣ ولما لم يلبوا نداءه أمر بتكرار النداء، ثم أغلظ في العقوبة، وقال أحمد بن زيني دحلان: «وسبب ذلك كثرة الغرباء بمكة حتى اتخذوها دار سكنى، فقطعوا بذلك عن أهلها الحسنى، وصاروا يتعاطون بيع الأقوات، واستولوا على أغلب ما في الدفاتر السلطانية من المرتبات، فتوجه بعد ندائه هذا خلق كثير».٤ ويظهر أن السبب في ذلك هو أن الحجاز بلد فقير لا يكاد يكفي أهله ونفرًا محدودًا من الناس، فلما كثروا هذه الكثرة المخيفة اضطر الشريف المكي إلى إخراجهم منها، ثم إن أهل الحجاز عامة وأهل مكة والمدينة خاصة قوم يعيشون على هبات أهل الخير في العالم الإسلامي، وكل من جاء إلى حرم الله أو جاور قبر رسوله وجب على أولي الأمر إطعامه وإسكانه وكساؤه، وقد جاء هؤلاء الدخلاء يشاركون الأهلين في أقواتهم وملبوسهم ومسكنهم، فعمد الشريف إلى إخراجهم من الأرض المقدسة.
ومما يجب أن نذكره هنا أن أهل الحجاز كانوا يعتمدون في أمورهم المعاشية على ما يجيئهم من الأموال والصدقات مع المحمل الشامي والمحمل المصري والمحمل اليمني، وما يَبعث به إليهم أمراء العالم الإسلامي وملوكه من الهند والمغرب وجاوه، وقد كانت هذه الصدقات تبلغ أرقامًا ضخمة، قال أحمد بن زيني دحلان: «ووردت في هذه السنة صدقة لأهل مكة من الهند وقدْرها أربعة وعشرون ألف مشخص، وصدقة أخرى من سلطان المغرب، وصدقة ثالثة من الهند من محمد علي، وفُرقت جميع الصدقات وانتفع بها الكبير والصغير والغني والفقير.»٥

وإذا كانت هذه حالة القوم من الناحية المعاشية، فليس من المنتظر أن يكونوا أعضاء عاملين في المجتمع البشري، أو يكون لهم نشاط في النواحي الاقتصادية والتجارية والثقافية، والحق أن الوحيدين الذين كانوا يعيشون في الحجاز عيشة هنية هم الأشراف وحواشيهم وأتباعهم، وكانت موارد الحجاز موزعة بينهم وبين الشريف صاحب مكة، فقد كان هو يأخذ الربع ويوزع الثلاثة الأرباع، وكثيرًا ما كانت تقع الحروب والفتن بينه وبينهم بسبب الأموال، كما أسلفنا في القسم السياسي، وقلما خلا عهد شريف من الفتن، قال أحمد بن زيني دحلان: «وفي سنة ١٠٨٥ﻫ خرج جماعة من السادة الأشراف مغاضبين لمولانا الشريف بركات يدعون عليه أنه أخذ ما وصل إليهم من الإنعامات السلطانية فنزلوا بوادي مر الظهران، فبعث إليهم السيد بشير بن سليمان بن لؤي بن بركات، فما زال بهم حتى رجعوا ففرق عليهم الإنعام الواصل بينهم بالسوية، وذلك نحو أربعة آلاف دينار وألفي أردب حب.

وفي سنة ١٠٨٥ﻫ ورد مرسوم من السلطنة مضمونه قسمة مدخول مكة أربعة أقسام، الربع لمولانا الشريف وثلاثة الأرباع للسادة الأشراف على السوية.»٦ وقد كان هؤلاء الشرفاء يتمتعون هم وأتباعهم بخيرات الحجاز، وأنهم كانوا سبب الفتن والثورات التي تقع في الحجاز واليمن ونجد، وكانوا أيضًا يبذرون فيما يحصلون عليه من الأموال بشكل عجيب في حفلاتهم الخاصة أو ولائمهم العامة، ويتفننون في التبذير تفننًا لا يكاد يصدقه المرء، فقد رووا أن الشريف سرورًا أنفق على ختان أولاده أموالًا باهظة، وأجرى في ذلك الفرح ما لم يسبق مثله، فألبس الملابس الفاخرة لكل من حضر الختان، ونثر الذهب والفضة أعظم النثار، وعُرض عليه أهل الحارات وأنعم عليهم بالملابس والعطايا الجزيلة، ومن بعد صلاة المغرب ينتصب الديوان بالعساكر والنوبة تضرب، وعُرض عليه السادة الأشراف فألبسهم الملابس الفاخرة وأعطاهم من العطايا ما تقر به العين، وكذا حضر كثير من أهل البادية وعُرضوا عليه وأنعم عليهم بالملابس والعطايا، وأولم للسادة الأشراف والعلماء وأعيان الناس وليمة منظمة، ووضع فيها أنفس المآكل وخيار الأطعمة، ثم أولم لبقية الناس ولائم متعددة، وأولم أيضًا للعساكر وأشياعه وعبيده، ثم أطلق في الولائم ولم يخص أحدًا، فما بقي أحد إلا وحضر تلك الولائم، واستمر هذا الفرح من عشرة من ربيع الأول إلى السابع والعشرين منه، وفي السابع والعشرين أمر جميع عساكره وخيالته أن يحضروا بباب دولته وإمارته، وأمرهم أن يطوفوا بأكناف البلاد في موكب عظيم وألاي منظم؛ فخرجوا بأفخر الملابس ركبانًا على الخيل المسومة مصطفين كل أربعة خلف أربعة، مقدمًا أمام الجيش سبعة من المدافع تسير معه، ولم يبقَ أحد من أهل البلد إلا خرج يوم الزينة، ولما رجعوا إلى داره العامرة ألبسهم الملابس الفاخرة، ونثر يومها من الدراهم ما اغتنى به كل صعلوك، وفي غرة ربيع الثاني جعل فرحًا عظيمًا للنساء وصنع لهن وليمة، ودعا فيها المغنيات وكساهن أفخر الكساء، فهرع نساء البلد متفرجات، وأكل من الوليمة من حضرها من بواديها وحضرها، والمغنيات يغنين بأنواع الألحان كتغريد الطيور على الأغصان، واستمر فرح النساء على هذا النسق ثلاثة أيام، وتم في هذا الختان ما لم يتم لغيره من السرور،٧ فهذا الكلام يبين لنا أنواع الإسراف الذي ظهر في هذه الحفلات، وليس هذا عجيبًا ولا غريبًا، فإن أهل الحجاز قوم مشهورون منذ القديم بميلهم إلى الإسراف في الإنفاق، وكثرة العطاء، والميل إلى السرور وحب اللهو إذا ما تيسر لهم ذلك وواتاهم الحظ.
تلك هي حالة الأشراف وحواشيهم، أما سواد الشعب فقد كان في وضع اجتماعي عجيب؛ يأكلون ما تيسر، ويشربون ما وُجد، ويقضون أوقاتهم في النوم والعبادة أو في الخصومات التي كانت كثيرًا ما تقع بين الأشراف وأمير مكة، أو بين الباشا التركي والجند، فينصرون جانبًا على جانب طمعًا فيما يعدهم به، وإذا ما حدثت في البلاد حادثة أو زارها زائر جاءهم ما يشغلهم أو يسليهم فترة من الزمن، ويجعلهم يقضون كثيرًا من لياليهم في أسمار وأخبار، وخصوصًا إذا كان ما وقع يتعلق بأخبار السحرة والمشعوذين، وأكثرهم كان من المغاربة الذين كانوا يجيئون إليهم فيحتالون عليهم ويبتزون أموالهم تحت ستار استخراج الكنوز المخبوءة أو قلب المعادن الرخيصة إلى ذهب وفضة وما إلى ذلك، ومن أفظع هؤلاء الدجالين شخص مغربي قدم إلى الجزيرة العربية في الثاني عشر للهجرة، فأخذ يفتن الناس ويقوم بأعمال غريبة، حتى اتصل بالشريف محمد في سنة ١١٤٦ﻫ فقرَّبه إليه وعظَّمه لما اعتقد فيه من المقدرة والعلم بالفنون السحرية والأسرار الطلسمية، والقوة العجيبة، وقد أراد أن يستعين به وبعلمه على القضاء على خصمه ومنافسه الشريف مسعود الذي كان يكيد له، ولعب السحر والساحر في هذه الفتنة أدوارًا مدهشة ذكرها المؤرخ أحمد بن زيني دحلان، فارجع إليها إذا شئت.٨
ومن المشاكل الاجتماعية التي مُنيت بها الجزيرة في هذه الحقبة: مشكلة التدخين، فقد انقسم الناس في شأنه ما بين محلل ومحرم، وبلغ أمره إلى الأشراف، وأخذ بعضهم يستغل أمره، ويرهق الناس بسببه، ومن هؤلاء الشريف مسعود فقد قرر في سنة ١١٥٥ﻫ أن يحرم على الناس تعاطيه في المحلات العامة وبيوت القهوة، وأمر رجاله أن يقبضوا على كل من يرونه يدخن ويضعوه في الأطواق والحديد والسلاسل، وقد اختلف الفقهاء والناس في سبب تشدد الشريف مسعود بأمره، فقال بعضهم: إنه إنما فعل ذلك لأن شربه حرام، وقال آخرون: إنه فعل ذلك وإن لم يكن محرمًا؛ لأنه انتشر انتشارا عظيمًا وتعاطاه الناس والسوقة والأراذل والأسافل، وكانوا لا يرفعونه إذا مرَّ عليهم الشريف أو العالم أو الفاضل؛ فلذلك أمر بعدم التظاهر بشربه لذلك،٩ وقد انقسم الفقهاء في أمره؛ فذهبوا إلى مذاهب متناقضة فحرَّمه بعضهم، وأباحه بعضهم، وكرهه آخرون، وقد وقعت بسببه مشاكل وفتن في الحجاز، بل وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي، وأكثر هذه المشاكل وقوعًا في الحجاز فقد كان الأشراف يعتقدون بأن لهم سلطانًا روحيًّا وقداسة دينية، وأنهم حماة الشرع، وأنهم أصحاب التحليل والتحريم؛ فلذلك حرمه بعضهم، فقامت طائفة من الفقهاء ترد عليهم وتبين خطأهم حتى قال بعض الفقهاء: من أين جاءوا بهذه الأقوال، ولفقوا هذه الأقاويل، وما أشبههم بقوله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ.
والحق أن الأشراف قد أخذوا في تلك الحقبة يَسمون بأنفسهم عن مصاف البشر، ويضعون طبقتهم في مواضع لا يقرهم عليها شرع ولا يوافقهم فيها كتاب ولا سنة، ومن أغرب هذه الأمور ما رواه لنا المؤرخون من أن أحدهم كان إذا مات طاف به الأشراف سبعة أيام حول الكعبة وهو محمول على أعناق الناس، ثم يلحدونه ويبنون فوقه قبة يحجون إليها،١٠ وما ندري من أين جاءوا بمثل هذه البدع السخيفة التي لا يقرهم عليها شرع ولا عرف، ولكنهم قوم أحبوا أن يتساموا عن طبقة الناس فاخترعوا لأنفسهم هذه الأباطيل؛ ليوهموا العامة أنهم من طينة غير طينتهم، ولم يكتفوا بما وقر في نفوس الناس لهم من الحب والاحترام، وكفاهم شرفًا أنهم من نسل الإمام علي عليه السلام ومن البضعة النبوية الطاهرة.

•••

أما الحالة الثقافية في الجزيرة العربية، فمن المعروف أن أكثر بلاد الجزيرة فقير قاحل يجلب إليه كل ما يحتاج، ويعتمد في حياته على ما يأتيه من الخارج، والجزيرة مقسمة طبيعيًّا إلى ثلاثة أقسام:
  • أولها: القسم الغربي، ويشتمل على الحجاز واليمن، أما الحجاز: فمن أشد بلاد الجزيرة فقرًا وحرًّا إذا ما استثنينا مدينتي الطائف والمدينة المنورة، فإنهما نَدِيَّتان بالحدائق النضرة والبساتين المثمرة، وأما اليمن: فهي بلاد العرب السعيدة، وأغنى الجزيرة خصبًا وخيرات ومعادن.
  • وثانيها: القسم الجنوبي، ويشتمل على بلاد حضرموت وعمان، وهي بلاد جبلية فيها بعض الأودية الصالحة للزراعة، والسواحل الغنية بالأسماك والدر.
  • وثالثها: القسم الشرقي، وينتظم بلاد البحرين والأحساء والكويت، وهي بلاد حسنة فيها بعض الأراضي الزراعية، وبخاصة النخيل، وفيها مغاصات للدر ومصايد للأسماك.

أما قلب الجزيرة، فهو قسم من بلاد الحجاز وبلاد نجد، وهو على الأغلب تلال بركانية ومرتفعات رملية وصحاري مقفرة يتخللها بعض الواحات، والجزيرة العربية كثيرة الصحاري المقفرة الموحشة، وأكبر هذه الصحاري الربع الخالي والجوف والدهناء والنفود، وقد أثَّرت هذه الصحاري المقفرة والأقاليم القاحلة في حالة السكان، سواء من حيث الزراعة وما إليها، أو من حيث الحضارة وأسبابها، كما أثَّر هذا المناخ على الناس فأصبح أكثرهم بدوًا رُحَّلًا، وانصرف الحضريون منهم عن العلم والأخذ بأسباب الثقافة لخشونة العيش وصعوبة الحياة، ولولا ما كان يجلبه موسم الحج أو ما تصدره الجزيرة وبخاصة اليمن ونجد وبعض مدن الحجاز من اللؤلؤ والخيول والنخيل والثمرات لعاش أهل هذه البقعة من الأرض في ضنك ما بعده ضنك.

وإذا كانت هذه حالة الطبيعة، وتلك موارد الجزيرة قبل أن يسيل في وديانها الذهب الأسود، فليس من المعقول أن نجد فيها ثقافة رفيعة أو حضارة خطيرة، كالذي نجده في العراق والشام ومصر، وإذا استطاعت هذه البلاد أن تقوى على الوقوف أمام النكبات الكبرى التي حلت بها بعد انكساف شمس الخلافة من بغداد وهجمات المغول والصليبيين، فإن الجزيرة العربية لم تقوَ على ذلك كله أو بعضه؛ لضعفها، ولبعدها عن المراكز التي انتقلت إليها الحضارة بعد سقوط بغداد، والحق أن الفترة الوحيدة التي ازدهرت فيها الجزيرة العربية في القديم القريب هي فترة ظهور الإسلام أيام النبي الكريم وأيام الخلفاء الراشدين حتى كانت قلوب العالم الإسلامي تهفو إليها، تتعلم منها الهدى والعلم والأدب، فلما حل عصر ضحى الإسلام وظهره أهمل الناس أمرها، ما عدا المدينة ومكة؛ لما لهما من القداسة، ولكثرة زيارة المسلمين إياهما، أما سائر مدن الحجاز والجزيرة حتى اليمن السعيد فقد أضحت قرى أو كالقرى يعيش أهلها في حكم إداري ساذج، ونظام اجتماعي فقير، وتراتيب سياسية بسيطة، أكثرهم فقراء، لا مورد لهم إلا ما تجود به الطبيعة الشحيحة أو ما يبتزونه من الناس حياءً واقتدارًا.

وقد نتج عن هذا التقهقر المعاشي تقهقر فكري فظيع، فانتشر الجهل حتى في الدين، وعمت الضلالات والسخافات، وبخاصة في الأمكنة النائية عن الحرمين الشريفين ومواطن الحجاج والزوار، وأخذت شمس الإسلام تغرب عن البقعة المنيرة التي فيها أشرقت، وانغمس الناس عامتهم وخاصتهم في عقائد وعبادات كلها إلى الخرافة تَمُتُّ، وعن طريق المنطق والدين تحيد، وعمَّت الفوضى، وانتشرت الضلالة والخرافة محل الهدى والعلم، وأخذ العوام يتعبدون الله على حرف، ويبتعدون عن روح الإسلام وتعاليمه، وعادت الجزيرة إلى حالة من الجاهلية المقيتة حتى قال المؤرخ الأديب أمين الريحاني: وأهمل الناس الصلاة والزكاة والحج، وكانوا لا يعرفون حتى مركز الكعبة،١١ ولولا الحجاز بطبيعة موقعه وقصد المسلمين ربوعه من كافة أرجاء العالم الإسلامي، لكانت حالته كحالة سائر أقطار الجزيرة العربية، فقد كان له من العلماء المسلمين الذين يقصدونه للحج أو مجاورة الحرمين الشريفين نبراس يضيء أرجاءه، وينشر فيها العلم بعض الشيء، وكان بعض الأشراف من ولاته يهتمون بأمور الدين وتعليمه أمثال الشريف بركات، فقد رووا أن سلطان مصر استدعاه في سنة ٨٥١ﻫ إلى الديار المصرية، وخرج السلطان للقائه، وبالغ في إكرامه، وقابله بالإجلال والتعظيم، ودعا علماء مصر ليأخذوا عنه، فازدحم العلماء في حلقته، وأخذوا يقرءون عليه علوم الحديث والرواية؛ لأنه كان عالي الإسناد، وقد أجاز نفرًا منهم ثم رجع إلى مكة،١٢ ومن أشراف مكة الأفاضل العلماء أيضًا: الشريف حسن، وكان صاحب خيرات وعلم، أجازه كثير من شيوخ العلم في عصره من شاميين ومصريين وعراقيين، وخرَّج له الشيخ تقي الدين بن فهد المكي أربعين حديثًا نبويًّا، ومدحه كثير من الشعراء والعلماء مثل شرف الدين إسماعيل بن المقري صاحب «الروض والإرشاد»، وقد شيَّد هذا الشريف الفاضل بعض دور العلم والعبادة، ومن أشهرها: رباط في مكة للرجال وآخر للنساء في المدينة.

ومن أشراف مكة الأفاضل أيضًا: الشريف حسن بن أبي نمي، فقد كان محبًّا للعلماء معظمًا لهم كثير الإنعام عليهم، وكانوا يتقربون إليه بالتآليف والرسائل فيجزل عطاءهم، وقد ألَّف له الشيخ عبد القادر الطبري شرحًا على المقصورة الدريدية فأجازه عليه بألف دينار.

ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأمراء والأشراف وبعض أهل الخير قد شيدوا عددًا من المعاهد والرببة من مدارس وربط وخوانق، ومن أشهر الأمراء الذين بنوا هذه المعاهد: السلطان «قايتباي»، فإنه حين زار الحجاز في سنة ٨٨٢ﻫ أكرم أهله إكرامًا كبيرًا، وبنى لهم مدرسة كبرى عند باب النبي بمكة، وجعلها لأهل العلم من أرباب المذاهب الأربعة، وجعل فيها كراسي لتدريس العربية والآداب والحساب، قال صاحب الأعلام: «في سنة ٨٨٢ﻫ أمر السلطان وكيله وتاجره الخواجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن أن يشيد له مدرسة يدرس فيها علماء المذاهب الأربعة، ورباطًا يسكنه الفقراء، ويعمر له ربوعًا ومسقفات يحصل منها ريع كثير يصرف منه على المدرسين وعلى الفقراء، وأن يقرأ له ربعة في كل يوم يحضرها القضاة الأربعة والمتصوفون، ويقرر لهم وظائف، ويعمل مكتبًا للأيتام وغير ذلك من جهات الخير، فاستبدل رباط السدرة ورباط المراغي وكانا متصلين، وكان إلى جانب رباط المراغي دار للشريفة شمسية من شرائف بني حسن اشتراها منها، وهدم ذلك جميعه، وجعل فيها اثنتين وعشرين خلوة، ومجمعًا كبيرًا ومُشرفًا على الحرم الشريف وعلى المسعى الشريف، ومكتبًا ومئذنةً، وصيَّر المجمع المذكور مدرسة بناها بالرخام الملون والسقف المذهب، وقرر فيه أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وأربعين طالبًا، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم، وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل فيها خازنًا، وعين له مبلغًا، وقد استولت على كتبها أيدي المستعيرين، وضيعوا منها جانبًا كبيرًا، وبقي منها ثلاثمائة مجلد.»١٣ وقد ظلت هذه المدرسة إلى الأعصر المتأخرة معهدًا يتلقى فيه طلاب العلم الفقه وعلوم الدين إلى أن اضمحلت في العهد العثماني، ومن المدارس التي شُيدت في عهد الشريف حسن بن عجلان مدرسة ياقوت الغياثي، فقد ذكر صاحب الأعلام أنه قدم الحجاز في سنة ٨١١ﻫ واشترى دارين بقرب باب أمِّ هانئ وهدمهما وجعلهما مدرسة ورباطًا للصوفية، وجعل في المدرسة مدرسين من أهل المذاهب الأربعة، وستين طالبًا، ووقف عليهم الوقوف.١٤

وهناك بعض الأمراء والمماليك والأشراف الذين شيدوا دور علم وكتاتيب ومدارس، وقد ظلت هذه الدور المنبع العلمي الوحيد الذي كان يستقي منه أهل الحجاز.

ومن الأمور الجديرة بالذكر أن بعض الأسر العلمية الحجازية كبني فهد المكيين وبني ظهيرة المدنيين كانوا كثيرًا ما يهتمون بتعليم علوم الدين، وقد جمع صاحب كتاب «النور السافر» تراجم نفر من الأفاضل الذين أفادت البلاد منهم في هذه الحقبة، وإذا كانت هذه حالة الحجاز، وهو قلب الجزيرة العربية، فما قولك بحالة بقية أنحاء الجزيرة مثل نجد واليمن وحضرموت؟ الحق أن الجهالة كانت متفشية، ولولا الأئمة العلويون الذين كانوا في اليمن والذين كانون يهتمون شخصيًّا بالعلم الديني بعض الاهتمام لكانت الحالة أسوأ، ولكنهم كانوا رجالًا أفاضل يهتمون بالناحية العلمية، فعمموا حلقات الفقه، وأكثروا من دروس العربية، وكذلك كانت حالة نجد والأحساء فقد انتشر فيها الجهل وعمت الفوضى، ولولا اهتمام أئمة نجد بأمور الدين لظلت تلك البلاد أيضًا في جهالة، ولكن ظهور المصلح محمد بن عبد الوهاب التميمي (؟–١١١٥ﻫ) في نجد قد أنقذ الموقف، وأحيا معالم الدين، وسعى إلى نشر العلم بكل قواه، وأعاد إلى نجد ما كان عليه في صدر الإسلام من حركة تهذيبية وأخلاق إسلامية.

١  «خلاصة الكلام»، ص٣٩.
٢  «خلاصة الكلام»، ص١٣٦.
٣  «خلاصة الكلام»، ص١٩٤.
٤  «خلاصة الكلام»، ص١٩٤.
٥  «خلاصة الكلام»، ص٢٢٣.
٦  «خلاصة الكلام»، ص٩٥.
٧  «خلاصة الكلام»، ص٢٢٤.
٨  «خلاصة الكلام»، ص١٩٠-١٩١.
٩  «خلاصة الكلام»، ص١٩٣.
١٠  «خلاصة الكلام»، ص٣٤–٤٣.
١١  تاريخ نجد الحديث لأمين الريحاني، ص٢٦.
١٢  «خلاصة الكلام»، ص٤٣.
١٣  الأعلام، المطبوع على هامش «خلاصة الكلام»، ص١٥٢.
١٤  «الأعلام»، المطبوع على هامش «خلاصة الكلام»، ص١٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤