خاتمة
«أن نختم القصة بتخمينِ أيٍّ من الرجلَين «كسب»، يُشبه طريقة إمَّا/أو في السياسة التي أبقت علاقاتهما برُمَّتها بعيدًا عن الانظار خمسين عامًا.»
امتدَّ العمر بسارتر عشرين عامًا بعد تاريخ وفاة كامي؛ وبذا كانت له الكلمة الأخيرة — أو لنَقُل في الحقيقة الكثير من الكلمات الأخيرة — عن علاقتهما. وكان سارتر قد قال لأحد طلَّابه بعد أيام قليلة من وفاة كامي إن «كامي، في حدود عِلمي، لم يفعل قَطُّ أيَّ شيء يُؤذِيني، وأنا أيضًا لم أفعل له أيَّ شيء كهذا.» ويبدو أن مرض النسيان عنده نابعٌ من حقيقةِ أن سارتر، على خلاف كامي، لم يتشبَّث بصداقاته بقوَّة مع الرجال، وكم من صداقاتٍ أنهاها مع كثيرين ممَّن كانوا يومًا زملاءَ له خلال الأربعينيات والخمسينيات، وجميعها انتهت لأسباب سياسية. ونذكر من هؤلاء الأخيرين آرون وألتمان وروسيه وأتيميل وليفورت وميرلو-بونتي.
وبعد وفاة كامي ظل سارتر المناهِض للنزعة القومية على موقفه النَّقدي من صديقه السابق، يسخر من المستوطِنين في الجزائر الذين حاوَلوا أن يكونوا لا ضحايا ولا جلَّادين، رافضًا «المثقَّفين المزيَّفين»، الذين ظنوا أن بوسعهم تجنُّب جميع أشكال العنف في فيتنام وفي الجزائر. ونجد تناقضًا واضحًا ومُذهلًا بين مقال سارتر العام ١٩٦١م عن ميرلو-بونتي، زميل الدراسة السابق والذي اعتبره سارتر مُعلِّمَه السياسي من دون أن يصِفَه أبدًا بالصديق الحميم، وبين كلمة تأبينه لكامي. ونلحظ أن المقطوعة المؤلَّفة من مائة صفحة تُمثِّل تقديرًا متصلًا ودافئًا تجنَّب النظر بعمق من خلاله التماسًا لمعرفة حوافز زميله السابق، وإن تحدَّث بإسهابٍ عن تأثيره في سارتر. إنه يبدي، قبل كل شيء، احترامًا طوعيًّا لميرلو-بونتي كمُفكِّر — إذ إنه في النهاية فيلسوف زميل وخريج مدرسة المعلمين — وهذا هو ما نفتقده في كتابات سارتر عن كامي. وتكشف رسائله لعام ١٩٥٣م حول قطيعته مع ميرلو-بونتي عن جانبٍ آخَر في علاقة سارتر به، وهو الجانب الغائب في علاقته مع كامي: عاطفة مهنة قوية. وكان الهدف أن تكون هذه الرسائل خاصة، ولم تُنشَر إلا العام ١٩٩٤م. واتَّسمت بدِفء شخصي مع رفع كل مظاهر الكلفة عند الخطاب. وظل سارتر يتمتَّع بقدرة على القول مع نهاية دراسة سياسية بارزة عن الاتجاه الصحيح إزاء الشيوعية: «أنا صديقك وأريد أن أبقى كذلك.» والتقى الاثنان مرتَين أو ثلاثَ مرات في لقاءات قصيرة قبل وفاة ميرلو-بونتي. وتميَّزَت هذه اللقاءات برُوح ودية جمعَت بين الألم وكبح جماح النفس. وعلى الرغم من أن ميرلو-بونتي نشَر كتابًا يُؤنِّب فيه سارتر «لغلوِّه البلشفي»، فإن هذا الافتراق وما ترتَّب عليه لا يتضمَّن أيَّ شيء نقارنه بما كان في الدراما التي شهدناها في قطيعة سارتر وكامي — حدة الغضب، والتصرف علانيةً على الملأ، وصيحات الخيانة والجدل المستمر.
«حقيقة الأمر أنه إذا كانت هذه الصداقة قد انفجَرَت بعنفٍ شديد، فإنه لذلك السبب ظلَّ جزءٌ غير كبير على حاله زمنًا طويلًا. والمعروف أنَّ الاختلافات السياسية والأيديولوجية التي كانت قائمةً بين سارتر وكامي في العام ١٩٤٥م قد تفاقَمَت سنةً بعد أخرى. كان كامي مِثاليًّا، أخلاقيًّا، ومناهِضًا للشيوعية، واضطرَّ في لحظةٍ إلى الخضوع للتاريخ، وحاوَل بأسرع ما يمكِن الانسحابَ منها، ونظرًا إلى حساسيته إزاءَ مُعاناة الناس فقد عزا ذلك إلى الطبيعة. وجاهَد سارتر منذ العام ١٩٤٥م لإنكار المِثالية، ولكي ينتزع نفسَه بعيدًا عن نزعته الفردية الأصيلة والعيش في التاريخ. وكانت معارَضته في اتِّساقٍ مع الماركسية، ورغب في تحالُف مع الشيوعيين. وكان كامي يُكافِح من أجل مبادئ عظيمة، ولهذا جذَبه حماس غاري ديفيز، واعتاد أن يرفض المشاركة في الأعمال السياسية المحدودة والتفصيلية التي ألزم سارتر نفسَه بها؛ إذ بينما آمَن سارتر بحقيقة الاشتراكية، أصبح كامي أكثرَ فأكثرَ مدافِعًا صلبًا عن القِيَم البُرْجوازية. ويمثِّل كتاب «المتمرِّد» بيانًا لتضامُنه معهم. وأصبح الموقف الحيادي بين الكتلتَين مستحيلًا آخِرَ الأمر. لذلك اقترب سارتر أكثر إلى الاتحاد السوفييتي، وكره كامي الروسَ على الرغم من أنه لم يكُن يحبُّ الولايات المتَّحدة، وصادَف قَبُولًا من الناحية العملية لدى الجانب الأمريكي. وحدَّثتُه عن تجرِبتنا [التراجُع عند رؤية جنود أمريكيِّين في أواخر العام ١٩٥١م] في شينون. قلتُ له: «أحسستُ في الحقيقة بأنني عدتُ ثانيةً إلى الاحتلال.» تطلَّع إليَّ في دهشة تَجمع بين الإخلاص والادِّعاء. وابتسم قائلًا في تساؤل: «حقًّا؟ انتظِري قليلًا، سوف تَرَين احتلالًا حقيقيًّا فورًا — نوعًا آخَر مُختلفًا تمامًا».»
«الحل الوسط لم يكُن بالشيء اليسير بالنسبة لرجلٍ له شخصية كامي. يذهب بي الظن إلى أنه أحسَّ بموقفه المُستضعف بشكلٍ ما. لم يكُن ليتحمَّل الطعن، ولا يكاد يرى شخصًا آتيًا حتى يهرب مُتخفِّيًا وراء إحدى ثورات غضبه النظرية التي تبدو مَلاذَه. وظهر إمكانٌ لعقدِ شكلٍ من أشكال التصالح بينه وبين سارتر وقتَ صدور «الشيطان والرب الرحيم»، ونشَرنا مقالتَه عن نيتشه في مجلة «الأزمنة الحديثة»، على الرغم من عدم رضانا عنها تمامًا. بيْدَ أن هذه المحاوَلة التمهيدية لم تَدُم، لقد كان كامي على استعدادٍ، لأوهى الأسباب، لأن ينتقد سارتر لتسامُحه إزاء «الاشتراكية التسلُّطيَّة». وظلَّ سارتر لزمن طويل مؤمنًا بأنَّ كامي خطأ على طول الخط، وأنه علاوة على هذا أصبح، كما قال له في رسالته، «لا يُطاق على الإطلاق». ولكن من ناحيتي الشخصية، فإنَّ هذه القطيعة لم تؤثِّر فيَّ؛ ذلك أن كامي الذي كان عزيزًا عليَّ لم يَعُد له وجود في نفسي منذ زمن طويل.»
«كنتُ آنَذاك مثل كامي في الخمسين … لم أكُن أفهم أن الحربَ نتيجة مُترتِّبة على صِراعات داخلية معيَّنة داخل المجتمعات البُرْجوازية. العُمَّال لا يذهبون إلى الحرب، والفلَّاحون لا يذهبون إلى الحرب ما لم يكونوا مدفوعين إليها دفعًا عن طريق زعمائهم المسيطِرين على وسائل الإنتاج وعلى الصحافة والمُواصَلات بعامة، وعلى النظام التعليمي، أو بكلمة واحدة: البُرْجوازية. وإنَّني حين أفكِّر في كامي زاعمًا بعدَ سنوات أن الغزو الألماني أشبه بالطاعون — يأتي للَاسبَبٍ ويرحل للَاسبَبٍ — أقول أيُّ حُمقٍ هذا!»
ويُمثِّل هذا تحوُّلًا مذهلًا؛ لأنَّنا نعرف أن سارتر اعتبر كامي نموذجًا له العام ١٩٤٥م، وامتدح بحرارةٍ روايتَه عن المقاوَمة.
وبدا سارتر من خلالِ حديثٍ أدلى به العام ١٩٧٥م مثابِرًا على النكوث بالعهد إزاء الصداقة، خاصةً فيما يخصُّ علاقتَه مع كامي؛ إذ ما فتئ يشعر بأن لديه المبرِّر تمامًا في هجومه؛ لأنه، كما قال، «ناداني السيد المدير ورأسُه مَليء بأفكار مجنونة عن مقال فرنسيس جينسون.» ولكن سارتر في هذا الحديث نفسه، وعلى غير عادته، أفلتَت منه ملاحظةٌ جِد مختلفة، والتي ذكرتُها أكثرَ من مرة في هذه القصة: «لعلَّه كان آخِر صديق جيد عرفتُه». وبعد أن أقرَّ سارتر بأنه ردَّ «بخشونةٍ شديدة» على كامي، أفاد ضِمنًا بأن حبَّه الشخصي استمر باقيًا في موازاةِ الاختلافات القائمة بينهما. «احتفظتُ له في نفسي بقدْرٍ من الحب، على الرغم من أن سياسته كانت غريبة تمامًا عني، خاصةً موقفه إبَّان حرب الجزائر.» وجديرٌ بالذكر أن كلمة «خاصة» هذه هي ذِكرى غريبة؛ ذلك لأن خلافاتهما بشأن الشيوعية قبل ذلك على مدى خمس سنوات، وليس الجزائر، هي التي باعَدَت بينهما. تُرى هل يُشير الآن إلى أن موقفه من كامي خفَّت حِدَّتُه بعد أحداث المجر وذوبان جليد الحرب الباردة، وأن افتراقهما دعمَته من جديدٍ اختلافاتُهما السياسية الجديدة؟
لقد احتفظ سارتر يقينًا بمشاعر إيجابية تجاه كامي، وحدَث أنه حين سمع بفوز كامي بجائزة نوبل في أواخر العام ١٩٥٧م قال لسكرتيره: «إنه لم يسرقها.» وسبَق أن رأيناه في تأبينه لكامي يمتدحه ككاتب وكرجل أخلاق. وجديرٌ بالملاحظة أن سارتر بعد أن استعاد حسَّه الخاص بأهمية الأخلاق في السياسة عمد إلى مواصَلة تطوير هذا المنظور في اتجاهاتٍ جديدة. علاوةً على هذا، فإن المجلد الثاني الذي لم يَكتمل من كتاب «نقد العقل الجدلي» يَطرح بدقَّةٍ وتحديدٍ السؤالَ نفسَه الذي طرحه كتاب «الإنسان المتمرِّد»: «كيف يمكِن لثورة تهدف إلى تحرير البشرية أن تخلق الجحيم على الأرض؟»
ولكن ثَمَّة تَتمَّة للجانب الشخصي من القصة؛ إذ بحلول العام ١٩٦٣م كانت الحرب الجزائرية قد انتهَت ومضى على وفاة كامي ثلاثة أعوام، ولم يَعُد لشعار «الجزائر فرنسية» وجود. ولو كان كامي لا يزال حيًّا، فإنه من دون شكٍّ سيَشهد مثالًا أخيرًا لغدر سارتر به؛ ذلك أن سارتر وهو يختتم «عزيزي كامي» قال: «إذا وجدتني قاسيًا فلا تَخَف، الآن سأتحدَّث عن نفسي وباللهجة نفسها. سوف تُحاوِل دونَ جدوى أن تردَّ الضربة إليَّ، ولكن كُن على ثقة من أنني سأردُّ الصاعَ صاعَين. أصبحت الآن لا تُطاق أبدًا، ولكنَّك لا تزال «رفيقي الإنسان» بحكم قوة الظروف.» وتحدَّث سارتر ساخرًا بأن وعد كامي بتحليل ذاتي قاسٍ بالقدر نفسه. قال هذا وفي ذهنِه السيرة الذاتية في مراحل تطوُّرها «الكلمات».
تُرى هل أوفى سارتر بوعدِه لرفيقه الإنسان؟ إنه لكي يفعل هذا في السيرة الذاتية، كما هي الحال في مستهلِّ رواية «السقوط»، كان عليه أن يُعري نفسَه كاشفًا عن خططه الماكرة وأساليب الرياء، وما كان يُخفِيه وراء هذه وتلك. كان لزامًا على سارتر أن يتبنَّى الموقفَ النقدي نفسَه الذي تبنَّاه في «عزيزي كامي»، بل وربما ليثبِت سوء نيَّته في الوقت الحاضر. اضطرَّ سارتر في «الكلمات» إلى استكشاف الطريقة التي تشكَّلَ بها خداعُ الطفولة في حياته وهو في كنف جدِّه وجدَّته وأمِّه بعد وفاة أبيه. ويصف بعد ذلك كيف أصبح كاتبًا وهو لا يزال صبيًّا تعلَّم كيف يخطُّ بالقلم على الورق ويكتب قصصًا، وحوَّل نفسَه بذلك إلى مُخادِع مقبول اجتماعيًّا. لقد أحاط به عالَم من المعاناة والظلم لم يَعرفه إلا بعد ذلك بزمن طويل، وإذا بقصَّة الصبي التي يرويها بأسلوب جميل تكشِف رويدًا رويدًا عن طفولة أليمة. تَحكي لنا القصةُ كيف أصبح طفلًا محتالًا، ليسَت له هُويَّة حقيقية، عاطلًا من أيِّ حسٍّ بالانتماء. ويبدو سارتر حتى الآن وفيًّا بوعده لكامي.
بيْدَ أن اعتراف سارتر الذي يُشبِه كثيرًا اعترافَ كليمنصو، يحوِّل الأمانة والصدق المباشِر لروايته إلى شيءٍ آخَر. إنَّ ألمه الذي كان حقيقيًّا أصيلًا أول الأمر يُعِيد تشكيلَه جماليًّا، مثلما أن قصة الطفل تتحوَّل لتشبه ليس فقط رواية بل ولعبة المرايا. ثم يبدأ سارتر في الوصول إلى خاتمتها، واعِدًا باستكمالها. وما إن يصل إلى النهاية، حتى نجد المسرحية ذات المستويات المتعدِّدة تكون لها الغَلَبة على الكشف عن مكنون الذات. يكتسب ألم الطفولة مَظهرًا جذَّابًا مع تحوُّل قصة الصبي إلى قصة مبهمة ومبهجة. ويقول سارتر لقرَّائه: توقَّفتُ في الوقت الحاضر عن اعتبارِ قلمي سيفًا. ولكنه لم يُوضِّح أبدًا ما الذي يعنيه بالدقة. وحقَّق قدرًا من الفهم العميق لنفسه عند مرحلة من سنين نُضجه، ولكن ما هو وكيف؟ إن سارتر لم يختم القصة.
إنَّ سارتر إذ خلق هذا النجاح الأدبي العظيم استطاع في آنٍ واحد أن يحتفظ وأن يُخفِق في الاحتفاظ بوعده إلى كامي. كشف نفسَه، ولكنَّه نأى بنفسه عن الشَّرَك. ولكن على الرغم من، أو ربما بسبب، هذا الغُموض ساد على الفور الاعترافُ بأنَّ «الكلمات» إحدى الروائع الأدبية. وبعد العام نالَ سارتر جائزةَ نوبل عن الأدب، وأثارت سعادةً غامرة تَفُوق ملاحظة كامي «الأم قبل العدالة». ولكن سارتر رفَض الجائزة بحجَّةِ أنها أصبحَت إحدى أدوات الحرب الباردة. وهكذا فإن واحدًا نشأ وترعرع وسط فقر الجزائر بلغ ذُروةَ النجاح بحصوله على جائزة أفادت في الوقت نفسه أيضًا أن حياته العملية انتهَت، واستثمَر المال لشراء بيته الدائم الوحيد، بينما الآخَر، الطفل الذي نَعِم بحياة ميسورة، إذا به يرفض الجائزةَ والمالَ وكلَّ شيء باعتبار موقفه احتجاجًا سياسيًّا.
•••
سيظلُّ كامي بين الرجلَين هو الأكثر كسبًا لتعاطفنا؛ ذلك نظرًا إلى أنه مات شابًّا، وعلى حين بغتة؛ ولذا لن يبدو كهلًا في نظرنا، بينما نستطيع أن نرى سارتر وقد بلغ من السن عِتيًّا، أصبح شيخًا مستنفدًا مُنهَك القوى، وكأنه عُمِّر أكثر من المفترَض، وخلَّف وراءه عِراكاتٍ غيرَ لائقة، سواء كانت كلماته الأخيرة هي التعبير الصحيح عن نفسه وفِكره، أم لم تكُن. وعلى الرغم مما بدا من أن نجاح كامي أدار رأسَه وأغاظه الجدل الخشن المُفرِط، فإنه كان دائمًا شخصًا واضحَ المشاعر والمُعاناة والشك في ذاته، ومستضعفًا. وأكثر من هذا أن قدراته الأدبية حصادُ جهدٍ شاقٍّ، وأكثر إنسانيةً من مواهب سارتر الفكرية المذهلة.
ولكن أن نختمَ القصَّة بتخمينِ أي من الرجلَين «كسب»، يُشبه طريقة إمَّا/أو في السياسة التي أبقَت علاقاتهما برُمَّتها بعيدًا عن الأنظار خمسين عامًا. ويبدو أن المناخ السياسي اليومَ يَفرض مثل هذا السؤال في ضوء حملة ما بعد الحرب الباردة وما تكيله من لَوم ومديح. وإذا كانت دار غاليمار في العام ١٩٥٢م تؤكِّد أن سارتر سجَّل لمصلحته نقاطًا أكثر، ومثلما فازت جبهة التحرير الوطنية في الجزائر بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، كذلك أصبح مؤكَّدًا أن كامي هو الفائز اليومَ حسب رأي مَن «يجمعون أخطاء سارتر». ونجد، بنصِّ كلماتِ أشهرِ هؤلاء، أن سارتر السياسي كان «متعصِّبًا»، و«واعظًا يبشِّر بالعبودية الطوعية»، وعانى من «هذاء الشمولية»، بينما كان كامي على صواب مع كل تحوُّل تقريبًا.
وبدأ هذا التغيُّر في الأحكام بينما كان سارتر لا يزال على قيد الحياة، ونشهد إحدى اللحظات الدالة والأساسية في يونيو ١٩٧٩م، عندما تجمَّع فريق من المثقَّفين الروَّاد لعَقد مؤتمر صحافي أعقبَته زيارة لقصر الإليزيه لحثِّ الرئيس جيسكار ديستان على التدخُّل لمصلحة ركاب مركب فيتنامي. التقى سارتر، الذي يُعاني من تدهور بدني سريع وحاد، زميلَه القديم في الدراسة ريمون آرون لأول مرة منذ أكثر من عشرين عامًا. طلَب سارتر مساعَدة الناس من منطلق «أزمة أخلاقية خالصة … ويتعيَّن إنقاذ حياة الناس». ورأت كاترين ابنة كامي، وقد كانت حاضرة، كيف أن سارتر يُلقي بآراء أيديولوجية في الهواء دون تفكير، ويضع الإنسانيةَ في موضع الأولوية قبل السياسة. وبدا سارتر وكأنه استسلم لما سبَق أن أنكَره جينسون في السابق على كامي، واصِفًا إياه باتباع «أخلاق أعمال الخير أو الصليب الأحمر».
وشهد شهرا نوفمبر ١٩٨٩م وأغسطس ۱۹۹۱م لحظاتٍ رئيسيةً أخرى في هذا التحول — وهذان هما تاريخ الانهيار الشيوعي. إنَّ التغيُّر الذي طرأ اليومَ على خطوطِ كلٍّ من كامي وسارتر في النجاح لا يمكِن فصْلُه عن عمليات المراجَعة والتنقية في فترةِ ما بعد الحرب الباردة. ولعلَّ مِن أهم هذه العمليات محاكَمات للشيوعية على لسان كتَّاب صدرَت أعمالهم بعد وفاتهم، مِن مثل كتاب «تجاوز الوهم» تأليف فرانسوا فوريه، واطَّردَت هذه العمليات على أيدي ستيفان كورتوا ومُعاوِنيه في كتاب «الكتاب الأسود للشيوعية». ونجد في هذه الكتب وفي غيرها مديحًا قويًّا لكامي، وازدراءً لسارتر. أصبح سارتر الثوري في رأيهم بمنزلة لعنة، بينما مَن يعرفون أكثر قليلًا عن سياسة كامي يَسمعون المديحَ الذي يُكال له لنظراته الثاقبة بشأن العنف والثورة.
وتُشبِه أنصاف الحقائق الرائجة الآن نظرةَ الرجلَين أحدهما إلى الآخَر بعد القطيعة: إنها تُبرِّر وتتَّهم أكثر ممَّا تُفسِّر، وتَحُول دون الوصول إلى فَهمٍ أكمل. غير أن القصة التي رويتها وفرغت منها فورًا تُشير إلى ما هو أعمق من حيث النقد والتقدير لكلٍّ من الرجلَين. وواقعُ الأمر أن كلًّا منهما مضى شططًا إلى حدٍّ بعيد. حدَّد كامي اختياره بطريقة صريحة ومُطلَقة: أمي أو العدالة. ولكن بعد أن أعلن كامي صراحةً ومن دون موارَبة أن اهتمامه بحرية الجانب الآخَر يتعيَّن أن يكون في إطار ضمانِ بقاء عشيرته هو، نجده يُنكِر على الجزائريِّين هذا الإحساسَ نفسَه بالنسبة إليهم. وقال سارتر لا عدالةَ من دون عنف. ولكن بعد أن كَدَّ سارتر واجتهد لشقِّ طريقه، على الرغم من استحالة أن يَنعم العالَم بالسِّلم والنور دون الإطاحة بهياكل القهر والظلم الاجتماعيَّين، أعلن أن الشرَّ والعنف عند الضرورة خيرٌ إيجابي.
ولكن على الرغم من أخطائهما تميَّزَ كلٌّ منهما بقوَّة البصيرة والقُدرة على التعبير وقوَّة الموقف السياسي-الأخلاقي؛ مما وضَعهما في مَصافِّ عُظماء التراث الفرنسي من أمثال فولتير وهوغو وزولا. إنَّ الاثنين بعد أن حقَّقا شُهرتَيهما غرقا في السياسة، والتزم كلٌّ منهما وفقًا لشخصيته وطاقته واقتناعاته، مشروعًا متَّسقًا للفهم والعمل في الإطار السياسي. ولم يكُن هذا مجرد اشتغال بالشكل والعناية بالسطح والمَظهر، بل استنفد هذا كلَّ طاقتَيهما. وليس بالإمكان وضْعُ خطٍّ تمييزي بين أعمال كامي وسارتر في الأدب أو الفلسفة أو السياسة، ذلك أن أعمق أفكارهما امتزجَت بالسياسة ونبعَت منها وأجَّجتها؛ ومن ثَمَّ لا غرابةَ إذ استحالت المصالَحة بينهما. وجديرٌ بالملاحَظة أن كلًّا منهما كمثقَّف سياسي كان راغبًا في المخاطَرة، وفي أن يبدو غير متناغِم، وأن يقع في أخطاء وأن يصبح إنسانًا غيرَ محبوب لدى الناس أو غير مقبول، بل مكروهًا. وخاطر كلٌّ منهما، عند الضرورة بأمنِه الشخصي مُبديًا شجاعةً مُنقطِعةَ النظير ككاتب ذائع الصِّيت أكثر ممَّا لو كان أيٌّ منهما شابًّا غير معروف.
كلٌّ منهما وقَف شامخًا، وتحدَّث صراحةً من دون مُوارَبة، وأنصَتَ المستمِعون لهما … كامي في إدانته الصلبة للرُّوح الشمولية، وسارتر في إدانته التي لا تقلُّ صلابةً للاستعمار. وكامي من أجل سياسة للحرية وضبط النفس، وسارتر من أجل الهجوم الشَّرِس ضد القهر. كامي ضد تبريرات العُنف السياسي، وسارتر ضد العنف المنظَّم. وهكذا أيضًا عندما نال كامي وسارتر جائزةَ نوبل في الآداب العامَين ١٩٥٧م و١٩٦٤م، ساد الاعتقاد على نطاقٍ واسع أن الجائزة اعترافٌ بإنسان كامل، ليس فقط إنتاج كلٍّ من الأدب الروائي والمسرح والفلسفة والكتابات السياسية والصحافة والنشاط السياسي، بل والاعتراف بحضورِ كلٍّ منهما على صعيد فرنسا والعالَم أجمع.
كلٌّ منهما تحدَّد كِيانه من خلال المحاجاة مع الآخَر، وبهذا السبيل فقط أصبح كلٌّ منهما المثقَّف السياسي الكاملَ النضج والتطوُّر، حتى اعترف العالَم بكلٍّ منهما؛ كامي وسارتر: القُطبَين النقيضَين اللذين حدَّدا اختيارات جيلهما. تميَّز كلٌّ منهما بموهبة بالغة العظَمة، والاستغراق في العصر إلى أعمق الأعماق، والالتزام السياسي على أشد وأحكم ما يكون، والحافز الذي يحدو كلًّا منهما لتوضيح وجهة نظره بقوَّة وجلاء، بحيث تجلَّى هذا كله مجملًا في صورة كامي أو سارتر. وجاءت نهاية صداقتهما كحدثٍ حتمي لهذه العملية نراها منقوشة على صفحات القضايا التي باعدَت بينهما.
وتشوَّهَت القطيعة بسبب زعم الكثيرين منذ أيامهما حتى الآن بأنَّ القطيعة تولَّدَت عن نهجَين مُتعارِضَين تعارضًا أساسيًّا في التعامل مع الحياة. وقدَّم هؤلاء مثالًا على ذلك التعارُض الأبدي بين الإصلاح والثورة، العِياني والمجرَّد، اللاعُنف والعُنف، موقف الفنان وموقف الفيلسوف — المتمرِّد والثوري. إن إبدال خلافات الرجلَين الشخصية والتاريخية والاستراتيجية بالمبادئ الأنطولوجية من شأنه أن يجعلنا نُخطِئ في النظر إلى الشعارات الناتجة عن صراعهما، ونضعها بديلًا عن الأسباب. لقد نبعَت اختياراتهما المختلفة من الحرب الباردة، والإمكانات التي أضفاها عليهما تاريخ ومجتمع فرنسا، ونقاط الانطلاق عند كلٍّ منهما، والدروب التي سلَكَها كلٌّ عبْرَ العالَم، وتعارُضهما الواحد مع الآخَر. تمثِّل القطيعة بينهما واقعةً تاريخية وليسَت أكثر من ذلك. إن كلًّا منهما قد صاغ نفسَه على النحو الذي أصبح عليه، وفي المسيرة مع الحرب الباردة، والحاجة إلى الاختيار من كلٍّ منهما لطبيعة المسار، وهكذا كان لكلٍّ من هذين المُفكِّرَين المتميزَين أسبابُه المتمايزة للاستجابة ولمحاوَلة التأثير في جماعتهما السياسية وفي عالَمهما الأوسع.
هل حسم التاريخ القضايا التي حدَّدت لكلٍّ منهما فِكره وشخصيته، ثم دفعهما إلى الافتراق؟ نعم. هل حسمَت الأحداث موقفَنا الراهن الذي تغيَّر على نحوٍ كامل بحيث يمكِننا الآن أن نعلن نهايةَ الصراع بين كامي وسارتر؟ لا.
إنَّ القضايا الأعمق التي حفَّزَت كامي وسارتر وفرَّقت بينهما لا تزال بيننا. وما فتئ القطاع الأكبر من الإنسانية يناضل من أجل حقِّ تقرير المصير، أو بسبب المَظالم من حيث الثروة والسلطة، أو بسبب هيمنة الشمال على الجنوب. ويبدو أن الإرهاب يمضي في ترابُط وتوافُق مع الاقتصاد العالَمي. العنف والحرب لا يزالان «قانون العصر»، والإرهاب النووي يؤكِّد وجوده. وما أكثر ما هو مُنحرِف بشكلٍ راديكالي عن الخط المستقيم في عالَمنا! وما دُمنا نحن في صراع معه، سيظل كامي وسارتر نصبَ أعيُننا — وعلى نحوِ ما كانت علاقتهما، وحُججهما، وحكمة كلٍّ منهما، ومَواضع القصور في فِكرهما. لقد هزمت الرأسمالية الديمقراطية الشيوعية، وزالَت غالبية أشكال الاستعمار، وانتهت الحرب الباردة، واختفَت القضايا المحدَّدة التي فرَّقَت بين الاثنَين، ونحن إلى هذا الحد نعيش في عالَمين مختلفَين، وأصبح بوسعنا الآن أن نُقيِّم كلًّا من كامي وسارتر، ونرفض طريقة إمَّا/أو التي باعَدَت بينهما. واتساقًا مع هذا، أجدني مُضطرًّا إلى القول لقد حان الوقت لظهورِ نمطٍ جديد من الفِكر السياسي بوسعه أن يُؤالِف بين قوى كلٍّ من الاثنين ويتفادى ضَعفَ كلٍّ منهما. أصبح بوسعنا تصوُّر شخص يقول الحقيقة في كل الأوقات، ويُعارض القهرَ في كلِّ مكان، ويوحِّد القدرة المميزة لكلٍّ من الاثنين على الرؤية الثاقبة التزامًا بمعيار أخلاقي وحيد. إن مِثل هذا المثقف سوف يُنِير الطريق ويكشف حقيقة العُنف المنظَّم الراهن مع قَبُول تحدِّي الدخول في صراع مثمِر وفعَّال ضدَّه دون خلق شرور جديدة. هل من كامي واحد؟ وكما قال سارتر ذاتَ يوم، ولكن في مجالٍ آخَر، هذا أشبه بمَن يتخيَّل وجود مَلاك، تجسيدًا نظريًّا مجرَّدًا لما نحن في حاجةٍ إليه على وجه الدقة والتحديد في موقفنا. والملائكة، أيًّا كان الرأي والعقيدة بشأنهم، يمكِن أن تكون صورتهم معيارًا يهتدي به البشر.