الفصل الأول

اللقاءات الأولى

«على الرغم من هذه الفوارق، انبثَقَ الإعجاب الأوَّلي بين الكاتبَين من تقارُب نقط الانطلاق عند كلٍّ منهما، وتماثُل مشروعاتهما.»

المؤلف

التقى جان بول سارتر وألبير كامي لأول مرة في يونيو ١٩٤٣م، عند افتتاح مسرحية سارتر «الذباب»؛ إذ بينما كان سارتر واقفًا في دهاليز الاستقبال، حسب رواية سيمون دي بوفوار، «أقبل شاب أسمر البشرة وقدَّم نفسَه إليه؛ وكان هذا هو ألبير كامي.» ونعرف أن روايته «الغريب» صدرت قبل هذا التاريخ بعام، وكانت حدَثًا أدبيًّا مثيرًا، علاوةً على مقاله الفلسفي «أسطورة سيزيف» الذي ظهَر قبل ذلك بستة أشهر، وأدَّت الحرب الدائرة إلى عزل هذا الشاب القادم من الجزائر داخل فرنسا. وبينما كان كامي يُعاني مرحلةَ النقاهة، إثر تفاقم داء السلِّ المزمِن معه في لو بانيليير، قرب كامبو، انقطَعَت صِلته بزوجته بعد استيلاء قوَّات الحلفاء على شمال أفريقيا الفرنسي، وما أدَّى إليه من غزو الألمان لفرنسا غير المحتلَّة في نوفمبر العام ١٩٤٢م. وأراد أن يلتقي الروائي والفيلسوف — والكاتب المسرحي الآن — الذي تتزايد شُهرته باطِّراد، وسبق أن عرَض كامي بعضَ أعماله منذ بضع سنوات، والذي نشر قريبًا جدًّا مقالًا مطوَّلًا عن أعمال كامي. كان لقاءً خاطفًا. قال: «أنا كامي.» ووجد فيه سارتر على الفور «شخصًا جديرًا بالحب».

وفي نوفمبر انتقل كامي إلى باريس للعمل منقِّحًا للخطوط لدى ناشره (هو وسارتر) غاليمار Gallimard، وبدأت صداقتهما الوَدُودة المُخلِصة. ومع أول لقاء جمَع بينهما في كافيه فلور — حيث كان سارتر وبوفوار يُنجِزان عملهما، وينعمان بالدفء، ويتناولان طعامهما، ويُباشِران حياتهما الاجتماعية — بدأ الثلاثة اللقاء مَشُوبًا بالحرج، ثم شرعوا في الحديث عن أعمالهم، وأبدى كامي وسارتر توافُقًا في الرأي إزاء الشاعر السريالي فرنسيس بونغ وقصيدته «الانحياز للواقع» Le parti pris des choses. وإن الشيء الذي أذاب الثَّلج فيما بينهما، حسبما قالت بوفوار، هو حماسة كامي للمسرح. والمعروف أن كامي قاد فريقًا لمسرح سياسي للهُواة في الجزائر. وتحدَّث سارتر عن مسرحيته الجديدة «لا مَفرَّ No Exit»، والظروف الحاكمة لإنتاجها، واقترح على كامي أن يلعب الدورَ الرئيسي فيها ويتولَّى إخراجها أيضًا. تردَّد كامي في أول الأمر، ولكنه وافَقَ بعدَ أن ضغط عليه سارتر لتنفيذ الفكرة، وأجريا عددًا محدودًا من التدريبات في غرفة بوفوار في الفندق لمعرفةِ أقلِّ ميزانية مُمكِنة للإخراج. وكشَف كامي عن استعدادٍ لإنجاز المشروع بهمَّة ونشاط، مما ضاعَف من إعزازنا وتقديرنا له، كما أفاد هذا ضمنًا أن لدَيه وقتًا كافيًا؛ إذ إنه وفَد حديثًا إلى باريس، فضلًا عن أنه مُتزوِّج ولكن زوجته باقية في شمال أفريقيا بعد أن أجبرته الحرب على البقاء في باريس. وأُعجِب سارتر بأداء كامي لدور غارسين، غير أنَّ راعيَهم المالي انسحب من المشروع؛ ذلك أن زوجة هذا الرجل التي كانت ستظهر في مسرحية «لا مَفرَّ» اعتقلَتها سلطات الاحتلال للاشتباه في أنها ضالعة في المقاوَمة. وتهيَّأت لسارتر فرصة لعرض المسرحية عن طريق إخراجٍ مِهَني على مسرح باريس، ودعمه كامي بكل طاقته، وتوطَّدت أواصر الصداقة. «إنَّ شبابه واستقلاله خلَقا روابط بيننا: كنَّا جميعًا لنا حياتنا المتوحِّدة، لم ننشأ ونتطوَّر بمساعَدة أيِّ «مدرسة»، ولا ننتمي إلى أيِّ جماعة أو حلقة.»

وإذا بدَت الصداقة في أول عهدها يسيرة سهلة للغاية، فذلك لسبب واحد وهو أن سارتر وكامي تعارَفا بوسائل أهم كثيرًا من مجرَّد المصافَحة؛ كان كلٌّ من الكاتبَين الشابَّين نَهِمًا في القراءة، غارقًا في محاوَلة صياغة أفكاره وأساليبه الخاصة به، فضلًا عن أن كلًّا منهما قرأ كتُبَ الآخر قبل أن يلتقيا. وطبيعي أن كانت عروضُ كلٍّ منهما لكتابات الآخَر من أهم التعليقات وأكثرها حرارةً في الأحاديث بينهما. ويُلاحظ أن أولى استجابات سارتر وكامي أحدهما للآخر، وإن كانت استجابات نقدية، إنما عبَّرت عن الصِّلة الأدبية والفلسفية التي تقترب وتؤسِّس لعلاقتهما. وانتقلا بنا إلى موقع من أهم مواقع التفاعل بينهما على مدى عشرين عامًا؛ الإشارة المتبادَلة من أحدهما إلى الآخر، تصريحًا حينًا وتلميحًا حينًا آخر. وسوف نجد منذ أولِ لقاءٍ جمَع بينهما وحتى آخِر كلمات تبادَلاها معًا بعضًا من أهم اللقاءات وأكثرها حيويةً وتميزًا على الورق.

اكتشف كامي سارتر في أكتوبر العام ۱۹۳۸م، عندما قرأ وعرَض «الغثيان»، وكان الشاب الأوروبي الجزائري (فرنسي، جزائري المولد) لا يزال مراسلًا صحافيًّا حديث العهد بمهنته، وكاتبًا لعمود صحافي عنوانه «غرفة الاطِّلاع» في صحيفة يومية يسارية جزائرية. ونشر محليًّا كُتَيبَين يضمَّان بعض المقالات تحت عنوان «الجانب الخطأ والجانب الصواب» The Wrong Side and the Right Side، و«العُرْس» Nuptials. وبعد فترةِ انقطاعٍ شرع في كتابة أول رواية له، وهي «الغريب». وعلى الرغم من أن مشروع الروائي الجديد كان لا يزال في مُنتصَف العشرينيات من العمر، فإنه حرَّر ردودًا لافتة للنظر، وتَكشِف عن تمكُّنٍ وثِقةٍ بالنفس في عموده الأدبي عن الأعمال الأدبية الصادرة حديثًا في باريس، نذكر من بين هذه الأعمال: «المزيفون» من تأليف جيد، و«المؤامَرة» تأليف نيزان، و«الخبز والنبيذ» تأليف سيلون، و«الأوراق القاحلة»، تأليف هكسلي، و«باهيا» Bahia، تأليف أمادو، و«الغثيان» و«الجدار» تأليف سارتر.
كان عرض كامي لمسرحية «الغثيان» بارعًا كفُؤًا ينطوي على تقديرٍ كبير. لم يكُن ذلك الريفي المبهور والبعيد تمامًا عن تعقيدات الحياة في باريس، بل ندًّا يُقاسِم بعمقٍ سارتر في أهدافه ويُحيِّيه عليها، وإن خاب أمله في شيء واحد؛ أنه رأى في هذه المرحلة الباكرة الإخفاقَ النهائي في حياة سارتر. تحكي «الغثيان» تحطُّم الحياة اليومية الهادئة المطمئنة لأنطوان روكينتا، العاكف في ميناءٍ شماليٍّ لكتابة سيرة حياة ماركيز في عهد الثورة، وأحسَّ روكينتا بالغثيان إزاء معاناته من عبث تُخفيه عادةً أعمالُه الروتينية النمطية. ويَظهر له صِدقُ هذا العبث أكثرَ فأكثر كلَّما توارَت حياته ببطء من حوله. إنها تجرِبة فكرية مُبهِرة تشتمل على بعض الأوصاف والتصوُّرات المذهلة. وحدث أن قال كامي لصديق له قبل كتابة عرضه للمسرحية بعدَّة شهور إنه فكَّر مليًّا بشأنها، وإنها قريبة جدًّا لشيء في داخله، واستهلَّ العرض بالتأكيد على أن «الرواية ليست سوى فلسفة نُعبِّر عنها بالصور الذهنية»، بيْدَ أن الفلسفة في رواية جيدة تُصبح هي والصور الذهنية تجسيدًا واحدًا. ولا نجد أي إشارة عند كامي تفيد أنه يعرف أن الروائي فيلسوف أيضًا. وقد نشر كتابًا عن الخيال، العام ١٩٣٦م، كما كتَب مقالًا مطولًا في العام التالي تحت عنوان «تعالي الأنا» The Transcendence of the Ego. وحصل هو نفسه على دبلوم الدراسات العليا (المعادِلة للماجستير) في الفلسفة عن رسالةٍ موضوعُها القديس أوغسطين وأفلوطين، وأكَّد أن سارتر حطَّم التوازن بين نظريات روايته وحياتها؛ ونتيجةً لهذا نلحظ أن المواهب الخيالية المثيرة لمؤلف الرواية ودور العقل المُغرق في الواقعية والشفافية يتَّسمان بغزارة العطاء والتشتُّت في آنٍ واحد. أمَّا من حيث غزارة العطاء، «فإن كل فصل من فصول الكتاب، إذا أخذناه وحْدَه، يبلغ حدًّا من الكمال من حيث المرارة والصدق». لقد صوَّر الحياةَ اليومية في «بوفيل» Bouville تصويرًا صادقًا واقعيًّا ملموسًا، حتى إن شفافيته لا تَدَع مجالًا للأمل، وإن كل تأمُّل من تأمُّلات سارتر عن الزمان صوَّره بوضوح وقوةِ تفكيرِ الفلاسفة، ابتداءً من كيركجورد وحتى هايدغر. أمَّا التشتُّت، فإن الأوجُه التصويرية والفلسفية للرواية «لا ترقى إلى مستوى عملٍ فني؛ إذ إن الانتقال من جانبٍ إلى الآخَر يأتي سريعًا للغاية، خلوًا من التشويق بحيث لا يُثير لدى القارئ الاقتناعَ العميق الذي يصنع من الرواية فنًّا».

مضى كامي قُدُمًا في مدح أوصاف سارتر للعبث والشعور بالغمِّ الذي يَنبثق مع انهيار الهياكل العادية المفروضة على الوجود في حياة أنطوان روكينتان، وما استتبع هذا من غثيان، وإن أسلوب سارتر الرشيق في تناول هذا الموضوع «الغريب» والمُبتذَل يتحرَّك «بقوة ويقين»، مما يُذكرنا بكافكا، ولكن — وهنا يختلف سارتر عن كافكا — نجد بعضًا من العقبات التي يتعذَّر تحديدها تَحُول دون مشاركة القارئ وتدفعه إلى الإحجام في اللحظة التي يتهيَّأ فيها للقَبُول. ولم يقصد كامي بذلك فقط فقدان التوازن بين الأفكار والصور الذهنية، بل وأيضًا سلبية سارتر. ويركِّز سارتر على القسمات المنفِّرة للبشرية «بدلًا من تأسيس أسبابه لليأس على عدد من الإشارات المحدَّدة الدالة على عظَمة الإنسان». وأبدى عارضُ الكتاب ضِيقه أيضًا إزاء القصور «الهزلي» الذي تجلَّى في محاوَرة روكينتان الأخيرة للعثور على أملٍ في الفن، موضِّحًا مدى «تفاهة» الفن إذا ما قُورِن ببعض لحظات الخلاص في الحياة.

وعلى الرغم من أن كامي بدا قويًّا في نقده، فإنه أبدى تقديره الكبير لأفكار سارتر، واستمتع بأمانته وقدرته على اقتحام أرض جديدة. وتؤكد العبارة الختامية في عرضه إعجابَه بالعمل:

هذه أول رواية مِن كاتب لنا أن نتوقَّع منه كلَّ شيء. يا لها من سكينة طبيعية جدًّا حال بقائه عند الحدود البعيدة للفكر الواعي! ويا لها من شفافية مؤلمة! وهذه جميعًا مؤشرات دالة على مواهب غير محدودة. ونرى في كل هذا أساسًا مكينًا لكي نرحب ﺑ «الغثيان»، باعتبارها أولَ الغيث من عقل أصيل مفعم حيويةً ونشاطًا، مما يجعلنا نتحرَّق شوقًا إلى الآتي من دروسه وأعماله.

تُرى هل كان هذا مجرَّد موقف عقلي من عارض الكتاب، وأسلوبًا لتحقيق توازن بين النقد مع قدْرٍ كافٍ من المديح حتى لا يبدو مُنفِّرًا؟ إن الناقد المتحرِّق شوقًا لم ينتظر طويلًا؛ إذ بعد أقلَّ من ستة أشهر صدَر الكتاب التالي لسارتر، والذي أرضاه تمامًا. وفي فبراير ١٩٣٩م عرَض كامي مجموعة قصص لسارتر صدرت تحت عنوان «الجدار». ورحَّب كامي بحماسٍ شديد بشفافية سارتر وتصويره لعبثية الوجود، وكذا وصفه للشخصيات التي كانت هُويَّتهم غير ذات جدوى لهم. ونلحَظ هنا أن سلبيتهم — التي ربما بدَت في «الجدار» أقوى منها في «الغثيان» — استثارَته هذه المرَّة بدرجة أقل. وإذا بهؤلاء الناس الغارقين في حريتهم عاجزون عن التغلب على العبث، حتى إنهم اندفعوا في اتجاهٍ مناهِض لحياتهم هم. ليست لديهم «أي روابط عاطفية، ولا مبادئ ولا خيط أريادن Ariadne’s thread،١ وذلك لعجزهم عن التصرُّف والعمل. وتنبع من هنا الأهمية المَهُولة والمهارة الفائقة لقصص سارتر». هنا القارئ لا يَعرف ما الذي ستفعله الشخصيات من لحظة إلى أخرى. ويكمُن فن المؤلف في التفاصيل التي يصوِّر من خلالها مخلوقاته العبثية، والأسلوب الذي يلتزمه في سلوكهم الرتيب.

واعترف كامي بعجزه عن التوقُّف عن قراءة هذه القصص. إنه يمنح القرَّاء تلك الحرية العبثية الأسمى التي تقود الشخصيات إلى نهايتهم هم. «إنها حرية لا جدوى منها، وهي التي تفسِّر التأثير الانفعالي الطاغي في أكثر الأحيان لهذه الصفحات، وكذا لعواطفهم القاسية». ووصف سارتر وضعًا إنسانيًّا عبثيًّا، بيْدَ أنه رفض الإحجام أمامه. وها هنا توازنت الفلسفة والصور الذهنية. ولم يَقنع كامي في ختام كلمته بالإشارة فقط إلى حماسه للمؤلف، بل وأيضًا بإحساسه بالهدف المشترك مع الكاتب.

«استطاع في كتابَيه أن يتَّجه مباشَرةً إلى المشكلة الجوهرية، ويبعث فيها الحياة من خلال شخصياته الاستحواذية (المُصابة بوسواسٍ قهري). إن الكاتب العظيم يقدِّم لنا دائمًا عالَمه الخاص ورسالته، وها هنا سارتر يصل بنا إلى العدم، ولكن أيضًا إلى البصيرة النافذة. ونَلحظ أن الصورة التي يقدِّمها لنا دائمًا وأبدًا من خلال شخصياته، عن إنسان قابع وسط أطلال حياته، إنما هي تصوير جيد لعظَمة وصدق عمله.»

«العظمة والصدق»، تُرى هل رأى سارتر هذه التقدمة الدالة على الإعجاب؟ إن كل ما نعرفه — عن يقينٍ — من جانبه، هو لقاء أدبي جرى في خريف العام ١٩٤٢م، واكتشف كامي فقط بعد بضعة أسابيع من إرساله المسوَّدة الكاملة لكتاب «الوجود والعدم». واستحثَّه هذا على أن يُنذِر مقالًا فياضًا مطوَّلًا من ٦٠٠٠ كلمة إلى «الغريب». ونجد سارتر في هذا المقال المذهِل يقرأ الكتاب إلى جانب «أسطورة سيزيف»؛ حيث الخيال مرتبط بالفلسفة. وَلْنُحاول أن نُنصِت إلى الصوتَين المختلفَين فيما كتب:
«العبث … ليس كامنًا في الإنسان ولا في العالم، إذا ما فكَّرنا في كلٍّ منهما بمعزل عن الآخر، ولكن حيث إنَّ الخاصية المهيمِنة للإنسان هي «الوجود في العالم» being-in-the-world، فإنَّ العبث في النهاية جزء لا انفصام له عن الظرف البشَري the human condition. ومن ثَمَّ لنَقُل بادئ ذي بدء إن العبث ليس موضوع فكرة مجرَّدة، وإنما يتكشَّف لنا في استنارة باعثة على الحزن. «الاستيقاظ والانتقال بالسيارة، وأربع ساعات عمل، وغداء ونوم، والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت على النمط نفسه …»، ثم بغتةً ينهار المشهد، ونجد أنفُسَنا في حالةٍ من وضوح الفكر العضال.»

هنا يلخِّص سارتر طواعيةً ويقتبس من فقرة تقارب الأصل الذي استهلَّ به «أسطورة سيزيف»؛ حيث يُثبِت كامي أفكاره الأساسية. وكم هو مُثير للدهشة أن الفقرة موضوع الاقتباس تُعطي انطباعًا يُشبِه صياغة كامي لتجرِبة روكينتان في «الغثيان». ويستطرد سارتر في اتِّفاق ظاهر مع كامي: إذا كان في مقدورنا أن نرفض العونَ المضلِّل الذي تقدِّمه لنا العقيدة أو الفلسفات الوجودية، فإنَّنا بذلك يكون لدينا حقائق أساسية واضحة: العالم شواش، وثَمَّة تكافؤ إلهي وُلد مِن الفوضى؛ الغد غير موجود ما دُمنا جميعًا نموت، «وحين يتجرَّد الكون بغتةً من الأوهام والأضواء، يشعر الإنسان بأنه مُغترب، غريب.»

وإذا تحوَّلنا مباشَرةً إلى السياق في «أسطورة سيزيف»؛ حيث هذه الجملة، ونقرأ ابتداءً من هذه الفكرة وما بعدها، فسوف نتذكَّر «الغثيان»: «الشعور بالعبث يصفع وجهَ الإنسان عند أيِّ زاوية من زوايا الطريق.» ونجد على الصفحة الثانية من «أسطورة سيزيف» فقرةً تُشبه فقرة سارتر عن انهيار الروتين أو نمطية الحياة اليومية، وهي الفقرة التي اقتبسها سارتر في عرضه للكتاب. وإذا قلبنا الصفحة نجد اسمَ رواية سارتر مذكورًا صراحةً: «هذا الغثيان، كما يُسمِّيه كاتب من كتَّاب اليوم، هو أيضًا العبث.» تُرى صوت مَن الذي نسمعه في الاقتباس المذكور آنفًا؟ نلحظ في عملية انعكاس مذهلة للموقف الفكري والانفعالي الجامع بينهما أن سارتر يقتبس في حماس وإعجاب من كامي الذي يعتمد تحليله على سارتر. إنه صوت الاثنين معًا في وقتٍ واحد.

وبعيدًا عن هذا التقارب الفكري يُقارن سارتر كامي مع كافكا وهيمنغواي، وهما موضع إعجابه، وامتدح «الغريب» لبنائها المُتماسِك في مهارة فائقة:

«لا نجد أيَّ جزئية تفصيلية لا لزوم لها، ولا جزئية لم تكُن ثَمَّة حاجة للعودة إليها فيما بعدُ واستخدامها في المحاجَّة. وإذا أغلقنا الكتابَ نُدرك أنْ لم يكُن بالإمكان أن تكون له نهاية غير النهاية التي انتهى إليها. إن أصغر حدث له قِيمتُه في هذا العالَم الذي تجرَّد من كل مظاهر السببية، وتبدَّى لنا في صورة عبثية. نحن لا نجد حدثًا واحدًا لا يفيد في دفع البطل على طريق الجريمة ليَلقى عقوبة الإعدام. إن رواية «الغريب» عمل كلاسيكي منهجي، مؤلَّف عن العبث وضدَّ العبث.»

واضح أن مؤلِّف «الغثيان» مُعجَب بالقُدرة التصويرية في «الغريب»، والبساطة المطلَقة للغة كامي، وقُدرته على استحضارِ أوصافٍ طبيعية لا تمحوها الذاكرة عن عشية الجنازة، والموكب في صباح اليوم التالي، والأعمال اليومية الروتينية لميرسولت مقترنة بمظاهر تُثير قدْرًا أكبر من الاضطراب — وافتقار ميرسولت للعاطفة الإنسانية العادية، وقتله للعربي من دون هدف، وثورة المدَّعي العام الغاضبة إزاء مشاعر اللامبالاة من جانب الشاب تجاهَ موت أمِّه. واستخفافه بالمحلَّفين، ومعنى ذلك بالنسبة إلى آداب المجتمع، وكذا استبعاد صدور حكم بالإعدام ضد رجل أبيض قتَل عربيًّا في الجزائر — ليبدع الروايةَ العظيمة للجزائر الفرنسية. ولكن كيف استجاب مؤلف «الوجود والعدم» إزاء «أسطورة سيزيف»؟ بعد أن فرغ سارتر لتوِّه من أكثر المؤلَّفات الفلسفية عمقًا وأصالةً في القرن العشرين، أبدى تقديره واحترامه لكاتب المقالات الفلسفية الذي استطاع بفضل الأسلوب المُعتدِل في مقال «أسطورة سيزيف» وكذا موضوع المقال أن «يتَّخذ لنفسه مكانًا في التراث العظيم للمفكِّرين الأخلاقيِّين الفرنسيين» ممَّن نعتبرهم سلفًا لنيتشه. «إن نهجه في الاستدلال، ووضوحَ أفكاره، ونمطَ أسلوبه التوضيحي، كل هذا يشير إلى مزاج كلاسيكي.»

ولا بدَّ من أن سارتر لحظ أن «الغريب» انبعثَت فيها الحياة بطريقة لم تتهيَّأ لروايته «الغثيان». وهذا ما أشار إليه كامي بذكاء قبل ذلك بأربع سنوات. كذلك لا بدَّ من أنه — بالمثل — تبيَّن أن «أسطورة سيزيف»، على الرغم من كل جاذبيتها كعمل فلسفي حقَّق رواجًا وشهرة، عملُ كاتبٍ هاوٍ للفلسفة، وليس كاتبًا صاحبَ منهج في البناء النسقي للأفكار. ونعرف أن كامي عزف بشكل مبدئي عن فلاسفة وجوديِّين من أمثال ياسبرز وهايدغر وكيركغارد في سبيل تأكيد أن لا شيء في وسعه حجب عبثية الحياة. لكن سارتر من ناحية أخرى قضى سنوات عاكفًا على ظواهرية «فينومينولوجيا» هايدغر وهوسرل إلى أن ألَّف بينهما في الوجود والعدم، وحوَّلهما إلى عمل يلتمس سبيلًا للنفاذ إلى طبيعة الوجود ذاته. واستهلَّ سارتر بالوعي الديكارتي الفردي ووصف بدقَّةٍ أبنيةً أساسية للوجود ومشروعات إنسانية رئيسية وأنماطًا مميزة للسلوك من مثل سُوء المقصد والطويَّة، وأصبح مهيَّأً مع نهاية الكتاب ليَمضي قُدمًا، موضِّحًا دلالات فلسفته على نحوِ ما فعل على مدى سنوات عديدة تالية، وكشف عن عناصر فلسفته في كل وجهٍ من وجوه الوجود، ابتداءً من الحياة اليومية والسياسة وحتى علم الأخلاق والإبداع الفني وطبيعة المعرفة. ولكن كامي من ناحية أخرى في «أسطورة سيزيف» استهلَّ تفلسُفه من مقدمة أولى هي أن مسألة «معنى الحياة» هي المسألة الأكثر إلحاحًا من دون جميع المسائل الأخرى. وبقي في ساحة الخبرة وما تُولِّده من إحباطات بدلًا من التقدُّم والتزام «الجدل الأكاديمي الكلاسيكي». وهكذا انطلق كلٌّ مِن مقال «أسطورة سيزيف»، وكتاب «الوجود والعدم» من العبث، وأفرز الاثنان الروح العصري العقلي والثقافي ذاته. بيْدَ أنهما مع هذا ظلَّا مختلفَين اختلافًا واسع النطاق.

ولكن هذا القَدْر من الاختلاف تحوَّل في التعبير عنه بطريقة صادمة مُثيرة إلى كلمة واحدة بغيضة هي «بالمناسبة»: «تباهى كامي لفترة وجيزة بما استعرضه من اقتباسات عن ياسبرز وكيركغارد اللذَين على ما يبدو، بالمناسبة، لم يكُن يفهمهما دائمًا.» إنَّ الفيلسوف الحاصل على درجة الأستاذية من مدرسة المعلمين العُليا يحطُّ من قدْرِ المُتفلسِف الحاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة الجزائر.

ولعلَّ هذا هو السبب في أن كامي لم يجد في مقال سارتر ما يُثيره ويهتز له. ويعبِّر كامي عن ردِّ فعله إزاء رأي سارتر عنه في رسالةٍ بعث بها إلى معلِّمه جان غرينييه الذي نشر له عرضه لرواية «الغريب» في العدد نفسه من «كراسات الجنوب» Cahiers du Sud:

«مقال سارتر نموذج للنقد والتحليل بُغية إظهار جوانب الضَّعْف. وطبيعي أن كل عمل من أعمال الخلق به عنصر غريزي، والذي لا يتصوَّره «هو»، كما أن الذكاء لا يؤدِّي مثل هذا الدور المهم. ولكن هذه هي قواعد اللعبة في النقد، وهي لعبة جميلة لأنه أنار لي في مواضع عديدة ما كنتُ أريد أن أفعله. وأرى أيضًا أن الجزء الأكبر من نقده مُنصِف، ولكن لماذا هذه النغمة اللاذعة؟»

ونعرف أنَّ التحليل الحريص من شأنه في نهاية الأمر أن يُفكِّك العناصر عن بعضها. ولعلَّ الإشارة إلى النغمة لا تعني أكثر من ضِيق كامي؛ إذ يرى عمله وقد تفكَّكَت أجزاؤه بغيةَ تفسيره، وواضحٌ أنه غير مرتاح لكي يضعه سارتر تحت الميكروسكوب. ولهذا يدافع عن نفسه بالمقابَلة بين إبداعيته الغريزية والحدَّة النقدية عند سارتر، حتى مع التسليم بأن الأخير يُعوزه قدر أكبر من الذكاء.

ولكن محاوَلة سارتر الحطَّ من قدر العمل ربما جاءت تعويضًا عن استخفافٍ سابق لاحَظَه القارئ في فقرةٍ ورَدت سابقًا ومُقتبَسة من «أسطورة سيزيف»: «إنَّ هذا الغثيان، كما يُسمِّيه واحد من كتَّاب اليوم، هو أيضًا العبث.» والجدير ذِكرُه أن كامي، قبل ذلك بثلاث سنوات، أشار إلى سارتر مؤلف الروايات والقصص القصيرة بأنه كاتب عظيم. ونلحظ الآن أن كامي، استنادًا إلى أفكارٍ وردَت في الغثيان وذِكره بالاسم كلًّا من نيتشه وشوبنهاور وياسبرز، يكتفي فقط بالإشارة غير المباشِرة إلى مَن يراه ندًّا له. وهكذا فإن عبارة «واحد من كتَّاب اليوم»، وهي عبارة مُجهلة من دون ذِكر الاسم، تحتلُّ مَرتبة أدنى من مَرتبة المُفكِّرين الكبار، وتُثبِت بدورها قُدرته ليس فقط على تحليل، بل وكبح جماح شاب مغرور، بل ودفعه أيضًا إلى مسار آخَر مقابل؛ لذا نراه خصَّص مساحة كبيرة من مقاله لكي يفيض في بيانِ كيف أن كامي أليقُ به مكان أرستقراطية الأدب والفكر.

وعلاوةً على الكشف عن احتمالات الغمز واللمز من أحدهما تجاهَ الآخر، فإنَّ هذه الملاحظات تُذكِّرنا بأن آصرة الرجلَين لم تكُن واحدة متطابقة. وتوحي هذه النصوص، علاوةً على المدح المتبادل وإحساس كلٍّ منهما باكتشاف الآخَر، بوجود فوارق كثيرة بين سارتر وكامي. كانت لدى سارتر نظرة أكثر سلبيةً، ولدى كامي نظرة أكثر إيجابيةً عن كلٍّ من الطبيعة والحقيقة البشرية. إنك لا تكاد تفتح «الغريب» بجوار «الغثيان»، حتى يصدمك التبايُن بين الجسدانية المبهِرة عند مورسو في حديث كامي، والشعور بالقرف الذي اشتهر به سارتر إزاء الجسد كما تجلَّى في شخصية روكونتا. ووجد كامي مُتعةً بالغة في العالم الحسِّي في شمال أفريقيا كما هو في «العُرْس»، حتى إنَّ القارئ يكاد لا يَسَعه إغفال ما فيها من حدَّة وملذَّات. ولكن كتابات سارتر لم تشتمل أبدًا على العالم الجسداني أو الجسد بأسلوب مباشِر يقيني وتَغلب عليه البهجة وبشكل طبيعي، كما هي الحال عند كامي، وحقيقة الأمر أنَّ من بين أهم عناصر المفارَقة المذهلة في الأدب الخيالي الحديث، كما عرف كامي نفسه، هو ذلك التبايُن بين «بوفيل» الرمادية القبيحة في «الغثيان»، ومرفأ المدينة الوضَّاء المُتلألئ في «الغريب» وشاطئها والريف المحيط بها، والذي نجده في مرفأ الجزائر العاصمة.

وتكشف عروض أحدهما لكتب الآخَر عن فارق آخَر مُهم؛ إذ على الرغم من أن كلَيهما ألَّف أعمالًا مهمة في الفلسفة والأدب، وتناول بنجاح مشهود عددًا من الموضوعات الأخرى، كان أحدهما مزاجيًّا فيلسوفًا في الأساس استغرقَته النظريات والأفكار العامة، بينما الآخَر روائيٌّ في الأساس، قادر في سهولة ويُسر على الإمساك بالمواقف بحدودها العيانية، وهذا هو ما عبَّر عنه كامي في تمييزه بين «الذكاء» و«العنصر الغريزي». واتَّخذ الفيلسوف الشاب النابه من العبث نقطةَ انطلاق له، واستطاع على مهل وعلى مدى السنوات الخمس الفاصلة بين «الغثيان» و«الوجود والعدم» أن يكتشف كيف يُؤلف النشاط البشري عالَمًا ذا معنى من الوجود الفج الذي لا معنى له، وأنشأ الروائي المتفلسِف نظرة شاملة إلى العالم قائمة على فَهم أن العبث مُعطًى لا سبيل إلى تجاوُزه في الخبرة الإنسانية.

وعلى الرغم من هذه الفوارق انبثق الإعجاب الأوَّلي بين الكاتبين من تقارب نقط الانطلاق عند كلٍّ منهما وتماثُل مشروعاتهما. كان كلٌّ منهما يُحاول أن يؤكد تأثيره وبصمته في مجالاتٍ ظلَّت مُتمايزة تمامًا عن بعضها في التعليم والثقافة في فرنسا، وأدرك كلٌّ منهما على الفور أن الآخَر يكتب أدبًا وفلسفة، ورأى كلٌّ منهما على الفور المدى الكبير الجامع والمشترك بينهما. إن كتاباتهما بكلِّ ما فيها من حبكات غير تقليدية وشخصيات تبدو غير مُثيرة ولا حافزة، أكَّدت أن الوجود عبث، وواجَه الاثنان هذا العبث بصدقٍ ووضوحِ فِكر، فاتَّفَقا على أن غالبية الناس (بمَن فيهم الفلاسفة) لا يفعلون ذلك. وأكَّدا تقديرهما الكبير لحياة الصدق والأصالة.

•••

تُرى ما هي قوة الجاذبية الشخصية للاثنين؟ بعد ثلاثين عامًا من لقائهما تذكَّرَ سارتر كامي باعتباره «مثيرًا للضحك، جلفًا إلى أقصى حد، لكنه غالبًا ما يكون مُثيرًا جدًّا للضحك … إنَّ ما ربطنا به هو جانبه الجزائري … يتحدَّث بلكنة تشبه أهل جنوب فرنسا، كما أنَّ له صداقات إسبانية تعود إلى أيام اتِّصالاته بالإسبان والجزائريين.» وأضافت إلى هذا سيمون دي بوفوار قولها: «كان هو الشخص الذي نجد في صُحبته مصدرًا للاستمتاع والمرح إلى أقصى حد. رأينا في علاقتنا به صفقة كبيرة؛ إذ تبادلنا قصصًا لا حصرَ لها.» وندرك من هذه المذكرات كيف عمد الاثنان بعد القطيعة إلى الغضِّ من علاقتهما. بيْدَ أنهما كانا مُنجذِبين أحدهما إلى الآخر بشكل واضح؛ إذ كانت هناك دون أدنى ريب كيمياء بين النقيضَين تجعلهما أيضًا متماثِلَين جدًّا. وقال سارتر عن كامي: «نقيضي المطلَق: أنيق مهندَم وعقلاني.»

ورأى كامي في الشخص القصير، جاحِظ العينَين، فصيح الكلام، ضئيل الجسم، عقلًا يتحلَّى ببراعة فنية مُذهِلة، وقوة وعمق وإبداعية. وكان سارتر مع هذا وَدُودًا غير مدَّعٍ ولا متكبِّر، وعرف كيف يستفيد بوقته. ونظرًا إلى أن سارتر وبوفوار من أبناء أُسَر مِهَنية، فقد توافَر لهما قدْرٌ أكبر من الفَهم والانفتاح على شئون الدنيا، ومكانة اجتماعية أرقى من الآخر، الذي كان ابن امرأة غسَّالة من حي بيلكورت في الجزائر العاصمة، وهو خليط من العرب والأوروبيِّين. وتوسَّعت الدائرة الاجتماعية التي تضمُّ سارتر وبوفوار خلال الشهور الأخيرة من الحرب لتضمَّ عددًا من المشاهير، وأصبح كامي واحدًا منها، ولم يكُن كامي يُخطِئ تجاهُل سارتر إظهارَ تقديره له.

وكان سارتر أقلَّ التزامًا من كامي بالتقليد. وأبدى سارتر دائمًا حبَّه للتفكير النظري عن كل شيء وفي كل شيء — وهو في هذا النقيض تمامًا لكامي — لكن على الرغم من أنَّ سارتر كان عاشقًا للحديث، علاوةً على إقراره صراحةً، كما سوف نرى، بأخطائه، كان على النقيض أقلَّ من كامي اعترافًا بنقاطِ ضَعفه التي في أعماق نفسه، هذا بينما بدَت نقاطُ ضَعف كامي دائمًا على السطح ولا تُخطِئها العين، وتتجلَّى في مزاجه وفي نظرته. ولنا أن نقول إن مثل هذه الفوارق جعلت كلًّا منهما، للحظة من الزمن، يُكمِل الآخَر بمعنًى ما.

وقدَّمت لنا بوفوار في كتابها «ريعان الحياة» The Prime of Life سجلًّا مُهمًّا عن الروح التي سادَت خلال أيام الحرب تلك، وقتما اعتادَت هي وسارتر ومعهما كامي وعدد آخَر من المعارف الجُدد المشهورين أو الذين في سبيلهم إلى الشهرة سريعًا، ومن بينهم بابلو بيكاسو، عقْدَ مهرجانات أو عرض مسرحيات أو جلسة للشراب فقط: «كنا نحتفل بالنصر قبل تاريخ انعقاده، وعلى الرغم من كل الأخطار التي لا تزال تتهدَّد أكثرنا.» كان الطعام نادرًا شحيحًا، لكن بوفوار كانت تستطيع أحيانًا الحصول على بعض اللحم وتدعو الأصدقاء لتناوُله. وحدَّثَتنا عن تقديمها «زبديات مليئة بقرون اللوبيا لضيوفها، وأطباقًا مليئة بيخنة بلحم البقر»، كما اعتادت دائمًا الحرص على توفيرِ قدْرٍ كافٍ من النبيذ. واعتاد كامي أن يقول: «النوعية ليسَت رائعة تمامًا، لكن الكمية كافية.»
وفي ربيع العام ١٩٤٤م أدار كامي عملية قراءة لنصٍّ مسرحي كتَبه بيكاسو على مشهد من مجموعة من الأصدقاء. والتقط أحد الممثلين، ويُدعى براساي، صورة هي الصورة الوحيدة التي تجمع بين سارتر وكامي معًا. وانصرف الضيوف الآخَرون قبل موعد حظر التجوال، بينما بقيَ المُمثلون وبعض من الأصدقاء الحميمين، واستمرَّ الحفل حتى الخامسة صباحًا، ونقرأ في مناسَبة أخرى كلمات بوفوار التي تقول:

«ألَّفنا ما يُشبه المهرجان بكلِّ ما يشتمل عليه من باعة ودجَّالين ومحتالين يستغلون ثقةَ الناس، ومهرِّجين وغير ذلك من استعراضات. واعتادت دورا مار تأدية أدوار التمثيل الصامت «الإيمائي»، وتقليد صراع الثيران. وقاد سارتر فريقًا موسيقيًّا، أوركسترا، ونحت ليمبور فخذَ خنزير وكأنَّه همجي من أَكَلة لحوم البشر، وتبارز كوينو وباتايل بالزجاجات بدلًا من السيوف، وأدَّى كامي ولو مارشا دور المارشات العسكرية على قرع غطاءَين لقِدرَين صغيرَين، بينما غنَّى مَن يُجيد الغناء من بين الحضور. وهكذا أدَّى كلٌّ دورًا حتى مَن لا يعرف شيئًا. وأصبح لدينا تمثيل إيمائي وكوميديات وعمليات تنديد وأدوار أخرى ساخرة وحوارات ثنائية واعترافات. واستمرَّ الارتجال من دون توقُّف، وتلقَّى المُمثلون دائمًا التحية بالتصفيق الحماسي. وأدرنا أشرطةَ تسجيل ورقصنا، أثبت البعض منَّا مهارةً فائقة، من أمثال أولغا وواندا وكامي، بينما كان الآخَرون أقل خبرةً.»

وتعكس حدَّة مسراتهم حدَّة زمن الحرب وما فيه من حرمان وواقع إحساس الجميع بأن الاحتلال الألماني يقترب من نهايته.

وإذ تأمَّلَت بوفوار تلك الأيام الماضية، صوَّرت كامي في صورة الريفي القادم إلى باريس سعيًا للنجاح، مثل شخصية بلزاك في «الأوهام الضائعة»:

«كان يتحرَّق شوقًا للنجاح والشهرة، ولم يكُن يُخفي هذا، وإن الشيء غير الطبيعي تمامًا هو السعي لكي يُحقِّق هذا في نَهَم لا يشبع. واعتاد بين الحين والآخر أن يبدو في صورة الشاب الطَّمُوح، على الرغم من أنه مُعدِم، ويجاهد للظهور. وكان بسيطًا يَفيض مرَحًا. وإذا كان رائق المزاج، فلا بأس عنده من إطلاق دعابات مُبتذلة. وتعمل في المقهى نادلة تُدعى باسكال كان يُصرُّ على الإشارة إليها باسم ديكارت. واعتاد أن يدَّخر لنفسه وقتًا للانغماس في هذه الملذَّات. وتهيَّأ له قدر كبير من السِّحر هو نتاج اللامبالاة المُتعمَّدة والحماسة بنِسَب ملائمة. وكفل له هذا أمانًا من أن يتَّهمه أحد بالابتذال. وأكثر ما أعجبني فيه قدرته على السخرية المتحفظة إزاء الناس والأشياء، حتى وإن كان غارقًا إلى أقصى حدٍّ في أنشطته الشخصية وملذَّاته وصداقاته.»

هذه المذكرات منشورة العام ١٩٦٣م، وقد صِيغت صياغة جيدة كما هي حال اللقاءات بين بوفوار وسارتر المنشورة عقِب وفاة سارتر بعد ذلك بعشرين عامًا. حاولَت بوفوار التعبيرَ عن صداقة ممتِعة للغاية، ولكنها مع هذا صداقة عابرة مع ريفي مهمل وغير معقَّد. والمشكلة في هذه الصورة أنها كرَّرت ذِكر كامي كثيرًا جدًّا في مُذكراتها، وبدَت مَعنيَّة جدًّا بأفكاره وتطوُّره السياسي والشخصي؛ بحيث لا يُمكِن القول إنها تعامَلَت معه بشكل عرَضي. ونجد صورة أخرى حيث كامي في مذكراتها، مثلما هو في الحياة الواقعية، أي شيء إلا أن يكون شيئًا بسيطًا.

إذ لو أنها حاولَت أن تحكي القصة كاملةً، لربما كان عليها أن تقول إنَّ كامي قدَّم لها ولسارتر واجهةً خادعة تعبِّر عن بهجة بسيطة هي قناع أخفى تعقُّدات شخصية وحياتية، وانكشف هذا من خلال ملاحَظاته الساخرة الحادَّة التي كان يخفِيها أيضًا وراءها، وأخطأت بعد ذلك ثقته بنفسه التي كانت عُرضةً لنوبات دورية من الشك العميق بالذات وغطرسة، والجدير ذِكره أن ما عقَّد مشاعر بوفوار الخاصة أنها قدَّمت نفسها إلى كامي كعاشقة، غير أنه صدَّها، ويُذكِّرنا هذا بأن بوفوار لم تكن مجرَّد مُشاهِد لعلاقة سارتر-كامي، بل كانت مُتورِّطة فيها إلى الأعماق؛ قوة ثالثة بمشاعرها الخاصة المستقلَّة عن كامي. واشتكَت فيما بعدُ من أنه فظٌّ فجٌّ ضيِّق الصدر معها. وتصوَّرت، تخمينًا، أن سبب ذلك أنه رجل صاحب نظرة بحر مُتوسِّطية إلى النساء، ورأى فيها امرأة غير جذَّابة ولا يَسَعه قَبُولها ندًّا ثقافيًّا له. ولم تكُن تعرف أن كامي قال في تعليق له عنها إلى آرثر كويستلر: «تخيَّل ماذا عساها تقول بعد ذلك وهي على الوسادة! يا لهول مثل هذه المرأة المثقَّفة الثرثارة، إنها شيء غير محتمَل.» ولكن ظلَّ كامي وبوفوار يتبادلان الآراء حول كثير من القضايا، أحيانًا في حضور سارتر وأحيانًا وحدهما. وبعد هذا بفترة، وبينما كانا يجلسان معًا ذاتَ ليلة باح لها بما سبَّبَته له حياةُ الحب من ألم مُبرح لا يُطاق.

تُعتبَر مذكرات بوفوار عملًا قيِّمًا للغاية لكنه مُنحاز حتمًا، بسبب أنها طرف، وكذا ما أصابها من خذلان. حكمت مذكراتها أهدافٌ ثلاثة هيمَنت على القسط الأكبر من حياتها: الحفاظ على علاقتها مع سارتر، أن تُقدِّم صورة إيجابية عن حياتها، وأن تحمي سارتر. وقدَّمت لنا مذكراتُها حتى عهدٍ قريب الكثيرَ مما نعرفه عن علاقة كامي-سارتر؛ ومن ثم يتعيَّن علينا، لهذا السبب، أن نُصغي السمع إليها جيدًا، ولكن يتعيَّن علينا أيضًا، كلَّما تيسَّر لنا هذا، أن نُقارِن مذكراتها بما قالته وكتبَته هي في مواضع أخرى، أو مقارنتها بشهادات الآخرين.

وحريٌّ بنا، عند عرض هذه الأيام الباكرة، أن نُضيف على الأقل خيطَين رئيسيَّين إلى ما رأته بوفوار ملائمًا لمذكراتها. أولًا: كان سارتر منجذبًا بقوَّة نحو الشاب الأنيق، وكان دور كامي في حياة سارتر وبوفوار آنَذاك دورًا مَهُولًا وعظيم الشأن. إنه بدا، علاوةً على فحولته المتصوَّرة، واقعيًّا ملتزمًا، لكن به نقاط ضَعف مُستهدَفة، وترجع نقاط ضَعفه جزئيًّا إلى مرض السلِّ المتحكِّم في حياته اليومية — كان يسعل ويُفرز دمًا، وبدا منهَكًا في أغلب الأحيان وبحاجةٍ إلى علاج وإلى راحة — وتقرَّر عدم صلاحيته لشغل مهنة التعليم أو للخدمة العسكرية، ولكن لا يَغيب مع كل هذه المحاوَلات والظروف الذليلة خطرُ الموت مبكرًا. بيْدَ أنه لم يكشف عن خوفه هذا لأصدقائه الجُدد؛ إذ عمد كامي حين يكون بصُحبتهم إلى الاستسلام للسخرية ولنظرات الأسى، وليس إلى كشف كوامن النفس والبَوْح بما أخفاه بين جوانحه.

وفي فترة تالية من الحياة، وبعد أن انصرف الاثنان عنه، أفصحَت بوفوار عن عدد من الأمور تضع قصتها موضعَ شك؛ إذ حدَث في مُنتصَف العام ١٩٤٣م أن نما إلى سمعها مُصادَفةً حديثُ بعض الناس وهم يَعقِدون مقارَنةً بين الكاتبَين الجديدَين الشَّهيرَين. وصرَّحت بعد هذا بفترة طويلة بأنها ترى كامي المنافِس الأدبي لسارتر، أحدهما له وهج وإبهار؛ بحيث تخشى أن يحجب بظلِّه من عليائه العبقري القصير القبيح. ووصفت نفسها أيضًا وكامي بأنهما كانا في الأيام الباكرة في وضع التنافُس على سارتر: «كنا أشبه بكلبَين يتناوَبان قطعةَ عظم، قطعة العظم هي سارتر، وكِلانا يُريدها.» وصرَّحت بوفوار وهي في سنِّ الشيخوخة بأنها خافت من إقبال سارتر بقوَّة على كامي عندما التقيا لأول مرة؛ إذ تحدَّث عنه بلغة ربما كان أولى به أن يتحدَّث بها عن امرأة يلاحِقها. ونظرًا لأنَّ سارتر هو «أقوى مَن عرَفَته بوفوار مُتمتِّعًا بجنسية غيرية»، وليس لديه أيُّ ميل مهما كان واهنًا إلى الجنسية المِثلية؛ فقد استشعرت قلقًا وضِيقًا بسبب «افتتانه» بكامي.

قسمة أخرى من الجدير ذِكرها في شأن علاقة الرجلَين؛ وهي أن كامي يصغر سارتر بثماني سنوات، وإذ قدَّمه إلى عالَم الثقافة والفِكر في باريس حرص كامي على تأكيد استقلاله عن سارتر وبوفوار، وأن يشقَّ طريقه في الحياة مستقلًّا تمامًا بنفسه. ونعرف أن سارتر وبوفوار منذ مُنتصَف الثلاثينات جذبا العديدَ من الشباب الموهوب، ذكورًا وإناثًا، ممَّن كانوا طلابًا لهما في السابق عادةً، وتشكَّلت من هؤلاء ما سُمي «العائلة»، التي ارتبط الاثنان بها ليس فقط عاطفيًّا، بل وأيضًا فلسفيًّا وسياسيًّا، علاوةً على دعم هؤلاء الشباب ماليًّا. وطبيعي جدًّا أن تراءى لهما أن هذا الشاب الوافد سيُصبح آخِر كوكب في فلك عائلة سارتر-بوفوار. لكن كامي على النقيض، آثَر الاستقلال إلى حدِّ أنه كان يُستثار غاضبًا كلَّما ربَط أحدٌ صراحةً بينه وبين سارتر. وبعد هذا بثلاثين عامًا، وبينما تتذكَّر بوفوار تلك الأيام مع سارتر، قالت له: «أحسب أنه كان يُستثار غاضبًا إلى أقصى الحدود إذا ما ظنَّ الناسُ أنه أحد تلاميذك بدرجةٍ أو بأخرى، نظرًا إلى أنه لا يزال شابًّا وأنك أكثر شُهرةً.» ومن ثمَّ لا غرابةَ في أن كامي، كما سوف نرى، حرص كلَّ الحرص بعد التحرير أن يميِّز نفسَه عن «الوجودية».

والجدير ذكره أن الشيء الذي أغفلته الصورة التي قدَّمتها بوفوار هو أن المفكِّرين الكبيرين لم يتحدَّثا سويًّا عن الأفكار، ولكنَّهما تحدَّثا يقينًا عن النساء، وأن من المُحتمَل أن حديثهما لم يتطرَّق إلى ماريا كاساريس التي ستُصبح الحبَّ الكبير في حياة كامي، والمرأة الوحيدة التي يُمكِن القول بمعنًى من المعاني أنه ظلَّ وفيًّا مخلصًا لها. كذلك لم يتحدَّثا معًا عن بوفوار؛ وذلك لأسباب واضحة، نعرف أن سارتر وبوفوار صاغا نظريتهما عن علاقتهما في صورها المتنوعة باعتبارها «حبًّا مشروطًا»، ظل ثانويًّا بالنسبة إلى حبِّ كلَيهما «الضروري» للآخر. وظلَّ كامي إلى الأبد ممزَّقًا بين ماريا وزوجته فرنسين، علاوةً على تورُّطه مع أخريات لا حصْرَ لهنَّ. وعجَز لهذا عن حسم الإحباط المحوري في حياته. ونعرف أن كلًّا من الرجلَين استنفد القسط الأكبر من طاقته لغواية النساء والتغلُّب على تعقيدات علاقات لا نهائية، أصبحت بالقطع موضوعًا للحديث بين الرجلَين.

هل كانا مُتنافسَين؟ رأينا كيف أن لقاءاتهما الأولى مع كتاباتِ كلٍّ منهما هيَّأت لكلٍّ منهما مجالات للمنافسة. بيْدَ أن عروض كامي لكتب سارتر، حتى وإن كانت نقدية، إلا أنها لم تكشف أبدًا عن إشارة تُفيد مشاعر المنافسة. ونعرف أن سارتر حين قدَّم تحليلًا لرواية «الغريب» وقارَن بينها وبين «أسطورة سيزيف» — وهو موقف يرقى إلى مستوى المنافَسة — لم يعترض كامي، وسلَّم بأنه هو وسارتر يتمتَّعان بقُدرتَين مختلفتين. وعمد سارتر من جانبه إلى موقف كريم، ودمج كامي ضمن هيئة الأدب الفرنسي، بيْدَ أن مراقَبة تصرُّفات الآخرين هي عمل مَن يصل أولًا؛ إذ له السبق وهو الزميل الأقدم مرتبةً. واستعان سارتر بسبقه وأقدميَّته كفيلسوف لينتقد كامي بعنف. ولكن سارتر سرَّه أن دعاه كامي للانضمام إلى فريق المحلَّفين لتقييم السعر الجديد الذي حدَّدته دار جاليمار للنشر لكتاب «الثري» La Pléiade؛ هذا على الرغم من أنَّ بوفوار حين تحدَّثت عن هذا بعد أربعين عامًا استشعرت الغضب؛ إذ ليس لأحدٍ مثل كامي أن يكون هو الشخص الذي يطلب شيئًا «من كاتب متميز» مثل سارتر.

وتحدَّثت بوفوار بعد ذلك بفترة عن أن سارتر كان «غَيُورًا بعض الشيء» من كامي، ولكن ليس باعتباره كاتبًا؛ إذ إن نظرات كامي الوسيمة هيَّأت له ميزة «يستاء منها سارتر». وذكَر سارتر فيما بعدُ علاقةَ كامي بعضو «العائلة»، واندا كوزاكيوفكس، باعتبارها واحدًا من بين تصرُّفاتٍ أربعٍ أو خمسٍ صدرت عن كامي، وكانت سببًا فيما طرأ على الصداقة من مرارة. ونعرف أنه خلال الأشهُر الأولى من عمر الصداقة، وفي شتاء العام ١٩٤٤م، كتب سارتر إلى بوفوار التي كانت في عطلة: «ما الذي كانت تفكر فيه واندا ويُحفِّزها إلى ملاحَقة كامي؟ ما الذي تُريده منه؟ ألم أكُن أنا أفضلَ لها منه، وأكثر كياسةً وتهذيبًا؟ حريٌّ بها أن تلزم الحذر.» وذكَر سارتر فيما بعدُ أن مِن أهمِّ أسباب القطيعة «قصة معقَّدة» أفسدَت على كامي راحة البال، وهي قصة وقعت أحداثها بينه وبين امرأة غير معروف اسمها في حياة كامي.

وعلى الرغم من أن كلًّا منهما استهلَّ العلاقة بتقييم الآخَر، فإن العلاقة الفلسفية-الأدبية التي تربط بينهما، والجاذبية الشخصية، استبَقَت المنافسة بين الباحث العصامي والعبقري المتميز. وطبيعي أنه بعد أن أصبحا صديقَين خلال العامين ١٩٤٣-١٩٤٤م حالَت الفوارق الواضحة تمامًا بينهما دون الصدام. والجدير ذِكره أن سارتر، بينما كان ثمِلًا ذاتَ يوم، قال موجِّهًا الحديث إلى كامي: «أنا أذكى منك، هه؟ أذكى منك.» ووافَقه كامي. ورأى كامي في يوم آخَر سارتر يودِّع فتاة جميلة، وسأله: «ما الذي يوقِعك في مثل هذه المشكلة الكبيرة؟» أجاب سارتر: «هل تطلَّعت إلى وجهي؟»

•••

تمتَّع سارتر بمكانة اجتماعية أقوى كثيرًا من كامي، وتنامت شهرته قبل أن يلتقيا. وتُمثِّل مناقَشته لكتابات كامي الأولى خطوةً مهمَّة في حياة كامي. وكان سارتر أسبقَ بمراحل في مضمار الكتابة والأفكار، ويتمتَّع بوضع ميسور في عالم الأدب والثقافة في باريس، وكذلك في مشروعه المرتكِز على الثقة الكاملة بالنفس لتأكيد عظَمته، وإذا كان سارتر في مقاله عن كامي أثبَت مدى قُدرته على التحرُّك في يُسر وسهولة وسطَ الأسماء العظيمة، فإن كامي قدَّم شيئًا ما، رآه سارتر أهمَّ من العضوية بين محفل الكتَّاب؛ إذ كانت هناك حرب مندلِعة واحتلال ومقاوَمة. واحتاج سارتر إلى وقت طويل لكي ينخرط في العالم؛ إذ بقي هو وبوفوار عازفَين عن السياسة طول عقد الثلاثينيات المضطرب، ومُقتنِعَين بمراقَبة الأحداث من دون الانغماس فيها خلال التظاهرة الكبرى للجبهة الوطنية في ٤ يوليو ١٩٣٥م، رافِضَين التصويت في الانتخابات التي يُمكِن أن تدفع بالجبهة إلى السلطة. ونعرف أن سارتر في أولى كتاباته المنشورة صوَّر الحرية والتلقائية باعتبارهما أمرَين لا علاقةَ لهما بعالَم الواقع. والجدير ذِكره هنا أن شخصية ماثيو في روايته «الطريق إلى الحرية»، كانت تتمتَّع بحرية العمل، بيْدَ أن حريته غير ذات نفع، وعبَّر عن هذا في ذُروة الموقف في «الوجود والعدم» بقوله: «الإنسان انفعال غير ذي جدوى.» إذ كان سارتر غريبًا عن العمل الاجتماعي النَّشِط والواقعي.

هذا بينما كان كامي، على النقيض، طبيعيًّا تمامًا، ظاهره مثل باطنه، قادرًا على الالتزام ومواجَهة الأخطار في عالم الواقع. وانخرط بشكلٍ حادٍّ في إحدى حركات المقاوَمة الرئيسية بعد أن بدأت صداقتهما بفترة وجيزة. وقالت بوفوار في هذا الصدد: «إنه مثلنا، انتقل من الفردانية إلى الموقف الملتزم. وعلى الرغم من أنه لم يذكر الحقيقة أبدًا، فإننا عرفنا أن عليه التزامات مهمَّة ومسئولة في حركة «كومبا».» وعبارة «كان مثلنا» زائفة؛ إذ كان كامي يَسبق سارتر بمسافة جبَّارة. وسوف نرى أن الاحتلال والمقاوَمة والتحرير أثَّرت بشكل حاسم في كلَيهما، وأضافت بُعدًا سياسيًّا إلى جاذبَيتهما الشخصية وإلى الرابطة الأدبية-الفلسفية التي تجمع بينهما. لكن السياسة سوف تفرِّق بينهما فقط في العام ١٩٥٢م بعد أن جمعت بينهما في العام ١٩٤٤م.

١  من أسطورة إغريقية عن أن أريادن ابنة مينوس وباسيفاي أعطت تيسيوس الخيطَ الذي استعان به للوصول إلى بيت تيه مينوتور، والمقصود الرباط الذي يربط منظومةَ فكرٍ متَّسقة وتُعِين الباحثَ على الوصول إلى الحقيقة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥