لا مَفر
«إنني أومِن بالعدالة، ولكنَّني سأدافع عن أمي قبل دفاعي عن العدالة».
شقَّ كلٌّ من سارتر وكامي طريقَه متجاوزًا آثار القطيعة بينهما، وعاد كلٌّ إلى نفسه كاملًا، وانتقد كلٌّ منهما الغزو السوفييتي للمجر، كما خفَّت حدَّة أسوأ التوتُّرات التي شهدتها الحرب الباردة. وتخيَّلت بوفوار عقدَ مُصالحة خيالية بين الصديقَين السابقَين، تمامًا مثلما أصبح هنري صِهرًا لآن وروبرت. ولكي نكون أكثر واقعيةً نقول إن سارتر وميرلو-بونتي لم يكونا أبدًا قريبَين جدًّا أحدهما من الآخَر شأن سارتر وكامي، لكنهما تباعَدا بسبب «الغلو البلشفي» عند سارتر، ووجدا نفسَيهما في مارس ١٩٥٦م على طاولة المتحدِّثين في مؤتمر في فينيسيا يرأسه أغناتسيو سيلون. وأدرك سارتر إلى أيِّ مدًى لا يزال هناك ما يجمع بينه وبين زميل الدراسة القديم، وبدأ سارتر محاوَلةً لإعادة الارتباط بينهما، وظلت هذه المحاوَلة متَّصلة إلى حين وفاة ميرلو-بونتي العام ١٩٦١م. أوَلَيَس لنا أن نتصوَّر أن سارتر وكامي اللذين يحتفظان بعلاقتهما مع دار غاليمار، ولا يزالان يَسكُنان الحيَّ اللاتيني في باريس، يمكِن أن يلتقيا مصادَفةً ويقدِّم كلٌّ إلى الآخَر تحية على حياء، وأن يُلاحِق هذا أو ذاك الآخَرَ بمذكرة؟
إن مذكرة روبرت إلى هنري في «الماندارين» توضِّح بعضًا من القضايا الشخصية التي كان يتعيَّن بحثها. «قرأت توًّا رسالةَ وداعِك إلى صحيفة «لسبوار». إنه لَعبثٌ حقًّا أن يُؤدي موقفنا فقط إلى تفاقم ما بيننا من اختلافات، بينما أمور كثيرة تدفعنا إلى أن نتلاقى. أمَّا عن نفسي فأنا لا أزال صديقك.» وهنا تقتبس بوفوار بجرأةٍ من رسالة سارتر عن القطيعة لتبتكر إيماءةَ روبرت من أجل المصالَحة، وتغيِّر الفعلَ الماضي (دفع) إلى فعل مضارع (تدفع). ولا بدَّ من أن هذا أثار ثائرة كامي. لقد تحمَّل هجوم جينسون على فكره وحكمته السياسية، كما تحمَّل دور سارتر في تمزيق شخصيته في أواخر العام ١٩٥٤م. وتعامَلَت بوفوار مع التزامه السياسي وحياته الشخصية كمادة تعود عليها بالفائدة. وحيث إنه يعيش في مأزق التوقف عن الكتابة، فقد خلص إلى نتيجة، وهي أن سارتر ورفيقته قد يستخدمان أيَّ شيء ضدَّه بما في ذلك عواطف سارتر السابقة نحوه.
وصارع كامي بحلول العام ١٩٥٦م للعودة إلى سِيرته الأولى، بيْدَ أنه لن يغفر لسارتر ما اقترفه ضدَّه شخصيًّا. وبدأ في العام ١٩٥٥م يشعر أكثر بالثقة بنفسه. وتحدَّث كامي علانيةً عن غدر سارتر. ونجد في رواية «السقوط» أن البُعدَ السارتري الذي يُجسِّده كليمنصو يوجِز سوء الطوية، وإن ما هو أسوأ أن كليمنصو يسعى ليُوقِع الآخَرين في شرَك ويعذِّبهم. إنه التجسيد العصري للشيطان. وعلى الرغم من مزج عناصر شخصيتَي سارتر وكامي في شخصية كليمنصو، أصبح سارتر بالنسبة إلى كامي الشخصَ الذي يكنُّ له أعظم الكُره، والصورة السلبية لإحساس كامي بنفسه — إنه الآخَر بالنسبة إليه.
وعلى الرغم من أن الاختلافات بينهما كانت تجعل أحدهما يُكمِل الآخَر، فإنهما منذ القطيعة أصبح كلٌّ منهما يضع الآخَر في صورة المثال الذي لم يَختَرْه لنفسه. ودان كامي سارتر نصف المختلق ونصف الواقعي: مُوالٍ للسوفييت، عنيف، منافِق، مفكِّر نظري تجريدي، يهاب الموت، سطحي في استخدام الكلمات والمفاهيم، مفتون بهيغل وماركس والتاريخ كقوة غيبية، عازف عن المخاطَرة، يلوم الآخَرين ليُخفي آثامَه هو، غادر، يُطلِق هُراءً عن الحرية بينما يُجِيز القهر، بُرْجوازي، باريسي، صاحب امتيازات. وأقام كامي ذاتًا شخصية وأخلاقية وسياسية حول معارَضته للأشخاص الذين يشتركون في هذه السمات: «المثقَّفين اليساريين»، أو «الوجوديين». لقد ظهر استقطاب الحرب الباردة قرين استقطابات شخصية. ولكن ما أن بدأت الحرب الباردة في الذوبان، حتى ظهر نزاع جديد فرَض نفسه؛ وهو الحرب الجزائرية.
•••
وخلال العام ١٩٥٦م تزايَد عدد رجال المقاوَمة في جبهة التحرير الوطنية من حوالي ٦ آلاف إلى ٢٠ ألف مقاتِل، بينما زادت القوات الفرنسية في الجزائر من ١٨٠ ألفًا إلى ٤٠٠ ألف. خلق هذا حاجة مُلِحَّة هي التوقف عن مواجَهة الموقف بمزيد من جنود الاحتياط؛ وبذا أصبح جنودُ الجيش العاملون ضرورة. وبدأت مرحلة جديدة في حرب الجزائر مع نهاية شهر سبتمبر، وبعد أن قصَف مقاتِلو جبهة التحرير بالقنابل ميلك-بار والكافيتريا. وبدأ الثوار يتَّجهون إلى مهاجَمة المدنيين، وكان الردُّ الفرنسي هو التعذيب والإرهاب — وهو تمامًا ما حاوَل كامي تفاديه. وكانت السلطات الفرنسية العسكرية لا تزال تحاول خلقَ منطقةٍ وسطى بينهم وبين جبهة التحرير، وأن تشغلها بجزائريين مقبولين من الطرفَين. ولكن على الرغم من هذا كانت القوة الغَشُوم هي الوسيلة الاستعمارية التقليدية للهيمنة على الموقف، وهكذا حوَّلوا وبشكل حتمي المواطنين ضدَّهم. وحدث في أكتوبر أن اعترض الجيش طائرةً مغربية في الجو في طريقها إلى تونس وعلى متنها أحمد بن بيلا وآخَرون من قادة جبهة التحرير، وسجنَتهم السلطات في سجون فرنسا طوال فترة الصراع. وبدَت هذه الضربة العسكرية الرائعة بمنزلة كارثة سياسية؛ إذ قضَت على الأمل في الوصول إلى حلٍّ عن طريق التفاوض. علاوة على هذا، أن الجزائريين الذين لا يزالون يُحاوِلون شغلَ الساحة الوسطى أو العمل مستقلِّين وُوجِهوا بهجوم من جبهة التحرير بلغ أقصى درجات القسوة، في مذبحة راح ضحيتها مئات من أعضاء جيش تحرير منافس في ميلوزا العام ١٩٥٧م. وهكذا تحوَّلت رؤية كامي في شأن عقد مصالَحة بين أكفاء تحت العلم الفرنسي إلى رؤية خيالية. وتبدَّدَت قبل أن تتبدَّد رؤية سارتر إما/أو: العنف الاستعماري الفرنسي لن ينتهي إلا بعنف من جانب جبهة التحرير الوطنية.
وبحلول سبتمبر ١٩٥٧م كسب التعذيب والإرهاب الفرنسيان المدعومان بالتفوق التقني والعددي معركةَ الجزائر. واستطاع ما سُمِّي «خط مورس»، الممتد على الحدود مع تونس، أن يغلِق الحدود الجزائرية تمامًا في وجه قوات الثوار المتنامية القابعين على الجانب الآخَر من السور المكهرَب. وإذ كسب الفرنسيون المعركة عسكريًّا، فقد خسروها سياسيًّا؛ ذلك لأن جبهة التحرير بفضل قيادتها المنظَّمة بانضباط وتوجُّهها الثوري الصارم انعقدَت لها الهيمنة بين صفوف الجزائريين، وحظيت باعتراف دولي. وبدأت الحرب في هذه الأثناء تفقد التأييدَ داخل فرنسا، بعد أن بات واضحًا أن الشجاعة العسكرية لم تهزم جبهةَ التحرير الوطنية. وفي فبراير ١٩٥٧م أعلَن موريس توريز زعيمُ الحزب الشيوعي الفرنسي، ولأول مرة، كلمةً مصيرية هي الاستقلال. كذلك في صيف هذا العام أصدَر ريمون آرون، المفكِّر الرسمي الرائد في فرنسا، كُتَيِّبًا يضم مقالاته في الصحيفة المحافِظة «لو فيغارو»، التي يدعو فيها إلى استقلال الجزائر باعتبار هذا هو النَّهج الواقعي الوحيد. وهنا بدأ المليون فرنسي جزائري الذين ترتهن هُوِيَّتهم بأسطورة قومية اسمها «الجزائر فرنسية»، ومعهم العسكريون المحيطون الذين مُنوا بالهزائم المتوالية خلال القرن العشرين؛ بدأ هؤلاء وهؤلاء يخشَون الخيانة من جانب اليسار والمثقَّفين والسياسيين الجبناء في باريس؛ ومن ثَمَّ شرع هؤلاء في تدبير مؤامَرة، وتمخَّض هذا عن مشروع يهدف إلى الإطاحة بالجمهورية الرابعة وإعادة شارل ديغول إلى السلطة: إنه هو الذي سينقذ «الجزائر الفرنسية» بتكسير القيود التي عاقت الآلة العسكرية.
•••
هنا حانت لحظة تاريخية، وقتما بدا أن القدَر هيَّأ لسارتر وكامي أن يلعبا دورَين رئيسيَّين مع بقاءِ كلٍّ منهما في نطاق بصر الآخَر. وكما سبَق أن رأينا، فإن أول تعليق عام لسارتر عن الجزائر في يناير العام ١٩٥٦م، كان بمنزلةِ ردِّ نقطة بنقطة على «مُفكِّر واقعي صاحب قلب رقيق». ودان كامي خلال هذا الشهر نفسِه المثقَّفين الذين وقَّعوا التماسًا إلى سوستيل احتجاجًا على الحرب. وانتقد في رسالة إلى صديقه جان دانييل، «العيش الدموي» في هذه الرؤية عن أمَّة جزائرية محتلَّة تحاول تحريرَ نفسها من المحتَل؛ ومن ثَمَّ لها الحقُّ في استخدام كل الوسائل الممكِنة للحصول على حريتها، حتى وإن اقتصَّت من غير المسلمين. وكان سارتر واحدًا من بين مئات الموقِّعين.
وبلغ سارتر الآن أوجَ شهرته من حيث قيادته لصحيفة كبرى، ونزعته الراديكالية، وكلمته المدوية. والجدير ذِكره أن مجلة «الأزمنة الحديثة» بعد أن استهلَّت العامَ بأعدادٍ خاصة عن المجر وبولندا، نشرَت عشر مقالات عن الاستعمار والجزائر على مدى الشهور العشرة التالية. وطلبت صحيفة «لوموند» من سارتر في ربيع ١٩٥٧م التعقيبَ على كراسةٍ وصَف فيها جنودَ الاحتياط العائدين إلى الوطن من الجزائر وعمليات التعذيب والإعدامات بعد محاكَمات صورية وقتل المدنيين. ورفضت الصحيفة مقالَ سارتر لأنه شديد العنف؛ ومن ثَمَّ نشره هو في «الأزمنة الحديثة»، ثم قدَّمه في اجتماعٍ انعقد في يونيو، وتحدَّث فيه عن «المسئولية غير المسئولة» لأيِّ شخص تحاشى إدانة جرائم الجيش: «ها هو البرهان، ها هو الرعب، وها نحن: ليس بوسعنا أن نراه من دون أن ننتزعه خارج أنفُسنا ونسحقه.»
ولم يؤدِّ نجاح رواية «السقوط» إلى أن يُغيِّر كامي قراره بشأن التزام الصمت إزاء الجزائر. وأكثر من هذا أن الكشف عن عمليات التعذيب لم يُغيِّر من تفكيره. وعلى الرغم من مُضيِّ واحد وعشرين شهرًا منذ انعقاد مؤتمر الجزائر، لم يتكلَّم كامي إلا مرةً واحدة حينما واجَه انتقادًا في صحيفة «أنكاونتر» بسبب صمته إزاء الجزائر بينما دان الغزو السوفييتي للمجر. وتحدَّث في ردِّه عن سجله، وأعلن ضرورة إنهاء الاستعمار وإنشاء اتحاد كونفدرالي على غرار أسلوب سويسرا الذي يمنح جميع المجتمعات المحلية درجةً عالية من الاستقلال الذاتي.
والجدير ذِكره أن زميلًا لكامي من شمال أفريقيا يُدعى ألبرت ميمي كان قد كتب أول رواية له تحت عنوان «أعمدة الملح»، وتفضَّل عليه كامي وكتَب له مقدمة، هذا الزميل استحدَث مصطلحًا جديدًا يفسِّر نوع الصمت الذي يلزمه كامي، وقال: «مستعمر حسَن النية». كان ميمي قد اتَّفق في الرأي مع كامي في أثناء نزاعه مع سارتر، ولكن الآن، في أبريل ١٩٥٧م، نرى مجلة «الأزمنة الحديثة» تَعرض الفصلَين الأوَّلَين من كتابٍ له على وشك الصدور بعنوان «المُستعمِر والمُستعمَر». وذهب ميمي إلى أن «المستوطِن المنتمي إلى الجناح اليساري يتعاطف مع ورطة المستعمَر، ولكنه عاجز أصلًا عن دعم نضاله من دون الهجوم على وجوده هو ووجود طائفته. إن هناك، في اعتقادي، مواقف تاريخية مستحيلة، وهذا أحدها». إن المستعمِر إذ بات عاجزًا عن تصوُّر نهاية لشعبه، وعاجزًا عن التماهي بشكل كامل مع المستعمِر، فإنه، وانطلاقًا من نيته الحسَنة، يكاد يشعر بالعنة السياسية ويدرك شيئًا فشيئًا «أن الشيء الوحيد الذي يمكِنه أن يفعله هو أن يبقى صامتًا.» وظهر كتاب ميمي في فترة متأخرة من هذا العام تتصدَّره مقدمة بقلم سارتر. ونشر ميمي في ديسمبر مقالًا قصيرًا بعنوان «كامي، أو المستعمِر الحسَن النية». هنا، وبقدر كبير من التعاطف، أوضَح الحلقة الرابطة. «إن عجز كامي عن التحدث عن شمال أفريقيا لأنه وافد من هناك تجلَّى صمتًا؛ ذلك لأن كل ما يمسُّ شمال أفريقيا يُصِيبه بالشلل.» عجز كامي عن التعالي فوق قبيلته، وبقي على المستوى العالمي. «وهذا في الحقيقة موقف كامي؛ إذ تأكَّد له أنه سيصبح هدفًا للشك من جانب المستعمِرين، وازدراء يسار فرنسا الدولة (المتروبوليتان) الأم، ثم غضب شعبه هو».
وبينما كان الفرنسيون يقرءون هذا المقال في فرنسا، كان «المستعمِر الحسَن النية» في استوكهولم لتسلُّم جائزة نوبل. وطلب منه البعض التعليقَ الآن على جميع الموضوعات المطروحة، وهنا كسر كامي حاجز الصمت إزاء الجزائر. والتقى كامي في ١١ ديسمبر، وهو اليوم التالي لتسلُّم الجائزة، بعدد من طلاب جامعة استوكهولم، وأثار موضوع الجزائر، وهنا ساد القاعةَ توتُّر مفاجئ؛ إذ أمطَره طالب شاب جزائري بالانتقادات، وقاطَعه مرارًا. غضب كامي، وطالَب بالسماح له باستكمال أفكاره، وأكَّد أنه عمل دائمًا من أجل «جزائر عادلة يعيش فيها الشعبان في سلام وتكافؤ». وأشار إلى أنَّ الطالب الذي استأسد عليه له من دون شكٍّ زملاءُ هم الآن على قيد الحياة بفضلِ تدخُّله. ثم ما لبث أن صدم جمهور مستمِعيه: «أدنتُ دائمًا وأبدًا الإرهاب. ويجب أن أدين أيضًا الإرهاب العشوائي في شوارع الجزائر — على سبيل المثال — الذي يمكِن في يومٍ ما أن يضرب أمي أو أسرتي. إنني أومِن بالعدالة، ولكنني سأدافع عن أمي قبل دفاعي عن العدالة.»
وأثارت أمانة كامي على الفور هزَّة في المشاعر في فرنسا، وعاد ليؤكِّد كلماته في رسالة إلى صحيفة «لوموند». أمُّه قبل العدالة: شجاعته في عرض ما يحسُّ بأنه الاختيار الواقعي دون أن يقترن عرضه بأي فهمٍ لأسباب الهجمات التي تأتيه من كل الجهات. إنه يلومهم هم بدلًا من أن يفكِّر في الكيفية التي ستبدو فيها الأمور في نظرِ مَن لم يُواجِهوا اختيارَه هو. وليس الأمر قاصرًا على الجزائريِّين الذين يكافحون من أجل قضيتهم هم، على الرغم من أشد الأيام هولًا وصعوبةً. وأعلن كامي في رسالته إلى «لوموند» أنه شعر أنه أقرب إلى الطالب الجزائري الذي أزعجه «من كثيرين من الفرنسيين الذين يتحدَّثون عن الجزائر من دون أن يعرفوها».
ولم يكفَّ سارتر عن كونه هدفًا يرصده كامي، ودخل كامي في جدال مع سارتر بشأن خطابه لدى جامعة أوبسالا، وذلك بعد أربعة أيام من تسلُّمه جائزة نوبل، وأعرب عن شكواه أول الأمر من أن «كُتَّاب اليوم» يتلقَّون الهجمات لأنهم لا يتحدَّثون بصوت مسموع وجَسُور عن القضايا السياسية، ثم يُهاجَمون ثانيةً عندما يتحدَّثون بجُرأة. وكان كامي يستهدف فكرة سارتر عن الالتزام، وعاد ليؤكِّد بقوةٍ انتقادَه القديم، ولكن هذه المرةَ مع التأكيد على أن نظرية الأدب الملتزِم حطَّمَت حرية الكاتب بمطالَبته بالانغماس السياسي: «يبدو لي أن عبارة «أداء الخدمة قسرًا» هي الأدق في هذا المضمار من مصطلح «الالتزام»؛ إذ بدلًا من التوقيع على خدمة طوعية، إذا بالفنان يؤدي خدمة قسرية. وهكذا نجد كل فنان اليومَ على متن مركب العبودية العصرية.»
وعلى الرغم من أن كامي حائز الآن جائزةَ نوبل، لكنه، فيما يبدو، يرى سارتر عقَبة على الطريق، وكأنه أحد آلهة الانتقام والعقاب عند الإغريق. وتجلَّى واضحًا أن تلميحاته عن سارتر ليست مقصورة على موضوع الالتزام، بل وأيضًا في عبارة مُعمَّاة مثل قوله: «انتهى عصر العبقري الجالس على كرسي التأمُّل النظري.» وتتمثَّل الفكرة الأساسية في خطاب كامي لدى جامعة أوبسالا في رفضه إصرارَ كاتب مجهَّل الاسم — إذ نستخلص فقط من ظاهر الكلام أنه سارتر — يرى أن الفنانين عليهم الالتزام سياسيًّا وبوسائل معيَّنة تحديدًا. وأكَّد كامي إحساس الفنان عنده من أن حريتهم بحكم طبيعتها ذاتها ستقودهم حتمًا إلى الانغماس في زمانهم «ويُبدِعون ما هو محفوف بالأخطار».
•••
«والمثير للجزع أن الفرنسيين يكتشفون هذه الحقيقة المروعة: إذا لم تملك أمَّة وسائلَها لحماية نفسها، فلن تحميها تقاليدها ولا ولاءاتها ولا شرائعها، وإذا كانت خمس عشرة سنة كافيةً لتحويل الضحايا إلى جلَّادين، فإن سلوكها ليس إلا مسألة فرصة ومناسبة؛ ومن ثَم فإن أيَّ إنسان، في أيِّ وقت، يمكِن أن يجد نفسَه، وعلى قدْرٍ مُتساوٍ، إمَّا ضحية وإمَّا جلادًا.»
لم يَنسَ سارتر المقالات التي أعقبَت مشهد كامي العنيف مع ميرلو-بونتي في حزب فيان، وأدَّى شجبه شديدُ اللهجة للتعذيب إلى مصادَرة السلطات مجلةَ اﻟ «إكسبريس» في ٦ مارس ١٩٥٨م. واشتهر المقال خلال الأسابيع التالية، حتى إنه صدر في صورة كراسة مستقلَّة، وصُودِرت الكراسة، ثم عادت إلى الظهور في صورة لفيفة لا يمكِن قراءتها إلا بعدسة مكبِّرة. ثم صدرت أخيرًا في سويسرا كمقدمة لطبعة ثانية من كتاب لمؤلِّفه أولليغ. ونشر سارتر أيضًا في مارس مقالًا يحتجُّ فيه على عقوبة الإعدام الموقعة على زوج وزوجة جزائريَّين بتهمة التواطؤ في عملية تخريبية.
استبدَّ الغضب بكامي في هذه الأثناء من سارتر وزملائه، وتحليل ميمي له والهجوم على صمته، ومن ثَم تهيَّأ للرد الأخير. واختار من كتاباته عن الجزائر عددًا من المقطوعات لكي تظهر في كتابٍ تحت عنوان «تقارير جزائرية». وقدَّم كامي في التصدير وفي الختام ردًّا عامًّا مدافعًا عن نفسه ضد منتقِديه، وشرح لماذا صمت بعد أن انخرط كثيرًا في مسألة الجزائر. وأكَّد بوضوحٍ طبيعةَ موقفه في شأن الموقف الراهن، وسوَّى حساباته في الوقت الذي برهن فيه على أنه ظلَّ طوال حياته ملتزمًا إزاء العرب الجزائريين، مبيِّنًا أن «صوته لو كان مسموعًا على نطاق أوسع منذ عشرين سنة مضَت لَمَا حدث سفكُ الدماء الذي نشهده اليوم». ثم أعلن نهاية الكلام.
«إذا رأى بعض الفرنسيين أن فرنسا نتيجةَ استعمارها لبلدٍ ما (وفرنسا وحدها دون بُلْدان كثيرة مقدَّسة مطهَّرة) وقعت في خطيئة تاريخية، فليس لهم الإشارة إلى الفرنسيين في الجزائر باعتبارهم كِباش فداء. «اذهب إلى حيث تريد ومت، فهذا هو ما تستحقه»، وإنما يجب أن يقدِّموا أنفُسَهم كفَّارة. ويبدو لي، في حدود اهتمامي، أن رفض الصراخ «أعترف بالذنب نادمًا»، كما يفعل «القضاة-التائبون» مع لطم صدرِ شخصٍ آخَر، عملٌ لا جدوى منه لإدانة قرون عديدة من التوسُّع الأوروبي.»
«حين تواجه أسرة المرء خطرَ الموت المباشِر، فإن المرء ربما يفضِّل البقاء داخل أسرته حيث يشعر بقدر أكبر من السخاء والإنصاف على نحوِ ما توضِّح هذه المقالات الآن. ولكن (مع التسليم بكل ذلك) لا يزال المرء يشعر بتضامن طبيعي مع الأسرة، على الرغم من هذا الخطر المُمِيت، ويَحْدوه الأمل على الأقل في أن تبقى على قيد الحياة؛ إذ ربما يكون بقاؤها فرصةً لإثبات نزاهتها. وإذا لم يكن هذا هو الشرف والعدالة حقًّا، فإنني إذن لا أعرف شيئًا ذا جدوى في كل هذا العالَم.»
كانت مقالتَي المقدمة والخاتمة جهودَ فرنسيٍّ جزائري لتحقيق العدالة لكلٍّ من المجتمعَين العربي والجزائري في الجزائر، عن طريق التشبُّث بحلٍّ وسط، على الرغم من اختفائه عن المشهد السياسي والفكري؛ وذلك بالحكم على عُنف الطرفَين بمعيار واحد، والتماس المساواة بين الشعبَين، ورفض عدالة للعرب ثم ظلم للفرنسيين. ولقد كانت نواياه جديرة بالتقدير، ولكن كامي رفض «الوطنية الجزائرية» باعتبارها مفهومًا نابعًا جملةً من «العاطفة وتولد عن نزعة ناصر عن القومية العربية، وسياسة روسيا التي تملك استراتيجية معادِية للغرب.» وعمد إلى تأكيد هذه الدعاوى الثائرة تأسيسًا بعضها على بعض: «لم يكُن هناك أبدًا بلدٌ جزائري.» ولكن ريمون آرون قال في ردِّه على كامي في كتابه (وهو الثاني عن الصراع الجزائري): «إن «لا واقعيَّتهم القومية تبدو لي واقعية بشكل مأساوي»، وسط مقاتلي جبهة التحرير. والجدير ذِكره أن آرون، الواقعي العظيم وغير المعروف عنه تأييد قضايا اليسار، ما فتئ يَدحَض كامي: هؤلاء المسلمون لم يكونوا أمَّة في الماضي، ولكن أصغر الشباب من ذويهم يريدون لأنفُسهم أمَّة. مَطلَب عاطفي؟ طبعًا، شأن جميع المطالب الثورية. ووُلِد هذا المَطلَب في حجر ثورة ضد الفقر وضد وضع استعماري». وأفضى تحليل آرون إلى نتيجة لا مَفرَّ منها: «الوطنية الجزائرية ليست أبعد عن الواقعية من مَطالب الفرنسي الجزائري التي يُؤكِّدها كامي». ثم استطرد آرون قائلًا، وقد استعار كلماته من ميمي: لقد كشف كامي نفسَه باعتباره «مُستعمِرًا حسَن النية»، وذلك بزعمه أنه يدعو إلى حلٍّ وسط، بينما يرفض في الوقت نفسه مشروعية القومية الجزائرية، وإصراره على «عدم التخلِّي عن حقوق الفرنسيين الجزائريِّين». وطبيعي أن كلَّ هذا جعل الحل الوسط الأصيل لا مجالَ للتفكير فيه.
ولكن لماذا كان الصمت ضروريًّا؟ السبب الحقيقي عند كامي يعود إلى أسرته، وإلى الإرهاب كما تجري ممارسته في الجزائر. خشيَ كامي من أن «بيان السلسلة الطويلة من الأخطاء الفرنسية يمكِن أن يكون عذرًا، دون أن أخاطِر بنفسي، لمُجرِم مجنون يُلقي قنبلة وسطَ حشدٍ بريء يضمُّ مِن بين مَن يضمُّ أسرتي». ويذكر كامي، بعد أن قال هذا، ملاحظتَه عن «أمي قبل العدالة»، ثم يفصل، سواء عمدًا أو لا، نفسَه عن نقَّاده، وذلك بأن يختم بكلمة تشير لا شعوريًّا إلى السِّجال الذي دار حول «الإنسان المتمرد»، وإلى الصفحات الأولى من رواية «السقوط»: «ولكن أولئك، وتعرفهم، لا يزالون يُفكِّرون بطريقة بطولية بأنَّ الأخ يجب عليه أن يموت دون مبادئه، فإني لن أمضي بعيدًا أكثر من مجرَّد الإعجاب بهم عن بُعد. إنني لستُ من جنسهم.»
لنَدَع الإشارة إلى الجنس جانبًا، ولكن ملاحظات كامي في حاجة إلى نظرة مدقِّقة عن كثب، أعقَبها حديثه عن «التضامن الطبيعي» مع أسرته التي تُواجِه خطرًا، والتزامه أولًا بضمان بقاء الأسرة قبل القلق على الإنصاف. ولكن كيف لشيءٍ كتَبه كامي أن يُمثِّل «عذرًا» لقاتِل من جبهة التحرير أو يشكِّل خطرًا على أسرته؟ نذكر أن كامي في مناقشته مع الطلاب في استوكهولم قال إن مداخَلاته ربما خاطَرَت «بتفاقم الإرهاب». وإذا حدث واضطرَّ إلى التعقيب علانيةً، فلربما كان سينتقِد ليس فقط سياسة الحكومة الفرنسية، كما فعل كثيرًا في الواقع، بل ربما سينتقد أيضًا ما هو أهم، وهو تصلُّب مجتمعه المحلِّي، وهو ما لم يذكره أبدًا صراحةً. وإذا سمع انتقاداته أعضاء «مجانين» من جبهة التحرير، فإنهم سيشعرون بمبرِّر لقتل المدنيين الفرنسيين. معنى هذا أن كامي إذا شاء حمايةَ مجتمعه من الخطر، فإن عليه تجنُّب ذِكر ما يدور في عقله.
ولكن التزام الكتمان لا يعني البقاءَ بعيدًا دونَ الانخراط في العمل. والجدير ذِكره أنه بعد أن تسلَّم كامي جائزة نوبل بات واضحًا أن الحرب أصبحَت شغله الشاغل، وتحدَّث إلى أصدقاء بشأنها، وكتب مذكرات عنها، وتأمَّل طويلًا أحداثها ومسارها. ونظَّم في مارس ١٩٥٨م لقاءً مع ديغول حاوَل فيه إقناعَه حال عودته إلى السلطة بأن الحل الوسط الذي اقترحه كامي هو الحل الأفضل، وفعل كلَّ ما يستطيع، بشكل خاص ومن وراء الكواليس، للتدخُّل لمصلحة عشرات الجزائريين المتَّهمين أو المُدانين من جانب السلطات الفرنسية. ووضع كامي الجزائر محورًا لروايته الجديدة «الإنسان الأول»، التي عرضَت صورة شاملة وكاملة عن تجربة الفرنسيين الجزائريين، ابتداءً من المستوطنين الأوائل حتى اندلاع الحرب، وتضمَّنت ذكرياتِ طفولةٍ جميلة لفرنسي جزائري فقير ولكنه موهوب مثلما روَت أساطير فرنسية جزائرية عن الطبقة العاملة، وعن مستوطنين اشتراكيين في الحقيقة يَبنون بلدَهم بأيديهم.
•••
وبينما كان كامي يُعِدُّ كتابه «تقارير جزائرية»، أُقِيمت المتاريس في كل أنحاء الجزائر، ودوَّت في الأجواء شعارات ثورية وشعارات مقاوَمة باسم النزعة الاستعمارية الآفِلة. والملاحَظ أن ديغول لم يُصِرَّ فقط على الصعود إلى السلطة بشكلٍ دستوري، بل إنه وبعد أن زار الجزائر، أدرك رويدًا رويدًا أن «الجزائر الفرنسية» لم تَعُد ممكِنة؛ ولذلك نراه في تردُّد وعلى مراحل، في العامَين ١٩٥٨م و١٩٥٩م عرَض ما عُرِف باسم «سلام الشجعان» على جبهة التحرير، ثم عرَض «حق تقرير المصير»، ثم بدَء مفاوَضات السلام، وُوجِه من اليمين بمزيدٍ مطَّرِد من المؤيِّدين المتطرِّفين لفكرة «الجزائر فرنسية»، خاصة بين ضباط الجيش والفرنسيين الجزائريين. لقد أتَوا به إلى السلطة، ولكن ما إن اشتمُّوا رائحةَ خيانة، حتى بدءوا في تدبير المؤامَرات ضد حياته. ووُوجِه من اليسار بسارتر بين مَن يقودون الهجوم، وسبَق أن عارَض بعضُهم صعودَ ديغول إلى السلطة ضِمن حركة صغيرة مناهِضة للحرب، وكذا الشيوعيون.
وبدا، مع انتصاف العام ١٩٥٩م، أن حُزن كامي على الجزائر بدأت تخفُّ وطأته؛ ذلك أنه في أكتوبر السابق، وبعد عشرين سنة من شعوره بالنَّفي خارج الجزائر مشرَّدًا بلا بيت في باريس، استثمر قيمةَ مكافأة جائزة نوبل، واستغرق بكل جوارحه في العمل من جديدٍ وكتابة «الإنسان الأول». ويبدو أنه روَّض نفسَه على فقدان أرض الوطن. وعلى الرغم من أن كامي في محاوَلة منه لاستعادة الماضي، احتفى بالجزائر الفرنسية في الرواية الجديدة، فإنه التزم بوعده بألَّا يقول المزيدَ عن الصراع.
•••
وبينما كان كامي عائدًا من لورمارين إلى باريس في ٤ يناير ١٩٦٠م، دهمته سيارة أودَت بحياته. كان في السادسة والأربعين من عمره، وكانت المخطوطة التي يكتبها داخل حقيبة جلدية سوداء داخل السيارة، وأذهَلَ موتُه باريس والجزائر والكثيرين في العالَم، ووصفَت بوفوار بعد ذلك إحساسَها الطاغي، عند سماعها النبأ، بالخسارة الفادحة، وهو الإحساس الذي غلب تدريجيًّا على قرارها بألَّا تجعل من موت كامي حدَثًا جسيمًا، إلى أن استطاعت أن تكفَّ عن التفكير فيه في صورة «مجرد إنسان من دون عدالة»، وإنما أصبح من جديد «رفيق سنواتنا الزاخرة بالأمل، صاحب الوجه المشرِق الضَّحُوك، يبتسم في سهولة ويُسر، الكاتب الشاب الطَّمُوح، نهم للاستمتاع بالحياة واستيعاب ملذَّاتها وانتصاراتها، والرفاقة والصداقة والحب والسعادة».
ونشرَت مجلة «فرانس أوبزرفاتور» يوم ٧ يناير كلمةَ سارتر في وداع كامي. والملاحَظ أنه منذ البداية تحدَّث بتهويل عن صمت كامي بشأن الجزائر مع احترامه لصراعاته، ولكن دونَ أن يعتبر ملاحظاته الأخيرة نهائيةً: «كان مهمًّا أن يخرج على صمته، وأن يُقرِّر، وأن يحسم». وافَته المنية قبل أن تُتاح له الفرصة. وجديرٌ بالملاحظة أن سارتر الآن يحشر نفسَه بين «جميع مَن أحبُّوا» كامي. ويتَّسق هذا مع ما ذهب إليه من أن عراكَهما كان مجرد «وسيلة أخرى للعيش معًا دون أن يغيب أحدهما عن بصر الآخَر في هذا العالم الصغير المُعطى لنا». وأصاب إذ قال: «لم تمنعني القطيعة من التفكير فيه.» ذلك لأننا عرفنا كيف أن الرجلَين واصَلا «العيش معًا» على مدى السنوات السبع التي مضَت منذ المعركة الفكرية.»
وتُمثِّل أقوى ذكريات سارتر عن كامي حضوره الأخلاقي الذي وجد لزامًا عليه إمَّا أن يتفاداه أو أن يُجارِيه. وجد كامي «هذا القرار الصارم الذي لا يهتزُّ؛ إذ على الرغم من قلة عدد مَن يقرءون أو يتأمَّلون، فإنهم يتصادمون مع القِيَم الإنسانية التي اعتاد أن يحتفظ بها داخلَ قبضة يده المُغلَقة. ووضَع الفعل السياسي موضع تساؤل». وهذه تقدمة تحمل معنيَين متناقضَين؛ إذ قال سارتر إنه وجد صمتَ كامي «حكمة بالغة، وأحيانًا صمتًا مؤلمًا». وأشار إلى أن كامي حارَب «ضد التاريخ»، لقد «أبى أن يُغادِر الأرضَ الثابتة للأخلاق، والالتزام بالدروب غير اليقينية للممارَسة العملية»، ولكن السلبي أصبح إيجابيًّا. «إن نزعته الإنسانية العَصيَّة المحدودة والنقية، الحازمة والحسية، خاضَت معركة مُريبة ضد أحداث هذه الأزمنة. ولكن على النقيض، فإنَّ صلابة رفضه أدَّت إلى التأكيد من جديدٍ على الواقع الأخلاقي داخل قلبِ حِقبتنا وضد الماكيافيلية وضد العجل الذهبي للنزعة الواقعية».
لم يشأ سارتر التسليمَ بأنه بالتزامه بما هو «عملي» مارَس هو نفسه عباداته أمام مَذبح الواقعية لأكثر من أربع سنوات، ثم ثاب وعاد إلى طريقه الخاص في ربط الأخلاق بالسياسة. ولقد عاد بعد سلسلة من الأحداث التي تضمَّنت قراءة رواية «السقوط»، التي وصَفها بقوله: «لعلها، على الرغم من كل شيء، الأجملُ والأقل فهمًا» من كتب كامي، ومن دون الصخب المعتاد الملازِم لتغيُّراته. وسبَق له أن ألمح إلى أنه في طريقه، الذي لم يَعُد على النقيض تمامًا لطريق كامي، بدأ هو الآخَر خوضَ معركةٍ مع الواقعية، واعترف بأهمية كامي كواحد من «القوى الرئيسية في مجالنا الثقافي»، وكمُفكِّر صاغ أُطر المسائل والقضايا للآخرين، «رجل عاش مع أو ضد فكره … ولكن دائمًا من خلاله».
وفي فترة مُتأخرة من هذا الشهر، هبَّ الفرنسيون الجزائريون ثانيةً في ثورة بدأت تعتمِل نيرانُها بعد أن واجَه ديغول المتآمِرين بجرأة وتصميم. واتخذت الحكومة إجراءات قانونية ضد جينسون والشبكة التي تعمل معه. ولكن سارتر المتمرِّد مع غيره من المشاهير وقَّعوا «بيان-مانيفستو-اﻟ ۱۲۱»، يُحرِّضون فيه جنود الجيش العاملين على ترك الخدمة. وشرعت الحكومة أيضًا في اتخاذ إجراءات قانونية ضد الموقِّعين على النداء، وأصبحت العملية كلها قضيةً ذائعةَ الصيت، حتى إن المتظاهِرين بدءوا يصيحون: «أطلِقوا النار على سارتر.» ولكن ديغول أسقَط الاتهامات بكلماته: «ليس بوسعكم أن تسجنوا فولتير.» وفي ربيع العام ١٩٦١م حاوَل القادة العسكريون القيامَ بانقلابٍ عُرِف باسم «محاوَلة الجنرالات» في الجزائر، ولكنها فشلت، وظهرت «منظَّمة الجيش السري» بين المستوطنين المتطرِّفين والجيش، وتمثَّلت استراتيجيتها في محاوَلة قتلِ أكبر عدد ممكِن من العرب لتخريبِ أيِّ اتِّفاق.
وبينما سارعَت الحكومة في خطواتها من أجل عقدِ مُفاوَضات السلام، أعدَّت منظَّمة الجيش السرِّي لشنِّ حملة ذبح بين الجزائريين ومُؤيديهم، حتى إنها خلال أكثر قليلًا من سنة قتلَت عددًا يعادل مَن قتَلَهم «رجال» جبهة التحرير على مدى سبعة أعوام، ودبَّرت مؤامرات ضد ديغول وآخرين في فرنسا، ومن بينهم سارتر. وأدَّى هذا السعار في الجزائر إلى تهيئة الظروف الملائمة تمامًا؛ بحيث إذا ما تولَّت جبهة التحرير السلطةَ، فسوف تُرغِم الفرنسيين الجزائريين على الرحيل عن الجزائر تمامًا. لقد كان حمَّام دم، وبعد أن تمَّ إعلان استقلال الجزائر أخيرًا في يوليو ١٩٦٢م، كان مليون جزائري فرنسي في حالةِ هرَبٍ إلى فرنسا وإسبانيا، وعمدوا إلى تدمير وتخريب كل شيءٍ عجزوا عن حمله معهم، وكان كامي قد مات، وكذا حُلمه عن الجزائر.
•••
استهدفت أول قنبلة لمنظَّمة الجيش السرِّي سارتر؛ وذلك في يوليو ١٩٦١م، ولكنَّها وُضِعت خطأً فوق أرضية الحجرة التي تعلو الحجرة التي يعيش فيها. وأُلقِيت الثانية في يناير، ودمَّرت شقتَه، وتصادف أن كان سارتر وبوفوار يبيتان في شقةِ أحد معارفهما بينما أم سارتر كانت في البيت. ولحُسْن الحظ أنها كانت داخل الحمَّام وقت انفجار القنبلة ولم تُصَب بأذًى. أعلَن كامي قلقَه وضِيقه من عنف جبهة التحرير الوطنية ضد أمِّه، ولكنَّ أمَّ سارتر هي التي كانت على بُعد شعرة من أن تَلقى حتفَها بسبب عُنف منظَّمة الجيش السري. وتُشير هذه السخرية إلى السبب الأعمق الذي من أجله كانت المصالَحة مستحيلةً بين سارتر وكامي. وبدا الاختلاف واضحًا جليًّا منذ أن التقيا العام ١٩٤٣م، وَلْنتذكَّر أورستس يتبنَّى العنفَ في «الذباب» كوسيلة ليكون واقعيًّا، وكامي يُبرِّر عنفَ المقاوَمة في «رسائل إلى صديق ألماني». وأصبح العنف اللازمة الموسيقية التي يتردَّد صداها على طول صفحات القصة، وبلغت ذُروتها في الجزائر. وليس الأمر أن كامي لا يؤمِن بالعنف بينما سارتر يؤمِن بالعنف، ولكن الأول حريصٌ على أن تظلَّ يداه نظيفتَين، والآخَر يَقبل تلطيخَ يدَيه فقط عند الضرورة.
وسبَق أن قال كامي العام ١٩٣٩م، ثم حاوَل التنصُّل مما قاله العام ١٩٥٥م، إن قضية الجزائر الفرنسية هي قصةِ «غازٍ استعماريٍّ». ومع مرور الوقت بالنسبة إلى حرب الجزائر فهم سارتر، بينما حاوَل كامي التجاهُل، حقيقةَ أن العنف ضد المواطِنين ليس فقط خطيئة، بل قسمة يومية تميِّز العلاقات بين العرب والفرنسيين في الجزائر. وعمد المستوطنون دائمًا إلى أن يُؤكِّدوا من جديدٍ هيمنتَهم على المواطِنين، وما فتئوا يُؤكِّدون زعمهم بشأن الواقع المادي للمكان الذي يخصُّ المواطنين أصلًا. ونجد أن المستوطنين، ومِن بينهم أفقرهم، وبكلمات ميمي، يستمتعون في كل لحظة «بأوهى الأمور» التي تُميِّزهم عن المواطنين. ونذكر أن شخصية ميرسول في رواية كامي العظيمة المعبِّرة عن الجزائر الفرنسية «الغريب»، كان يبتهج ويُعربِد بالمعنى الواقعي الحسي، وقد اندمج في سمائها وبحرها، وفي حرِّها ومشهدها الطبيعي. أو بعبارة أخرى كان عنف ميرسول وقتلُه دونَ سببٍ واضحٍ للعربي المجهول الاسم التزامًا بتواطُئه مع ريمون في ضرب الأخت الصغرى للرجل؛ رسالةً تُعبِّر عن القوة الاستعمارية الغَشُوم في الجزائر، التي لا يحمل نسيجها أوهى مشاعر عاطفية. ونجد كامي في كلٍّ من روايتَي «الغريب» و«الطاعون» يُعِيد خلق العوالم الشخصية والسياسية للمُستوطِنين باعتبارها — ويا لَلغرابة! — خلوًا من غير الأوروبيِّين، ويُصوِّر شاغليها الأصليِّين وكأنهم حضورٌ موسمي صامت وَلُودٌ وخَطِر.
وحاوَل كامي الصحافي أن يُعطي المواطنين استحقاقَهم، ولكنَّه في النهاية يدخل في جدال مع عائلتَي ميرسول ورايموندس، رجال بلا عقل. وأخيرًا وبعد وقوع التمرُّد الوطني، وعلى الرغم من أمله في وضع نهاية للاستعمار وللمَظالم، نراه يتجنَّب إبلاغَهم الحقائقَ الأقسى والأكثر إلحاحًا. وأخيرًا إذ استشعَر كامي منهم عِنادًا وموقفًا يتعذَّر الدفاع عنه، لم يَجسر على الكلام مع زملائه الفرنسيين الجزائريين، سواء عن امتيازاتهم أو عن عُنفهم. وهكذا الرجل الذي دان العنف والتمس يدَين نظيفتَين لم يستطِع الإفلاتَ من التواطؤ والمشارَكة في القسوة الوحشية التي أضحَت شيئًا عاديًّا في الحياة اليومية لبلده.
وعرَض كامي، في حفلِ تسلُّمه جائزةَ نوبل، عقيدتَه ككاتب حدَّد دورَه الأساسي؛ «خدمة الحق والحرية». وقال: إن هذا ينبني على «التزامَين يصعب التقيُّد بهما: رفض الكذب فيما نعرف، ومقاوَمة القهر». الحق والحرية. بيْدَ أنه في مكابَدته لإنجاز هذين الهدفَين لزم الصمتَ إزاء حقائق معيَّنة من مِثل هؤلاء المثقَّفين الذين ازدراهم، ومِن بينهم سارتر. ولم يُدرك كامي أبدًا أن التزامه الصمتَ عن مساعَدة شعبٍ يَشعر بأن الجيش يُحاصِره يختلف قليلًا عن صمت سارتر بالنسبة إلى الشيوعية. وطبيعي أن كامي عندما سمع عن أحزاب شيوعية أو ثورات جديدة عبر البحار لها مُبرِّراتها، عرف أن أنصارهم من المثقَّفين تحدَّثوا بلسانٍ مزدوج، وهذا ما فعله سارتر بالنِّسبة إلى الاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي الفرنسي فيما بين العامَين ١٩٥٢م و١٩٥٦م. ولكن كامي بأمانته الانتقائية وبصَمْتِه الخاص تصرَّف بالأسلوب نفسه بالنسبة إلى الجزائر الفرنسية فيما بين ١٩٥٥م وتاريخ وفاته. غير أن كامي فرَض معيارًا مختلفًا على الشيوعية السوفيتية والديمقراطية الرأسمالية الشيوعية منذ العام ١٩٤٦م، تمامًا مثلما فعل سارتر إزاء الديمقراطيات الرأسمالية والحركات المعادِية للاستعمار، ابتداءً من العام ١٩٥٦م.
وجدير بالملاحظة أن ميمي هو الذي فسَّر منطقة الخطأ عند كامي؛ إذ حاوَل كامي قبل صمتِه المستحيلَ، وأعلن انتهاء الاستعمار، بينما يؤكِّد ضرورة الاحتفاظ بعلاقاته السياسية الجوهرية. وتحدَّث عن المساواة بين العرب والفرنسيِّين، بينما يقرُّ بامتيازات الفرنسيين ويُغفِل المَطلب المحوري للعرب، ووصَل به الأمر إلى حدِّ عدم ذِكر مُمثِّليهم. وتحدَّث عن اعترافه بكرامة الجزائريين، بينما يتصوَّر قيام حكم فرنسي دائم. هنا عدم أمانة، أو وهم وخداع قائم على حقيقة أساسية؛ الوضع الضعيف للجزائر الفرنسية. وهكذا ما إن فاض الكيل بالنسبة إلى الحكومة الفرنسية تحت قيادة ديغول، حتى واجَه الفرنسيون الجزائريون طريقًا مسدودًا. وعبَّرَت منظَّمة الجيش السرِّي، تلك الحركة التي تضمُّ قَتَلة فاشيين، تعبيرًا صادقًا عن جدلها الكارثي. وهكذا وجدنا دُعاة «الجزائر فرنسية»؛ إذ رفضوا إعادةَ صوغ هُويَّتهم كقوة مُهيمِنة تغتذي على العنف، فاختاروا انفجار نار الإبادة الجماعية، ثم الانتحار السياسي والاجتماعي بدلًا من المخاطَرة بتحويل أنفُسهم إلى أقلية غير حاكمة.
وكانت هناك حلقة باطنية بين الصمت الأخير لهذه الروح السخية العظيمة وبين وضعية منظَّمة الجيش السري بعد وفاة كامي. ربما لم يكُن بإمكانِ أي شخص أو أي شيء أن يستحثَّ مليون مستوطن على التخلِّي عن امتيازاتهم، خاصةً امتيازَ بَشَرتهم البيضاء، والمُضي على طريق الإصلاح المؤدِّي إلى تحوُّلهم إلى أقلية داخل مجتمع خاضع لحكم عربي. ومنذ شارَك الفرنسيون الجزائريون في المذابح بعد مذبحة بلدة سطيف العام ١٩٤٥م، جهَّزوا كلَّ ما يلزم لانتخابات العام ١٩٤٨م، وقاوَموا بشراسة أيَّ تنازلٍ للأغلبية بعد نوفمبر ١٩٥٥م، إلى أن أصبح الوطنيون الجزائريون بالقوة والصلابة والعناد على النحو الذي كانوا عليه. ولم يحدث أن واجَهوا صاحب رأي منصِف، وإنما جميعهم سياسيون ضلُّوا رؤيتهم وسبيلهم، من أمثال منديس فرانس. لهذا استمرَّ الفرنسيون الجزائريون على عهدهم يُخدِّرون أنفسَهم بالتغذي على أسطورة الجزائر فرنسية، وأغفلوا الواقع، إلى أن بات الوقت متأخرًا جدًّا، وبدأ تسعة ملايين من المواطنين يؤكِّدون هُويَّتهم الجزائرية ردًّا على الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية للمُستوطِنين. وكامي الذي رأى، كما أعلن على الملأ، أسوأ ما يمكِن بالنسبة إلى الشيوعية، والذي عرَّض نفسَه لخطرٍ شخصي مُحدق، بات عاجزًا عن قول الحقيقة البسيطة لشعبة هو.
وبحلول العام ١٩٥٨م ضعفت كثيرًا قضية شعب كامي؛ إذ ثار عنفٌ عنصري بعيد الغور وسط طائفته، ولا بدَّ أن سمع كامي صياحَ الغوغاء بقيادة جو أورتيز يَطلُبون موته؛ وذلك في يناير ١٩٥٦م. ولا بدَّ أنه علم بأن الغوغاء اعتلوا المتاريس في ربيع العام ١٩٥٨م. وإذ ظهرت منظَّمة الجيش السري باعتبارها التعبيرَ المُهيمِن لقضية الجزائر فرنسية، فقد أعلنَت بَرْنامجها النهائي بعد موت كامي باغتيال روح كريمة أخرى من دُعاة التصالح، وهو بيير بوبي المدَّعي العام الفرنسي الجزائري. وحدَّدت أهدافَها في قتل الباقين من ذوي النوايا الحسَنة على الجانبَين، وإشاعة مناخ القصاص والعُنف الشامل الذي يهدم محادَثات السلام والعمل؛ إذ انتصر مخطَّطهم على تأسيس نظام قائم على الفصل العنصري «الأبارتيد». والجدير ذِكره أن الروائي الجزائري والمعلِّم مولود فرعون، صديقَ كامي، وصَف تنظيمهم المُقترح بأنه «استمناء في أحد الأركان». ونجد من المفارَقات أن انغماسهم المُفرط في العنف إلى حدِّ العربدة الذي توَّجوا به رفضَهم الكامل لأي تلاؤم مع الموقف منذ العام ١٩٤٥م، كل هذا جعل من الحتمي وقوع ما حاوَلوا يائسين تفاديه؛ إذ في أثناء يوم من أكثر الأيام دمويةً، شنَّت إحدى فرق الموت لمنظَّمة الجيش السري هجومًا مُفاجئًا حضَره فرعون مع مُعلِّمين فرنسيين وجزائريين، ونُودِي على أسماء فرعون وخمسة آخَرين، وأُخرِج الستة إلى خارج القاعة وأوقَفوهم أمام جدار وقتلوهم رميًا بالرصاص. حدث هذا في ١٥ مارس ١٩٦٢م، وخلال أربعة أشهر كانت الجزائر مستقلة، والجزائر الفرنسية من ذكريات الماضي.
•••
إنَّ الشيء اليقيني أن كراهية كامي للشيوعية كانت مشروعة، وأجَّجتها — كما هو مفهوم — معارَضته للعنف. بَيْد أنه، شأن كثيرين آخَرين عارَضوا الشيوعية، حطَّم اتِّساقه وتماسُكه أخلاقيًّا وسياسيًّا حين تجنَّبَ الحديث عن مجتمعه الخاص. ويبدو أن كامي إذ ألقى اللومَ على أطماع الاتحاد السوفييتي تصوَّر أنه بذلك حلَّلَ كلَّ شيء، بينما أغفَلَ تحليل التحوُّلات الأساسية اللازمة لإنهاء الاستعمار، وعجَز عن التحدث عمَّا يتعيَّن على عشيرته التنازل عنه لكي يُصبح أهله مجردَ مواطنين على قدمِ المساواة، أو ليكونوا في حقيقةِ الأمر أقليَّةً داخل جزائر ما بعد الاستعمار؛ ولذلك لزم كامي الصمت.
•••
«العنف في المستعمَرات لا يجعل هدفه فقط الإبقاء على هؤلاء المُستعبَدين تحت إمرته، إنه يُحاوِل تجريدهم من إنسانيتهم؛ ومن ثَم نراه عمل كلَّ ما من شأنه محو تقاليدهم، وإبدال لُغَتِنا بلُغَتهم، وتدمير ثقافتهم دونَ أن نُعطيهم ثقافتنا. الإنهاك البدني الصارخ سوف يخدِّرهم. تراهم جوعى ومرضى إذا ما بقيَ فيهم بقية من رمق أو روح، وسيكون الخوف هو الدافع لإنهاء المهمَّة، والبنادق مُصوَّبة إلى الفلاح، ويأتي المدنيُّون للسيطرة على أرضه وإجباره قسرًا بقوَّة السوط وقسوته على حرث الأرض لهم. وإذا قاوَم أطلَقَ الجنود عليه النار ويصبح في عداد الموتى. وإذا خضع فإنه حطَّ من قدْرِ نفسه، ولم يَعُد إنسانًا على الإطلاق. العار والخوف يمزِّقان شخصيته، ويدمِّران جوهر الشعور بالذات.»
والشيء الحتمي أن المواطنين أهل البلد سيجعلون عنفَ المستوطنين طريقَهم؛ إذ يستدخلونه ليكون أسلوبهم؛ ومن ثَم سيهبُّون ضد سادتهم. ويقول سارتر: «نحن نعيش اللحظةَ التي سيشتعل فيها الكبريت.» وسوف يؤدي الانفجار إلى قلب كل شيء رأسًا على عقِب، بما في ذلك اليسار.
«إنهم يُحسِنون صنعًا إذا قرءوا فانون؛ لأنه يُوضِّح بجلاءٍ أن هذا العنف الذي يتعذَّر كبْتُه ليس صوتًا وثورةَ غضب، ولا بعثًا لغرائز همجية، ولا هو حتى مجرَّد نتيجة السخط والاستياء، إنه الإنسان يخلق نفسه من جديد. أحسب أننا فهمنا هذه الحقيقة يومًا ما، ولكننا نسيناها؛ التهذيب لا يمحو آثارَ العنف، وإنما العنف ذاته هو الذي يمحوها. إن المُواطِن ابن البلد يبرئ نفسَه من العصاب الاستعماري بدَفْعه المستوطِن إلى خارج البلاد وبقوة السلاح. وحين تثور ثائرتُه ويبلغ الغضبُ ذُروتَه، يكتشف براءته المفقودة ويجاهد ليعرف نفسَه على النحو الذي يُعِيد به خلق نفسه. ونظرًا إلى أننا بعيدون جدًّا عن الحرب التي يخوضها، فإننا نعتبرها انتصارًا للهمجية البربرية، ولكن المتمرِّد بفضل الإرادة يحقِّق بخطوات وئيدة ولكنها مؤكدة حريتَه، يُحرِّر نفسَه لأنه رويدًا رويدًا يُدمِّر من داخله ومن حوله الظُّلمة الاستعمارية. وما إن تبدأ الحرب، فإنها لا تُبقي ولا تَذر. وإنك ربما تُخِيف أو تخاف؛ أيْ أن تسلم نفسك لتفكُّكِ وجودٍ زائف، أو أن تنتزع امتيازَ الوحدة الذي اكتسبتَه بحكم الميلاد. وحين يمسِك الفلاح ببندقية في يدَيه، تتهاوى الأساطير القديمة ويبدأ نسيان المحظورات واحدةً بعد الأخرى. إنَّ سلاح المتمرِّد هو برهان إنسانيته، ويتعيَّن عليك أن تقتل في الأيام الأولى للثورة. وإذ تصرع أوروبيًّا تكون قتلتَ عصفورَين بحجر واحد؛ إذ تقضي على قوة قاهرة وعلى الإنسان الذي يَقهرك في الوقت نفسه، ويبقى إنسان ميت وإنسان حر، والباقي على قيد الحياة يشعر لأول مرة بأنه يقف بقدمَيه فوق التراب الوطني.»
«إنهم لَمشهد جميل أيضًا، أولئك المؤمنين بعدم العنف، القائلين إنهم ليسوا ضحايا ولا جلَّادين. حسن جدًّا إذن، إذا لم تكونوا ضحايا عندما تكون الحكومة التي انتخبتموها، وعندما يكون الجيش الذي يخدم فيه إخوتكم الشباب مع السمع والطاعة أو دون تأنيب ضمير، قد تولَّوا جميعًا مهمة قتل سلالة، هنا ودون أدنى ظلٍّ من الشك، تكونون جلَّادين قَتَلة.»
وإذ يصف سارتر قرَّاءه «مستغلِّين» ومذنبين لإيمانهم «بنزعة عنصرية»، نراه يحكي كيف أن العنف الفرنسي المحصور داخل الجزائر يتسرَّب إلى داخل فرنسا: «الغضب والخوف لهما السيادة بشكل صاخب؛ إنهم يستعرضون أنفُسَهم صراحةً من خلال مطارَدة وقتل العرب في الجزائر. والسؤال الآن أيُّ جانبٍ هو المُمثِّل للوحوش الهمج؟ أين البربرية؟ إنهم لا يعوزهم شيء حتى دقات الطبول، وأبواق السيارات كلها تدق: «الجزائر فرنسية»، بينما الأوروبيون يحرقون المسلمين أحياءً.»
وها نحن صحبنا سارتر عبر تلك الرحلة التي لا يصدِّقها عقل من استبصاراته الثاقبة بشأن الاستعمار، وصولًا إلى رؤيته ولما يُسبِّبه من دمارٍ نفسي وحتى بيان كيف أن هذا الدمار تجري مُعادَلته من خلال عُنف أبناء البلد، والغرق في هذا العنف، وهجومه الجامع بين الابتهاج وجلد الذات ضد الأوروبيين! والجدير ذِكره أن سارتر في واحدة من أقوى كتاباته يُقدِّم حججَه ونظرته العالمية في صياغة قاسية قسوةَ لغتِه. وإذا كان كامي أنكَر عنفَ المُستوطِن، فها هو سارتر الآن ينظُم أغنيةَ القرن العشرين التي تتغنَّى بالعنف باعتباره تحريرًا وعلاجًا. وإذا كان كامي قد حاوَلَ إرساء قواعد لإدارة النزاع، فها هو سارتر الآن يُصدِّق على حقِّ أبناء البلد الأصليين في التخلُّص من الاستعمار «بكل وسيلة مُتاحة لهم». وإذا كان كامي قد لاءم آراءَه وَفْق إحساسه بتسامح مجتمعه، فها هو سارتر الآن يهاجم، انطلاقًا من إحساسه بالذنب، مجتمعَه هو، وجعل من نفسه المتحدِّث الأوروبي باسم العالَم الثالث. وإذا كان موقف كامي المناهِض للشيوعية قناعًا يُخفِي عجزَه عن الاستماع إلى أصوات أبناء البلد الأصليين، فها هو سارتر الثوري، البعيد عن ساحة المعارك، يوقِّع شيكًا على بياض للدعم والتأييد حتى لأكثر الأعمال قُبحًا ووحشيةً ضد الاستعمار.
«لا شيء — بما في ذلك الوحوش الضارية والميكروبات — يمكِن أن يكون أشدَّ ترويعًا للإنسان من نوعٍ يتَّصف بالذكاء وأكل اللحوم والقسوة، ويمكِنه فهم الذكاء البشري والتفوُّق عليه، وهدفه تحديدًا تدمير الإنسان. بيد أن هذا كما هو واضحٌ نوعُنا نحن كما تبدو صورته في عينَي كلِّ فرد من الآخَرين حال العيش في إطار النُّدرة.»
العنف منقوش في عالَمنا داخل عيون الآخَرين، في الأشياء ذاتها، وهذا العالَم ذاته هو عالَم مانوي؛ أيْ قائم على الصراع بين الخير والشر، وكل المجتمعات الطبقية تضرب بجذورها في هذه الحقيقة. وشعوب العالم موزَّعة كسلسلة من حلقات في تعاقب، معزولة وغريبة بعضها عن بعض بفعل هياكل القهر؛ ولهذا فإنها لا تترابَط معًا على نحو طبيعي، وإنما فقط بفعل الخطر الجمعي للموت. وهكذا يقوم العنف بدور عامل التوحيد ضمن نظرة شاملة إلى العالم تُؤكِّد التطاحُن وتُغفِل آلاف الوسائل اليومية للتعاون غير القَسري.
كيف يتسنَّى لنا إذن تغيير مثل هذا العالَم إلى الأفضل؟ هنا نذكر حديثًا غيرَ منشور يرجع تاريخه إلى العام ١٩٥٨م، أدلى به سارتر إلى جان دانييل. تساءل سارتر عمَّا إذا كان من المُمكِن لحركات مناهَضة للاستعمار، مثل الحركات الثورية بل والمقاوَمة الفرنسية، أن تعمل دون أن تلجأ إلى السرية والإرهاب، ونظرًا لأن المثقَّفين من أمثاله هو نفسه الذين يُؤيِّدون هذه الأهداف ليس بوسعهم التأثير في سلوكهم، فقد خلص سارتر إلى نتيجةٍ مفادُها أنْ «ليس من الملائم» نشر وقائع قبيحة بذاتها من مثل مذبحة ميلوزا؛ ذلك لأن الحقائق تُساعد العدوَّ. ويتعيَّن إخفاؤها؛ لأننا نعمل على أساسٍ سياسي. وعلينا قَبُول أن تفرض السياسة قيودَها بالالتزام بالصمت إزاء أمور بعينها. هذا وإلا فسيكون المرء «روحًا جميلًا»، وهو ما يعني ألَّا يعمل بالسياسة.
إنَّ عجز كامي وسارتر عن التصالح لم يكُن مجرَّد استمرار للاختلاف في الآراء بينهما، لقد اتَّصف كلٌّ منهما بسوء القصد إزاء ما أصبح فيما بعدُ موضوعَهما السياسي الرئيسي، وهو العنف. وعمَد سارتر، على أحسن الفروض، إلى كسر التابو الذي يحظر مناقَشةَ العنف القائم في حياتنا اليومية، ورأى ووصف العنفَ المنظم للرأسمالية والاستعمار. بَيْد أنه رأى أيضًا جميع صور الحياة الاجتماعية، باعتبارها صراعًا مريرًا من أجل الهيمنة. وخلَق من العنف صنمًا معبودًا لا حيدةَ عنه يُمثِّل ضرورة للتحرُّر الإنساني والتغيير الاجتماعي من دونِ حسابٍ لكلفته. وعمَد كامي على أحسن الفروض إلى فَهم النتائج الإفسادية والتدميرية للعنف، خاصةً داخل الحركات التي زعمَت أن جهدها مرصود لتحرير البشر، وسانَد أهدافَها البعيدة المدى. بيْدَ أنه أيضًا أنكَر العنفَ وقمَعَه ما دام ظلَّ محورًا للحياة في جزائره، وعمل بكلِّ ما يملك من قوةٍ لمصارَعته في أيِّ مكان آخَر.
لذلك، لن ندهش لما كتبه كلٌّ منهما في مقدِّمات الكتب: مقدمة كامي لكتاب «تقارير جزائرية» العام ١٩٥٨م، ومقدمة سارتر لكتاب «فانون» في العام ١٩٦١م، بعد وفاة كامي — كتب كلٌّ منهما عن العنف، وهاجَم كلٌّ منهما الآخَر. أفرد كامي «التائبون-القضاة»، بينما أفرد سارتر أولئك الذين ادَّعوا أنهم «لا هُم جلَّادون ولا هم ضحايا». وتفاقَم العداء بينهما على مرِّ السنين؛ بحيث اتَّخذ كلٌّ منهما الآخَر مثالًا يُجسِّد الموقفَ الذي يحارِبه، وبدا الموقف ضربًا من السخرية المأساوية. قبلَ سارتر القهرَ باسم خدمة المقهورين. وصمت كامي عن شجبه المُعتاد للقهر باسم حب عشيرته. وكان كلٌّ منهما نِصف خطأ ونِصف صواب، وكِلاهما كانا محصورَين في منظومتَين من سوء الطَّوِية مُتباعِدتَين إحداهما عن الأخرى، ولكن بينهما دعم مُتبادَل. ولم يكُن بإمكان أحدهما أن يتعلَّم من الآخَر.