الاحتلال … المقاومة … التحرير
«بقدْرِ ما كانت السياسة أمرًا طبيعيًّا بالنسبة إلى كامي، كانت بالنسبة إلى سارتر عالَمًا آخَر.»
في اليوم السابق على لقاء سارتر وكامي مع افتتاح مسرحية «الذباب»، اغتيل ضابط ألماني على بُعد ميل واحد من المسرح. بدأت المقاوَمة في تصعيد نشاطها وتوحيد صفوفها. وانعقد في باريس خلال الأسبوع السابق، في ٢٧ مايو، أول اجتماع للجنة المقاوَمة الوطنية، وأصبح النضال ضد المحتل الألماني هو البُؤرة المِحورية للنشاط، وذلك مع دخول الصداقة بين كامي وسارتر ربيع وصيف العام ١٩٤٤م. وجدير بالملاحظة أن الإطار العام للعلاقة، الذي عرضناه في الفصل الأول، انقلب إلى العكس تمامًا خلال هذه الشهور: كامي، المحارب القديم الذي تمرَّس في أكثر من حرب سياسية، أصبح قائدًا لسارتر المبتدئ.
وفي ٢١ أغسطس العام ١٩٤٤م، وفي معمعان التمرُّد ضد الألمان، ظهَرت في باريس الصحيفة السِّرية «كومبا»، ورأس تحريرها ألبير كامي. وزار سارتر وبوفوار خلال هذه الأيام العاصفةِ ألبير كامي في المنشأة التي خصَّصتها المقاوَمة لصحيفة «كومبا»، علاوةً على صحيفتَين سِريتَين أُخريَين، ظهرتا إلى العلَن بعد رحيل الألمان. وتذكَّرَت بوفوار «كامي» وأصدقاءَه الشباب عاكفين على العمل وهم شاكُو السلاح بينما جميع الأبواب الحديدية مُغلَقة، وأحسَّت ببعض الخوف؛ «إذ يمكِن في أي لحظة أن يأتي الجنود الألمان وتُصبح في ورطة.» وتذكَّرت أيضًا: «كان المبنى كله أشبه بخلية نحل يعجُّ بفوضى هائلة وابتهاج هائل من أوله إلى آخره، وبدا كامي جذلًا مبتهجًا، وطلب من سارتر أن يكتب تقريرًا وصفيًّا يستعرض فيه فترة التحرير. وهكذا قدَّم كامي فرصة العمر لسارتر؛ ذلك أن الفيلسوف والكاتب البالغ من العمر تسعة وثلاثين عامًا، والذي لم يعرف يومًا كيف يَخُوض مباشَرةً غمار العالم، استطاع بفضل المقالات التي كتبها أن يشارك على نحوٍ عملي؛ ومن ثَمَّ سار بين الطرقات يراقِب الأحداث ليعود ويصفها لحشد من الحضور.
وظهرت سلسلة من مقالات شاهد عيان ممهورة باسمه، وتَعرض أحداثَ الثورة التي حرَّرت باريس: «الطواف بأنحاء باريس في أثناء الانتفاضة»، و«جوَّال في أنحاء باريس الثائرة»، صدر المقال الأول في ٨ أغسطس، وعرض ردود الفعل الجماهيرية إزاء الثورة: «في هذا الوقت الذي امتزجَت فيه الإثارة والبهجة، يشعر كل امرئ بالحاجة إلى العودة والانغماس في الحياة الجمعية.» وصدر المقال الأخير بعد سبعة أيام، ووصف فيه العرض العسكري احتفالًا بالتحرير، الذي ضمَّ قوات المقاوَمة السرية في مسيرة مع جيش فرنسا الحرَّة بقيادة ديجول: «لم نُشاهِد قَطُّ من قبلُ محارِبين مدنيين — مدجَّجين بالسلاح لخوض حرب عصابات ولنصب الأكمنة والمقاوَمة المسلَّحة والصراع غير المتكافئ عبر المتاريس — وجنودًا أبرياء لا تَشُوبهم شائبة، هم ومعهم قادتهم يحتفلون في عرض عسكري بالفرحة الواحدة التي تجمع بينهم. وأحسَّ الحشد أنه برحيل الألمان يكون قد حان الوقت لكي نبدأ صراعًا أكثر قسوةً وواقعيةً، وفي حاجة إلى قدْرٍ أكبر من الصبر والدأب لتأسيس نظام جديد.»
وكان سارتر أول كاتب كرَّمَته صحيفة «كومبا»، بالإشارة إليه في سطر على صدر صفحتها فور خروجها من مَكمَنها السرِّي. وكتبت اسمَه بأحرُف كبيرة على امتداد الصفحة الأولى من كل عدد، ولكن بوفوار كتبَت إلى نلسون آلجرين بعد ذلك بثلاث سنوات تقول: «كتبنا تقاريرَ عمَّا كان يجري من أحداث، واعتدنا تقديمها إلى كامي، وفي نفوسنا قدْرٌ من الإحساس المُمتِع بالخطر في الطرقات التي تخترقها الطلقات بين الحين والآخَر.» وكلمة «نحن» هنا تعني في رأيِ واحدٍ من كتَّاب سيرة حياة سارتر أنها «هي» التي كتبت المقالات تحت إشراف سارتر. وبعد وفاة سارتر باحَت بوفوار بمكنون سِرِّها إلى كاتب سيرة حياتها، وقالت إنها هي، وليس كِلاهما معًا، وليس سارتر يقينًا هو الذي كتَب المقالات الشهيرة في صحيفة «كومبا» عن الثورة. ولقد كتبتها لأنه «كان مشغولًا جدًّا»، وهذه نقطة ليست بالبسيطة؛ إذ ظهرت هذه المقالات لتقول إن سارتر نزل إلى أرض الواقع بأسلوب جديد وحاسم، وفي لحظة تاريخية فارقة، وظلَّ الرأي السائد عن هذه المقالات أنها أفضل رؤية عيانية تَروي أحداثَ تلك الأيام.
والقصة الثانية عن زيارة رئيس تحرير صحيفة «كومبا» لصديقه في الكوميدي فرانسيز في أثناء الثورة. وانضمَّ سارتر إلى أعضاء فريق مسرح المقاوَمة تحت اسم «اللجنة القومية للمسرح» بهدف حماية دار الكوميدي فرانسيز من أيِّ تخريب ألماني لها. وتحكي القصة أن سارتر الذي بلغ به الإعياء أشدَّه من طول المشي في طرقات المدينة، غلبه النعاس وهو جالس على أحد المقاعد. وأيقظه كامي بالكلمات التالية: «لقد وجَّهت مقعدك في المسرح في اتجاه التاريخ.» وهنا نرى أن سارتر ربما باح لصديقه برغبته في المشارَكة في أحداث عالم الواقع؛ ومن ثمَّ فإن كامي كان يُمازِحه بالسخرية من غَفْوته في مثل هذا الوقت. وطبعي أن صدور مثل هذه الملاحظة بأسلوبِ كامي الساخر الوَدُود جعَل منها محورًا لما حدث من شقاقٍ بينهما فيما بعد. وتذكَّر كامي، كما سوف نرى، هذا الحدث في أثناء جدال دار بينهما، وقالها كامي بحدَّة قاسية، وردَّها له سارتر الصاع صاعَين.
هاتان الحكايتان تقولان لنا الكثير جدًّا عن كامي وسارتر، وعن علاقتهما إبَّان هذه الفترة، وأصبح السبق مَنوطًا بسارتر فيما بعدُ كحيوانٍ سياسي أخفى حقيقةَ موقفهما في علاقةِ كلٍّ منهما بالآخر. كان كامي قبطان المركب الذي افتقده سارتر دائمًا. ونَلحظ في الحكاية الأولى أن كامي قدَّم صديقه إلى أوسع جمهور ممكن، ولكن إنجازات سارتر ودوره في هذه المقالات الشهيرة خلال هذه الفترة إنجازات مشكوك فيها، وهو ما عرفنا الكثير عنه في فترة تالية. ونَلحظ في الحكاية الثانية أن كامي سخر من صديقه الذي تحدَّث عن موعد مع التاريخ، والذي بدا له أنه عاجز عن الوفاء به. إن قصة مسرح الكوميدي فرانسيز، علاوةً على الادِّعاء المثير من جانب بوفوار أنها هي التي كتبَت حصته الأولى المشهورة في المجال الصحافي، إنما تكشف عن مدى الصعوبة البالغة التي لا بدَّ أن سارتر عانى منها للوفاء بالتزام بوسع كامي إنجازه دون أيِّ جهد.
يمثِّل النشاط السياسي بالنسبة إلى كامي عملًا طبيعيًّا أكثر من سواه؛ إذ كان عضوًا في الحزب الشيوعي لمدة عامَين، ابتداءً من خريف ١٩٣٥م وحتى صيف أو خريف ١٩٣٧م، وكان عضوًا عاملًا نشِطًا، واشتهر عنه بأنه المسئول عن تنظيم شركة مسرح الجزائر، التي أدَّت أعمالًا مسرحية طليعية وسياسية. وإذا تأمَّلنا إحجامه في خمسينيات القرن العشرين عن مسانَدة جبهة التحرير الوطني الجزائرية — وكذا استبعاد رواية «الغريب» فيما يتعلَّق بجريمة مورسو وقتله دون مبرِّر لشاب عربي — يُصبح لزامًا الإشارة إلى خروج كامي من الفرع الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي؛ إذ إنَّ الحزب طردَه لرفضه الالتزام بخط الحزب الذي يقضي، وفقًا للتفسير الاستعماري للجبهة الشعبية، أن يقلِّل من الدعم السابق للحزب الشيوعي الفرنسي للقومية العربية. وكانت الفكرة هي خلق أوسع جبهة ممكنة لمناهضة الفاشية، بمن في ذلك أكبر عدد من الفرنسيِّين الجزائريين إذا أمكن. واعتقد كامي أن التزام الحزب إزاء العرب الجزائريين يتعيَّن أن تكون له الأسبقية على مثل هذه الاهتمامات الاستراتيجية. وبعد أن ترك كامي الحزب الشيوعي الفرنسي واصَل نشاطه المسرحي، وعمل من أكتوبر العام ١٩٣٨م وحتى يناير العام ١٩٤٠م على إنجاز صحيفة «الجير ريبابليكان»، وصحيفة أخرى شقيقة لها، ثم خليفتها بعد ذلك، «لوسوار ريبابليكان».
وتعلَّم كامي شغل الصحافة على يدَي رئيس تحريرها باسكال بيا الذي سيُساعده فيما بعدُ على نشر روايته «الغريب» ويُدخِله إلى صفوف المقاوَمة. وعمل في مجال عرض الكتب وتصميم النموذج الطباعي، مثلَما عمل محرِّرًا جنائيًّا وقضائيًّا. وعمل كامي صحافيًّا مناضلًا صلبًا، ولذا لعب دورًا في سبيل كسب أحكام بالبراءة لمتهمين في أكثر من قضية مهمة. وكتب خلال الفترة من ٥ إلى ١٩ يونيو ١٩٣٩م سلسلة من التقارير عن المجاعة والفقر في منطقة القبائل الساحلية الجبَلية. وتعتبر هذه من بين أولى المقالات التفصيلية التي كتبها أوروبي جزائري يصف فيها ظروف الحياة البائسة للسكان الأصليِّين. وطالَب كامي الإدارة الاستعمارية بوضعِ حدٍّ أدنى للأجور وبناء المدارس وتوزيع الأغذية؛ ذلك لأنه «إذا كان لا بدَّ من تبرير الاحتلال الاستعماري، فإن ذلك لا يكون إلا في حدود ما يقدِّمه الاحتلال من مساعَدة للشعوب الخاضعة للاحتلال للحفاظ على شخصيتها. وإذا كان ثَمَّة واجب علينا تجاهَ هذه الأرض، فإنه السماح لشعب هو من أكثر الشعوب كبرياءَ وإنسانيةً في العالم بالبقاء مخلِصًا لنفسه ولمصيره.»
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان كامي الشخصية الثانية والوحيدة بعد بيا في صحيفة «الجير ريبابليكان»، ثم سرعان ما أصبح رئيسًا لتحرير صحيفة «لو سوار ريبابليكا». ونعرف أنه عارَض الحرب منذ البداية، ويمثِّل موقفه هذا لحظةً هي الأكثر إثارةً للاستغراب والأقل حظًّا في التعليق على مدى حياته؛ ولذلك فإنه هو وصديقه وراعيه بيا أجهَدا نفسَيهما طويلًا في جناحهما اليساري بسبب رفضهما الحتمية الملِحَّة لمحارَبة النازي، وسرعان ما أدَّت معارَضته الأوَّلية للحرب إلى نشوب نزاعات وقطيعة مع الأصدقاء.
«لا للخضوع في مذلة، وإنما لنُحاول أن نفهم. لنُجرِّد هتلر من الأسباب الأساسية التي تُعطيه مكانته. ولنُسلِّم بكل ما هو عادل ونرفض كلَّ ظلم. ولنُراجِع معاهَدة فرساي، ولنحترِم في الوقت نفسه بولندا وتشيكوسلوفاكيا، ولنتبيَّن الأمر في وضوح، ونَنبذ التدرب للعداوة والبغضاء. ولندعم ونؤسِّس التضامن الإنساني والأوروبي، ونُلائم السياسات القومية مع نظام اقتصادي أصبح دوليًّا. هذه هي مواقفنا.»
أخطأ كامي في فهم النازية. إنَّ دفاعه المبدئي عن المسلمين الجزائريين وقت رفضه الباكر للجبهة الشعبية تداخَل فيما بعد ذلك، وشابَه افتقارٌ لإدراك الضرورة الملِحَّة لمحارَبة الفاشية والنازية. وها هو الآن وقد أصبح رئيسًا لتحرير «لو سوار ريبابليكان» خلال الأشهر الأولى من الحرب قاد الصحيفة إلى حتفها، على الرغم من المعركة الميئوس منها ضد المراقبين العسكريين، بل وضد أصحابها أيضًا؛ إذ أصرَّ على مبادئه في مناهَضة الحرب، التي ترفض فكرةَ أن لا مناصَ من خوض معركة لهزيمة النازية. وطبيعي أن آراءه تَعتمِد على الالتزام بتراث تاريخي لنزعة السِّلم الفرنسية التي ترفض المذابح التي لم يكُن منها بدٌّ وتمخَّضَت عنها الحرب. وحرَّر كامي تقاريره للخدمة العسكرية في ضوء إيمانه بضرورة التضامُن مع هؤلاء الشباب، الذين هم بمنزلة إخوة له، وانخرطوا في سلك الجندية، واستبدَّ به الغضب؛ لأنَّ إصابته بمرض السلِّ قبل ذلك أفقَدته أهليته للخدمة، وكان عاقدًا العزم على أن يخدم بأمانة وإخلاص، وأن يدعو ويناصر التفاوض من أجل السِّلم داخل الثكنات العسكرية.
وإذا كانت رئاسة تحرير كامي لصحيفة «لو سوار ريبابليكان» تجعلنا نتساءل عن مدى صواب رأيه السياسي في العام ١٩٣٩م، وهو لم يتجاوَز السادسة والعشرين من العمر، فإنها تَلفِت نظرنا أيضًا إلى قوَّته السياسية المشهودة؛ إذ بدا له من الطبيعي أن يتَّخذ موقفًا غير مقبول شعبيًّا حتى بالنسبة إلى هذه القضية، وإن أدَّى إلى وقوف العالم كلِّه ضدَّه، على الرغم من أنه يعني قمعًا يقينيًّا وفوريًّا له من السلطات الحاكمة. إن كامي، الكائن السياسي بغريزته، كان في آنٍ واحد مُستقلًّا وشجاعًا، لم يكُن في حاجة إلى الانتظار ليتبيَّن فِكر الآخرين أو لتقدير العواقب قبل أن يتَّخذ هو قراره ويتصرَّف. كان بوسعه وحده أن يكون حزبًا إذا كان لزامًا عليه أن يفعل ذلك ويُناهِض جميع اتجاهات التاريخ، ما دام مؤمنًا بأنه على صواب. وطبيعي أن مثل هذه العزائم لن تَهِن أو تَضعُف.
وأصبحت رواية «الغريب» الحدثَ الأهم في مجال النشر بشأن الاحتلال، والذي استهدف أولًا، وقبل كل شيء، تأكيدَ الوهم في إمكان تأسيس حياة عادية كثمرة للتعاون مع الألمان. وبقي كامي في الجزائر حتى مُنتصف العام ١٩٤٢م. وبعد أن تعافى من المرض، عكَف ثانيةً على الكتابة، وتُفيد إحدى الروايات غير الموثَّقة أنه شكَّل فريقًا للمقاوَمة في منطقة وهران (على الساحل الجزائري) قبل عودته عن طريق البحر إلى فرنسا في أغسطس ١٩٤٢م. وتُفيد رواية أخرى أنَّ المقاوَمة هي التي بعثَت به من الجزائر إلى فرنسا. وواقع الأمر أنه كان عاكفًا على رواية «الطاعون»، وارتبط بدار النشر الفرنسية الكبرى، ورأى كتبه موضعَ حفاوة كبيرة، ودخل العالَم الفكري لباريس المحتلَّة، ثم كُوفِئ ماليًّا على وضعه كاتبًا، كل هذا وهو في الثلاثين من العمر. وعاد إلى فرنسا لا ليُحارب، بل لكي يتعافى من السلِّ. واستقرَّ في باريس قبل الانضمام إلى المقاوَمة.
•••
«كان ريمون آرون يقضي عامًا في المعهد الفرنسي في برلين ليدرس هوسرل في الوقت الذي يُعِدُّ فيه أطروحتَه التاريخية. وعندما وصل إلى باريس حادث سارتر عن هوسرل، أمضَينا معًا أمسية كاملة في كازينو بيك دي جاز في شارع مونبارناس. طلبنا طبق اليوم مع كوكتيل المشمش. قال آرون وهو يُشير إلى كأسه: «ها أنت ترى يا صديقي العزيز، إذا كنت ظاهراتيًّا حقًّا في تفكيرك، فإنَّ بوسعك التحدُّث عن هذا الكوكتيل وتستخرج فلسفة.» امتقع وجه سارتر انفعالًا عند سماعه هذا الكلام؛ إذ إن هذا هو تحديدًا الشيء الذي تمنَّى طويلًا ومنذ سنوات أن يُحقِّقه — أن يصف الأشياء حال رؤيته ولمسِه لها — ويستخلص الفلسفة من هذه العملية. وأقنَعه آرون بأن الفلسفة الظاهراتية ملائمة تمامًا لاهتماماته الخاصة؛ ذلك بأن تتجاوَز المثالية والواقعية، وتؤكِّد في آنٍ واحد تفوُّق العقل وحقيقة العالم المرئي حسبما يظهر لحواسِّنا. وبينما نحن في طريق سان ميشيل، اشترى سارتر كتابًا عن هوسرل من تأليف ليفيناس، وبدا توَّاقًا لمعرفة الموضوع وهو يتصفَّح الكتاب في أثناء سيره دون حتى محاوَلة فصل صفحاته بعضها عن بعض.»
وتقدَّم سارتر بطلب ليخلف آرون في المعهد الفرنسي في برلين، وأمضى فيه عامًا دراسيًّا ١٩٣٣-١٩٣٤م لدراسة هوسرل، ونحن لا نَعثُر على شيء يوضِّح انعزال الشاب سوى التاريخ والمكان؛ إذ ذهب إلى ألمانيا النازية التماسًا لأسلوب فلسفي يجعله يلتقي الواقع، بينما الكثيرون من أفضل المثقَّفين الألمان كانوا يُؤثِرون الهرب. ودرس هوسرل ذلك اليهودي المحظور مثلَما قرأ هايدجر النازي عميد جامعة فرايبورج، بينما المشاهد اليومية في الطرقات تُنذِر بكارثة النازية.
ونعرف أن سارتر سبق له أن درس قوة الخيال وقُدرته على خلق عالَم غير واقعي، وهيَّأت له الفلسفة الظاهراتية الآن طريقه لإحلال الوعي في العالم: الوعي دائمًا وعي بشيء خارج ذاته، وليس أبدًا عالمًا بذاته. وكان مقدَّرًا أن تمضي سنوات عديدة إلى أن تتطوَّر تأثيرات فلسفة هوسرل إلى وجودية سارتر. وحينذاك فقط، وبعد اندلاع الحرب فقط، أمكن لسارتر أن يحدِّد الهدف من العمل في العالم.
•••
وعقد سارتر العزم على تشكيل فريق للمقاوَمة، وأنشأ «الاشتراكية والحرية» مع بوفوار وموريس ميرلو-بونتي، وهم من أعضاء العائلة التي سبَق أن شكَّلها سارتر وبوفوار. وضمَّ فريق «الاشتراكية والحرية» أيضًا عددًا من طلابه الحاليين والسابقين. وجازَف الأعضاء بالعمل على طبع وتوزيع منشورات مناهِضة للألمان. ولكن نظرًا إلى أن الاتحاد السوفييتي كان لا يزال في حالة سِلم مع ألمانيا النازية؛ فقد اتخذ الحزب الشيوعي الفرنسي موقفًا مهادنًا بدرجة أو بأخرى مع الاحتلال حتى ٢١ يونيو ١٩٤١م. ولم يكُن الاشتراكيون كذلك على استعداد لشجب حكومة فيشي؛ إذ صوَّت غالبية أعضائهم لمصلحة تمكينها من السلطة، وهكذا تعثَّرت خطوات الفريق الصغير الذي ألَّفه سارتر؛ وذلك لعدَّة أسباب من بينها افتقار الفريق لقيادة ذات حنكة سياسية؛ إذ أعضاؤه عديمو الخبرة. كذلك لأنَّ الغالبية العُظمى من الناشطين السياسيين المحنَّكين لم يتسنَّ حشدهم بعدُ ضدَّ الألمان وحكومة فيشي. وحكَت بوفوار كيف أنَّ بوست (جاك-لورنت) «كان يذرع الطرقات حاملًا آلةَ نسخٍ، بينما بويلو (جان) أخذ يطوف حاملًا حقيبته المحشوَّة منشورات.» واعتاد سارتر وبوفوار العمل بأسلوب الهواية المُعتاد عند القيام برحلة الصيف والانتقال إلى المنطقة غير المحتلَّة، في محاوَلة لإقناع الكُتَّاب من أمثال أندريه جيد وأندريه مالرو والزعيم الاشتراكي دانييل ماير للارتباط بفريق «الاشتراكية والحرية». وليس لنا أن ندهش إذ رفضوا جميعًا. والجدير ذِكره أن سبب رفضهم لم يكُن مُقتصرًا على أن الوقت لا يزال مُبكرًا جدًّا لتنظيم مقاوَمة، بل لأنَّ مهمة الفريق لم تكُن واضحة أبدًا، فضلًا عن أن تاريخ سارتر في السلبية السياسية لم يُوحِ لهم بالثِّقة. وانتهَت عطلة الصيف وعاد سارتر إلى باريس وحلَّ الفريق.
«لم تكُن في غرفنا بالفندق تدفئة … لذلك اعتدتُ دائمًا العمل في المقهى. واعتدتُ في أثناء الحرب أن أعمل أنا وكاستور [«بيفر» اسم التدليل الذي اتخذه سارتر لبوفوار] في الطابق الأول حيث كانت هي تَجلس عند أحد طرفي القاعة وأنا عند الطرف الآخر حتى نتجنَّب غواية الحديث معًا. كنا نكتب من التاسعة حتى الواحدة، ثم نذهب إلى غرفة كاستور لأكل أيِّ شيء تيسَّر لها الحصول عليه في الليلة السابقة، أو أي شيء أحضَره أصدقاؤنا الذين يأكلون معنا. ونعود بعد ذلك إلى المكان الذي اعتَدنا الجلوس فيه للقراءة والكتابة لكي نكتب المزيد من الساعة الرابعة وحتى الثامنة أو التاسعة.»
وتمثِّل مسرحية «الذباب» «الإسهامَ الرئيسي الذي قدَّمه سارتر»؛ الكاتب الذي قاوَم، وليس المُقاوِم الذي كتَب، وجرى تمثيلها على خشبة المسرح لأول مرة في مُنتصَف العام ١٩٤٣م. وتدعو مسرحية «الذباب» إلى النضال المسلَّح ضد الغاصبين، وهي صياغة جديدة لمسرحية أسخيلوس — حسبما رأى المراقبون — التي تشجِّع المقاوَمة؛ إذ تعرض أن أورست حين عاد إلى وطنِه بصُحبة معلِّمه الخاص، رأى مدينته يغطِّيها الذباب كرمزٍ دالٍّ على ذنبٍ ارتكبه حين سلَّم دونَ معارَضةٍ بمقتل أبيه، وانخدع الناس بمُؤامرة أجستوس (قاتِل الأب) وزيوس؛ إذ حال دونَهم وإدراك أنهم أحرار. ونجد هنا أن أهم رسالة تُقدِّمها المسرحية ضد حكومة فيشي وضد الألمان تتمثَّل في رفض سارتر الذنبَ والتوبة؛ لأنَّ ذلك يخدم المُغتصِبين؛ ومن ثَمَّ يدعو إلى القصاص وقَتلِ القَتَلة.
وبينما اتَّخذ سارتر هدفَه المباشِر، وهو نظام حكم فيشي الداعي إلى الندم وسقوط فرنسا، إلا أنه في الوقت نفسه عمد إلى استكشاف العقبات التي تحُول دون الالتزام. نعرف بدايةً أن أورست لا يَنتمي إلى مكانٍ ما، إنه «صاحب المجد المبعد»، وإنه مثل نسيج العنكبوت، وإن بدا مبتهجًا فخورًا. يقتل أجستوس وكليمنسترا انتقامًا لأبيه، ولكن ربما فعَل هذا أولًا وقبل كل شيء لكي يُصبح شخصًا واقعيًّا بين الآخرين، ولكي يتحمَّل العبء على كاهله. ونجده في النهاية بدلًا من أن يبقى مع شعبه في آرجوس، إذا به يرحل بطريقة عاطفية مُثيرة «ميلودرامية»، حاملًا عنهم عِبْأهم، الذباب الطنَّان، وكأنه عِبْؤه هو. وانتقد البعض سارتر بعد ذلك لأنه سمح بتمثيل مسرحيته على مسرح المدينة «تياتر دو لاسيتيه» بعد تغيير الاسم؛ وذلك لأنَّ صاحبة الاسم الأصلي هي سارة برنار، وهي يهودية. كما انتقده البعض أيضًا لأنه قدَّم مسرحيته للرقابة، فضلًا عن أنه أجرى حوارًا بشأنها مع صحيفة «كوميديا» المناصِرة للألمان، ولكن هل في وسع أيِّ إنسان أن يشهد المسرحية ويُنكِر فكرتها عن التمرد؟ لقد كانت حقًّا عملًا فذًّا في العام ١٩٤٣م؛ إذ قدَّم سارتر مثل هذه المسرحية الملتهِبة، ويُجِيزها الرقيب، حتى على الرغم من أن بعض عناصر المقاوَمة احتقروها لهذا السبب. وعقِب التحرير مباشَرةً امتدحت صحيفة «أكسيون» الشيوعية المسرحية، ورأت فيها «تعبيرًا رائعًا» عن الدراما التي عاشها الشعب الفرنسي إبَّان الاحتلال.
•••
والتقى كامي سارتر في ليلة افتتاح «الذباب»، وعقِب هذا اللقاء بوقتٍ قصير قدَّم كامي أول مداخَلة له في زمن الحرب. واتَّسمت هذه المداخَلة بأنها مباشِرة أكثر من أيِّ شيء سابق من أعمال سارتر. وكتب أول أربع رسائل من «رسائل إلى صديق ألماني» في يوليو ١٩٤٣م؛ وذلك بهدف «أن نجعل معركتنا أكثر فاعليةً»، ونشَر هذه الرسالة سرًّا في فترة متأخِّرة من هذا العام. وكتب الرسالة الثانية في ديسمبر ١٩٤٣م، ونشرها في مطلع ١٩٤٤م (وظهرت الرسالتان الأُخريان بعد التحرير). ويتظاهَر كامي في المقالات بأنه يشرح لصديقٍ ألماني لم يرَه منذ خمس سنوات لماذا وقعَت هزيمة الفرنسيِّين، ولماذا جاهَدوا ببطء ومُعاناة وحملوا السلاح ضد المحتلِّين، ولماذا سينتصرُون. وصاغ أسطورة من خلال هذا العرض.
وتَعكس الرسالة الأولى تغيُّرًا رئيسيًّا طرأ على كامي وأيضًا على فرنسا حسب وصفه لها. الشعب الفرنسي الذي آثَر الابتعاد عن الحرب وهي على مقربة منه؛ ذلك لأنه يكره الحروب جميعًا. ولذلك استغرق الأمر وقتًا لكي يُقرِّر الفرنسيون إذا ما كان من حقِّهم قتل البشر، وأن يسمحوا بإضافةِ بؤسٍ إلى ما يُعانيه العالم من بؤس. لقد مُنِي الفرنسيون بالهزيمة في العام ١٩٤٠م؛ لأنهم يحتقرون الحرب ويتشكَّكون في ادِّعاءات البطولة ويلتزمون بالحق؛ «إذ بينما كنتم أنتم أيها الألمان تُغِيرون علينا، كنا نحن مَعنيِّين بأن تطمئنَّ ضمائرنا ويقرَّ في قلوبنا ما إذا كان الحق إلى جانبنا أم لا. ودفعنا ثمنًا باهظًا بسبب ذلك … أحكامًا بالسجن، وإعدامات في الفجر، وهجرات وفرقة وانفصالًا، وآلام الجوع يوميًّا، وأطفالًا هدَّهم الهزال، ثم قبل هذا إذلالًا لكرامتنا الإنسانية. ولكن فقط، والموت على الأبواب، وأنتم أيها الألمان وراء ظهورنا، فهمنا أسباب القتال؛ لذلك عقدنا العزم على النضال بضميرٍ واضح نقيٍّ و«أيادٍ» طاهرة نظيفة. إنَّ قوتنا المعنوية نابعة من حقيقة أننا نحارب من أجل العدالة وقوَّة الروح والسيف إلى جانبنا؛ ولهذا فإن «هزيمتكم حتمية».»
وتواصَلَت الرسائل التالية لتقارِن بين الفرنسيين والألمان على أسُسٍ أخلاقية مُستمَدَّة مباشَرةً من فلسفة كامي. وإذا كان كلٌّ من العدوَّين بدأ من إدراكه لعبثية العالم، فإنَّ كامي زعم أن الفرنسيين يقرُّون هذا الإدراك ويعيشون في إطاره، بينما الألمان يَسعَون للتغلُّب عليه عن طريق الهيمنة على العالَم. إن الفرنسيين، وهم شعب يرفض العنف أساسًا، سوف يهبُّون للقتال، ولكن فقط من أجل الأسرة والعدالة. وإذا حدَث أن أقدموا على هذا بسببِ هاجسٍ ما، فإنهم سيعملون أيضًا بناءً على اقتناع. «لقد انتظرنا إلى أن وضحت لنا الرؤية. ونحن على الرغم من الفقر والمعاناة نَستشعِر بهجةَ القتال في الوقت نفسه دفاعًا عن كلِّ مَن نُحِب. أمَّا أنتم فإنكم على النقيض تُقاتِلون ضد كل شيء في الإنسان مما لا علاقةَ له بالبلد الأم.»
تَعرض لنا «رسائل إلى صديق ألماني» صورة كامي المفكِّر الأخلاقي السياسي في الممارَسة العملية. التمَس سبيلًا لدعم معنويات المقاوَمة بأسلوب بارع غير مباشر، رافضًا النزعة القومية بينما يؤكِّد من جديدٍ تفوُّقَ الرُّوح القومية الفرنسية. وكتب كامي بأسلوب فيه نغمة أخلاقية متقدِّمة، وتحدَّث بلسان دولي باسمِ شخصٍ له — في نهاية المطاف — أصدقاءُ ألمان يكره هو وهم شنَّ الحروب. وأكثر من هذا، نراه يردُّ سقوط فرنسا إلى ميزة فرنسا الأخلاقية: خسرنا الحرب بسبب شكوكنا إزاء جدوى القتل، الأمر الذي سيدعم الآن قوَّتنا المعنوية ويُهيِّئ لنا أيادي طاهرة للمعارك القادمة. ونلحظ هنا أن هذه الأسطورة التي اصطنعها كامي دعمًا للمُقاوَمة تضمَّنت ما يحمله كامي من تبرير ذاتي لعمل مراجَعة مُستفيضة، قال إنَّ الفرنسيِّين قاموا بها قبل الإقدام على الفعل. كان لزامًا علينا بدايةً أن نرى الناس يَلقون حتفَهم ويُخاطِرون بأنفسهم على طريق الموت. كان لزامًا أن نرى عاملًا فرنسيًّا يمضي في طريقه فجرًا إلى المقصلة عبر دهاليز السجن، بينما يحثُّ زملاءَه من زنزانة إلى أخرى كي يكونوا شُجعانًا. أو لنَقُل بعبارة أخرى، كان لزامًا أن نعاني أهوال الاحتلال قبل أن نقرِّر شنَّ الحرب ضد المحتل.
ولكن دعوة كامي إلى الفضيلة الأخلاقية تحوَّلت إلى تنظيرٍ أخلاقي. أخيرًا، ما الذي كان يلمِّح إليه في حديثه عن كل هؤلاء الذين أبَوا الانتظار وشرعوا في المقاوَمة منذ اليوم الأول للاحتلال، وأكثرهم ممَّن التفُّوا حول ديجول، وأولئك الآخرين من مثل الشيوعيِّين الذين كانوا على استعداد للمقاوَمة المسلَّحة وببطولة عظيمة فور إصدار الأوامر؟ ذهب كامي إلى أن هؤلاء المقاوِمين جميعًا، وكذلك كل مَن قاتَلوا في ساحة القتال قبل سقوط فرنسا، لم ينضجوا بعدُ، أو غير أنقياء تمامًا بحيث انخرطوا في العنف بسهولة؛ ومن ثَمَّ تلوَّثت أياديهم. إنَّ فرنسا المهزومة وفرنسا التي لا تحب العنف المسلَّح، فرنسا التي تناقضَت رؤيتها بشأن الحرب، ها هي الآن تنهَض في بطء لتمضي منطلِقةً على الطريق مدفوعةً بأسباب صائبة وصحيحة. وإن فرنسا هذه لم تُخطئ أبدًا — كانت على صوابٍ أخلاقيًّا حين رفضَت الحرب ومُنِيت بالهزيمة — وها هي الآن على صوابٍ أخلاقي تمامًا؛ إذ عقَدت العزم على المقاوَمة المسلَّحة.
ولكن كامي لم يعترف يومًا بأنه أخطأ، هذا على خلاف سارتر الذي قد ينتقد سلبيَّته الباكرة. وكم هو مُثير أن نجد هذه النزعة القومية التخييلية «الفانتازيا»، والإيمان بالصواب الذاتي لدى فرنسي وافد من المستعمَرات، أوروبي عاش في أفريقيا، وشبَّ وترعرع في وضعٍ يُحيط به العنف كأسلوب راسخ لدى المُستعمِرين يرَونه ضروريًّا لقمع المواطِنين من أجل اغتصاب الأرض وحصرهم حيث يُقِيمون. نلحظ أن كامي في رواية «الغريب» عرَض بعض الخواطر السريعة عن هذا العنف من خلال التواطُؤ بين ريمون وميرسو لضرب الصديقة العربية، وكذلك من خلال ملاحَقة أخيها وصديقه لهما ثم ملاحَقتهما هما للأخ والصديق، ونجد هذا أيضًا في نقطة التحوُّل في الرواية، التي تمثَّلت في قتل ميرسو لعربيٍّ مجهول الاسم. بيْدَ أن كامي لم يَعترف قَطُّ بمثل هذا العنف، سواء بالنسبة إلى مكانه في العالم أو بالنسبة إلى المجتمع الذي تربى فيه.
وتُشير «رسائل إلى صديق ألماني» إلى وجهٍ ثانٍ للمقارَنة بين كامي وسارتر في هذه المرحلة من تطوُّر كلَيهما. إن أورست عند سارتر يتبنَّى العنف في قراره بقتل أجستوس وكليتمنسترا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى رغبته في أن يكون سبيلًا ليُصبح واقعيًّا واكتساب صلابة ومكانة. وذهب سارتر إلى أن السبيل للخروج من الوجود الخيالي والانحصار الذاتي لا بدَّ أن يكون عبر عملٍ عنيف. هذا بينما نجد كامي قبل العنف مترددًا، وبُغية أداء عمل محدَّد: تحرير فرنسا من الألمان. وجدير بالذكر أنه على الرغم من أن جريمة ميرسو إذ قتل العربي مجانًا في رواية «الغريب»، صدمت دائمًا المعلِّقين، فإن القسط الأكبر من حياة كامي وأعماله السياسية كان انخراطًا أساسيًّا في العنف السياسي. ولكن بعد الحرب بدأ يظهر أكثر فأكثر كخصمٍ للعنف السياسي، الأمر الذي بلَغ الذُّروة في رواية «الثائر». ونعرف أنه بعد قطيعته مع سارتر كتَب مقالًا عنيفًا ضد عقوبة الإعدام، كما أنه مع بداية الحرب الجزائرية خاض حملةً ضد العنف من الجانبَين الدي يستهدف المدنيين. ولكن سارتر على النقيض، عالَج العنف باعتباره الوسيلة ليكون واقعيًّا. وإذا كان كامي استبدَّ به القلق في تزايُد مطَّرد بشأنِ ما يُصيب الضحايا من أذًى، فضلًا عن آثاره الأخلاقية السلبية، فإن سارتر ركَّز على آثاره السياسية والنفسية الإيجابية لدى مَن اختاروه سبيلًا لهم، خاصة ضحايا القَهر بعد أن تصبح كلُّ السُّبل مسدودة أمامهم. وحسب هذا المعنى أصبح العنف محوريًّا في سياسة ونظرةِ كلٍّ من سارتر وكامي. ولكن نجد أحدهما تبنَّاه غريزيًّا، بينما الآخر يَنفِر منه. وهكذا نجد في فرنسا المحتلَّة أن سليل الأُسَر المتميزة راضٍ تمامًا دراميًّا بيدَيه الملطختَين، بينما الأوروبي ابن الجزائر عقد العزم على الانخراط في النضال والخروج منه بيدَين نظيفتَين.
•••
في أواخر العام ١٩٤٣م أصبح باسكال بيا شخصية كبيرة في حركة «كومبا»، ووصل كامي إلى باريس في لحظة ظهرت فيها الحاجة إلى مهاراته الصحافية، ودفعت به المصادَفة إلى القيام بدور مُهم. وفي ديسمبر، أو يناير ١٩٤٤م، عهد إليه بيا أول الأمر بمهمة رئاسة تحرير صحيفة ثقافية سياسية تصدر تحت رعاية حركة «كومبا». وطلبت منه الحركة بعد ذلك في مارس أن يأخذ مكان بيا كرئيس لتحرير مجلة «كومبا»، نظرًا لأنَّ بيا سيتولَّى مهامَّ أخرى أكبر شأنًا. وكانت صحيفة «كومبا» آنَذاك تصدر شهريًّا في طبعات تصل إلى أكثر من ١٥٠ ألف نسخة، هذا بينما كان كامي يعمل بالنهار أيضًا مع دار نشر غاليمار، ويكتب رواية «الطاعون». وقدَّمت له منظَّمة «كومبا» وثائقَ ثبوتية زائفة علامةً على المخاطر التي يُدير شئونها، وأيضًا كوسام شرف وأهمية، واتَّخذ مع زملائه اسم بوكار — إذ كان من قواعد الأمن ألَّا يعرف أحد من أعضاء الفريق نفسِه الأسماءَ الحقيقية لزملائه — وعملوا معًا في الكتابة والتحرير وإخراج كل طبعة من «كومبا»، علاوةً على التأكُّد من أن ألواح الطباعة وصلت إلى المسئولين عن الطبع.
كان عملًا خطيرًا. وجدير بالذكر أن كلود بورديه، قائد حركة «كومبا» الذي أدخَل كامي إلى صفوف الحركة في يناير، قُبِض عليه بعد ذلك بفترة وجيزة وأرسلَته السلطات إلى معسكر اعتقال بوخينفلد. كذلك جاكلين برنار التي عملت مع كامي في إصدار «كومبا»، قبض عليها الألمان وأرسلوها إلى معسكر اعتقال في رافنسبروك. وبقي الاثنان على قيد الحياة، ولكن أندريه بوليير المسئول عن طبع «كومبا» مات؛ إذ إنه انتحر وقتما أحسَّ أن الألمان سيلقون القبض عليه. وحدث ذات مرةٍ أن كان كامي يقف في الطابور للتفتيش على أيدي الشرطة الفرنسية والألمانية مع آخَرين، وهنا ناوَل كامي ماريا كاساريس التصميمَ الخاص بعناوين الصفحة الأولى لمجلة «كومبا». وخشيت الفتاة أن تخضع هي الأخرى للتفتيش؛ ولذلك ابتلعت الأوراق.
ومع مرور الأيام، استحوذَت «كومبا» على اهتمام كامي، شأن تنظيمات المقاوَمة الأولى، وتطوَّرت إلى الحد الذي أصبحت فيه أفكارها وهياكلها وأنشطتها ذات شكل وطابع محدَّدَين. وتمثَّلت المساهَمة الرئيسية التي قدَّمها كامي في أُلفته بإنتاج الصحف. وكتب كامي مقالَين على الأقل لصحيفة «كومبا» السرية: أحدهما (سبق ذكره) يدعو إلى الالتزام بالنضال وصدر في مارس ١٩٤٤م. والثاني بتاريخ مايو ١٩٤٤م، وصَف المذبحة التي قتَل فيها الألمان ٨٦ شخصًا في قرية آسك. وخلال هذه الفترة طلب كامي من سارتر وبوفوار مصاحَبتَه لحضور اجتماع الفريق المسئول عن الصحيفة. ويقول سارتر عن ذكرياته في هذا الشأن: «أصبحتُ عضوًا ضمن فريق المقاوَمة الذي ينتمي إليه قبل التحرير بفترة قصيرة، وقابلت أناسًا لم أكُن أعرف ما رأيهم هم وكامي بشأنِ ما يُمكِن أن تفعله المقاوَمة في هذه المرحلة من الحرب.» ولكن عبارة «أصبح عضوًا» فيها مبالَغة كبيرة. قالت جاكلين برنار في مذكراتها عن هذا اللقاء إنَّ الرجل القصير عرَض مهاراته في الكتابة «حتى وإن كانت قصصًا عن كلابٍ تعدُو في الطرقات». ولم يكُن سارتر جادًّا تمامًا بعدُ بشأن الانخراط في السياسة بشكلٍ دائم، سواء ككاتب أم كناشط سياسي.
وفي ٢١ أغسطس ١٩٤٤م، وفي معمعان الثورة في باريس ضد المحتلِّين الألمان، ظهر العدد الافتتاحي الأول لصحيفة «كومبا»، بصفحة واحدة ومقالَين من دون توقيع. واستهلَّ المقال الأول، الذي ضمَّه كامي فيما بعدُ إلى المجموعة الكاملة من مقالاته السياسية: «اليوم، ٢١ أغسطس، ونحن نظهر إلى العلن لأوَّل مرة، تحقق أمل تحرير باريس. وها هي باريس بعد خمسين شهرًا من الاحتلال والنضال والتضحية تُولد من جديد، تؤكد معنى الحرية على الرغم من طلقات الرصاص التي تنفجر في الطرقات.» والمقال الثاني الذي قيل إنه مكتوب «بوَحْي» من كامي، ثم قُرئ عليه بعد ذلك، يحمل كعنوان له شعار الصحيفة المكتوب على الصفحة الأولى: «من المقاوَمة إلى الثورة». ودعا المقال إلى تأسيس «ديمقراطية الشعب والعمال»، ووضع دستور جديد يكفل الحرية ويضمن التغيير الهيكلي ويُنهي الاحتكار وسيطرة رأس المال، ويبني سياسة خارجية جديدة. وهذه هي الثورة التي نعنيها في ضوء الوضع القائم.
•••
وبعد التحرير أصبح كامي المتحدِّث باسم إحدى حركات المقاوَمة الكبرى وهي في أوج انتصارها، وأصبح — علاوةً على هذا — رئيس تحرير منبر رائد للمقاوَمة ذاتها لتفسير وتقييم، بل، إن أمكن، توجيه حركة التحوُّل الوطني. وهكذا نجد أننا بصددِ ما اعتاد بورديه أن يُسمِّيه تلك المصادَفات التي تصوغ وتحكم حياة الأفراد، إن لم نَقُل المجتمعات؛ ذلك أنَّ الشاب صديق بيا ظهر تحديدًا في وقت الحاجة إليه؛ إذ وصل إلى فرنسا قُبَيل قطع الطريق بينها وبين الجزائر، وعاش في باريس فور إصداره الكتب التي حقَّقت له الشهرة. ووجد بورديه متَّسعًا من الوقت ليُطالع الكتابَين قبل اللقاء. كذلك نلحظ أن كامي في أثناء عمله في دار نشر غاليمار ومشاركته الاحتفالات مع سارتر وبوفوار، خصَّص قسطًا كبيرًا من وقته للمقاوَمة خلال الأشهر الخمسة الأخيرة قبل التحرير.
والجدير ذكره أن الصعود السريع لكلٍّ من كامي وسارتر في عالم الأدب فور انتهاء الحرب إنما يسَّره لهما افتقار عالم الأدب لمنافسين مناظرين لهما. ونلحظ أن بعض المنافسين المحتملين لهما من مثل فلاديمير كانكليفيتش نذروا أنفسهم للنضال ضد الألمان؛ ومن ثمَّ أصبح الكثيرون منهم نُزلاء السجون أو معسكرات الاعتقال أو قُتِلوا. هذا بينما آخَرون رفضوا النشر من أصله، بينما ظلَّ آخَرون يكيِّفون أمورهم وَفق مقتضيات مناصَرة الألمان أو حكومة فيشي إبَّان الاحتلال. وعمل كامي وسارتر في هذه الأثناء على استحداث وتطوير كيان مُهمٍّ للكتابة يحتاج إليه القراء الجوعى في نهمٍ لقراءة كلِّ ما يصدُر عقب التحرير. ولنا أن نقول في صراحةٍ حادة إن مستقبلهما الأدبي استفاد عمليًّا من الاحتلال. ويتذكَّر كامي نفسه كيف أن صديقه رينيه لاينو لم يسطِّر حرفًا إبَّان الاحتلال لأنه وهب نفسه كليةً للمقاوَمة: «قرَّر أن يكتب فيما بعدُ.» ولكن «بعد» لم تأتِ قَطُّ ليكتب لاينو؛ إذ ألقت القبض عليه ميليشيا حكومة فيشي في مايو ١٩٤٤م، وأُعدِم بالرصاص بعد شهر هو وثمانية عشر سجينًا آخَرين على أيدي الجنود الألمان، بينما كانوا يُجْلَون من ليون. وبعد ذلك كتب مؤلف «الغريب» الشهير تصديرًا لديوان شعر لاينو الذي صدر بعد وفاته.
وثمَّة كتَّاب آخرون نذروا أنفسهم بالكامل للنضال منذ البداية رافضين الرقابة، أو خسروا وظائفهم بسبب عدائهم لحكومة فيشي أو للنازي. ورفَض بعضهم النشر عن طريق دار غاليمار بسبب توافُقها مع الألمان. وثمَّة آخَرون إمَّا أنهم آثروا الصمت أو قدَّموا أعمالهم لحفنة من الناشرين السريِّين من مثل أديسيون دومينوس. وجدير بالإشارة هنا أن واحدًا من أصدق أصدقاء كامي في فترةِ ما بعد الحرب، وهو الشاعر رينيه تشار لم يكتب شيئًا منذ أن أصبح متفرغًا للمقاوَمة، وجاءت شهرة كامي المتوهِّجة في مجال النضال ثمرةً لعمله شهورًا عديدة في صحيفة «كومبا» قبيل فترة انتهاء الاحتلال مع عدد قليل من المقالات، ونال مقابل هذا ميدالية المقاوَمة العام ١٩٤٦م، التي قال عنها إنه «لم يطلبها قَط، ولن يتقلَّدها على الإطلاق، إن ما فعلته قليل جدًّا. ولم ينلها أحد من أصدقائي الذين لقوا حتفهم إلى جواري.» وعبَّر دائمًا عن أعظم قدر من الاحترام إزاء مَن أعطوا أكثر، على الرغم من أنه لم يحاول قَطُّ أن يصحِّح لأصدقائه تصوُّرهم عنه وهم يروِّجون أسطورة كامي المناضِل. ولكن نظرًا إلى أن الأسطورة ترتكز على فترة من الانخراط الأصيل حقًّا في المقاوَمة، فإن النموذج البارز لسارتر في الالتزام منذ اللحظة التي بدأت فيها صداقة كامي-سارتر لم يكُن سوى الجزائري الواقعي الشديد الحساسية.
وأعاد سارتر فيما بعدُ صياغة القصة على أساس أحاديث ومواقف تالية؛ ففي العام ١٩٥٢م وصَف كامي بأنه رجل يحاول التحلُّل من الالتزام والتاريخ. وهذا اتهام ظلَّ موجَّهًا حتى بعد فترة طويلة. مثال ذلك أن سارتر خلال أحاديث أجراها العام ١٩٧٠م جعل من كامي كبشَ فداءٍ للقطيعة السياسية، نظرًا إلى أن أفكاره كانت خاطئة منذ اللحظة التي التقيا فيها، بيْدَ أنهما حين التقيا بالفعل تغيَّر شعور سارتر لأسباب معقولة؛ إذ حينما انخرط الاثنان اجتماعيًّا في أواخر العام ١٩٤٣م ومطلع ١٩٤٤م استطاع كامي على الأرجح أن يعرض على صديقه مقالاته السرية، وحكى له عن أنشطته السرية، وهكذا كان كامي يعيش حياةَ الالتزام التي حاوَل سارتر استكشافها في رواياته ومسرحياته، باعتبارها المشكلة المحورية على مدى السنوات العشر القادمة.
واكتسبت علاقة كامي-سارتر وجهًا آخَر إبَّان الاحتلال. هذا علاوةً على صلة القربى بينهما ككاتبَين ومفكِّرَين، وأسلوب كلٍّ منهما في التكامل والتباين ومشاعر البهجة عندما يكونان معًا؛ إذ هل من المصادَفة أنَّ النص السينمائي القصير الذي كتبه سارتر تحت عنوان «المقاوَمة» إنما كتبه وقتَما كان هو وكامي في علاقة وثيقة بينهما؛ حيث يركِّز على شاب مسئول عن تحرير صحيفة سرية؟ وبدا سارتر صريحًا في مناسبتَين أُخريَين في حديثه عن كامي وما يَعنيه كامي بالنسبة إليه خلال هذه الفترة.
ولعلَّ من المفارَقة أن أشهر هذه الأحاديث تمثِّلها رسالته في العام ١٩٥٢م لإعلان القطيعة؛ إذ نقرأ عرفانًا بدور كامي خلال السنوات الأولى واضحًا بين ثنايا نقده لرواية كامي «الثائر». وكتب سارتر موجهًا حديثه إلى كامي: «إنك إبَّان الحرب وهبتَ نفسك دون أيِّ تحفُّظ للمقاوَمة، وعشتَ حياةَ كفاحٍ صارمة خالية من مظاهر المجد والمدح، ومحفوفة بالأخطار المثيرة. ولعلَّ ما هو أشدُّ وأخطر أنك أقدمتَ على مخاطَرة شغلك لوضع أدنى مستوى لا يلقى ترحيبًا.» واعترف سارتر بأنَّ كامي عاش هذا التاريخ على نحو أعمق وأكمل من كثيرين منَّا (بمَن فيهم أنا). وأصبح كامي مثالًا لعلاقة تحظى بالإعجاب، علاقة تجمع في آنٍ بين الشخصي وبين النشاط والعمل الاجتماعيَّين. وألَّف سارتر، شأن كامي، أعمالًا مهمَّة، ولكنه رأى نفسه بوضوح أقل منه تطورًا. وبعد ذلك بثماني سنوات، أيْ في العام ١٩٤٤م، رأى في صديقه نموذجًا للإنسان الذي توحَّد كاملًا داخل نفسه ومع الزمان.
تُرى هل امتدح كامي لأنَّ هذا أفضل من الهجوم عليه؟ لدينا شواهد على إعجاب سارتر من أحداث جرَت عقِب التحرير بفترة قصيرة؛ إذ تحدَّث عن كامي في محاضَرة له العام ١٩٤٥م، أمام جمعٍ من الحضور الأمريكيين، ووصَفه بأنه مثال بارز للكتَّاب الملتزمين سياسيًّا الذين أفرزتهم المقاوَمة. وجدير بالذكر أن سارتر في حديثه هذا عن الكتَّاب الفرنسيِّين «الجُدد» خصَّص أكثر الوقت للحديث عن «ألبير كامي الذي ناهَز الثلاثين من العمر»، عارضًا على الحضور صورة مُجمَلة عن رواية صديقه «الطاعون»، التي قرأ سارتر مسوَّدتها.
«سأتحدَّث إليكم عن ظلمٍ أفدح من الظلم الذي ندينه في عمودٍ إثرَ عمود في صحفنا اليومية بشأن النخبة الثقافية. هذا الظلم حيٌّ وموجود هنا أمامنا، إنه كامي؛ إذ إنه يتمتَّع بكل شيء، بالقدرة على غواية النساء، والقدرة على أن يكون سعيدًا ومشهورًا، هذا علاوة على أن لديه الأسباب للغطرسة؛ فهو ليس فقط موهوبًا، بل عبقري. وها نحن نقف عاجزين بلا حول ولا طول ضدَّ هذا الظلم.»
بدا كامي في نظر الكثيرين الإنسانَ الذي يملك كل شيء وفعَل كل شيء. كاتب مشهور، ومنافِس حسَن الصورة في عينَي كل امرأة جميلة، مثلما كان مناضلًا في المقاوَمة، والآن رئيس تحرير صحيفة كبرى له افتتاحياته في هذه الصحيفة، والتي تصل إلى مسامع الناس في كل أنحاء البلد؛ ومن ثَم لا عجب أن سارتر فور استئنافه للهجوم في مقاله العام ١٩٥٢م اعترف قائلًا: «لَكَم أحببناك آنذاك.»
•••
كان مفهومًا، بل وملائمًا، أن كامي رئيس التحرير سيُصبح صاحب كلمة مهمة في فترة ما بعد الحرب، ولكن أنَّى لسارتر أن يخاطر بادِّعاء مماثل ويكون له صوته المسموع؟ إنه حين أكَّد عقِب التحرير مباشَرةً «إن خيرَنا هو مَن انخرط في صفوف المقاوَمة لإنقاذ البلاد»، إنما تكلَّم ليس باعتباره عضوًا في المقاوَمة، بل باعتباره «كاتبًا قاوَم». كيف له إذن أن يُحاول وضْعَ نفسه كامي، باعتباره أحد كبار المتحدثين عن المقاوَمة وباسمها؟
صدر مؤلَّف في الولايات المتحدة العام ١٩٤٧م، يحمل عنوان «جمهورية الصمت»، يشير إلى نجاح سارتر في تحقيق ذلك، والعنوان مأخوذ من مقال لسارتر عن المقاوَمة، صدر ضمن أول عدد قانوني من صحيفة «ليه ليتر فرانسيز»، في سبتمبر ١٩٤٤م. ونجد اقتباسًا من المقال يُزين الصفحة الأولى من الكتاب. وبعد أن قدَّم المحرِّر سارتر في صورة الشجاع الذي لا يهاب، والنَّشِط في العمل السرِّي، يضمِّن الكتابُ النصَّ الكامل للمقال. وتضمَّن الكتاب أيضًا كامي بين المجموعة، ولكن دون ذِكر اسمه، وتمثِّل كامي هنا كلمةٌ كتَبها في مايو العام ١٩٤٤م عن مذبحة مدينة آسك. ويعكس إغفال اسم كامي على صدر المقال واقع أنه وثيقة سرية عن النضال.
وجدير بالملاحظة أنَّ مكان سارتر في هذا المصنَّف، وصورته الواضحة في عدد ٩ سبتمبر من مجلة «ليه ليتر فرانسيز»، يحكيان قصة مهمَّة. إنه لم يدَّعِ أنه انخرط في صفوف المقاوَمة، وإنما اعتمد على ما يمكِن أن يؤدِّيه على أفضل وجه، وهو الكتابة عن الاحتلال ثم عن المقاوَمة بعد ذلك، وأن يكون شارحًا لها. والآن، عقِب التحرير، وعلاوة على المقالات التي ظهرت باسمه في مجلة «كومبا»، كتَب سارتر «جمهورية الصمت» لحساب «ليه ليتر فرانسيز» صوت اللجنة الوطنية للكتاب، وكتب «باريس تحت الاحتلال» لصحيفة «لا فرانس ليبر»، وهي الصحيفة الفرنسية الحرة التي يُصدِرها في لندن صديقُه ريمون آرون. وبعد العام، وفي أثناء الاحتفال بذكرى ثورة باريس، كتَب وفي نفسه إحساس قويٌّ بمرجعيته ومكانته «تحرير باريس: أسبوع كارثي». وكان لا يزال في الوقت نفسه يُعِدُّ مجموعة هائلة من الكتابات الجديدة، ويتحدَّث في كل القضايا على اختلاف موضوعاتها.
«لسنا أبدًا أكثر حريةً مما كنَّا تحت سيطرة الألمان. لقد فقدنا جميع حقوقنا، وأوَّلها وأهمها حقُّنا في التعبير. كنا نلقى الإهانات علنًا يوميًّا، وكان لزامًا أن نبقى صامتين. عمدوا إلى ترحيلنا قسرًا بالجملة لأننا كنَّا عمَّالًا، ولأنَّنا كنَّا يهودًا، ولأنَّنا كنَّا سجناء سياسيين. وكنَّا أينما نظرنا — على الجدران، وفي الصحف، وعلى شاشات السينما — لا نرى سوى تلك الصورة الكريهة التي لا معنى ولا طعم لها، والتي تُريد منَّا سلطات القهر أن نصدِّقها عن أسلوب حياتنا الواقعية. وبسبب كلِّ هذا كنَّا أحرارًا. ونظرًا إلى أن السُّم النازي كان يتسرَّب إلى صلب أفكارنا، فإنَّ كل فكرة دقيقة صحيحة كانت تمثِّل انتصارًا. ونظرًا إلى أنَّ الشرطة التي تملك كل أسباب القوة والسيطرة كانت تحاول إرغامنا قسرًا على الصمت، فقد أصبحت كلُّ كلمة غالية ثمينة شأن إعلان المبادئ. ونظرًا إلى أننا كنَّا مُطارَدين، فقد كان لكلِّ إيماءةٍ وزن وقِيمة الالتزام. وهكذا استطعنا بفضل كل الظروف المخيفة التي أحاطت بنضالنا أن نعيش في نهاية الأمر بغير قناع، وأن نكشف تمامًا عن ذلك الموقف الرهيب وغير المحتمَل الذي نسمِّيه الظرف الإنساني.»
«كلٌّ منا — وهل هناك فرنسي لم يكُن في وقتٍ أو آخَر إبَّان هذه الفترة في هذا الموقف نفسه؟ — ممَّن لديه معرفةٌ ما بعمليات المقاوَمة، سأل نفسه بالضرورة ذلك السؤال المؤلم: «تُرى إذا ما عذَّبوني، فهل سوف أصمد؟» … ولقد كنَّا وحدنا دونَ أيِّ يدٍ واحدة هنا أو هناك ممدودة للمساعدة. ولكن في أعماق هذه الوحدة كان آخرون موجودين، كل الآخرين، جميع رفاق حركة المقاوَمة يُدافِعون. كلمة واحدة كافية لاعتقال عشرة أو مائة. أليست هذه مسئولية كاملة؛ إظهار حريتنا في إطار الوحدة الكاملة؟ وهكذا بالدم وبالدموع تشكَّلت جمهورية هي الجمهورية الأقوى بين سائر الجمهوريات. عرف كل مواطن أنه يعتمد على كل فردٍ آخَر، مثلما عرف أيضًا أن في وسعه أن يعتمد على نفسه فقط بحُرية، وعلى نحوٍ لا مَناصَ منه. إنه إذ يختار نفسَه في حريته إنما اختار الحقيقةَ كلَّ الحقيقة. وكان لزامًا على كل فرنسي في كل لحظة أن يَنصُر ويؤكِّد هذه الجمهورية — من دون مؤسَّسات أو جيش أو شرطة — ضد النازية …»
وهنا نجد المقال، في حركة باهرة، يربط «كلامنا» وأولئك الذين دعموا المقاوَمة بأسلوبٍ سلبي بأولئك الذين شاركوا في إنجازِ بعضٍ من أنشطتها الأقل خطرًا وإلحاحًا، وأيضًا بالأبطال النَّشِطين الذين قاموا بأعمال التخريب السرِّية وبالاتصالات وفي شبكات النقل وفي صفوف المقاوَمة. وإذا حدث أن اضطرَّت العناصر التي ساندَت في صمت — وهي العبارة التي تعني عنده كلًّا منَّا — إلى الإفصاح عند الاستجواب، فسوف يَكشفون حقيقة المناضلين. وهكذا، أعيد تعريف المقاوَمة باعتبارها «جمهورية الصمت» الواسعة النطاق؛ جميع الأعضاء الذين ساهموا فيها بطريقتهم الخاصة. وإذا كانت الحقيقة هي أن بِضْع مئات الآلاف هم فقط مَن قاوَموا بنشاطٍ، فإنَّ أسطورة أن كل الأمَّة عمليًّا ساندَت المقاوَمة أضحَت بعضًا من صورة الذات لفرنسا بعد الحرب. وواضح أن صياغة سارتر للأسطورة سلاح قوي ذو حدَّين؛ إذ إنه أضفى مشروعيةً على جميع أولئك، بمَن فيهم هو، الذين وقفوا بأيِّ أسلوب كان إلى جانب المقاوَمة، بينما أصبح هو في الوقت نفسه المتحدِّثَ باسم جمهورية الصمت هذه.
«أمرًا لا يُمكِن التسامح معه أو قَبُوله، حتى كثيرون ممَّن رغبوا في الهرب منه وإعادة اكتشاف مستقبلهم دفعوا بأنفسهم إلى صفوف المقاوَمة. مستقبل غريب، يَكتنفه من جميع النواحي التعذيب أو السجن أو الموت، ولكنه على الأقل ثمرةٌ أنتجناها بأيدينا نحن. بيْدَ أنَّ المقاوَمة كانت فقط حلًّا واحدًا، وعرفنا ذلك جميعًا؛ إذ من دونها سيكسب الإنجليز الحرب، وبمساعَدتها سوف يخسرونها بأيِّ وسيلة من الوسائل إذا كان من المفترَض أن يخسروها. وبدَت في نظرنا أنها تحمل أولًا وقبل كل شيءٍ قِيمةً رمزية. وهذا هو السبب في أن كثيرين من عناصر المقاوَمة استبدَّ بهم اليأس؛ إذ كانوا دائمًا رموزًا. ثورة رمزية في مدينة رمزية، والتعذيب وحده هو الحقيقة الواقعة.»
وبدَت المقاوَمة من زاوية النظر هذه إيماءةً معنوية غير ذات قيمة كبيرة لحصاد الحرب.
وثَمَّة مناقَشة أجراها سارتر مثيرة للدهشة في تعبيراتها شأن هذا المقال. ناقَش سارتر المقاوَمة باعتبارها «حلًّا فرديًّا» رمزيًّا يعكس تجرُّدًا غريبًا. وإذا كان أورست في مسرحية «الذباب» يعقد العزمَ على العمل ليصبح حقيقة واقعة، فإن سارتر، شأن أورست، لم يَرَ المقاوَمةَ عملًا له تأثيره في الأحداث أساسًا. وجدير بالذكر أن وجهة النظر هذه ربما لم تجد قَبولًا على نطاق واسع وسط مَن خاطَروا بحياتهم لهزيمة الألمان وإنهاء الاحتلال. وهنا، وفي إطار هذا المعنى الرئيسي، أخطأ سارتر في فَهم المقاوَمة، ربما لأنَّ وعيه السياسي بالالتزام لم يكُن قد تطوَّر بعدُ على نحوِ ما اعترف هو نفسه بعد ذلك بثلاثين عامًا.
وفي ظني أنَّ أحد المؤشِّرات الدالة على ابتعاده عن الأحداث الواقعية هو أنه عهد إلى بوفوار بالفرصة التي أتيحت له لعملِ شيءٍ ما ذي قيمة عملية، عندما طلب منه كامي أن يكتب عن الثورة. وتكشف دراسة مصطلحاته الفلسفية الأساسية عن أن الصورة الخيالية ظلَّت مُنطلقَه، والساحةَ السارترية الوحيدة للنشاط البشري ذي المعنى والمُرضي للذات — وظلَّ كذلك على الأقل إلى أن بدأ يُعيد صياغة مصطلحاته الرئيسية عقِب الحرب. ولقد كانت مسيرته إلى العالَم الواقعي، على المستوى المفاهيمي، مشحونة بتوتُّرات هيكلية أفضَت إلى إحباط حتمي. وإذا ما سلَّمنا بأن هذه الحدود والقيود النظرية أكملت نقاط الانطلاق الشخصي، فسوف يكون عسيرًا تصوُّرُ سارتر وقد تحوَّل، ولكن ليس لأكثر من كونه مُراقبًا مُتعاطفًا بقوة، ومشاركًا وقتيًّا وعلى نحو عرَضي في المقاوَمة.
•••
وعلى الرغم من أنَّ كامي اصطحب سارتر وبوفوار إلى اجتماع يضمُّ فريق «كومبا»، فإنه لم تكُن لدى الاثنين الخلفية الأساسية، ولا المهارات اللازمة للعمل في صحيفة. بيْدَ أنه ظلَّ يعتبرهما صديقَين وثيقَي الصلة به، إلى الحد الذي جعله يصرُّ على عدم البقاء في البيت، عندما تبيَّنَ أن أسماء أعضاء الفريق أُفشِيت للألمان. وشاركاه، للحظةٍ على الأقل، الشعورَ بالخطر.
ونظرًا إلى أنَّ هناك الكثير الذي جمع بين كامي وسارتر، إذن لا غرابةَ في أن يعمَلا معًا من أجل تخطيط مشروعات مشتركة لفترة ما بعد الحرب. وساوَر الاثنَين طموحٌ لا حدودَ له، ولذلك كانا أبرز الرجال «الجُدد»، الذين انبثقوا عن سنوات الهزيمة والاحتلال والنضال. وأصبح كامي وسارتر صديقَين في لحظة من تلك اللحظات الفريدة التي تتميَّز بالتفرقة العميقة التي تفصلهما عن الجيل السابق. وعلى الرغم من اختلافِ كلٍّ منهما عن الآخَر بشكل واضح ومميز، فإنهما اشتركا معًا من حيث النظرة العامة الجوهرية والحساسية الأدبية، وكانا جزءًا من الدائرة نفسها، الفكرية والسياسية، ودائرة النشر. وانطلَقا معًا على طريق الشهرة. ومثلَما عَمِلا معًا لفترة قصيرة فيما يتعلَّق برواية «لا مَفر»، كذلك اكتشفا الآن مسار العمل المشترك بينهما.
وعقِب الحرب، قالا في حديث مع بوفوار إنهما سيبدآن معًا مشروع إصدار صحيفة، وناقش كامي وسارتر وموريس ميرلو-بونتي تأليفَ دراسة مشتركة تتناول الفصل الخاص عن «علم الأخلاق» في موسوعة الفلسفة التي تعتزم دار غاليمار إصدارَها، وأراد سارتر أن يكون العمل بمنزلة بيان (مانفستو) فريق — بحثًا يحدِّد الرؤية والموقف بشأن أخلاق عيانية واقعية متكيِّفة مع الظروف. وتوافقت آراؤهم إلى حد كبير، وكانوا يُدركون أن أفكارهم لا تزال طازجة تمامًا ومُتمايزة للغاية، وكانوا متجانسين للغاية بعضهم مع بعض بحيث في وسعهم أن يحلموا معًا بأن يُصبحوا مرشِدي الفكر لفرنسا بعد الحرب. والآن وقد أصبح بإمكان فرنسا أن تلتقط أنفاسها، وأن تقرأ — وهذا هو المهم — بحرية، فسوف يكونون هم محور الحياة والأحداث. وعبَّرت بوفوار عن ذلك بقولها: «كان علينا أن نزوِّد حِقبة ما بعد الحرب بأيديولوجيتها.» وهذا ما فعلوه.