الفصل الثالث

التزامات ما بعد الحرب

«سيكون الأمر أشد تعقيدًا إذا شِئنا عرْضَ أمر صداقتنا خلال فترةِ ما بعد الحرب.»

سارتر

وبدَت لحظة مبارَكة عقِب التحرير وكأنما هلَّت «أيام الغد الشادية» التي تنبَّأ بها واشتهرت على لسان الشهيد غابرييل بيري. نعم الجوع يشتدُّ بالناس، والملايين أُخرِجوا من ديارهم كرهًا، أو لا يزالون في معسكرات الاعتقال، أو في السجون، أو في معسكرات العمل التي أقامها الألمان، والمعاناةُ من النقص الحاد في كل شيء. واتَّجهت طاقات قوات التحرير الآن إلى طرد آخِر جحافل الألمان من فرنسا وإعلان النصر النهائي في الحرب. بيْدَ أن الحركة التي حاربَت وكسبت حربًا أهلية، وشرعت في الحرب وفقَ تشكيلٍ منظَّم إلى جانب الحلفاء، رأت أن هذه التحدِّيات تخصُّ شعبًا حرًّا. وعبَّر كامي عن هذا في افتتاحية أول صحيفة للمقاوَمة بدأت تعمل أثناء الثورة؛ إذ قال: «تحرير باريس يمثِّل خطوة واحدة فقط على طريق تحرير فرنسا، وهنا يتعيَّن أن نأخذ كلمة تحرير بأوسع معانيها.» ومسَّت الافتتاحية الوتر المهيمِن لفكر المقاوَمة. إنَّ حكومة التحرير والقوى السياسية والاجتماعية التي تعبِّر عنها وكذا في الحقيقة مزاج فرنسا السائد نفسه؛ كل هذا سيتوجَّه بشكل حاسم إلى اليسار. كيف يتأتَّى للشعب العادي ألَّا يضع أمر صناعة التاريخ بين يدَيه ويقوم بتغييرات جذرية، وقد شارك الكثيرون من أبنائه في النضال الذي أطاح بكل البناء العَفِن الذي أقامه فيشي، وتعرف أنهم في نهاية المطاف قد هزموا المتعاوِنين مع حكومة فيشي وجرَّدوهم من السلاح؛ ومن ثَم أصبح لزامًا معاقَبتهم ونبذهم تمامًا؟ ولقد تحوَّل نضال ديغول والمقاوَمة معًا إلى نصر، ليس من أجل الحلفاء فقط، بل من أجل فرنسا صاحبة السعادة.

خلَت الطُّرقات من زيِّ ميليشيا الألمان الكريهة وحكومة فيشي البغيضة، وانتهَت حالة التوترات المروِّعة التي سادت خلال فترة الاحتلال، وظهر مشهد آخَر دالٌّ على التغير الحاسم الذي حدث، وهو اختفاء جميع الصحف المتعاوِنة مع الاحتلال في ليلة وضحاها، وأصبحت صحف المقاوَمة البطولية مثل صحيفة «كومبا» هي الإعلام الرئيسي في فرنسا المحرَّرة، وتوارَت إلى الظل تلك القشرةُ الاجتماعية والثقافية والسياسية التي انتعشَت من خلال تعاونها مع الألمان، وكان من بينها الكثير من المؤسَّسات الأدبية والصحفية. وأصبح التغير الثوري، وسط هذه الطوارئ، أمرًا واضحًا ملموسًا، وساد مزاج دالٌّ على إمكان ظهور اتجاه جديد نحو السياسة التي أعلنت أنها لن تختلف فقط عما كانت عليه حكومة فيشي، بل وأيضًا عن الجمهورية الثالثة التي انهارت مع سقوط فرنسا في يونيو ١٩٤٠م.

وتوافَقَ مع صعود المقاوَمة ظهورُ مناخ يحاول استباق الأحداث والتنبؤ بما سوف يجري. وسرعان ما أصبح كامي وسارتر، وسط هذا المناخ، المفكِّرَين الرائدَين لفرنسا ما بعد الحرب. وتكلَّم الاثنان في اتساق مع مبدأ الالتزام في مواجَهة الخطر، وحملت كلماتهم وأفعالهم هالة النضال. وتطلَّع كامي، بين وصل وفصل، إلى أعوام ثلاثة أخرى محرِّرًا ورئيسًا لتحرير الصحيفة اليسارية الرئيسية غير الشيوعية، التي من المقرَّر صدورها في العلن بعد الحرب. ورأى كامي عن وعي ذاتي كامل أنه يمثِّل الروح المعنوية للمقاوَمة وإيمانها بضرورة إحداث تغيير جذري. وبدأ سارتر يتحدَّث عن «الالتزام» وطوره ليمثِّل الفكرة المحورية لفترة ما بعد الحرب، وأنجَز المهمة بإنشاء صحيفة وإنتاج سيل من المقالات والكتب والمسرحيات التي اتَّخذت من فكرة الالتزام محورًا لها. والجدير ذكره أنه خلال الفترة ما بين التحرير ونهاية العام ١٩٤٥م حقَّق كلٌّ من الرجلَين شهرةً وصلَت إلى أسماع جميع المهتمِّين، وواصَلا الكتابة في الفلسفة والنقد والرواية والمسرح والقصص والمقالات، علاوة على أن عملهما في الصحافة أضاف إلى هذا المجال الكثير يومًا بعد يوم.

وواضح أن شهرتهما تكمُن في قدرتهما على التعبير عن التجارب الاستثنائية التي عاشَتها فرنسا. وقدَّما للطلاب وللشباب ولجميع المتعلِّمين بعامةٍ أبطالَ الأدب الجُدد، وحلَّ الاثنان محلَّ كتَّاب من أمثال جيد ومارلو. ونعرف أنَّ جيد ألَّف كتُبًا مهمة سياسيًّا عن أفريقيا والاتحاد السوفييتي في العشرينيات والثلاثينيات. ويبدو هذان العَقدان إذا ما نظرنا إليهما الآن كتاريخ هما اللذان قادا إلى سقوط فرنسا. واعتاد الناس النظر إلى مارلو في وقت التحرير باعتباره الأكبر سنًّا، على الرغم من أنه يكبر سارتر بأقل من أربع سنوات. ولم يَعُد هو المتحدِّث البطولي بلسان ديغول، وإن كانت كتُبه الصادرة قبل الحرب — مثل «أمل الإنسان» و«قدر الإنسان» — لا تزال تخصُّ بحديثها الشباب.

وركَّزت أفكار سارتر وكامي على مزاج ما بعد الحرب لدى جيل من الشباب، خاصةً أولئك الذين تناوَبتهم ظروف شديدة التطرُّف؛ إذ إنَّ الكثيرين من أبناء هذا الجيل كانوا فرديِّين للغاية؛ ومن ثمَّ من المستبعَد أن يستهويهم النظام الفكري والسياسي للشيوعية. إنهم وقد انخرطوا في النضال، بل وراوَدهم أحيانًا الأمل، بدَوا يساريِّين من حيث المزاج، ولكن بأسلوب مُمعِن وبقوة في النزوع إلى الاستقلال والشك. وجعلت خبرة السنوات القليلة الماضية من هؤلاء الشباب عناصرَ أكثر قابليةً للأفكار والآراء المبنيَّة على الإحساس بعبثية العالم. وانجذبوا إلى سارتر وكامي ليس فقط بسبب الأفكار التي يعبِّران عنها، بل لأنهما مصمِّمان على العمل تأسيسًا على أفكارهما وعلى الالتزام بها. وأصبحت معارَضة سارتر وكامي للرأسمالية إحدى البديهيات السائدة. وعلى الرغم من أنهما امتنعا تمامًا عن الحديث عن الاقتصاد، كانت لديهما عشرات الأسباب الأخرى للمطالَبة بمجتمع اشتراكي ديمقراطي.

لقد كان كِلا الرجلَين من المؤمنين بشكل طبيعي بالمساواة، أحدهما من أبناء الطبقة العاملة، وهو كامي، لم يَستثمِر أبدًا نجاحه للارتفاع فوق هامات الآخَرين، خاصةً مَن شاركوه طفولتَه في الجزائر. وبدا من المسلَّمات أن تكون الساحة مستويةَ السطح من دون أي تمييز. كذلك سارتر الذي عاش طفولة متميزة رسَّخت فيه عداءً عميقًا إزاء الاستثناءات، لم يحاول التكبُّر على الآخرين؛ إذ يحمل في سويدائه كراهيةً إزاء مَن يعتقدون أن لهم حقوقًا على مَن سواهم … وكراهية للمؤسَّسات التي ترسِّخ مثل هذه الحقوق المدَّعاة، وتلتزم بهذا الاعتقاد فيما تؤدِّيه من أعمال عادية. ووجد كامي وسارتر مع تطوُّر فكرهما أن النظام الاجتماعي الوحيد المقبول هو الذي يكون فيه الاحترام المُتبادَل أساسَ العلاقة المتبادَلة بين جميع البشر؛ ومن ثَم فأنْ يكون المرء سياسيًّا يعني العمل على دعم الاشتراكية. وتمثَّلت أهم القِيَم الاجتماعية وأكثرها أساسيةً في التحرر من قيود التقليد، وأن يكون المرء ديمقراطيًّا ومؤمنًا بدور وفعالية الفرد لنزعة التسلُّط. وعلى الرغم من أن الاثنَين سليلا عالَمَين مختلفَين أشد الاختلاف أحدهما عن الآخر، فإنهما اعتَبَرا رفاهة الطبقة العاملة حجر الزاوية للتغير الاجتماعي. ورأى كلٌّ منهما أن مهمته السياسية هي تأسيس حضور مستقل يكون له توجُّهه وتأثيره بين الشيوعيين وغيرهم من فرق اليسار الموجودة، وأن يكون حديثهما تعبيرًا عن سياسة نضالية جديدة تتجنَّب المثالية العقيم، مع التأكيد على بناء بديل عن المجتمع البُرْجوازي.

والشيء اللافت للنظر أن أحدهما رأَس تحريرَ الصحيفة اليسارية الرائدة الجديدة التي انبثَقَت عن المقاوَمة، بينما رأَس الثاني تحريرَ الصحيفة الرائدة للجناح اليساري الجديد. وعملت هاتان الصحيفتان على نشر وترويج أفكار وقِيَم المقاوَمة، وسعى كلٌّ من كامي وسارتر، بصفتهما رئيسَي تحرير، إلى تحالف الأصوات الجديدة بحيث يتسنَّى تجاوُز التناقضات السابقة، فضلًا عن استثمار الرغبة الواسعة النطاق في توافر تفكير جديد مع بث روح معنوية وسياسية جديدة في المجتمع الفرنسي. واختلفَت المطبوعتان إحداهما عن الأخرى اختلافًا حادًّا شأن أي صحيفة في تميُّزها عن صحيفة فكرية. ودُعِي كامي للمشارَكة في «الأزمنة الحديثة»، ولكنه اعتذر بسبب ضغوط العمل في «كومبا»، وحلَّ محلَّه صديقه ألبرت أوليفيير. وطبيعي أن ليس يسيرًا تصوُّر كامي في اجتماعات التحرير لمجلة «الأزمنة الحديثة»، تمامًا مثلما أنه ليس يسيرًا تصوُّر سارتر بين أعضاء هيئة تحرير «كومبا». ونعرف أن قدرات واهتمامات كامي لا تتوافر فيها خصائص الفكر النظري من حيث التعقُّد والأصالة؛ وهي خصائص لازمة لهيئة تحرير «الأزمنة الحديثة». كذلك فإن عِشق سارتر للفكر النظري والمجرد لا يؤهِّله لتولِّي مهامِّ إدارة صحيفة.

واتَّخذت «الأزمنة الحديثة» — باعتبارها صحيفة ملتزمة، وحسبما رأى كثيرون — الوعيَ النقدي للمجتمع هدفًا لها. ونبذت كلمة مناهَضة الشيوعية، وحرصت على أن يكون الحزبَ الشيوعي والاتحاد السوفييتي في منأًى، وتميَّزت بأنها صحيفة متداخلة المباحث تعالج كل مسألة مهمة من قضايانا المعاصرة، ولا تقتصر على الفلسفة والأدب فقط، بل جميع المجالات الأخرى. ونظرًا إلى اهتمامها بالتنبؤ بالمستقبل وبالجانب المعنوي، فقد خاضت معاركها على جميع الجبهات، واستهدفت ابتكار «أنثروبولوجيا توليفية». ومثلما أفسحت مجالًا لعرض أعمال عدد من أهم كتَّاب فرنسا الجُدد — خاصة سارتر وبوفوار وميرلو-بونتي — كذلك جذبت آخرين، وسرعان ما أصبحت الصحيفة الثقافية الأولى في فرنسا، والنموذج الذي تحتذيه أيُّ صحيفة جادَّة أخرى.

وتحوَّلت «كومبا» إلى ما يُشبه صحيفة جديدة. التزمَت بضراوة بالاستقلال، وحرصت أشد الحرص على تجنُّب اللعب على أذواق الجماهير، أو الإذعان للنزعة التجارية أو التذلُّل لكسب ثروة أو استثناء، وهيَّأت فرصًا للعمل وللكتابة للكثيرين من الموهوبين الجُدد، نساءً ورجالًا، ممَّن ظهروا من بين صفوف المقاوَمة. والجدير الإشارة إليه هنا أن بوفوار حين زارت البرتغال كتبت تقارير صحفية لمجلة «كومبا». كذلك استأجر كامي صديقًا حميمًا لكلٍّ من سارتر وبوفوار يُدعى جاك-لورانت ليكون مراسِلًا حربيًّا، وتعاقد معه على الكتابة. وأرسل فيما بعدُ تقارير إلى «كومبا» من الولايات المتحدة. وقالت بوفوار ذاتَ يوم عن ذكرياتها: «أينما سألت كامي عن ميزة، فإنه سرعان ما يلبِّي الطلب عن رضًى واستعداد، حتى إنك لا تتردَّد في طلب ميزة أخرى. ولن يخيب الطلب أبدًا. وطلب أيضًا العديدون من الأصدقاء الشباب العملَ لحساب «كومبا»، واستوعبهم جميعًا، وأصبح فتح صفحات المجلة صباحًا مثل الاطِّلاع على بريدنا اليومي.»

وكتب كامي الكثير جدًّا من افتتاحيات «كومبا». ولحظ ناشره الجزائري إدموند شارلوت عند وصوله إلى باريس مع نهاية العام ١٩٤٤م أن المجلة تنفد فور ظهورها على أرفف الباعة، وأن افتتاحيات المجلة هي «حديث مدينة باريس». والجدير ذكره أن مسرحية كامي «سوء الفهم» جرى تمثيلها لأول مرة أمام حضور مُتباين الرأي والنظرة بشكلٍ حادٍّ، بعد أن نزل الحلفاء إلى برِّ نورماندي، ولكن أُعِيد تمثيلها بعد التحرير، ثم صدرت مطبوعة مع مسرحية «كاليغولا». وصدرت «رسائل إلى صديق ألماني» في كُتَيب، وكذا أُعِيد طبع «أسطورة سيزيف»، و«الغريب»، وأُعِيد طبع مجموعة مقالاته الجزائرية «العرس» مرتَين. وفي مايو ويونيو ١٩٤٥م كتب كامي سلسلة مُهمة من المقالات عن الجزائر، وجرى عرض مسرحية «كاليغولا» لأول مرة في سبتمبر ١٩٤٥م. وعلى الرغم من أن كامي عمل ببطء في أثناء ذلك لكتابة «الطاعون»، وأوشك على فقد الثقة في قُدراته، فإنَّ جمهوره لم يكُن أبدًا ليساوِره ظنٌّ في هذا الاتجاه. واستطاع قرَّاؤه أن يشتروا خلال بضعة أشهر ما لا يقلُّ عن خمسة كتب من كتبه التي تحتوي على مقالاته ومسرحياته ورواياته، علاوةً على المتابَعة اليومية لافتتاحيات المجلة.

وبعد التحرير بفترة قصيرة نشَر سارتر «لا مَفر»، علاوة على بعض المقطوعات عن الاحتلال ومقالات عن المسرح ودفاعًا عن الوجودية، وأجرى عديدًا من الأحاديث. وفي أواخر نوفمبر طلبت الحكومة الأمريكية من كُبريات الصحف إرسالَ مُراسِلين لها إلى الولايات المتحدة. وتُفيد رواية بوفوار أنها لم تشهد أبدًا «سارتر وقد أخذته النشوة إلى أقصى حدٍّ عندما عرض عليه كامي وظيفة مُمثل لمجلة «كومبا».» وطوَّف خلال الأشهُر القليلة الأولى من العام ١٩٤٥م في الولايات المتحدة، ونشر اثنتَين وثلاثين مقالة في «كومبا» و«لو فيجارو». وتتراوح هذه المقالات ما بين مُناقشات في شأن هيئة وادي تينيسي وهوليوود وعمَّال أمريكيِّين، وصولًا إلى محاوَلات لاستكشاف النفسية الأمريكية والمدن الجديدة في البلاد. ثم بدأ ما سمَّته بوفوار «الهجوم الوجودي». وفي مطلع خريف ١٩٤٥م، وعلى مدى بضعة أسابيع، صدر لسارتر «عصر العقل» و«إرجاء الحكم» Reprieve. وأصدرت بوفوار، في أثناء ذلك أيضًا، «دم الآخرين»، كما تمَّ افتتاح مسرحيتها «الأفواه العابثة» Les Bouches Inutiles، وألقت بوفوار محاضَرة عامة عن الرواية والميتافيزيقا، واستهلَّت «الأزمنة الحديثة» أول أعدادها، وقدَّم سارتر محاضرته الشهيرة بعنوان «الوجودية هي الإنسانية».

وفي مساء ٢٩ أكتوبر ١٩٤٥م سافر سارتر وحده إلى قاعة الاجتماعات في سنترو لإلقاء محاضَرة أعلنت عنها مجلات «كومبا» و«لوموند» و«لو فيجارو» و«ليبراسيون»، كما جرى الإعلان عنها عن طريق ملصقات لدى العديد من المكتبات. وأذهَل نجاحُ الحدث المسئولين عن تنظيم المحاضرة؛ إذ امتلأت القاعة حتى فاضت عن آخِرها، واضطرَّ بعض الجمهور إلى التكدُّس في الخارج. وظنَّ سارتر وهو يدنو منهم أنهم يتظاهرون ضدَّه، وشهدت القاعة تكسير العديد من الكراسي، وإغماء بعض النسوة، وتكدُّس الممرَّات بمَن فيها، حتى إن سارتر وصل إلى المسرح بعد محاوَلات مجهدة على مدى خمس عشرة دقيقة.

وحظيت المحاضرة بتغطية صحفية واسعة، وظهر مقال موريس نادو في مجلة «كومبا» تحت عنوان رئيسي «جماهير غفيرة تستمع إلى محاضَرة سارتر. حماس شديد، وإغماءات وشرطة وسيارات إسعاف. لورانس العرب الوجودي». ولا تزال محاضَرة سارتر، وبعد مرور خمسين سنة من أول يوم لإلقائها، مقروءةً على نطاق واسع في الولايات المتحدة، ولكن تحت عنوان مُضلِّل يقول «الوجودية والانفعالات الإنسانية». وتُعتبَر المدخلَ الأكثر شيوعًا لفلسفته. وتُمثِّل الفكرة الرئيسية فيها «الوجود يسبق الماهية»، بمعنى أن البشر أحرار في تقرير مصيرهم؛ إذ إنهم يَخلقون هُويَّتهم وليسوا متلقِّين لها. ونحن مسئولون مسئولية كاملة عما نئول إليه. «الإنسان ليس شيئًا سوى ما يصنعه هو من نفسه.» وقدَّم سارتر الحججَ تلو الحجج ضد الفكر الماهوي والجبري، بما في ذلك الدين والماركسية. وعمد في سبيل ذلك إلى أن يصفَ الحرية في وضوح وبساطة — وبساطة شديدة كما رأى بعد ذلك — بأنها شكل لا انفصام له عن الوجود البشري.

واستهلَّت «الأزمنة الحديثة» صدورها قبل ذلك بأسبوعَين في ١٥ أكتوبر، وفجأةً أصبحت «الوجودية» على لسان كل إنسان. وتقول بوفوار مُتذكِّرة هذه الأحداث:

«دهشنا لحالة السُّعار التي سبَّبناها فجأةً، وربما بالطريقة نفسها عندما يرى المرء صورة في بعض الأفلام وقد تجاوَزت إطارها واتَّسعَت لتملأ شاشة أوسع، هكذا فاضت طاقة حياتي وتجاوَزت حدودها القديمة، وجدتُ نفسي مدفوعةً إلى داخل الأضواء. إنَّ متاعي قليل الوزن للغاية، بينَما سارتر مُنطلِق في هرولة إلى مضمار الشُّهرة واسمي مُقترِن باسمه. ولا يمضي أسبوع من دون أن تُجري الصحف نقاشًا معنا. وطبعت «كومبا» تعليقات ودِّية تناوَلَت كل شيء نطقنا به أو كتبنا عنه. وهناك مجلة «تير ديز وم» (أرض البشر) — وهي مجلة أسبوعية بدأها بيير هيربرت وقُدِّر لها أن تستمرَّ لبضعة أسابيع فقط — خصَّصت لنا في كل عدد من أعدادها كثيرًا من الأعمدة الودِّية أو الجامعة بين النقد والمدح. وانتشرت الثرثرات في كلِّ مكان عنا وعن كتابتنا. وكنا نرى في الطرقات المصوِّرين يُوجِّهون كاميراتهم وفلاشاتها نحونا، بينما الغرباء يتدافعون نحونا للتحدث إلينا، ويُحدِّق الناس إلينا ويتهامسون ونحن جلوس في مقهى فلور.»

وأضحت الوجودية أول صرعة إعلامية في حِقبة ما بعد الحرب، وبدَت وكأنها أُعِدَّت خصوصًا وحسب طلب صحافة ما بعد التحرير، التي ازدهرت وزادت أعدادها إلى أربع وثلاثين صحيفة يومية جديدة خلال سنة واحدة، وكان كامي واحدًا من بين مَن يُناقشونهم عن الوجودية مع سارتر وبوفوار. واشتمل تألُّق سارتر وكامي على عنصر مُهم هو الإحساس بما يكتنف أعمالهما من أسباب الخزي. ذلك أن الكاتبَين نبَذا الدين ومظاهر التأنُّق التقليدية. والمعروف أن سارتر صوَّر شخصيات كريهة ومواقف متطرِّفة صدمت أصحاب الطبائع المعتدلة، مثل: الحديث عن ثلاثة أشخاص محبوسين إلى الأبد في جحيم قاعة استقبال مزدانة بأثاث القرن التاسع عشر. وصوَّر كامي جريمة قتل ارتكبها في بلاده وبلا سبب رجلٌ مأفونٌ تعوزه المشاعر العادية. وإن مثل هذه الكتابات التي يكتبها سكَّان الضفة اليسارية تربطها الصحافةُ الشعبية الغاضبة بحي بوهيميي ما بعد الحرب. واعتادت صحيفة «ساميدي سوار» — الواسعة الانتشار في عرضها للحانات الليلية في الضفة اليسارية — أن تصف جميع روَّادها من أصحاب الثياب الرثَّة بأنهم وجوديون. وبلغ الأمر حدًّا أن نشرت الصحيفة مقالًا يُوضِّح كيف عمد سارتر إلى غواية فتاة وإغرائها بمصاحَبته إلى غرفته لتشمَّ رائحة جبن الكاميمبر.

وخصَّصت صحيفة فرانس-ديمانش التي تُوزِّع أكثر من مليون نسخة، صفحة كاملة للحديث عن سارتر؛ «ذلك الرجل الذي لا ينال التقديرَ الذي يستحقُّه، الذي يمشي داخل مقهى دي فلور بخطوات قصيرة، وقد دفن رأسه داخل سترته الصوفية القَذِرة وجيوبها محشوَّة بالكتب والأوراق، ومتأبطًا رواية لبلزاك من المكتبة العامة.» ووصفت سارتر جالسًا إلى طاولة محدِّقًا بانفعال، وقد «أزاح عن رقبته الكوفية … واستدفأ ببعض كئوس الكونياك، بينما البايب الصغير الذي لا يفارق شفتَيه الشهوانيتَين يحترق في داخله تبغ من النوع الرخيص … ويُخرج من حقيبة يده قلمًا صغيرًا … ليسوِّد أربعين صفحة من مسوَّدة.» وبعد أن يتحلَّق حوله جمعٌ صغير من تلامذته وكأنهم مجموعة من سمك السردين، يأخذ طريقه إلى حانات الليل في سان جيرمان.

ولكن هذه الشهرة لم تكن محصورة داخل فرنسا، وسبق أن تحدَّثت بوفوار عن «المجد الفارغ» الذي حطَّ على سارتر بعد الحرب مباشَرة، وقالت عنه «واقع جديد» ميلاد عالم واحد حوَّله إلى كاتب ذي شهرة عالمية. لقد تخيَّل، ولسنوات طويلة، أن «الغثيان» لن تُترجَم، ولكن نتيجة للتقنيات الحديثة وسرعة الاتصالات ظهرت أعماله في أكثر من عشر لغات. وحدث الشيء نفسه مع كامي؛ إذ بحلول العام ١٩٤٧م ظهرت رواية «الغريب» باللغات الإنجليزية والسويدية والإيطالية؛ وظهرت «كاليغولا» و«سوء الفهم» بالدانمركية والإيطالية والإنجليزية، وظهرت «أسطورة سيزيف» بالإيطالية والسويدية، وصدرت «رسائل إلى صديق ألماني» في الأرجنتين وسويسرا وإيطاليا، ومهَّدت جميعها السبيلَ لاستقبال «الطاعون» على نطاق عالمي واسع، والتي سرعان ما تُرجِمت إلى عشرات اللغات خلال العام من تاريخ نشرها العام ١٩٤٧م. وبدأ الحديث يتردَّد من ذلك التاريخ فصاعدًا عن كامي وأحقية ترشيحه لجائزة نوبل.

وكيف استجاب كامي وسارتر لشهرتهما الفجائية؟ كتب كامي في صحيفته قبل هذا بتاريخ أكتوبر ما يلي: «عرفتُ الشُّهرة في ليلةٍ وضحاها وأنا في الثلاثين. لستُ آسفًا على شيء. ربما تُؤرِّقني كوابيس فيما بعد. بيْدَ أنَّني أعرف الآن ما هي. إنها ليسَت بالشيء المبالَغ فيه.» ونَلحظ أن هذا الشعور بفقدان المتعة أفضى إلى نغمة من الشكوى بعد الاستقبال الذي قُوبِلت به «كاليغولا» (ثلاثون مقالًا). إنَّ «سبب المديح سيِّئ، مثله مثل سبب النقد، نادرًا ما تجد صوتًا أو صوتَين أو أصواتًا لها مصداقية تحرَّكت في انفعال الشُّهرة! إنها في أفضل الحالات سوء الفهم.» لم يُقدِّر كامي نجاحه حقَّ قدره، ربما يكون فاتر الحماس، وسريع الانفعال، وينزلق في سهولة إلى مشاعر تضخُّم الذات والاعتداد بالنفس. وطبيعي أن الشهرة لها متطلَّباتها المَهُولة، بل التفرغ للعمل في دار غاليمار لا يوفر الوقت اللازم لكلِّ مَن يُريد لقاءه وإجراء حديث معه، أو لسؤاله دعمًا سياسيًّا أو مَشورة شخصية. وكتب بعد سنوات قصةَ فنَّان أعمَته الشهرة حتى فقد نفسه. وبدا أنَّ كامي يَضيق بالشهرة، ويذهب أحد كاتبي سِيرته إلى أن الشهرة حطَّمته.

ولكن سارتر على العكس من ذلك؛ إذ استجاب في سهولة ويُسر إلى شهرته، ربما لأنه كان يُسلِّم دائمًا بعبقريته. وقال فيما بعدُ إن شُهرته أحبطَت هجماتٍ استهدفته من اليمين ومن اليسار. «الشهرة بالنسبة إليَّ كانت الكراهية»، بيْدَ أنه عرف أيضًا كيف يستثمرها.

وقال فيما بعدُ: «ما دمت استطعت أن أتبيَّن ما كان يحدث بدرجة أو بأخرى، فقد تولَّد لديَّ من فكرة «الرأي العام» شيء لم يُدرِكه أبدًا الكتَّاب السابقون. إن في وسع الكاتب أن يستحوذ على جمهور بأكمله إذا ما قال لهذا الجمهور ما يفكِّر فيه، حتى وإن لم يكُن بوضوح كامل.»

•••

وعلى الرغم من أن سارتر لم يَعتَد لقاء أصدقاء رجال من دون أن تكون بوفوار معه، لكنه خلال السنة الأولى من صداقته مع كامي كان في غالب الأحيان يلتقي كامي في الصباح في مقهى دي دو ماجو، بيْدَ أن مذكراته لم تكُن متَّسقة في هذا الشأن؛ إذ إنه بعد ثلاثين عامًا يتذكَّر ويقول: «سارت الأمور على ما يرام لسنة أو سنتين.» ثم استطرد ليحدِّثنا إلى أي مدًى كان كامي مُسلِّيًا. ولكن «الحميمية كانت مُفتقَدة بشكلٍ ما. لم تكن مُفتقَدة في المحادثة ولكنها لم تكن عميقة، ولم يُفارقني الشعور باحتمال حدوث صدام إذا ما تطرَّقنا إلى أمور بعينها، ولذا كنَّا نتحاشاها. وكم كان يَروق لنا كامي، غير أنَّنا نعرف في قرارة نفوسِنا أنَّنا لن نمضي بعيدًا جدًّا.» وظلَّت الحمية بين الرجلَين قوية وعميقة إلى حدِّ أن سارتر، آنَذاك، اعتَبَر كامي أوثقَ أصدقائه وأقربهم إليه.

وتميَّز حيُّ سان-جيرمان دي بريه بأنه كان يثير مشاعر وشجونَ مَن يعيش ويعمل فيه. واعتاد سارتر وكامي خلال أعوام ما بعد الحرب أن يقضيا أكثر أوقاتهما معًا ومع الآخرين في إحدى الحانات أو المقاهي المُغلَقة أو مَقاهٍ في الهواء الطَّلق، ونعرف من مذكرات بوفوار أن كامي أصبح يشكِّل عنصرًا مهمًّا في حياتَيهما؛ يتحادثون ويأكلون ويشربون ويرقصون معًا، وكان كامي أحيانًا بعد أن يفرغ من عمله في دار غاليمار يَلحق أحيانًا بكلٍّ من سارتر وبوفوار وفي صحبته سكرتيرته إلى المقهى. وبعد أن يفرغا من الشَّراب ربما يَقصدان حانة لتناول العشاء أو للقاء أصدقاء آخرين لمُشاهدة مسرحية يوريس فيلن وجولييت غريكو، ثمَّ يختتمان الأمسية في مقهًى في الهواء الطَّلق لتناول شراب العودة وقد انتشى كامي تمامًا وعاد إلى بيته يترنَّح.

ولم يَكشف كامي عادةً عن مشاعره القَلِقة الدفينة إزاء سارتر، وآثر أن يكون مُتحفظًا معه إلى حدٍّ ما، لكنَّه كان أميل إلى الثِّقة في بوفوار. والجدير ذكره أنها التقت كامي «كثيرًا» وقتَما كان سارتر في نيويورك في نهاية العام ١٩٤٥م.

«نظرًا إلى أنني امرأة — ومن ثمَّ هو إقطاعي الثقافة تمامًا في نظرته إلى الأمور وليس كفؤًا — ربما يتحرَّج من أن يحكي لي أسراره الخفية عن نفسه: ناوَلني أجزاءً من مذكراته لأقرأها، وحدَّثني عن مشكلات حياته الخاصة، ووجدت فكرة واحدة تشغله وكثيرًا ما يعود إليها؛ لا بدَّ من أن يكتب الحقيقةَ يومًا ما! وواقع الأمر في حالته أن ثمَّة فجوة بين حياته وعمله، بيْدَ أنها فجوة أكبر من كثيرين آخَرين. ولحظت أننا، حين نخرج معًا ونحتسي شرابًا ونضحك ونُثرثر معًا، ثم يغلب عليه في آخِر الليل المزاح والسخرية، يبدو خشنًا، وكثيرًا ما يكون بذيئًا إلى أقصى حدٍّ في محادثته. إنه قد يكشف صراحةً عن عواطفِه، ويُطلِق العِنان لرغباته الكامنة، وكانت لدَيه القُدرة لكي يَجلس وسط الثلج على حافة الرصيف في الثانية صباحًا، متأملًا الحب في أسًى وحزن: «عليك أن تختار. الحب إمَّا أن يدوم أو يطير في الهواء مع ألسنة اللهب. المأساة أنه لا يدوم ويغدُو ألسنة لهب تتصاعد إلى السماء.» أحببت «الحمية الجيَّاشة في جوعها النَّهِم» التي اغترب بها عن نفسه إلى الحياة واللذَّة.»

والجديرة ملاحظته أن مُذكرات بوفوار التفصيلية تتبايَن بشكلٍ مذهل مع مذكرات سارتر التي تبدو بعامةٍ مبهَمةً معماة. وسبق لها أن أفادت بأن اختلافاتها السياسية الواضحة في ١٩٤٥م كانت بسيطة. واضطرَّ كامي تحت إلحاح مارسيل إيميه — وهو كاتب مسرحي، وكان أحد معاونيه — إلى توقيع التماس إلى ديغول لإصدار قراراته في شأن الكاتب روبرت برازيلاك المحكوم عليه بالإعدام. هذا بينما التزم سارتر وبوفوار بدعم حكم الإعدام. وفي نوفمبر العام ١٩٤٦م دافَع كامي عن ديغول ضد موريس توريز زعيم الحزب. وتقول بوفوار في هذا الشأن:

«بينما أهم لأتركه صاحَ بي من نافذة السيارة: على الأقل فإنَّ الجنرال ديغول أفضل شكلًا من جاك دوكلو (الثاني بعد توريز في سُلَّم قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي). وفجأني أن يصدُر عنه مثل هذا الأسلوب النَّزِق في المحاجة. وها هو الآن نرى موقفه بات بعيدًا جدًّا عن موقف ديغول، لكنه أبعد شقةً عن الشيوعيين.»

•••

كان حديث سارتر وكامي مقلًّا فيما يتعلق بالأدب والفلسفة، إلا إذا كان الأمر يخصُّ إصدار أحكام شاملة بشأن كُتَّاب من أمثال مورياك أو مارسيل، ممَّن لا يُحبَّانهم، أو فوكنر الأثير لديهما. وأفاض سارتر في الحديث عن هذا فيما بعدُ، حتى إنه «سيكون الأمر أشد تعقيدًا إذا شئنا عرض أمر صداقتنا خلال فترة ما بعد الحرب. نشأت بينَنا علاقة غريبة وأظنُّها لا تتطابق مع العلاقات التي كان يودُّ أن تنشأ بينه وبين آخَرين. كذلك بالمثل لم تكُن علاقتنا به من النوع الذي نحبُّ أن يكون بيننا وبين الناس.» تُرى أي نوع من العلاقات ذلك الذي كان يحبه سارتر؟ نعرف أنه بعد وفاة زميله في الدراسة بول نيزان في الجبهة العام ١٩٤٠م، وبعد رحيل زميل آخر له في الدراسة، وهو رايمون آرون، إلى لندن، أقام سارتر صداقة وثيقة واحدة مع ندٍّ له وهي صداقته مع كامي. والجديرة ملاحظته أنه على الرغم من أن سارتر تعاون فلسفيًّا وسياسيًّا مع شخص كُفؤ له، وهو موريس ميرلو-بونتي، أو مع فرنسيس جينسون الذي يَصغُره ويتميَّز بأنه ذو عقل مُستقل، فإنه لم يُصبح وثيق الصلة شخصيًّا مع أيٍّ منهما. وعرف شبابًا آخَرين انضمُّوا إلى حلقة «عائلة» سارتر-بوفوار، لكنهم كانوا مجرد كواكب يدُورون في فلكها.

وكتبَت بوفوار أن كامي حين اشتهر أصبحت أفكاره أكثر تعميمًا وشمولًا، كما أصبح أسلوبه الشخصي أكثر غطرسةً. بيْدَ أنني اعتقدت أنه كان لديه سبب أكثر تميزًا جعَله شديد الحساسية إزاءهما؛ ذلك أن كامي لا يرُوق له الاستسلام لعلاقة من النوع الذي «يحبُّه سارتر بينه وبين الناس»؛ إذ على الرغم من أن سارتر كان يحترم هذا الاستقلال، كان كامي يجاهد في سبيل تجنُّب الظهور في صورة تابع لسارتر يدور في فلكه. ولكن ما إن أصبح الاثنان حديث باريس وكل فرنسا، حتى تعاظم هذا التصور، وأحسَّ كامي بضرورة أن يحدِّد مَن هو مقابل سارتر، وأضحت هذه الحاجة إلى تحديد ذاته أكثر إلحاحًا وضرورةً؛ نظرًا إلى أن سارتر اعتبر كامي نموذجًا، وأدمج طريقة صديقه في الوجود ضمن نظريته هو.

•••

هذا التطور في علاقتهما هو الذي أطلق في حماسٍ تلك الكلمة التي اشتهرت عن سارتر في هذا الخريف؛ وهي الالتزام. ونعرف أن كامي، وقبل أن يُنشئ سارتر «الأزمنة الحديثة»، دعا وبقوة إلى الالتزام بالمقاوَمة. وجاءت دعوته هذه في مقالٍ لم يوقِّع عليه ومنشور في مارس ١٩٤٤م في مجلة «كومبا» السرية. وتردَّدت في كتاباته دائمًا لازمةٌ نصُّها: «هذا لا يعنيني»، باعتبارها تأتي على لسان غير المُلتزم. وردًّا على هذا، أكَّد أن «كل عمل يقترفه العدو، وكل عمل من جانب المقاوَمة أمر يعنينا جميعًا.» إن «جميع أبناء الشعب الفرنسي مرتبطون اليومَ بالعدو على نحوٍ يجعل أي حركة تأتي من شخص واحد من شأنها أن تخلق رُوح المقاوَمة في نفس كلٍّ منا من دون استثناء، وإن موقف اللامبالاة أو تشتُّت الفكر لدى شخص واحد يُفضي إلى موت الآخرين.» وعمد كامي تحديدًا إلى الكلمات الموجَزة المُحكَمة، وتحاشى الدعوات المُسهبة استنادًا إلى نظرية أو إلى تاريخ؛ وقصر حديثه على الدعوة إلى السلاح برهانًا على الالتزام. وشغلته هذه الدعوة حتى العام ١٩٤٧م وهو رئيس تحرير «كومبا»، وعلى مدى بقية حياته كمثقَّف ناشط.

وتمثِّل رواية «الطاعون» التي كان عاكفًا عليها آنذاك دليله إلى الالتزام؛ إذ تعبِّر عن عزم غير مصطنع لعملِ ما يتعيَّن عمله في مواجَهة خطر شامل من دون أن نعزو، كما يقول الراوي، أهميةً مبالغًا فيها إلى أعمال بطبيعتها جديرة بالثناء. ومن ثم فإن مَن شاركوا في «فرق العناية بالصحة البيئية»، إنما فعلوا هذا لأنهم «عرفوا أن هذا هو الشيء الوحيد الذي عليهم عمله، وأن الشيء الذي لم يكُن بالإمكان تصوُّره هو ألَّا ينهضوا بدورهم هذا.» إنه الإجراء الذي يتطلَّبه الموقف، وهذا كل شيء. ونلحَظ هنا أول الأمر أن الصحافي رامبرت الذي باعدَت الأحداث بينه وبين زوجته شأن كامي، ويَتُوق إلى العودة إليها، يخطِّط لترك الحجر الصحي في بلدة وهران، بيْدَ أنه يقرِّر في النهاية البقاء. ويتعلَّم بخبرته أن مكافحة الوباء القاتل «همٌّ يشغل الجميع»، وأن مثل هذا الواجب يمكِن إنجازه فقط بفضل عمل جمعي يستلزم جهد فريق لا تغيِّره حدود، وتتوافر في شأنه الرغبة الطوعية لكي يضع المرء نفسه في خدمة الموقف مع قَبول كلِّ ما ينطوي عليه من مخاطر.

ونلمس في هذا التضامُن بساطةً داعمة، حتى وإن بدَت مبهمة بين حينٍ وآخر على نحوِ ما كانت الحال وقتما كان ريو وتارو يسبحان معًا. ونقرأ في الفقرة المدهشة التالية وصفًا ليس للصراع بل للَحظة الانعتاق منه؛ ومن ثَم هي واحدة من أبرز أعمال كامي.

«خلَعا ملابسهما وغطس ريو أولًا، وبعد أن زايلته الصدمة الأولى للبرودة وطَفا ثانيةً على سطح الماء بدَت له المياه فاترة. وبعد أن ضرب الماء بساعدَيه بِضْع ضربات وجد البحر دافئًا في هذه الليلة بدفء بحار الخريف التي تستمدُّ من الشاطئ الحرارةَ المتراكمة على مدى أيام الصيف الطويلة. وخلَّفت حركات ساقَيه ثورة من الزبد الطافي، بينما يشق طريقَه سابحًا إلى الأمام والماء يَنزلق على طول ذراعَيه لكي يُطبِق بقوَّة حول ساقَيه، وعرف من صوت دفعةِ ماءٍ صاخبة أن تارو غطس هو الآخَر. استلقى ريو على ظهره ساكنًا يحدِّق بناظرَيه إلى قبَّة السماء التي يُضيئها القمر والنجوم، وأخذ نفَسًا عميقًا، ثمَّ سمع صوت ضربات أذرُع تلطم الماء وتعلو واضحة على نحو يُثير الدهشة في فراغ صمت الليل. ها هو تارو يدنو منه ويسمع الآن صوتَ أنفاسه.

عاد ريو ليسبح حذْوَ صديقه وقد ضبط إيقاع ضربات ذراعَيه مع ذراعَي تارو، ولكن تارو كان السبَّاح الأقوى؛ ومن ثَم كان على ريو أن يُسرِع ليواكِبه. سبَحا مُتجاورَين بِضْع دقائق بالحماس نفسه، وبالإيقاع نفسه، في عزلة عن العالم وقد تحرَّرا أخيرًا من البلدة ومن الطاعون. وكان ريو أول مَن توقَّف، وسبح الاثنان ببطء عائدَين إلا عند نقطة واحدة، حيث وجدا نفسَيهما فجأةً ومن دون توقُّع داخل تيار مياه في برودة الثلج. حفَّز هذا الموقف طاقةَ كلٍّ منهما وقد ماج البحر وغطَّتهما المياه؛ ومن ثم شدَّدا من قوة ضرباتهما للسباحة.

ارتديا ملابسهما وبدآ طريقَ العودة، ولم ينبس أحدهما ببنت شفة للآخر، وإن حرصا على أن يكونا في انسجامٍ تامٍّ معًا، وأن تحتفظ الذاكرة في اعتزاز بذكرى هذه الليلة … وحين أبصرا على البُعد المراقِبَ المنوط به متابَعة حالة الطاعون، خمَّن ريو أن تارو يفكِّر، مثله هو، في أن المرض أمهلهما فترة من الراحة، وأن هذا شيء طيب، ولكن بات لزامًا عليهما الآن أن يعودا إلى تحمُّل العِبء وأداء الواجب المنوط بهما من جديد.»

لم ينبس أحدهما ببنت شفة، وهو عين المراد. كان هذا طقسًا شعائريًّا بين مُحارِبَين في غير حاجة إلى بيان حجم المشاركة بينهما، واستوعب صمتهما إحساس كامي بالالتزام.

وبديهي أن مثل هذه الكتابة، فضلًا عن نشاط وشخصية صاحبها، ألهمَت سارتر بضرورة الارتباط سياسيًّا. وكانت هذه العملية عسيرة وطويلة، وهي إحدى الخطوات الرئيسية على طريق صداقة سارتر مع كامي. وحكى سارتر ماذا يعني صديقُه له في محاضَرة ألقاها في نيويورك، وقتَما كان يرسل التقارير من الولايات المتحدة إلى كامي في مَطلع العام ١٩٤٥م. والجدير ذكره أن هذا البيان الكاشف لم يَظهر أبدًا بالفرنسية طوال حياة سارتر، وإنما ظهر فقط في الترجمة الإنجليزية، في مجلة «فوج» في يوليو ١٩٤٥م. ونظرًا لأن سارتر نفسه كان واحدًا من «الكتَّاب الجُدد» الذين يتحدَّث عنهم بينما روايتاه الثانية والثالثة تحت الطبع، حسبما قال، فقد بدَت المحاضَرة قطعة رائعة للدعاية الذاتية عن طريق الاحتفاء بصديقه.

وبدأ سارتر يؤكِّد أنه بعد الحرب والهزيمة والاحتلال والمقاوَمة والتحرير بدَت كتابات الجيل السابق «تُبطئ، وتتراخى مُتعبة وغير ذات صلة بالموضوع»، وأخذ أدب جديد في الصعود، «هو ثمرة المقاوَمة والحرب، وخيرُ مَن يمثِّله هو ألبير كامي البالغ من العمر ثلاثين عامًا.» وتميَّز الكتَّاب الجُدد اليومَ بخبرتهم العميقة عن النضال ضد الاحتلال.

«إنهم إذ يَنشُرون الكثيرَ جدًّا من المقالات السرية، معرِّضين أنفسهم مرات ومرات لظروفٍ خَطِرة بغيةَ تقوية عزيمة الشعب في نضاله ضدَّ الألمان، أو مضاعَفة حماستهم وشجاعتهم، أصبحوا على أُلفة بالنظرة التي ترى الكتابةَ عملًا وفعلًا، واكتسبوا القُدرة على تذوُّق معنى وقيمة العمل. إنهم أبعد ما يكونون عن الزعم بأن الكاتب غير مسئول، وإنما يُطالِبون بالعكس؛ إذ يرون أنَّ الواجب يقتضيه دائمًا وأبدًا وفي كل الأوقات أن يكون أهلًا لدفع ثمن وكُلفة كتابته. ونعرف أن الصحافة السرية ليس بها سطر واحد يكتبه صاحبه دون أن يُعرِّض حياته للخطر، سواء كان كاتبًا أو طابعًا أو مُوزِّعًا لمطبوعات المقاوَمة. وهكذا استعادَت الكلمة المكتوبة سلطانها بعد التضخُّم الذي ساد السنوات فيما بين الحربَين وقتَما بدَت الكلمات أشبه بأوراق النقد التي لا يستطيع المرء دفع مقابلها ذهبًا.»

علَّمَت المشاركة المباشِرة في المقاوَمة هؤلاء الكتَّاب أن «حرية الكتابة مثلها مثل الحرية ذاتها، يتعيَّن الدفاع عنها بالسلاح في ظروفٍ بعينها.» بيْدَ أن هذا الالتزام أثَّر بعُمق في كيفية نظرهم إلى الأدب الذي لم يكُن «نشاطًا خياليًّا مرتكزًا على سياسة مستقلَّة.» إنَّ الكتَّاب الأحدث من أمثال كامي التمسوا سبيلًا لإلزام قرَّائهم؛ وهذا هو السبب في أن الأدب الملتزم كان في هذه اللحظة موضوعًا للنقاش على نطاق واسع في فرنسا.

وركَّز سارتر الآن على الكتب التي صنعَت لكامي شُهرته، والتي التقى به من خلالها، وهي رواية «الغريب» و«أسطورة سيزيف»، وهذان العملان صاغهما وكتبهما كامي قبل الحرب، وأعاد صياغتهما باعتبارهما من كتابات زمن الحرب. وقال إن كتابَي كامي «ينضحان حزنًا عميقًا»؛ نظرًا إلى أن فرنسا كانت تعيش آنَذاك فترةً مأساوية. وقرن إحساسَ كامي بالعبث بأهوال الحرب — مثال ذلك معسكرات الاعتقال — مؤكِّدًا أن تشاؤم كامي كان صحيًّا وبنَّاءً. «إنه إذ فقد كل أمل في أن يجد المرء نفسَه، عرف أن بوسعه الاعتماد على نفسه، وأن الحضور الدائم للموت وخطر التعذيب الماثل دائمًا وأبدًا جعَل الكتَّاب من أمثال كامي يقدِّرون حقيقة قوة وحدود الإنسان.» إنَّ العيش في ظرف تبلغ فيه القسوة أقصاها، حيث يؤرِّق المرءَ — وبشكل واضح وملموس — سؤال: «تُرى هل أتكلَّم إذا عذَّبوني؟» جعل كامي وغيره من كتَّاب المقاوَمة مَعنيِّين ليس فقط بالإنسان باعتباره كائنًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا، بل كما قال سارتر: «بالإنسان الكلي الميتافيزيقي.» وتعلَّموا أنه في أحلك ظروف المُعاناة وأشدها قسوةً لا تزال هناك فرجة أو ساحة لهيمنةِ ما هي إنساني. وتَوافَر لدى كامي، على عكس مارلو، وهو — يقينًا — واحد من كتَّاب عصرنا الأبطال، حِسٌّ بتحمُّل المذلَّة، وهو ضرب من الصبر على الابتلاء الذي تعلَّمه أثناء المقاوَمة، وفهم ضآلة ما يُمكِن أن يفعله الفرد، وأن الروح الإنسانية تعيش دائمًا في عالمٍ عبثيٍّ، وأن لزامًا عليها التعامل معه.

واستطرد سارتر ليناقش «الطاعون» التي فرغ لتوِّه من قراءتها في مسوَّدتها، وإن لم تَكتمِل إلا بعد العامَين. لخَّصها لمُستمِعيه الأمريكيِّين، واستخلص منها دروسًا مهمَّة. الطبيب يؤدِّي عمله «ببساطة ودون أوهام خادعة، ويتحدَّى الشرَّ والكون، مؤكدًا سيادةَ الرُّوح الإنسانية ضد كل ما هو غريب وشاذ.» ومن ثمَّ لا غرابةَ في أن ينتقل كامي بعد الحرب إلى الصحافة السياسية ليكتب كلمة المحرر التي نبَذَت الواقعية في السياسة. «إن الواقعية تدمِّر فكرة الإنسانية في الصميم؛ ذلك لأنها خضوع للأشياء.» ولا غرابةَ كذلك في أنَّ الأمل الصارم الجاد الذي ملأ على كامي نفسَه لم يبحْ بأدب للانعتاق. وعبَّرت أعماله عن المستقبل المحدَّد لفرنسا الذي توقَّع له أن يكون إعادة إعمار وبناء على مدى سنوات قادمة: أدب كلاسيكي خِلوٌ من الأوهام لكنه مفعم ثقةً بعظمة الإنسانية؛ أدب قاسٍ لكنَّه بريء من أيِّ عنف لا جدوى منه، يتَّقد عاطفةً ولكنها محكومة؛ أدب يُجاهد لكي يصبغ بطابعه الظرف الميتافيزيقي للإنسان، بينما هو يُشارك بكلِّ قواه وطاقته في حركات المجتمع.»

نلحظ في هذه المحاضَرة المُثيرة التي كان كامي محورًا لها من حيث هو كاتب وإنسان، يُردِّد سارتر عددًا من الأفكار التي يتقاسمها الاثنان: العبث، الإنسانية الجَسُورة الحازمة، النضال كضرورة، الإرادة في مواجَهة المواقف الصعبة في أقصى وأقسى درجاتها، ورفض أي نزعة هروبية ونبذ الإيماءات التي تدَّعي البطولة، ورفض أيِّ مخطَّط للفهم لا يتَّخذ خبرةَ الإنسان وعمله محورًا وأساسًا له. واستطرادًا مع هذا أعاد سارتر في قالب جديد صوْغَ أعماله الروائية التي ظهرت قبل الحرب، ومنها «الجدار» و«الغثيان»، لتأخذ صورة أعمال مُلتزِمة سياسيًّا ووثيقة الصلة بفترةِ ما بعد الحرب. واتساقًا مع هذا تمامًا، كتَب سارتر قُبَيل سفرِه إلى الولايات المتحدة، مسوَّدة دراسة موجَزة عن الالتزام وربَطها بسنوات الاحتلال، بدا وكأنه يتمثَّل كامي في ذاته. وكانت له أسبابه الوجيهة؛ إذ رأى في كامي أهم ما يعنيه هو. لقد كان هذا الشاب هي عين صورة الشخص التي كان سارتر يُريدها لنفسه: الملتزم، وليس كاتبًا أيديولوجيًّا أو حالمًا مفرطًا في التفاؤل، وإنما هو في آنٍ واحد «شاعر الحرية» وناشط سياسي.

وبعد خمسة وعشرين عامًا علَّق سارتر على رواية «الطاعون» خلال لقاء معه مخصَّص لكتابة سيرة ذاتية مُعتمدة، وقال: «حينما أفكِّر بعد مضيِّ سنواتٍ فيما زعَمَه كامي من أن الغزو الألماني كان أشبه «بالطاعون»؛ حلَّ بنا لغير ما سبب، ورحَل عنَّا لغير ما سبب، فأقول: يا له من مغفَّل أحمق!» ونلحظ في هذا التقييم الجديد لرواية كامي، بعد سنوات طويلة من القطيعة، أن سارتر نسيَ الفكرةَ الأهم في «الطاعون» التي أدركها وتحدَّث عنها العام ١٨٤٥م؛ إذ لم تكن الرواية أبدًا تعبيرًا عن سبب انتشار الوباء، سواء أكان بشريًّا أم طبيعيًّا، وإنما قصة الروح الجمعية لمكافَحته. وهذا هو السبب الذي من أجله ورَدَ اسم كامي لنَيل جائزة نوبل منذ لحظة صدور الكتاب. وإن تأكيد سارتر على أن كامي كاتب ملتزم، يفيد بأن «الالتزام» من حيث هو فكرة ينفرد بها سارتر أقل من كونه أسلوب حياة وعمل على نحوِ ما رآها إنجازًا حقَّقه كامي.

وبعد أن غيَّر سارتر رأيه بشأن المؤلف، أعاد تنشيط ذاكرته عن كتاب كامي. ونجدُه في لقاء العام ١٩٧٠م يعود وبشكل استحواذي مُفرط إلى مظانِّ النقص في الالتزام عند كامي، بينَما يُغفِل أسلوبه في اتخاذ كامي نموذجًا قبل خمسة وعشرين عامًا. وعلى الرغم من تصريحه بأنه تغيَّر خلال السنوات التي أعقبَت الحرب، فإنه أغفل حقيقة أن كامي كان واحدًا من الأشخاص الذين تأثَّر بهم؛ ومن ثَم فإنَّ تقديره الشديد في السابق لكامي لا يتلاءم أبدًا مع إحساسه الجديد بأن القطيعة كانت حتمية. ونجد هنا أن توحُّده في السابق مع نظريتهما بدا متناقضًا للنتيجة التي توصَّل إليها أخيرًا، وتُفيد بأنَّ الجوانب المشتركة بينهما كانت قليلة جدًّا.

•••

وطبَّق سارتر في محاضَراته في نيويورك العام ١٩٤٥م أفكارًا صاغها خلال فترة باكرة، ونشر هذه الأفكار في مُنتصَف أكتوبر ١٩٤٥م ضمن مقدمته الباهرة لمجلَّة «الأزمنة الحديثة». وإذا كان كامي اعتاد تجنُّب المبادئ العامة، مفضِّلًا على ذلك وصفها وتطبيقها، فإنَّ سارتر على العكس من ذلك كان في حاجة إلى صوغ الاتجاهات الرئيسية الكبرى لحياته باعتبارها امتدادًا لمفاهيمه النظرية والمنهجية، ونلحَظ أن دعوته الشهيرة إلى الالتزام كانت مُسهبة ونظرية ومُرتبطة صراحةً بفلسفته، وعبَّرت أيضًا عن سارتر في أوجِ بلاغته.

رفض فكرة «الفن للفن» باعتبارها شكلًا من أشكال اللامسئولية، ووضَع بحسمٍ الأفرادَ، خاصة الكتَّاب، في عالَمهم التاريخي، ثم دعا إلى الأدب الملتزم:

«لما كان الكاتب لا يَملك وسيلة للهرب، فإننا نريده أن يستوعب زمانه بقوَّة وإحكام؛ إذ هذه فرصته الفريدة: تهيَّأت له وتهيَّأ هو لها. إن المرء قد يأسف لموقف اللامبالاة من جانب بلزاك إزاء ثورة ١٨٤٨م، وخوف فلوبير غير المفهوم من الكومونة. نعم، إن المرء يأسَف لهما؛ إذ ثَمة شيء هناك افتقدناه إلى الأبد، ونحن لا نريد أن نفقد أي شيء في زماننا. قد يكون ثَمة شيء أكثر جمالًا، بيْدَ أن هذا الشيء يخصُّنا نحن. ليس لنا غير هذه الحياة لنحياها، وسط هذه الحرب وهذه الثورة ربما.»

ربما كان يعتب على مؤلِّف «الغثيان»، والدراسات عن الخيال والانفعالات أو الشاب الذي يقرأ هوسرل وهيدغر في برلين العام ١٩٣٢–١٩٥٤م؛ إذ تبدَّت «اللامبالاة» و«عدم الفهم» وعليهما مسحة من الحزن المحبَّب إلى النفس بسبب فقدِ المرء لحياته. إن المرء موجود في موقفه التاريخي؛ ولذا فهو مسئول عنه.
«كل كلمة لها نتائجها المترتِّبة عليها. وكل صمت كذلك. وإني أُومِن بأنَّ فلوبير وجونكور مسئولان عن القمع الذي أعقب الكومونة لأنهما لم يكتُبا ولو سطرًا واحدًا للحيلولة دونه. قد يقول قائل إنه لم يكن شأنهما. ولكن هل كانت محاكمة كالا Calas شأنًا من شئون فولتير؟ أو إدانة دريفوس Dreyfus شأن زولا؟ أو إدارة الكونغو من شئون جيد Gide؟ كلٌّ من هؤلاء الكتَّاب، وفي ظرف خاص في حياته، قدَّر مسئوليتَه ككاتب. وعلمنا الاحتلال الشأن الذي يعنينا. وحيث إننا نعمل في زماننا وَفق وجودنا ذاته، فإننا نقرِّر أن عملنا هذا سيكون عمديًّا وعن قصد وإرادة.»

وعبَّر سارتر، شأنه شأن كامي في «رسائل إلى صديق ألماني» عن مشاعر حميمية، وإن بدَت كتابته أكثر برمجةً. ومثلَما كان كامي هو فرنسا بوضوحٍ كامل في المقطوعة السابقة، كذلك كان سارتر «الكاتب» هنا بوضوح كامل. وكتب أيضًا باعتباره المحرَّر لصحيفة جديدة مُعلنًا الاتجاه الذي ستتَّخذه الصحيفة، وهذا هو ما نجده في: «نحن لا نُريد أن نفقد أي شيء.» وكذا في: «عملنا سيكون عمديًّا عن قصد وإرادة.»

وأضحى نداء سارتر على الفور قضية ذائعة الصيت، وشرع منذ مطلع العام ١٩٤٧م في تطويرِ تبريرٍ تاريخي وفلسفي وسياسي أكثر إفاضةً لمعنى الأدب الملتزم. وبدا وكأنه يعمل على أساسٍ مركَّب من ممارَسات كامي وأفكاره هو؛ إذ أبرز وعمَّم ما كان يفعله كامي. ألم تكُن في نهاية الأمر الافتتاحيةُ التي كتَبها كامي هي بالضبط والتحديد ما رآه سارتر إنجازًا من جانب زولا وفولتير (وقد سبق له أن قارنهما بألبير كامي)؟ وألم يكُن نداؤه هو من أجل العمل وعدًا وثيقَ الصلة ونافذًا، حتى إن سارتر لم يَعُد يفتقده في لقائه بالتاريخ؟ وهل يمكِن القول إن كامي لم يقرأ محاضَرة سارتر في نيويورك أو أفكار سارتر على الأقل وفي نفسه إحساس عميق بالرضى والإقرار بالفضل؟

واقع الأمر أنه لم يفعل؛ إذ لم يكُن كامي سعيدًا بمطلب سارتر. وعلى الرغم مما لقيَه من مديح وتقدير واضح من سارتر، فإنه رفض أيَّ زعم عام بأنه يعمل ما ينبغي على الكاتب أن يعمله، ورفض جوائب رئيسية تشكِّل ركيزة من فلسفة سارتر، بما في ذلك طابعها النسقي وتشديدها عقِب الحرب على أننا نحتلُّ في التاريخ موقعًا حاكمًا لنا. وقد نجد ما يغرينا بأن نعزو قرارَه بعدم المشاركة في «الأزمنة الحديثة» إلى هذه الاختلافات، ولكن الواقع يكشف عن أنه حال اجتماع هيئة التحرير في أواخر العام ١٩٤٤م كان كامي مستغرقًا في مجلة «كومبا».

وعندما عرض كامي، في فترة ما قبل الحرب، كتاب «المؤامَرة» من تأليف بول نيزان، أعرب عن رأيه بأن الالتزام السياسي أشبه بالزواج. وكان آنذاك عضوًا في الحزب الشيوعي. ورأى أنه «مشكلة فارغة غير ذات موضوع، مثلها مثل الخلود، أيْ موضوع يحسمه المرء بنفسه، ويتعيَّن عليه ألَّا يُصدِر حكمًا بشأنه.» ونلحَظ أن كامي في صحف ولقاءات ما بعد الحرب يدافِع عن حرية الكاتب دون أن يُساوِره شكٌّ على الإطلاق في حاجة الكاتب إلى أن «يصف ويفسِّر انفعالات وآلام عصره» و«دراما عصرنا». وكتب كامي في افتتاحية صحيفة في مُنتصَف العام ١٩٤٦م: «إنني أفضِّل الأشخاص الملتزمين على أدب الالتزام. شجاعةُ المرء في حياته وموهبته في أعماله، هذه أمور ليست سيئة للغاية. وأكثر من هذا أن الكاتب يكون ملتزمًا حين يريد أن يكون كذلك. إن قدره واستحقاقه كامن في القوة الدافعة له، أمَّا أن يصبح هذا قانونًا أو وظيفةً أو إرهابًا، فإننا نسأل: وأين وجه التقدير والاستحقاق؟»

لقد كان سارتر هو الذي يَلتمس «قانونًا ووظيفة»، وهو ما اعتبره كامي بوضوح «إرهابًا». ويستطرد كامي — ولنا أن نتساءل: تُراه كان يُشير إلى الداعية إلى الالتزام؟ — إذ يقول: «يبدو أن نظْمَ قصيدةٍ اليومَ عن الربيع ربما يعني تقديم خدمة للرأسمالية.» وأكَّد أن الإنسانية في حاجة إلى خبز القلب والوجدان شأن الحاجة إلى خبز الطعام والعدالة. وأشار كامي إلى أنه قد يَبتهج من دون تحفُّظ لمثل هذا العمل «إذا جاء جميلًا». تُراه كان يتحدَّث عن سارتر عندما قال: «هل لي أن أراهم أقل التزامًا في أعمالهم وأكثر قليلًا في التزامهم في حياتهم اليومية؟» يبدو أن الأمر كذلك؛ لأنه خصَّص الافتتاحية في العدد التالي من صحيفته عن الوجودية. ونلحظ أنه بحلول العام ١٩٤٦م، وعندما كان يتحدَّث عن الوجودية، كان كامي يعني سارتر وإن لم يذكُره بالاسم، واتَّهمه بارتكاب الخطأ الفادح الذي ارتكبه هيجل «حيث اختزل الإنسان ورده إلى التاريخ». واعتقد أن سارتر ناقَضَ مبدأه الأساسي؛ لأن البشر المُستغرقين في التاريخ بالكامل يفقدون كلَّ الحرية.

ويرى كامي أن سارتر في مطالَبته بالالتزام إنما يضع التاريخ في وضعٍ أسمى من الفرد. إنَّ التاريخ، على خلاف الطبيعة، يحدِّد المسئوليات التي يتعيَّن على الفرد النهوض بها، أو إنه يشير إلى قوة كبرى هائلة تضع الفرد في موضعٍ ثانوي. ويعتقد كامي أن سارتر على الرغم من أنه استهلَّ بالحدث العرضي أو الاحتمالي، فإنه لم يكُن صادقًا مع نقطة البدء التي انطلقَ منها؛ لأنه انتهى إلى التاريخ الذي هو وجود أشمل ومُهيمن. ولم تكن الوجودية أقلَّ إثمًا من المسيحية أو الماركسية في تجنُّبها للعبث بوسائل شخَّصتها دراسة كامي «أسطورة سيزيف». وأكَّد كامي هذا في لقاء شهير تحدَّث خلاله عن رأيه في خريف العام ١٩٤٥م؛ إذ نراه بعد أن أكَّد أنه ليس فيلسوفًا لأنه لا يؤمن على نحوٍ كافٍ بسبب يُبرِّر له الإيمان بمذهب، أشار إلى أنَّ الوجودية تأخُذ شكلَين، الديني والإلحادي.

إنَّ الوجودية الإلحادية، بما فيها وجودية هوسرل وهيدغر وسارتر، تنتهي أيضًا إلى مُطلَق فوق البشر، حيث التاريخ هو المُطلَق الوحيد. لقد كفُّوا عن الإيمان بالرب وإن ظلُّوا يؤمنون بالتاريخ، واعترف كامي بقِيمة الدين وأقرَّ بأهمية التاريخ، بيْدَ أنه حافظ على عدم إيمانه بأيٍّ منهما «بالمعنى المطلَق للكلمة».

ما الذي حلَّ على نحو محدَّد ودقيق محلَّ إنكاره لفكر سارتر؟ على الرغم من حرص كامي على أن يفصل نفسه عن أحكام وآراء أصدقائه بشأن الالتزام، فإنه كان يشدِّد أيضًا على التعارض الأساسي بين «التاريخ» و«العالم» أو «الحياة»، وهو التعارض الذي ظلَّ يمثِّل جزءًا من فكره منذ الثلاثينيات. مثال ذلك أنه حين أعرَب عن فجيعته لاندلاع الحرب في سبتمبر ۱۹۳۹م، نراه يُعرِب عن أمله في أنه «عقِب هذه الحرب ستعود الأشجار لتُزهِر ثانيةً؛ ذلك لأن العالَم دائمًا وأبدًا يقهر التاريخ.» ونراه في عرض من عروضه للكتب تحت عنوان «قاعة المطالَعة»، يعلِّق معرِبًا عن إعجابه بنظرة المؤلِّف أندريه شامسون إلى التاريخ باعتبار أنه «حدَث ساخر تنتصر عليه الحياة دائمًا في آخر المطاف.» وحدَّثنا في «رسائل إلى صديق ألماني» عن «دخول التاريخ» لمقاوَمة الاحتلال، وهذا ما قاله سارتر فيما بعدُ بأن كامي يؤمن بأنه هو نفسه خارج التاريخ، ولكنه يرى نفسَه وكأنه يدخل التاريخ بين الحين والآخر. ورأى — شأن كامي الملتزم دائمًا — أن التاريخ يؤدِّي إلى اغترابنا عن أنفسنا وعن كل ما هو شديد الحيوية.

وهكذا نرى أن كامي كان قادرًا تمامًا على إيضاح وتحليل الاختلافات التي كانت أحيانًا دقيقة رقيقة، وأحيانًا حادةً بين فكره وفكر سارتر. رفَض الاتجاه الذي اتَّخذه سارتر فيما بعدَ الحرب إزاء فكرته عن «الموقف» — الواقع التاريخي والاجتماعي الذي نجد فيه أنفُسنا دائمًا، والذي نتحمَّل مسئوليته دائمًا. وذهب كامي إلى أننا إذا ما سلَّمنا بأننا جملةً وتفصيلًا داخل موقف، فإنَّ التاريخ سوف يطغى ويغمر المساحة المتاحة لنا للمُناوَرة ويستوعب اختياراتنا، هذا بينما ذهب سارتر إلى أن حريتنا الوجودية (الأنطولوجية) مُطلَقة، بينما هي تعني دائمًا اختيار كيف نحيا (أو نرفُض) قراراتنا التي نتَّخذها.

وما إن انتقل سارتر من منظوره الأنطولوجي إلى منظورٍ مؤسَّس على التاريخ، حتى أدرك كامي نقطةَ الضَّعف أو كعب أخيل في فكره: أين أساسُ الحرية وحقُّ تقرير المصير حالَ قَبُول أنَّ هذا كله لا يحدُث إلا داخل سياق عياني؟ إن سارتر لم يُحاول حتى مجرَّد توثيق الطبيعة الأنطولوجية أو اللاتاريخية لمصلحته الأصلية مع فهم تاريخي للحقيقة الواقعة الإنسانية، بما فيها الأنطولوجيا، إلا حوالي الوقت الذي تُوفِّي فيه كامي وقتما كان عاكفًا على المعالَجة النهائية التي لم تَكتمِل (والتي لم تُنشَر إلا بعد وفاته) للمجلَّد الثاني من كتاب «نقد العقل الجدلي». هذا بينما كانت المحاذير بالنسبة إلى كامي كثيرة: الإبقاء على مساحة خارج أي موقف تاريخي وفاءً للحرية الفردية، والقِيَم المستقلة ذاتيًّا والحكم الأخلاقي. ولو أن مثل هذه القضية تسنَّى استكشافها في صراحة ووضوح بين صديقَين لهما تلك الشُّهرة الصاعدة والالتزام السياسي، لَاستطاع الاثنان تقديم أبدع الحوارات السياسية وأهمها في فترة ما بعد الحرب، ولكن نجد بدلًا من ذلك كامي قانعًا بالملاحظات الساخرة والمراوَغة، محتفِظًا بأهم ملاحظاته وأكثرها حدَّةً لصحيفته.

وليس لنا أن ندهش إذ رفض كامي الطابعَ الشمولي المُطلَق لفكر سارتر، وزعم أنه ليس فيلسوفًا لأنه وضع أساسًا لدعوى خلق مجالات للحياة غير خاضعة لحكم مبادئ الرؤية التوليفية: الفن لا يعرف منطقًا غير منطقه، والأخلاق تُصدِر حكمَها على السياسة، والأفراد أحرار بألَّا يُلزِموا أنفسهم، والعالَم خاضع لحكم ناس وعمليات محدَّدة بعينها، وليس فقط ببِضع قوى قليلة وعامة.

زِد على هذا أن كامي حرص على أن يميز نفسه عن سارتر لدواعي الكبرياء، ولحظ الناس سلوكَه وكيف يهبُّ واقفًا منزعجًا حين كان مألوفًا دائمًا أن يأتي اسم سارتر سابقًا عليه باعتباره، في رأي الكثيرين، المفكِّر الأقوى تأثيرًا: «سارتر وكامي». ونظرًا لرفضه أن يُوسَم بالشريك الأصغر، فقد انسحب من مجال نفوذ سارتر، وحرص بحزم وبأسلوب لا يخلو من ظرف ودُعابة أن يميِّز نفسَه في حديث أُجرِي معه في خريف ١٩٤٥م:

«لا، أنا لست وجوديًّا. إنني أنا وسارتر تستولي علينا الدهشة إذ نرى اسمَينا مُرتبطَين معًا. ووصل بنا الأمر يومًا ما إلى حدِّ التفكير في إصدار إعلان صغير يقول إنَّ الموقِّعَين أدناه يؤكِّدان أن لا شيء مشتركًا بينهما، وأن كلًّا منهما يرفض سداد ديون الآخَر. وهذا كله دعابة. إنني أنا وسارتر نشرنا كلَّ كتبنا دون استثناءٍ قبل أن يلتقي أحدُنا الآخَر. وحين التقينا كان علينا أن نتثبَّت من أوجُه الاختلاف فيما بيننا. سارتر وجودي، أمَّا كتابي الوحيد الذي نشرته ويناقش أفكارًا وهو «أسطورة سيزيف»، فقد كان موجَّهًا ضدَّ الفلاسفة الدين يُسمُّون أنفسهم وجوديِّين.»

والجدير ذكره أن «أسطورة سيزيف» انتقدت شيستوف وكيركجورد وياسبرز لنزعاتهم الهروبية؛ إذ إنهم «يُؤلِّهون ما يسحقهم ويلتمسون سببًا ليعقدوا الأمل فيما يُفقِرهم. هذا الأمل القسري أمل عقائدي عندهم جميعًا.» ولكن سارتر وكامي بينهما ما هو مُشترك أكثر من أيٍّ من هؤلاء الكتَّاب، ولكن كامي يُؤكد الآن أن سارتر إذ يَنفتح للتاريخ وللمجتمع، فإنه هو و«الوجوديِّين» الفرنسيين الجُدد يقومون بالقفزة العقائدية الإيمانية ذاتها التي أدانها علانيةً في «أسطورة سيزيف».

وارتضى سارتر من جانبه إصرارَ كامي على أن يميِّز نفسه عن سارتر. ونذكر أنه استهلَّ مقاله في «أكسيون» في ديسمبر ١٩٤٤م بوصف فلسفة كامي عن العبث بأنها «متَّسقة وعميقة» وجديرة بوصف كامي بأنه «كبير جدًّا بحيث يكون أهلًا للدفاع عنها وحده»، وهذه تحية تنازَل بالتفضُّل عليه بها. ثم شرع في الدفاع عن الوجودية ضد نقَّاده الشيوعيِّين.

ولكن نجد سارتر في محادَثاته مع بوفوار العام ١٩٧٣م ينقُض كتاباته الأولى؛ إذ يؤكِّد أن «لا شيء مُشتركًا بين كامي والوجودية». وسبق أن رأينا إنكار كامي للوجودية مع بيان أسباب ذلك. وإن الرابطة العلَنية بين سارتر وكامي لم تكن مجرَّد سوء فهم. وهذا هو ما أثبته في دراسة نقدية مذهلة ألكسندر أستروك الذي كان تلميذًا سابقًا لسارتر، ثم مراسِلًا لمجلة «كومبا»، ثم عمل بعد ذلك مُخرِجًا سينمائيًّا. وقد كتب أستروك دراسته هذه في مجلة «أكسيون» الشيوعية الأسبوعية في أكتوبر ١٩٤٤م. كان أستروك مفتونًا بفكر سارتر، وقدَّم توضيحًا يفسِّر مسرحية كامي «سوء الفهم» بالإشارة إلى أفكار مشتركة بين كامي وسارتر؛ إذ يعود بطل المسرحية إلى الوطن بعد سنوات طويلة — وهو هنا يشبِه إلى حدٍّ ما أورست في مسرحية «الذباب» — ولكن إلى أمٍّ وأخت تسرقان ضيوفهما وتقتلانهم، ويأمل في أن يتعرَّفا عليه، وبذا يتحدَّد قدره. ونظرًا لأن «الوجود عبث والرجل غريب»، فإنه يُجيب بالسلب على أمله السلبي، وتتعامل معه الأم والأخت باعتباره غريبًا ثريًّا وتقتُلانه شأن الآخرين جميعًا. وهنا فقط تكتشفان حقيقة أمره. بيْدَ أن هذا خطأ بشَري وليس تجلِّيًا للقدر. ونلحَظ ثانيةً أن هذه المأساة «التراجيديا» مثل مسرحية «الذباب»، وعلى عكس أعمال جيرودو وأنوي وكوكتو لا تصوِّر «سحق القدر للإنسان، بل تأكيد الحرية الإنسانية في الصراع مع نفسها.» وهنا نجد دراسة أستروك، شأن مُحاضَرة سارتر الأمريكية بعد أشهر قليلة، تَعقِد شبهًا بين سارتر وكامي لسببٍ بسيط: أنهما متماثلان.

•••

تمثِّل الكتابة السياسية في فترة ما بعد الحرب أحدَ الاهتمامات الرئيسية عند كلٍّ من سارتر وكامي. كتب كامي ما لا يقلُّ عن ١٢٠ موضوعًا صحافيًّا تحت عنوان «كلمة المحرِّر» خلال العام الأول بعد التحرير، ونراه كصحافي نادرًا ما قدَّم أو دعم اقتراحات منهجية بعينها، وإنما تناول في الغالب الأعم قضايا وأفكارًا عامة، مثل العدالة والحق والنظام والأخلاق والسخرية والطهر والكبرياء. ومع هذا فإن الشعار الثوري الذي تحمله صحيفة «كومبا» كعنوان على صفحتها الأولى، والتزامها العام بالتحوُّل الديمقراطي الاشتراكي في فرنسا، يدعمان إحداث تغيير محدود يتمثَّل في «إضافة لغة الأخلاق إلى الممارسة السياسية». وحقَّق كامي هذا من خلال مقالات قصيرة تتركَّز حول موضوع المعنى. وغالبًا ما كانت مقالاته هذه ردًّا على كلمات المحرِّر في صحف أخرى، أو ردًّا على بيانات عامة أصدرتها شخصيات سياسية.

وفي ٨ سبتمبر ١٩٤٤م صاغ كامي بعبارات شديدة العمومية «المشكلة التي تواجه أوروبا اليوم»: التوفيق بين الحرية الفردية والمطالب الجمعية؛ أي الملاءَمة بين الحرية والعدالة على نحوٍ يمكِن به أن تكون الحياة «حرَّة بالنسبة إلى الفرد، لكنها عادلة بالنسبة إلى الجميع». واعتاد كامي دائمًا الاعتراف بالصعوبات العملية في سبيل تحقيق مثل هذه الأهداف، ولكن كان هدفه دائمًا طرحها أمام القارئ باعتبارها حجر الزاوية في السلوك السياسي، وعمد إلى ابتكار واستخدام بوصلة أخلاقية تكون عماد أي أحكام سياسية.

والجدير ذكره أن كامي حين فكَّر مليًّا في قذف هيروشيما بالقنبلة الذرية في أغسطس ١٩٤٥م، أصرَّ على أن «الحضارة التقانية بلغت أعلى مستويات البربرية». وكتب كلمة باسم المحرِّر بالغة القوة والعنف أكَّد فيها أن على الحضارة أن تختار بين الانتحار الجمعي واستخدام فتوحاتها العلمية بعقل وحكمة، وأكَّد أن ليس من اللائق أبدًا أن تنضمَّ إلى فريق الغناء «الكورس» الذي يَحتفي بمثل هذا الاكتشاف؛ ومِن ثمَّ فإن إقامة مجتمع دولي حقيقي من دول أكْفاء هو الحل الوحيد، وإن النضال الوحيد الجدير بأن تلتزم به «هو النضال من أجل السلم». وحريٌّ بنا هنا أن نقارن بين كلمة كامي هذه وكلمة عضو من أعضاء الكورس في صحيفة «لومانيتيه»، الشيوعية، التي عالج فيها قضية هيروشيما؛ إذ إن هذا العضو لم يَذكُر سوى كلمات قليلة عن الدمار الذي لحق بمدينة هيروشيما بسبب القُنبلة الذرية، بينما أسهب وأفاض في الحديث عن «أهم اكتشاف عِلمي عرفه القرن». وهكذا نجد أن كامي يؤكِّد وبقوة على المبادئ الأخلاقية، على عكس احتفاء الحزب الشيوعي بالتقدم التكنولوجي.

ولم يحدُث سوى مرة واحدة فقط أن التزم «كتابة تقرير بسيط عن معلومات واقعية»؛ وذلك حين ناقش قضية الجزائر. وكتب في ربيع ١٩٤٥م سلسلةً من المقالات عقِب زيارة امتدَّت ثلاثة أسابيع لمسقط رأسه. وجاءت هذه الزيارة حوالي فترة مذبحة بلدة سيتيف للمستوطنين الفرنسيين على الساحل الجزائري (٨ مايو) وعمليات القمع التالية لها. ووصف كامي الوضع الاقتصادي والسياسي الذي وراء هذا الانفجار، وناقَش المجاعةَ الواسعة النطاق والحاجة إلى مساعدات شاملة من فرنسا. وعرض أيضًا مظاهر عدم المساواة في أنصبة المساعدات الغذائية للفرنسيين والعرب، علاوةً على عدم المساواة فيما يتلقَّونه عمليًّا من هذه المساعدات. واستطلع بعد ذلك الموقفَ السياسي، مع عرض تفسير يتضمَّن قدرًا من التعاطُف يبيِّن لماذا العرب الجزائريون لم يَعودوا راغبين في سياسة الاستيعاب (وهي السياسة الرسمية لفرنسا)، وأعرب عن مساندته جماعة أصدقاء البيان الذين يطالبون في بيانهم بالمواطَنة والسلطة المتكافئة للعرب الجزائريِّين أسوة بالفرنسيين الجزائريين في جمهورية داخل فرنسا الدولة الأشمل، وقال: «إنه لَغباء مُطلَق» أن تأتي الاستجابة لهذه المطالب في صورة قمع وسجون. وختم كامي كلمته بمَطلب غامض عن العدالة يهدف إلى منح الجزائر حقيقةَ الديمقراطية وواقعها، وليس الخطاب الديمقراطي.

وقد يَنتقد البعض كامي لأنه لم يَذكُر شيئًا عن التفاوت المروِّع بين ضحايا الانتفاضة من الفرنسيين والمُسلمين التي وقعت عقِب الاحتفال بنهاية الحرب في أوروبا؛ إذ مات في أحداث الشغب هذه ۱۰۲ فرنسي وعشرات أمثال هذا العدد — على الأقل — من العرب، ولم يتطرَّق إلى القهر الفرنسي المنظَّم للعرب في كل مجال من مجالات الحياة الجزائرية، ولم يُوضِّح بجلاء ما يَعنيه بالمساواة بين العرب والأوروبيِّين، أو بالدعوة إلى جزائر ديمقراطية. بيْدَ أن منظوره الفكري الذي تحدَّث منه كان جديدًا تمامًا في وسائط الإعلام الفرنسية الرئيسية آنَذاك، خاصَّةً إذ ما قارنَّا بين كامي ومقالات صحيفة «لوماتينيه» عن الجزائر خلال الفترة ذاتها؛ إذ طالبت هذه المقالات باعتقال عملاء هتلر وحكومة فيشي المأجورين «لمائة من الإقطاعيين الفاشيين»؛ لأنهم هم المسئولون عن الاضطرابات. ووافَقَت صحيفة «لوماتينيه»، على ضرورة إعطاء المسلمين «خبزًا لا قنابل»، ولكنها لم تَقُل كلمة واحدة عن النظام الاستعماري. واتجه الموقف الشيوعي إلى إلقاء اللوم على المحرِّضين من دون الظروف والأوضاع الاستعمارية، سواء بالنسبة إلى أحداث مدينة سيتيف أو ما أعقبها؛ ومن ثم، وفي ضوء كل ما قيل بالفعل آنذاك، نجد أن كامي يمثِّل صوتًا نادرًا وشجاعًا في مواجَهة الحقيقة، كما يمثِّل — ضمنًا — اعترافًا بالعرب الجزائريين كأكفاء مُتساوين.

واتَّجهت افتتاحيات كامي إلى اتخاذ طابع أخلاقي. مثال ذلك: «عظمة هذا العصر، التي من دونها يغدو غايةً في البؤس، أن خياراته أصبحت نقية خالصة.» مثال آخَر: «لم يَبقَ سوى شيء واحد فقط يمكِن تجربته: «التزام طريق الإخلاص والصِّدق في بساطة وتواضُع من دون أوهام، طريق الولاء الحكيم والتماسُك؛ لأنه الطريق الوحيد لتعزيز الكرامة الإنسانية».» نعم، ربما تبدو افتتاحياته ساذجة أو بسيطة أو عقائدية جامدة إذا ما نظَرنا إليها بعد مرور نصف قرن. ولكن حسبُنا حين نقرؤها اليومَ أن نضع في الاعتبار موقفَ كامي التاريخي وغرضه السياسي.

ونلحَظ أن مجلة «كومبا» دعَت إلى ثورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. إنَّ المقاوَمة لم تكن تمثِّل فقط أقلية، بل إن جناحها اليساري غير الشيوعي كان أقلية داخل أقلية. لقد كان رأس المال المعنوي لأنصارها مهولًا، غير أن سلطانهم الاجتماعي والسياسي والعسكري كان يتعيَّن اقتسامه مع الديغوليِّين والشيوعيين، ناهيك عن القوى العسكرية التي بذلت الجهد الأكبر في سبيل تحرير فرنسا، ونعني بها الحلفاء. وإن سارتر بإحساس اللامنتمي إلى المقاوَمة، والذي يفضل قليلًا على مجرَّد إحساس رمزي، أدرك عنصرًا جوهريًّا للموقف: إنَّ المقاوَمة على أهميتها الكبرى ونحن نراها على أرض فرنسا، هي مجرَّد جانب من استراتيجيةٍ أشمل لتحرير فرنسا جرى تطويرها أساسًا في لندن. وحسب هذا التصور نرى أن إحساس رجال المقاوَمة بعد الحرب بأنهم مخدوعون بثمار النضال — وهو تحوُّل اجتماعي حقيقي من «المقاوَمة إلى الثورة» — إنَّما تولَّدَ عن وهم يتمثَّل في الاعتقاد أن الفرنسيين حرَّروا أنفسهم وأصبحوا سادةَ مصيرهم بكلِّ معنى الكلمة. لقد كانت فرنسا في واقع الأمر خاضعة لقوى أقوى سلطانًا ونفوذًا حدَّت بقسوة من مساحة المناوَرة أمامها، سواء أثناء التحرير أو خلال السنوات التالية. وحريٌّ أن نُدرك أن كامي كان صحافيًّا ماهرًا وصوتًا صادقًا وجديدًا يعبِّر عن نهج جديد في السياسة، بيْدَ أنه كان أيضًا صوتًا يصرخ في البرية. وإنَّ نقاط الضَّعف التي شابت افتتاحياته، بما في ذلك ما بدا لنا لغةً تَنطوي على مبالَغة وتضخيم، إنما هي غير منفصلة عن دوره باعتباره رسولًا أوحد وحيدًا.

ونجد في الوقت نفسه أن أغراض كامي غير المحدَّدة بوضوح علنًا هي تعليم الشباب المثقَّف رفْضَ الواقعية السياسية، سواء من اليسار أو اليمين أو الوسط؛ والتصدِّي للمواقف الساخرة. إنه إذ يؤكِّد بالدليل والبرهان أن التفكير السياسي ليس في حاجة إلى التخلِّي عن مجال القِيَم، فإن افتتاحياته تمثِّل جهودًا جادَّة في ساحة الصحافة السياسية.

•••

أول تقرير صحافي سياسي كتبه سارتر كان إلى كامي. وكما سبق أن رأينا زعمَت بوفوار أنها كتبت أولى مقالات سارتر التي أرسَلها إلى مجلة «كومبا». ونعرف أن المجموعات الثانية والثالثة من المقالات الصحافية التي تحمل اسم سارتر ظهرت في كلٍّ من «كومبا» و«لو فيغارو»، فيما بين يناير ويونيو ١٩٤٥م. ونجد أن المقالات الواحدة والعشرين المخصَّصة لصحيفة «كومبا»، والتي تحمل توجُّهًا يساريًّا واضحًا، ركَّزت على ظروف الحياة الأمريكية كما عاشها مراقِب فرنسي — الأفكار الاجتماعية والاقتصادية، وهوليوود، والمصانع الأمريكية والعمَّال — هذا بينما الأحد عشر مقالًا المخصَّصة لصحيفة «لو فيغارو» قدَّمت قراءات أكثر بهجةً وإمتاعًا، مما أثار ضِيق كامي، ولكنها عبرت على سطح الحياة الأمريكية والأساطير الأمريكية.

وفي خريف هذا العام استهلَّ سارتر صحيفة «الأزمنة الحديثة» بنداء للالتزام السياسي. ونلحظ أن هذه البيانات الأولى لمشروعه الفكري والسياسي، وهي صياغة مختلفة لكتابات كامي، لم تكُن أقل منها من حيث الصبغة الأخلاقية، كما عكست التوجُّه الأخلاقي في فكره. وأي شيء غير أخلاقي في تأكيده على العمل والفكرة القائلة إننا إذ نعمل لأنفسنا إنما نعمل للإنسانية جمعاء، وتشديده على الالتزام السياسي للكاتب المرتكِز على مسئولية الفرد، رجلًا أو امرأة، عن كل ما يحدث في عالَمه التاريخي؟ لقد كانت الأخلاق هي محور فلسفة تُؤكِّد على الحرية والاختيار وتشدِّد على أننا إذ نختار نُبدِع قِيَمنا الخاصة.

وطبيعي أن جميع الخيارات ليسَت سواء، كما أوضح سارتر في واحدة من كتاباته الأولى الملتزمة حقًّا، التي تَحمل عنوان «صورة المناهِض للسامية»، وكتَبها في أكتوبر ١٩٤٤م ونشرها في «الأزمنة الحديثة» في أواخر العام ١٩٤٥م. وكانت مسوَّدة أوَّلية لكتابٍ نشره العام ١٩٤٦م. والجدير ذكره أن هذا المقال، وهو واحدة من أولى المناقَشات لقضية معاداة السامية، التي تصدَّت لعملياتٍ كشفت عما يجري داخل مُعسكرات الإبادة، وحلَّلت بدقةٍ نقديةٍ الروايةَ الاستكشافية إلى سوء قصد من جانبِ شخصٍ يعمد إلى توجيه نداء لمعاداة السامية. ووصف في المقال اختيار الشر باعتباره قرارًا بإعادة الآخرين إلى أشياء وامتلاك حقوق عليهم. وإن هذا القرار نابع من إنكار المرء أساسًا لمشروطية وجوده. وسبَق لسارتر أن أعرَب عن هذا التوجه في بعضٍ من أعماله الروائية في الثلاثينيات: اختيار الفتى لوسيان فلوريير ليُصبِح فاشيًا في «طفولة زعيم»؛ إذ حاوَلا إخضاعَ رعاياهما والزعم بأن لهما حقَّ الحكم والتحكُّم فيهم. ونجد في الرواية نفسها الكتبي الكورسيكي الذي يعاني من حالة فوبيا مِثلية وعنف تسلُّطي، ونجد في مناقَشة قوامها بشكل مباشر تفسير العلاقات بين الذات والآخر في «الوجود والعدم»؛ إذ يُحاول سارتر الكشف عن الجذر الأنطولوجي للقمع. ويشبه في هذا كثيرًا كامي وما حاوَله في الحديث عن انحراف الثورات عن مسارها في رواية «المتمرد». وإذا كان سارتر عمد إلى تطوير أساس أخلاقي للتدخُّل السياسي، فإنَّ هذا يُضاف إلى تأكيده على الاختيار والموقف والتاريخية والمسئولية، وكذا تصوُّره لوضع جمعي بين أكْفاء. وكان بهذا يختبر قوة فلسفته باعتبارها إطارًا تأويليًّا للقضايا الاجتماعية المُعاصرة. وقال إن معاداة السامية «لا يمكِن أن توجد في مجتمع لا طبقي»؛ «إذ لا مكانَ لها حيث يشعر الناس بأواصر التضامُن المُتبادلة فيما بينهم، وحيث هم جميعًا مرتبطون بمشروع واحد.»

وانعقدت مناقَشة بعد أيام قلائل من صدور كتاب سارتر «الوجودية فلسفة إنسانية»، واستخدم بيير نافيل — وهو فيلسوف ماركسي ولم يكن شيوعيًّا — في هذه المناقشة مصطلح «ما قبل الالتزام» بالإشارة إلى فلسفة سارتر. وكان كامي كما سبَق أن رأينا، قد أصبح بحلول العام ١٩٤٥م سياسيًّا مُلتزمًا وناشطًا على نحوٍ لا يمكِن لسارتر أن يُجارِيه إلا بالكلام. ويُفيد نداء سارتر من أجل الالتزام أنه بصدد الانتقال إلى السياسة، غير أن غالبية بياناته كانت ولا تزال نظرية مجرَّدة باستثناء مناقَشاته التي تناولت الولايات المتحدة. وتضمَّنت مداخَلاته السياسية محاوَلة جاهدة لتجاوُز عتبة رئيسية، وهي محاوَلة استمرَّ في تناولها والتعبير عنها في مسرحياته حتى العام ١٩٥٤م. والجدير ذكره أن أهم بيان لافت للأنظار آنذاك هو إعلانه المدوِّي من أجل الالتزام الذي يمثِّل نوعًا من المدخل إلى السياسة. وسوف تأتي السياسة تالية.

وبعد أن أصبح سارتر أكثر اندماجًا في السياسة، تجمَّعت طاقات كامي للتطور السياسي لتتَّخذ اتجاهًا موازيًا، وإن مضى أحيانًا في مسار مُناقض لمسار سارتر. ونحن لكي نقوِّم هذا التطور يتعيَّن علينا التحوُّل إلى تفاعل كلٍّ من كامي وسارتر مع الحضور الرئيسي، الذي أغفلناه من قصتنا حتى الآن، ونعني به الشيوعية، سواء لدى الاتحاد السوفييتي أو الحزب الشيوعي الفرنسي. لقد كانت اتجاهات الاثنين جزءًا من ثورتهما السياسية؛ ذلك أن كل الجهود الفكرية السياسية التي بذلها سارتر وكامي خلال الفترة التي أعقبَت الحرب مباشَرةً استهدفَت تعزيز اليسار غير الشيوعي. وكان رفضهما المشترك «للواقعية السياسية» جزءًا من رفضهما للنظرة الشيوعية؛ إذ رأى كِلاهما أن الحزب الشيوعي الفرنسي ربما يشكِّل خطرًا أكبر، وأصبحت الشيوعية عدوَّ كامي ومبدأً يلتزم به سارتر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥