نقطة التحول عند كامي
ذاتَ مساء، في منتصف شهر نوفمبر ١٩٤٦م، أقام بوريس وميشيل فيان حفلًا حضره كامي، الذي ظهر في حالة مزاجية سيئة عند الساعة الحادية عشرة، وتحكي بوفوار القصةَ بعد فترة زمنية طويلة، فتقول:
«هاجَم (كامي) ميرلو-بونتي على موضوعِ مقالٍ له بعنوان: «اليوجي والبروليتاري»، واتَّهمه كامي بتبرير المحاكَمات التي تعقدها موسكو، وأبدى فزعَه لاحتمال اتهام المعارَضة بالخيانة. ودافَع ميرلو-بونتي عن نفسه وأيَّده سارتر. وإذ أحسَّ كامي بالجزع الشديد لهزيمته، غادَر الحفل وصفَق الباب خلفه. واندفع سارتر وبوريس إلى الخارج وركضا وراءه طويلًا في الشارع حتى لحقا به، لكنه رفض العودة. واستمرَّت هذه المشادَّة حتى مارس ١٩٤٧م.»
«كنَّا معه ذاتَ مرة في حفل موسيقي يَشهده أيُّ إنسان في باريس. كان في صحبةِ مغنيةٍ شابَّة هو مَعنيٌّ بها. وقال لسارتر: «أفكِّر في الوقت الذي أُقحِمها فيه على هذا الجمهور غدًا.» ولوَّح بيدَيه فوق القاعة في تشامخ. وكتب سارتر، بناءً على طلبه، الكلمات الأولى لأغنية «الجحيم طابعي الآن». كان هذا ما جرى وقتها.»
هذه المُغنية الشابَّة هي جولييت غريكو. ولنا أن نُدرِك هنا الانحياز الكامل في رواية بوفوار؛ حيث تعمَّدت الصمتَ أيضًا عن السبب الرئيسي لغضب كامي من ميرلو-بونتي. والجدير ذكره أنها أغفلَت أمرَين رئيسيَّين في روايتها التي تَذكر فيها أن ميرلو-بونتي انتقد آرثر كويستلر لمقالَيه المناهِضَين للشيوعية «الظلام وقت الظهيرة» و«اليوجي والمسئول الحزبي»، المنشورَين في مجلة «الأزمنة الحديثة»؛ إذ كان كامي قد أصبح لتوِّه وثيق الصلة سياسيًّا وشخصيًّا بالكاتب كويستلر. وكان كامي مشغولًا باستكمال مشروع كبير لتجديد فكره السياسي في سلسلة من المقالات التي تحمل عنوانًا شاملًا: «لا ضحايا ولا جلَّادين». ونشَر السلسلة في صحيفة «كومبا»، ابتداءً من ١٩ نوفمبر وحتى ٣٠ منه.
ومهما كان كامي مُلتزمًا بمبادئه الأخلاقية، فإن هذا الخلاف كان أولًا وأساسًا خلافًا سياسيًّا. نعرف أن ميرلو-بونتي المحرِّر السياسي لمجلة «الأزمنة الحديثة»، وسارتر الموجِّه الأول والراعي السياسي للمجلة، فسَّرا محاكَمات موسكو على أنها نوع من الدفاع عن النفس لأسباب مفهومة لثورة محاصرة. وساوى كامي بين الشيوعية والقاتل، وقدَّم ميرلو-بونتي فهمًا ماركسيًّا مستقلًّا، وإن كان متعاطفًا مع العنف السوفييتي. ورفض كامي الماركسية والثورة، وكان ميرلو-بونتي لا يزال يعتبر القادة الشيوعيِّين رفاقًا محتمَلين، بينما أصبح كامي يراهم أعداءً؛ ومن ثَم فإن بوفوار إذ تُغفِل أن كامي على أهبة تقديمِ نقدٍ مهم للشيوعية من داخل عالمهم الفكري اليساري المشترك، إنما تَعمِد إلى أن تُتفِّه من أمر الخلاف؛ ولذلك فإنها إذ تعود لتنظر إلى الموضوع بعد مرور عقد ونصف من الزمان، نراها أغفلت العملية العسيرة على النفس التي يمر بها، وأنكرت عليه كلًّا من الذكاء السياسي والشجاعة في أحكامه واقتناعاته. وعمدت إلى البحث عن بذور للشقاق بطريقةٍ تلقي اللومَ على كامي؛ ولهذا حكت القصة من نهايتها إلى بدايتها.
ونلحظ أن القصة لا تتضمَّن فقط الصداقة بين كامي وسارتر، التي استمرَّت إلى ما بعد ستِّ سنوات أخرى، ولكنَّها تضمَّنت أيضًا إشارة إلى تفاعُلاتِ كلٍّ من الطرفَين مع الشيوعية. إنَّ التطور السياسي والفكري والشخصي لكلٍّ من كامي وسارتر غير مُنفصِل عن علاقةِ كلٍّ منهما الشخصية والمتشابِكة أحيانًا مع الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد السوفييتي.
ويعود هذا الجزء من قصتنا إلى مَطلع الثلاثينيات، وتبدأ مع كامي منذ ١٩٣٥م وحتى نهاية ١٩٤٦م؛ حيث وصل إلى نتيجة درامية ومُعلَنة عن الشيوعية. وطبيعي أن هذه النتيجة حفَّزت انفجارَه ضد ميرلو-بونتي، وأوغرت صدره ضد سارتر. وإن أي دراسة فاحصة لعلاقة الاثنين وتفاعُلهما مع الشيوعية تكشف لنا لماذا كامي، وليس سارتر، تحوَّل ليعتبر الشيوعية العدوَّ الأوَّل للإنسانية عشيةَ الحرب الباردة، ولماذا انحاز سارتر أخيرًا إلى الشيوعية ضدَّ الغرب الرأسمالي.
•••
نعرف أنه بينما كانت المقاوَمة في أَوْجها تحلَّى الحزبُ الشيوعي الفرنسي في عمله بالشجاعة والانضباط والقوة النضالية، بحيث أصبح مع التحرير أكبر الأحزاب الفرنسية، ويضمُّ قرابة ٤٠٠ ألف عضو. وتضاعفَت العضوية بحلول العام ١٩٤٦م، واعتاد الحزب الفوزَ بربع أصوات المقترِعين في انتخابات ما بعد الحرب، وشارَك في الحكومة الائتلافية حتى منتصف العام ١٩٧٤م، وهيمن على أكبر نقابات البلاد، وصدرت عنه عشرات الصحف والمجلات (من بينها أكبر صحيفتَين في فرنسا)، وشكَّل الكثير من التنظيمات، ودفع رواتب شهرية لأكثر من ١٤ ألف شخص، وغرس كوادره في كل مراكز الحكم، بما في ذلك النظام التعليمي وجهاز التأمينات الاجتماعية والشرطة. وأعلن الحزب الشيوعي الفرنسي باعتباره حزبًا علنيًّا عقائديًّا، عقِب الأسابيع الأولى من التحرير التي سادتها الفوضى، أن هدفه الأول الانضمام إلى الحكومة باعتباره حزبَ الطبقة العاملة.
وقِيل عادةً إن الحزب الشيوعي الفرنسي ليس كمثل الأحزاب الأخرى، ويمثِّل أعضاؤه نظريًّا كهنوتًا ثوريًّا وكوادرَ مُلتزِمة ومُنضبِطة، وهم في هذا يختلفون عن المؤيِّدين للأحزاب الأخرى؛ إذ إنهم أكثر تحرُّرًا من ضوابط وقيود الانضباط. واعتاد أعضاؤه التسليمَ بأيديولوجيا شمولية، والخضوع لقرارات تسلُّطية، ويُؤلِّفون بشكل جمعي مجتمعًا مناهضًا من ألفِه إلى يائه، يعمل على الوفاء بحاجات أعضائه في الوقت الراهن، بينما يتطلَّع إلى مجتمع لا طبقي في المستقبل، وأصبحت دعواه، بأنه ممثِّل الطبقة العاملة الصناعية، مقبولةً على نطاق واسع. هذا بينما الحزب المنافس له، وهو الحزب الاشتراكي — القطاع الفرنسي من الأممية الدولية للعمَّال — تبنَّى الدعوة إلى الديمقراطية البرلمانية في العام ١٩٢١م، والتزم منذ ذاك التاريخ بألَّا يعمل باسم أيديولوجيا واحدة محكمة، ولا باسم الطبقة العاملة الصناعية. هذا بينما نجد في المقابل الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي ظهر إلى العلن في أغسطس بعد أن كان حزبًا سريًّا، كان حزبًا يغلب عليه الطابع البروليتاري، ويلتزم بالماركسية في نضاله. وبينما ارتضى الطريقَ الديمقراطي وصولًا إلى الاشتراكية، اعتبر النشاط الانتخابي مجرَّد مضمار نضالي واحد فقط ضمن مسيرة حرب لا تقبل المساوَمة أو الحلول الوسط.
وتمثِّل ماركسية الحزب الشيوعي الفرنسي في وقت واحد سياسةً وثقافةً جماهيريتَين وعلمًا وفلسفة وثقافة جمالية — أيْ تجيب عن كل الأسئلة، وتُكافح على كل الساحات، وتنشط لتجنيد العمَّال والفلَّاحين وأصحاب المحال التجارية والمعلِّمين والفنَّانين والكتَّاب وعلماء الطبيعة والدراسات الاجتماعية والفلسفة. وتدخل جميع قضايا الفكر داخل نطاق اهتمامه؛ لذا كانت لدى الحزب، أو يتعيَّن أن تكون لديه، إجابة عن كل شيء. ولهذا نجد أن القسط الأكبر من ماركسية الحزب الشيوعي الفرنسي قد «ترَوْتَنَ»؛ أيْ تحوَّل إلى روتين، مع جُمود عقائدي، ويمثِّل عقيدة يتحدَّث بها أنصاف المتعلِّمين المُتنطِّعين. بيْدَ أن هذا لا ينفي أن الشيوعية اجتذبت أيضًا عقولًا نابهة متألقة عُنِيت بالبحث عن رُؤًى عالَمية مقنعة ومُشرقة بالأمل.
ولم يكُن الانحياز الأول للحزب الشيوعي الفرنسي إلى العمَّال وحدهم، بل كان منحازًا أيضًا إلى الاتحاد السوفييتي؛ المجتمع الاشتراكي الثوري الناجح الوحيد. وكان واضحًا أن الاتحاد السوفييتي يُهيمِن على القسط الأكبر من الأسلوب الأيديولوجي والتنظيمي للحزب الشيوعي الفرنسي، وهو الذي يُملي قرارات الحزب السياسية الرئيسية. وواجَه الحزب اختيارًا حاسمًا في سبتمبر ۱۹۳۹م، واختار غالبيةُ قادة الحزب الشيوعي الفرنسي الاتحادَ السوفييتي، وآثَروا موقف الحياد في حرب فرنسا مع الألمان. واعتبرت السلطاتُ الحزبَ الشيوعي الفرنسي حزبًا غير شرعي. وبينما كانت الحرب في حالة جمود ولا معارك تُحدِّد الفائز والخاسر، قال البعض إنَّ الحكومة الفرنسية شنَّت ضد الحزب الشيوعي الفرنسي حربًا شعواءَ أشدَّ قوةً وجرأة من حربها ضد الألمان. وخرج عن خط الحزب بعض الأفراد الشيوعيِّين للانخراط في صفوف المقاوَمة في صورة جماعات صغيرة. ولكن ما إن هُوجِم الاتحاد السوفييتي حتى انطلقت ثورية الحزب الشيوعي الفرنسي من عقالها، وأصبحت هي قلب ورُوح المقاوَمة وأمضاها سلاحًا. وأصبحت مُسانَدة مَصالح السوفييت تعني الآن الكفاحَ دفاعًا عن فرنسا.
وجلب الحزب الشيوعي الفرنسي عبادة ستالين إلى أرض الوطن. وواقعُ الحال أنها ضاعفَت من عبادة سكرتيره العام موريس توريز، واعتاد قادة الحزب أن يستهلُّوا الحديث بعبارة: «قال لنا الرفاق …» لكي يُدْلوا بآخِر توجيهات من موسكو لاجتماعات اللجنة المركزية للحزب. وأصبح المعيار الأوحد والأهم للقضية الشيوعية هو بقاء ورخاء الاتحاد السوفييتي. وبذل ستالين كلَّ ما يستطيع لضمان أنَّ الأحزاب القومية محكومة وفقًا لنظامٍ يكفل الانضباط والثِّقة، فضلًا عن الولاء والطاعة بوجه خاص. وابتدع الحزب نموذجَه المثالي الخاص به، والذي جسَّده سارتر في تصويره لشخصية برونيت في ثلاثية «الطريق إلى الحرية». وهذا هو المناضِل الذي أخضَع ذاتيته لحساب قضية عالمية وتاريخية، وهو القادر على تبرير كل حركة أو انحراف في خط الحزب، حتى وإن كان ردَّة إلى الأمس.
ومع التحرير، كان الجيش الأحمر قد هزَم النازية في الشرق، وتهيَّأ لتحرير واحتلال شرق أوروبا فورًا. واكتشف الكثيرون ممَّن استشاطوا غضبًا لتحالُف ستالين مع هتلر التفوقَ المادي والمعنوي للشيوعية السوفييتية، وانتصرَت قضية معاداة الفاشية التي أُثِيرت في الثلاثينيات. وبدا أن الحزب الشيوعي الفرنسي المتحالِف مع أمَّة قوية مُظفَّرة وجيشها على بُعد مائتَي ميل الآن ينعم بعصره الذهبي بين التحرير ومنتصف العام ١٩٤٧م.
وتحوَّل الاتحاد السوفييتي إلى دكتاتورية، دكتاتوريةِ حزبٍ أول الأمر، ثم دكتاتورية القيادة، وأخيرًا دكتاتورية رجل واحد. وأصبح في غالبية القسمات المميزة له وثيقَ الشبه بألمانيا النازية. وصِيغت كلمة الشمولية لوصف مثل هذه الظاهرة المميزة للقرن العشرين. استأصل ستالين غيرَه من القادة الأصليين للثورة البلشفية، وفرَض قسرًا النظامَ الفوضوي والدموي للمَزارع الجماعية، الذي أفضى إلى مجاعة وموت الملايين من الفلَّاحين. ثم أطلق العِنان للإرهاب المروِّع ضد بقية المجتمع السوفييتي في موجات مُتلاحقة الواحدة تلو الأخرى، والذي بلغ الذروة في محاكَمات موسكو؛ حيث نجد مَن بقي على قيد الحياة من ضحاياها من القادة الثوريين أمثال بوخارين يَعترفون بطريقة مذلَّة بغالبية الجرائم التي لا يصدِّقها عقل. وأعدَم النظامُ الحاكم مئاتِ الآلاف في نوبةٍ تشنُّجية مُفاجئة، ومن بينهم غالبية كبار القادة العسكريِّين، ونفى مَن بقي على قيد الحياة من قُدامى البلاشفة وملايين غيرهم إلى معسكرات العمل النائية؛ ومن ثم، فإن القول بأن هذا المجتمع حقَّق «الاشتراكية»، كما اعتاد أن يؤكِّد ستالين بعد العام ١٩٤٣م، إمَّا أن يكون جنونًا، أو قولًا مُثيرًا لأقصى درجات السخرية التي عرفها القرن العشرون.
كل هذا كان ذائعًا ومعروفًا على نطاق واسع، وَلْنَذكر مثالًا واحدًا: بدأ أندريه جيد يُسانِد — بنشاطٍ — الشيوعيةَ في العام ١٩٣٢م، وأصدر في العام ١٩٣٦م «عائد من الاتحاد السوفييتي»، وأعرَب في كتابه هذا عن خيبة أمله لما رآه في جولةٍ امتدَّت عشرة أسابيع. واعترف بالجهد المبذول لإقامة حضارة جديدة، لكنه شدَّد على ما فيها من تماثُل وتطابُق، وهو ما يتجسَّد في عبادة ستالين وقمع المعارَضة. «وإني أشكُّ أن أجد في أيِّ بلدٍ آخَر في العالم، بما في ذلك ألمانيا الهتلرية، معاناةَ العقل والروح مِن سلب للحرية أكثر من ذلك، أو ركوعًا وخضوعًا وخوفًا بدافع من الإرهاب والروع، أو تبعية.» وسرعان ما بيع من هذا الكُتَيب مائة ألف نسخة أكثر من مبيعات أيٍّ من كتب جيد الأخرى، وتُرجِم إلى خمس عشرة لغة.
وتمثِّل الترجمة الفرنسية لكتاب كويستلر «ظلام في الظهيرة»، بعد عشر سنوات، حدثًا لا يقلُّ إثارةً عما سبق؛ إذ أعاد كويستلر إلى الذاكرة مدوَّنة محاكمة بوخارين، وكشف عن أن روباشوف لا يزال أسيرَ قبضةِ العقلية الشمولية للماركسية، واعترف بجرائم لم تَدُر في خلده قَطُّ. لكنه أقدَمَ على هذا ليَمنح الثورةَ الوقتَ اللازم حتى يتسنَّى لها تصنيع وتحديث روسيا، ثم الأمل في أن تحقِّق وعود الشيوعية. ويهدف كويستلر هنا إلى بيان فكرة محدَّدة، وهي أن روباشوف قبِلَ — طواعيةً — التضحيةَ بنفسه فداءً لتاريخٍ ضلَّ السبيل ويُراوِده أملٌ يائس في أن يُصحِّح مساره. ويهدف إلى تصوير الآثار الكارثية لعقلية روباشوف الشمولية، سواء على نفسه أو على العالَم حوله. ووقع روباشوف أسيرَ غوايةِ الشر الذي يَزعُم أنه الخير؛ ولذا رفض الحقيقة، وبهذا دعم اطِّراد سلسلة الدمار الشيوعي.
والسؤال مع هذه الدعاية الكاشفة للقسمات السلبية هو: كيف تسنَّى للكثيرين من الشيوعيِّين والأنصار أن يتغنَّوا بمديح الشيوعية السوفييتية عقِب التحرير؟ إن الاتحاد السوفييتي استطاع خلال حرب مناهضة للشر، وبالتحالُف مع الديمقراطيات الرأسمالية تحت علم مُعاداة الفاشية، أن يهزم الشر المُطلق ويتوارى تحت عباءة الديمقراطية. وأَلَا تُعتبَر هزيمته لأعتى آلية عسكرية في العالم شهادةً على إنجازاته الضخمة التي حقَّقها على مدى عشر سنوات من التصنيع والتحديث بوسائل قسرية؟
وتمثَّلت القسمات السلبية في التكوين القسري للمَزارع الجماعية، وما ترتَّب عليه من المجاعة التي لحقَت بالملايين من صغار الفلَّاحين، وإعدامِ مليون نسمة رميًا بالرصاص للاشتباه في أنهم مُتآمِرون، والاعترافاتِ القسرية في محاكمات موسكو، ونظام معسكرات العمل الذي انتشر على نطاقٍ واسع، والطغيان الشمولي. وكانت هذه قسمات غير مسبوقة ولا يتصوَّرها عقل، حتى كان عسيرًا على مؤيدي النظام تبريرها أو تصديق حدوثها. ونعرف أن الماركسية تشجِّع الفَهم الواقعي الذي يدعو المرء إلى عمل الممكِن. وطبيعي أنه في عالَم يتَّصف بالعنف والقُبح لن يكون التقدُّم الإنساني حلوًا ومعقولًا، خصوصًا في أكثر بُلدان أوروبا تخلُّفًا. وهل نسينا أن الحرب العالمية الثانية لم تنتهِ إلا بتدمير هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة النووية؟
وإنها لَمُفارقةٌ أن أكَّدت وحشية الشيوعية الروسية مدى جدية إقامة مجتمع جديد. وليس غريبًا أن ميرلو-بونتي في مقالاته التي أغضبَت كامي وأصبحت بعد ذلك كتابًا بعنوان «الإنسانية والإرهاب»، تحدَّث عن العنف الشيوعي كوسيلة، وربما الوسيلة الوحيدة، للقضاء على عنف الرأسمالية. ووافَقَ على محاكَمات موسكو كأسلوب مشروع للنضال السياسي من أجل نظام حكم ثوري يواجه تهديدًا، مؤكدًا على ضرورة الإرهاب لحماية هذا النظام. وبدا وكأنَّ الأحكام الأخلاقية ومسائل الواقع تذُوب وتتلاشى في مواجهة هذا الجدل الوجودي الماركسي المُتحذلِق. وهكذا جاهَد ميرلو-بونتي ليُوضِّح المنطق الذي يُمكِن أن يجعل من بلشفيٍّ مُخلِص مثل بوخارين «موضوعيًّا» عدوًّا للثورة.
واتَّسمت الماركسية بقسمات رئيسية أخرى تدفع أنصارها إلى قَبول الستالينية. إنَّ تأكيد الماركسية على سلطان العلم، ودعواها للالتزام بالموضوعية، خلَق استعدادًا مسبقًا لدى كثيرين للإيمان بأن الاتحاد السوفييتي المُظفَّر يمثِّل تجسيدًا أصيلًا لذلك في عالَم الواقع. وواضح أن الماركسية إذ تحمل اسمَ مؤسِّسها إنما تُضفي تكريمًا على سلطة المعرفة الأسمى. وإذا كان لينين هو ثاني الأنبياء الذي سُمِّيت الماركسية باسمه، فلماذا لا نَعترف بالعبقري ستالين الذي جمع بين النظرية والتطبيق؟ وحيث إنَّ الماركسية تؤكِّد الهياكل الاجتماعية الموضوعية، والحاجة إلى تحويلها، بينما أغفلت الذاتية تمامًا، فإنَّ هذا الموقف قلَّل من أهمية كيفية تغيير هذه الهياكل. إنَّ الهدف هو الإطاحة بالرأسمالية وتصنيع البلاد بأي وسيلة ممكِنة، ثم تأتي بعد ذلك الديمقراطية وغيرها من مظاهر التطور البشري. وهذا هو السبب الذي من أجله أصبح روباشوف في كتاب كويستلر عنصرًا رائعًا في دعم الشيوعية والتفاني من أجلها. علاوة على هذا، فإن البُعد الطوباوي للماركسية هيَّأ أنصارَها لتوقُّع وتبنِّي تحوُّل الوضع البشري من القمة إلى القاعدة حسبما كان الأمر في الاتحاد السوفييتي؛ إذ إن التغيير الجزئي القصير المدى يمثِّل عقبةً على طريق التغيير الشامل، وهو ما لا يفيد شيئًا سوى أن يكون فوضويًّا، بل وقاسيًا.
بيْدَ أن التركيز هنا على الاتحاد السوفييتي يُغفِل شيئًا وثيقَ الصلة بالوطن. إنَّ روسيا لا تعني أكثر مما تعني فرنسا؛ إذ رأى سارتر وكثيرون غيره أن الاتحاد السوفييتي يمثِّل أفقًا بعيدًا وليس لبَّ الموضوع، وأن الاقتراب أكثر وأكثر من الطبقة العاملة يعني الاقتراب من الحزب الشيوعي الفرنسي. ويرى المثقفون والعمَّال على السواء أن أكبر حزب في فرنسا — أيًّا كانت انتماءاته في الخارج، ومهما كان الكثير من سماته مروِّعًا — لم يكُن فقط هو القوة القائدة للمقاوَمة، بل كان قبل هذا وذاك حزب العمَّال. وتذكَّر سارتر فيما بعد أنه أراد أن «يُكافح إلى جانب الطبقة العاملة»، وأنه لذلك انجذب إلى الماركسية «كما يَجذب القمر حركات المد والجزر».
ويفسِّر هذا شيئًا، وهو أن الشيوعية السوفييتية سانَدَت العمَّال الفرنسيين في صراعهم مع الرأسمالية الفرنسية والإمبريالية الفرنسية. ولكن، أَلَم يكُن هؤلاء الذين يهاجِمون الشيوعية، شأن هتلر، يَسعَون لحماية نظام يعني الفقر والبطالة والاستعمار والحرب؟ وتساءل ميرلو-بونتي: أليسَت مناهَضة الشيوعية، ونحن في مناخ النضال، سبيلًا لتفادي الحديث عن شرور الرأسمالية؟ وحسب هذا الرأي، فإن مُؤيِّدي الطبقة العاملة وأنصار الشيوعية يتسامحون طواعيةً، بل وينكرون الكثير من قسماتها المروِّعة مُعتقِدين أنها ضرب من التشهير يختلِقه الطرف الآخر.
ولكن ليس الأمر بغير حدود؛ إذ تكشف قصة جيد عن أن الشيوعية حفَّزت أرفع الآمال العالمية لدى الملايين من أفضل عقول القرن العشرين، ولكنها تكشف أيضًا عن أنَّ الإيمان بالاتحاد السوفييتي ذوى وتضاءل، خاصةً بين المفكِّرين بعد أن أضحَت الحقيقة معروفة. ولم يحدث أن خانت أي حركة أخرى آمالها بمثل هذه القسوة. إن الالتزامات التي استهوَت المفكِّرين وجذبتهم إلى الشيوعية عقِب الحرب قاومَت بعض، وليس كل، ما كان خافيًا وبات معروفًا: معاداة ستالين للسامية، «الخطاب السري» لخروشوف، الغزو السوفييتي للمجر، وغيرها. ولم تقدِّم أي حركة أخرى سلسلة من الشهادات الدولية عن «الإله الذي سقط». إنَّ الملايين مرُّوا بالشيوعية لا لشيء سوى لكي تُنير لهم الطريق وتُحرِّرهم من وهم خاطئ، ثم يُطردون ويستقيلون ويحيدون عنها. ولم يمضِ في فرنسا عقد واحد بعد الثورة البلشفية حتى شهدت مُفكِّرين معروفًا عنهم حماسهم الشديد سابقًا، وقد تحوَّلوا عن المسار وكتبوا سقوط الوهم. ونذكر هنا بيير باسكال وبوريس سوفارين، اللذَين اتخَذا هذه الخطوة في العشرينيات، وجيد ومالرو في الثلاثينيات، وأيضًا بول نيزان صديق الصبا مع سارتر، والذي اشتهر كمؤلف «عدن» و«الجزيرة العربية»، ومحرر القسم الأجنبي لصحيفة «لومانيتيه»، والذي استقال فور سماعه الأخبار عن حلف هتلر-ستالين في أغسطس ١٩٣٩م.
•••
وسط هذه الصورة العامة نشأت علاقة كامي وسارتر بالحزب الشيوعي الفرنسي، والتي ارتبطَت على نحوٍ وثيق بخبرة وشهادة وتحليل أصدقاء مثل نيزان وآرثر كويستلر وموريس ميرلو-بونتي. ويكاد يكون من المستحيل أن نجد في الجزائر في الثلاثينيات شابًّا يساريًّا أوروبيًّا إلا وهو توَّاقٌ لإحداث تغيير جذري؛ ومن ثم منجذِب للحزب الشيوعي الفرنسي. وأصبح كامي عضوًا مثل حال الكثيرين من أصدقائه. ونظرًا لأنه كان المنظِّم للفريق المسرحي، وواحدًا من أبرز أعضاء الحزب في الجزائر، فقد رفض أسلوب الحزب في الانتقاص من أهمية نقد النزعة الاستعمارية بغية الحفاظ على العمَّال الأوروبيين المُعادين للعرب بشكل حماسي، وعكست خبرته خضوعَ الشيوعية الفرنسية لمتطلَّبات الاتحاد السوفييتي المتقلِّبة ولأساليبه «الغريبة». وحاكَم الحزب كامي وطرَده من عضويته لأنه «تروتسكي» — وهي تهمة تعني أن آراء المرء أكثر نضاليةً واندفاعًا من قيادة الحزب.
وتعبِّر «أسطورة سيزيف» عن استجابة كامي الباكرة إزاء خبرته مع الحزب الشيوعي الفرنسي. وجدير بالذكر أنه طوَّر فلسفة العبث لديه بعد أن عايَشَ الماركسية والشيوعية. ونعرف أنه خلال الثلاثينيات جابَهَ تأكيد الماركسية على المعنى والتلاحُم، لكنه بحلول الأربعينيات قرَّر أن العالَم ليس له معنًى ولا يعرف التلاحُم. ونظرًا إلى أنه عاش وعمل في ضوء رؤية الشيوعية للتقدُّم الإنساني؛ فقد رأى أن جهد سيزيف الذي لا نهايةَ له ولا جدوى منه هو الصورة الحقيقية المعبِّرة بصدقٍ عن العالم. وبعد أن عرَف وعايَشَ معنى مقولة الحزب عن الترابط الاجتماعي، قرَّر أن الفرد هو مركز ومُلتقى الفكر والفعل. ونظرًا أيضًا لأنه عاش في خضمِّ مزاج بيئة الصراع الطبقي، فقد خلص إلى نتيجة مؤدَّاها أن أكبر سؤال يواجِه البشرية هو: هل عليها أن تنتحِر أم لا؟
تُجيب فلسفة العبث عند كامي على دعاوى الماركسية بأن لا شيء من جهودنا في وسعه أن يحسم تراجيديا الموت أو أن يُضفي على العالَم معنًى. ونحن لا نجد أيَّ ذِكر صريح ومباشِر للماركسية أو الشيوعية في «أسطورة سيزيف»، لكننا نقرأ النقد في كل الصفحات: «العبثية بكل أشكالها في اندفاعها إلى المُطلَق أو الخالد، جميع هذه الستائر تخفي وراءها العبث.» ونجد أن خبرته مع الحزب دخلت من خلال هذا المعنى العميق إلى النص الذي كان لهذا السبب — وعلى خلاف نصِّ سارتر «الوجود والعدم» — نصًّا بعد-ماركسي، وليس قبل-ماركسي. وإذ رفض كامي آمالَ الماركسية، فإنه بذلك عزف على الوتر الرئيسي لفلسفته: يُواصل سيزيف جهودَه على الرغم من كل شيء. وأكَّد كامي الشيوعي السابق «أن الوجودَ مجردًا من الأمل لا يعني اليأس.»
وماذا عن سارتر؟ ظلَّت تجرِبته مع الحزب لسنوات طويلة تجرِبةَ مُراقبٍ لا شأنَ له بالسياسة، أو لا مُنْتمٍ. كان في مُنتصَف الثلاثينيات، شأن نيزان — أخلص أصدقائه منذ مدرسة المعلمين العليا — وأصبح شخصًا بارزًا في دوائر الحزب الشيوعي الفرنسي في باريس مثلما كان كامي في الجزائر. وقرأ هجوم صديقه على مُعلِّميها وعلى الفلسفة البُرْجوازية بوجهٍ عام في كتابٍ يحمل عنوان «كلاب الحراسة»، وعرف أن نيزان ترك الحرب كردٍّ على قيام حلف هتلر-ستالين، وأنه قُتل في الجبهة بعد ذلك بفترة قصيرة. وتأمَّل سارتر التزام نيزان وتحرُّره من الوهم، وكذا شجب مثقَّفي الحزب الشيوعي الفرنسي لموقفِه. وعرف هنا ما الذي جذب الناس إلى الماركسية، وهو إحساسهم بالانتماء إلى قضية أكبر من ذواتهم، علاوةً على ما تَفرضه هذه القضية من مبادئ. وكان مُقدَّرًا أن يُصبح نيزان نموذجًا للمناضل الشيوعي برونيت في ثلاثية سارتر «دروب الحرية».
وشكَّل سارتر في العام ١٩٤١م جماعة الاشتراكية والحرية، وحاوَل الارتباطَ من خلالها بالحزب الشيوعي الفرنسي دون أن يُدرِك، على ما يبدو، أن مآلها الفشل في معارَضة الاحتلال إلا بعد أن دخَل الاتحاد السوفييتي الحرب. إذ إنَّ الأمر لم يقتصر على صد الحزب الشيوعي الفرنسي له، بل إن أعضاء الحزب بدءوا في ترويجِ قصةٍ تقول إن سارتر سمحت له السلطات بمغادَرة المعتقَل لأنه عميل ألماني. وبعد حلِّ فريق المقاوَمة الصغير الذي شكَّله سارتر، انضمَّ أكثر أعضاء الفريق جديةً إلى الشيوعيين في قضاياهم، وعاد سارتر إلى كتاباته. وبينما كانت المقاوَمة في أوْجِها، حرص الحزب على توسيع نطاق نشاطاته وتنظيماته لتشمل كل مَناحي الحياة، من مثل «اللجنة الوطنية للكتَّاب»، التي نشرت «لي ليتر فرانسيز»، ودُعِي الكتَّاب غير الحزبيين من أمثال سارتر وكامي للانضمام إلى اللجنة الوطنية للكتَّاب وللمساهَمة في صحيفة «لي ليتر فرنسيز».
وحوالي هذا الوقت نفسه، ووفقًا لرواية زميل كاتب ومناضِل يُدعى جان ليسكيور، ظهر منشور يُدِين الكتَّاب «الوجوديين»، الذين زعموا أنهم شارَكوا في المقاوَمة، وحدَّد المنشور أسماء سارتر وكامي وليسكيور وكاتب آخَر، وأثار الشكوك في شان مصداقية انخراطهم في المقاوَمة. ويبدو ظاهريًّا أن هذا النص «الغريب» من عملِ شخصٍ شيوعي يُدعي جان مارسيناك، الذي يُضمِر نيَّةً خبيثة لشجب مواقف الكتَّاب المذكورة أسماؤهم أمام الألمان.
تُرى هل يرى مثقَّفو الحزب الشيوعي الفرنسي في كامي وسارتر مُنافِسَين محتمَلَين مستقبلًا، حتى على الرغم من أن رفاقة المقاوَمة كانت في ذروتها؟ تعرف أن كامي تحدَّى في صحيفة «كومبا» حزب المُعدمين رميًا بالرصاص فور التحرير. وكان شعار «كومبا»: «مِن المقاوَمة إلى الثورة»، ودعوتها إلى تغيير اجتماعي راديكالي. وتختلف في هذا اختلافًا حادًّا عن الدعوة الوطنية للشيوعيين من أجل زيادة الإنتاج لمصلحة المجهود الحربي. وزعم كامي في افتتاحياته أنَّ المقاوَمة لم تبذُل هذه التضحية على مدى تلك السنوات لكي تُعِيد فقط السياسيين أنفُسهم، والجمهوريةَ الفاسدة نفسَها، والطبقةَ الحاكمة الوضيعة ذاتَها. ودعا إلى «اقتصاد جماعي يجرِّد أصحاب الامتيازات المالية». وسعى الحزب الشيوعي الفرنسي إلى إحياء الجبهة الشعبية للثلاثينيات، على أن تكون هي نفسها القوة القائدة. ونظرًا إلى أن الحرب لم تَنتهِ بعدُ، فقد شدَّد على توجيه كل طاقات الأمَّة لتدمير ألمانيا النازية التي تحارِب على جبهتَين — ضد الجيوش الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وكذا الجيش السوفييتي. واتَّخذ كامي موقفًا مُغايرًا لموقف الحزب الشيوعي الفرنسي، وأعلن أنه يتعيَّن على فرنسا «إشعال ثورة في الوقت الذي تَخُوض فيه الحرب». وعلى الرغم من تعاطف كامي مع العمَّال، فإنه يؤكِّد على الفرد على نحوٍ بعيد كلَّ البُعد عن المعنى الذي تقصده الماركسية من الطبقة الاجتماعية. ودعا إلى «اشتراكية ليبرالية جديدة» ضاربة بجذورها في المقاوَمة ومُتمايزة عن الماركسية، لكنه أكَّد أيضًا على الحاجة إلى تيارات سياسية مختلفة لكي تَكشِف عن اختلافاتها بأسلوب منفتح وقابل للتعديل.
ولُوحِظ بعد التحرير أن المحرِّرين الذين ينتقدون أشخاصًا آخَرين أو تنظيمات أخرى تجنَّبوا في غالب الأحيان ذكر الأسماء؛ إذ أدَّى تضامُن المقاوَمة إلى التزام أسلوب مهذَّب في الحوار، وأن تكون خطوط المعارَضة مفتوحة وليست نهائية قاطعة. وكان كامي قد تجاوَز كثيرًا الكاتبَ الشاب القديم والمديرَ الهاوي الذي أجبره الحزب على المثول أمام محكمة الحزب في الجزائر. وها هو الآن يتعامل مع الشيوعيين ندًّا لهم ورئيسَ تحرير المقاوَمة المُفعَم ثِقةً بنفسه، ولديه حسٌّ واضح بمبادئه السياسية. وفي أكتوبر ١٩٤٤م قدَّم مداخَلة في مناقَشةٍ محورُها مقالٌ منشور في مجلة «أكسيون»، انتقد صديقَه جان جويهنو لتأكيده على «الطهارة». وأجاب عليه بيير هيرفي، دون ذِكر أسماء، باحتقارٍ «للشباب أتراك البُرْجوازية الذين خرجوا من المقاوَمة والطموحُ يملأ نفوسَهم، وسمُّوا أنفُسَهم اشتراكيِّين ما دامت الاشتراكية هي صرعة العصر، ورأَوا أنفُسَهم وكأنهم «قدِّيسون أطهار»، وادَّعَوا أنهم يتحدثون برُوح المقاوَمة. ونظرًا إلى أنهم ملُّوا الماركسية، وأصبحوا عازفين عن التحدث إلى البروليتاريا، فقد اعتادوا أن يقضوا الليالي مع «العالم الرسمي للأفكار»، يتحدَّثون عن الحرية من دون فَهمٍ لمعنى الحرية بالنسبة إلى العامل العاطل.»
وحرص كامي على أن يميِّز حركة «كومبا» عن الحزب الشيوعي الفرنسي من حيث الالتزام بالاشتراكية وحقوق الفرد والعدالة والحرية، لكنه مع هذا انتقد الشيوعيِّين لاعتقادهم أنهم وحْدَهم حصرًا يملكون الحق، ولرفضهم مناقَشة أفكارهم صراحةً وعلانيةً ومن دونِ التزامٍ عقائدي جامد. ومع هذا، رفَض كامي معاداةَ الشيوعية باعتبارها «بداية الطغيان». وعلى الرغم من مواصَلته الحديث إلى الشيوعيِّين، توارى إحساسُ المقاوَمة بالوحدة مع تراجُع الحرب. وفي أول ديسمبر ١٩٤٤م حذَّر كامي من أن المقاوَمة تواجه خطر النظر إليها باعتبارها مجرَّد فصيل سياسي آخَر بدلًا من أن تبقى تعبيرًا عن توافُق آراء فرنسا.
وفي هذا الوقت نفسه كان القرَّاء الشيوعيون وأنصارهم وكذا منشوراتهم لا يزالون يُجابِهون كامي وسارتر، ويَذكرونهما معًا مُتلازِمَين، باعتبارهما كاتبَين صاحبَي طراز جديد في مجال الرواية والمسرح والفلسفة. ومن عجب أن المحرِّرين الشيوعيين دبجوا أحيانًا مقالاتٍ غيرَ ماركسية؛ مثالُ ذلك مقالاتٌ كتَبها في مجلة «أكسيون» ألكسندر أستروك، أحد طلاب سارتر السابقين. ووصَف أستروك روايةَ «الغريب» بأنها أفضل رواية صدَرَت إبَّان الاحتلال. وكتب أستروك مقالًا عن سانت أكزوبري، ووصف فيه تحوُّل الكاتب من العبث إلى الأمل بأنه يُوازي تحوُّل كامي وسارتر؛ إذ إنَّ كتاباتهما تحكُمها خاصية التنافر الجوهرية التي تكشف عن أن العالم محصور في زاوية الكابوس والعبث. لقد فتَح الكتَّاب الثلاثة نافذةً على «الأخلاق، أي القِيَم» التي أصبحت موضوعَ العصر الحاسم والمحوَري.
والجدير ذِكره أن مجلة «لو ليتر فرانسيز» فتحَت صفحاتها لسارتر، وهي المجلة التي يُدِيرها أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي ضِمن تحالف واسع مع آخَرين. وساهم كلٌّ من سارتر وكامي في الكتابة سرًّا في أثناء الاحتلال. ولم تَكتفِ المجلة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من ظهورها العلني بنشر «جمهورية الصمت»، أو تقديم عرض مُسهب شديد الذكاء لمسرحية «لا مَفر»، بل عرضَت الفصل الأول من رواية سارتر التي لم تَصدر بعدُ، والتي تحمل عنوان «إرجاء الحكم». وعرضَت المجلة في أول ديسمبر إجابةَ سارتر في مكانٍ مميز بين عدد من الأحاديث واللقاءات الأخرى بشأن قراءات نُزَلاء السجون وقت الحرب.
ونلحظ خلال الأشهُر الأولى عقِب التحرير أن انتقادات الحزب وإجابات سارتر وكامي شكَّلت حوارًا متبادلًا أصيلًا، مثلما هي الحال في افتتاحيات كامي. ونشرت مجلة «لو ليتر فرانسيز» مقالًا بقلم ناشرِها جورج آدم ينتقد فيه بعض الكتَّاب من دون ذِكر أسمائهم، بسبب استهانتهم الممزوجة بمشاعر اليأس و«النزعة التشاؤمية الفردية»، التي أصبحت الآن وعقِب التحرير «شيئًا لا مُبرِّر له، وعفى عليه الزمن». وكان كامي من بين الكُتَّاب المَعْنيين تلميحًا وإن لم يَرِد اسمه تصريحًا؛ ولهذا دافَع عن نفسه، مثلما فعَل سارتر أيضًا، في مقالٍ نشرته «كومبا» في نوفمبر ١٩٤٤م، يحمل عنوان «التشاؤمية والشجاعة». وميَّز نفسه عن نيتشه وهايدغر — وأيضًا ضمنيًّا عن سارتر الذي اختصَّ نفسه بكلمة «الوجودية». قال كامي: «لا توجد أوجُه تشابه كثيرة بيني وبين جميع مَن اشتُهروا ويَحملون اسم الفلسفة الوجودية. وإذا شئتم الحقيقة أقول إنني أرى أنَّ النتائج التي وصلت إليها زائفة. بيْدَ أنها تمثِّل — على أقل تقدير — مغامَرة كبرى للعقل.»
كان كامي لا يزال يعتبر الشيوعيين القائمين على مجلة «لو ليتر فرانسيز» رفاقًا. «إن معتقَداتهم غير معتقَداتنا، لكن لم يحدث أبدًا أن تحدَّثنا عنهم باللهجة التي يستخدمونها معنا وبالثقة التي يُبدونها.» ونراه إذ يربط نفسه مباشَرةً مع سارتر يُوافق على أن «كل شيء لا يمكِن إجماله في السلب والعبث. نحن نعرف هذا خير المعرفة، ولكن يتعيَّن علينا أولًا أن نفترض وجود السلب والعبث؛ لأنهما هما الشيء الذي التقاه وعايَشه جيلنا؛ ومن ثم لا بد من أن نضعهما في الحسبان.» وأعرب عن أمله في التحلِّي بالصبر إزاء هؤلاء الكتَّاب؛ إذ إنهم في نهاية المطاف منخرِطون بإخلاص في بحث ومعالَجة قضايا شائكة. «أليس بالإمكان مخاطَبتهم بقدرٍ أكبر من التواضع؟»
«سأكون صريحًا ومباشرًا: يبدو أن هجومكم ضدِّي نابع من الجهل وسوء الطويَّة. ويكاد يكون من المقطوع به أنكم لم تقرءوا أيًّا من الكتب التي تتحدَّثون عنها. إنكم بحاجة إلى كبش فداء إذ ليس في وسعكم البقاء من دون أن تنالوا من شخصٍ ما بين حين وآخر، وها أنتم اخترتم الوجودية، ذلك لأنها مذهب مجرَّد لا يعرفه غير القليلين، وتظنون أن لا أحد سوف يسعى للتحقُّق مما تقولون، بيْدَ أنني سوف أجيب عن اتهاماتكم واحدًا بعد الآخر.»
واستطرد باللهجة القتالية ذاتها، وإذا كان كامي قد عمد باسم تضامن المقاوَمة إلى أن يقصر حديثه على الاعتراض على الرُّوح العدائية من جانب الشيوعيين؛ كان مقال سارتر مقطوعة رائعة في مجال الاستفزاز. وبدا المقال فرصةً للترويج لأفكاره تحت ستار الدفاع عنها، من دون التخلِّي عن الروح الهجومية. ولم يحاول، شأنه شأن كامي، المطابَقة بين فلسفته والماركسية، لكنه اختلف عنه من حيث إنه لم يعزف على لحن المصالَحة فقط. وإذا كان سارتر قد اتَّهم مثقَّفي الحزب الشيوعي الفرنسي بالكذب على فلسفته، وبالنفاق وسوء الطويَّة والغباء، إنه — على خلاف كامي — أكَّد التزامه بالصراع الطبقي واحترامه الشديد لفكر ماركس.
•••
وخلال هذه السنة التي أعقبَت التحرير واجَه المثقَّفون الشيوعيون أزمةً في التعامل مع كاتبي فرنسا الجديدين ذوي الشهرة الواسعة. كان واضحًا أنهما إلى جانب اليسار، يتحدَّثان عن «الثورة» أكثر مما يتحدَّث الحزب الشيوعي الفرنسي، وتميَّزت أعمالهما بالجدَّة والحيوية والنُّضج بحيث تعكس مزاجًا مشتركًا، فضلًا عن شيوع كلماتهما واسمَيهما اللذَين أصبحا يتردَّدان في كل مكان. والجدير ذكره أن كامي، الشيوعي السابق، رفَض معاداةَ الشيوعية، والتزم سارتر موقفًا نقديًّا تجاه الحزب، وإن لم يكن مناهِضًا سياسيًّا. لماذا لا تتعامل معهم كحلفاء محتمَلين من حيث الاتفاق على أن تختلفوا؟ هذا ما سمعه سارتر من كثيرين من أعضاء الحزب، ولا يريدون منه أكثر من ذلك.
وتمثَّلت المشكلة في أن أفكار كامي وسارتر عن العبث والحرية، وتأكيدهما على الأخلاق والمسئولية، والتزامهما الصريح للغاية باليسار وليس بالحزب الشيوعي الفرنسي، بدَت جميعها غامضةً بين الشباب المتعلم. وبدا منذ أواخر العام ١٩٤٤م وكأنَّ كامي وسارتر شرَعا في تأسيس مدرسة فكرية، وهذا ما روَّجت له بوفوار ومعها ميرلو-بونتي، وعمَدا إلى نشر هذا التصور على نطاق واسع. وإذا كان سارتر رغب في أن يظلَّ ودودًا مع المثقفين الشيوعيين كأشخاص، كان هو والحزب في تنافس على جمهورهما المشترك، وبدا واضحًا في أكتوبر ١٩٤٥م أن هذا كان إيذانًا بصدور «الأزمنة الحديثة».
وكان الشيوعيُّون — بحُكمِ تكوينهم — عاجزين عن الاتفاق على الاختلاف، وهذا هو عين ما طالَب به كامي في ندائه داعيًا إلى التواضُع. بيْدَ أن هذا النهج من شأنه أن يُحِيل الماركسية لتُصبح مجرَّد وجهة نظر متساوية مع وجهات نظر أخرى على جانب اليسار؛ إذ اعتاد مثقَّفو الحزب الشيوعي الفرنسي الزعم بأنهم يملكون وجهة النظر التاريخية العالمية الصحيحة دون سواها، ويرَون كل التحدِّيات والطعون الفكرية الأخرى مجرد تعبيرات أيديولوجية تعكس مصالح طبقية؛ ومن ثم سوف يجد هؤلاء، إنْ عاجلًا أو آجلًا، أن لا مناصَ من الهجوم ضد هذه الأفكار البديلة، وأن يعزوها إلى أيديولوجيات مُعادية للبروليتاريا، حتى وإن لم تُصِبهم العقلية الستالينية في شأن ملاحَقة المشتبَه فيهم من أصحاب الفكر المنحرف.
واستمرت مجلة «أكسيون» في نشر مقال سارتر مع نهاية ١٩٤٤م؛ مما يعني أن الروح الرفاقية الذاوية التي نشأت مع التحرير لم تَختفِ تمامًا، ولكن في يونيو ١٩٤٥م حسمت «أكسيون» تمامًا حالة التناقُض بأن شنَّت هجومًا قاسيًا على أفكار سارتر، ثم بعد ثلاثة أسابيع انقضَّت على كامي.
وتصدَّى لانتقاد سارتر هنري لوفيفر، مؤلِّف الشرح الرئيسي للفلسفة الماركسية في كتابه «المادية الجدلية»، وباعتباره أكفأ أعضاء الحزب المؤهَّلين للتصدِّي لسارتر. وبدا مقاله مفرطًا في التعبير عن الثقة الذاتية للماركسية. وعمد لوفيفر في هدوء إلى صَوغ المنظورَين التاريخي والاجتماعي اللذَين شاء أن يضع فيهما فيلسوفَ الفردية، موضحًا لماذا يمثِّل اليأس والانفرادية والأسى والعدمية موضوعات سارتر الرئيسة. وحيث إنَّ سارتر يمثِّل «عصرًا محكومًا عليه باليأس»؛ فقد كان له أن يُنكِر الميتافيزيقا والوعي المحض، وينتقل بشكلٍ حاسم في اتجاه إطار يؤكِّد الفعل الجمعي المؤسَّس على المعرفة الموضوعية، ولكنه حرص على مواصَلة التصدِّي للوجود بوعي منعزل، ورفض المحتوى الموضوعي التاريخي. ولم يرَ سارتر العدمَ باعتباره خطرًا يتهدَّد «نظامًا اجتماعيًّا في سبيله إلى التبدُّل» — الرأسمالية إذ تُواجِه خطرَ الموت التاريخي — بل رآه كاشفًا عن «بِنية خالدة للوعي البشري». وواصَل لوفيفر جدالَه قائلًا: «إن سارتر بعد أن استحكمَت فيه نزعة شكٍّ تجهيلية، بات — على الرغم من تأكيده العمل — عاجزًا عن أن يتبيَّن أن البشر يصنعون أنفسهم اجتماعيًّا وتاريخيًّا؛ ولذلك نجد فلسفة سارتر الوجودية استسلمَت لتغدو آلةَ حربٍ نظرية ضد الماركسية.»
وتصادف أن ظهرت مقالة لوفيفر قبل يوم واحد من بدء مجلة «كومبا» — التي يرأس تحريرَها كامي — نشْرَ ست مقالات لسارتر عن رحلته إلى الولايات المتحدة، والتي عرض فيها حالَ الطبقة العاملة الأمريكية وتأمُّلاته في شأنها. وكشفَت هذه المقالات عن أن سارتر يشقُّ أرضًا جديدة. ونعرف أن رحلته إلى الولايات المتحدة هي التي ولَّدَت لدَيه أولى ملاحظاته السياسية والاجتماعية الدائمة. وتمثِّل هذه المقالات المستفيضة والمفعمة حيويةً أولى كتاباته المتأثِّرة بالأفكار الماركسية، وأكَّد فيها محورية الطبقة الاجتماعية والتأثير الاغترابي للعمل الصناعي، واستغلال العمال، واستكشف قضايا تتعلَّق بتنظيم وأيديولوجية العمال. وقام خلال هذه الرحلة بأولى زياراته للمصانع، وعقد أولى محادَثاته مع العمَّال والنقابيِّين، وبدَت الولايات المتحدة معملًا يشتغل فيه سارتر ليُجري تجاربه في شأن فكرة الالتزام الأدبي التي كان عاكفًا عليها لتطويرها آنذاك. بيْدَ أنه عاد إلى الوطن ليجد الشيوعيِّين يُعلِنون الحرب عليه هو وكامي.
«أفهم أن المحرِّر، كاتبَ الافتتاحيات المقروءة على أوسع نطاقٍ في العالم، لا يترك الأمور لذوقه الخاص، ولا يدَّعي لنفسه الحقَّ في التحدُّث من عليائه ليوزع اللوم والتشجيع الواحد بعد الآخر. إنه مثل أسقف يقدِّم الخدمات ويعترض على نباح كلب في إحدى المُجاورات. عنده الحق! وعنده الأمانة! ومن أسًى أن مرجعية العديد من الكلمات الأدبية الرنَّانة لا تَحُول دون أن يُصبح المرء روحًا زائفة في الأمور السياسية. أقول هذا حين تُثير النغمة الفاترة حنَقي. إنني لا أُخفي شعوري بالحنق وراء ادِّعاء مُنافِق بالكبرياء الأخلاقية.»
وعمدت «كومبا» في مناقَشتها للمناوَرة وسط أعضاء المقاوَمة إلى تقديم الروايات الأبعد عن الدقَّة، والأكثر زيفًا والأبعد عن الأمانة. وإذ أضاف هيرفي صوتَ المرجعية إلى هجومه ضدَّ «السطحيِّين المُغالين في سُخريَّتهم»، نراه يعمد إلى اقتباس بعض أقوال لينين عن البُرْجوازية الصغيرة: «الجميع يعرف عدم ثبات دوافعهم الثورية، وعقمهم، وسهولة الاستسلام لحالات الانصياع واللامُبالاة والتخييلات الوهمية، بل والافتتان المذهِل بهذا أو ذاك من البُرْجوازية التي تمثِّل موضة العصر.»
واضحٌ إذن أن تحوُّلًا قد حدث؛ لقد تفتَّتت المقاوَمة، واستخدَم كامي في خريف العام ١٩٤٤م مصطلحَ «الرفاق»، لكن بحلول يونيو ١٩٤٥م بدءوا يُعامِلونه كعدوٍّ مدعومين باقتباس من لينين. واستهدف مقال هيرفي إذلال كامي. والحقيقة أن كامي بعد هذه الهزيمة العلنية كتَب فقط بِضع افتتاحيات قليلة في «كومبا»، ثم لزم الصمت. وكما رأينا في موقفه إزاء هيروشيما، وكذلك إلى حدٍّ كبير في اختلافه مع الحزب الشيوعي الفرنسي، فقد دان بشدَّة استخدام الأسلحة النووية، وأعلن خلال الشهر نفسه أن سياسة التطهير انحرفت عن مسارها الصحيح، واتَّخذ وجهةَ نظر مخالِفة عن أولئك الداعين إلى استمرارها — وهم الشيوعيون قبل سِواهم. وصرَّح بأن القوة السياسية للمقاوَمة تبدَّدت. وكان هذا الرأي آخِر افتتاحية سطَّرها كامي على مدى أكثر من سنة.
والجدير ذكره أن سيمون دي بوفوار في بحثها عن أول دلائل التوتُّر بينها هي وسارتر وكامي، أشارت إلى فكرة كامي الغريبة، وهي مُطالَبته العلماءَ بوقف أبحاثهم بُغيةَ القضاء على الأسلحة النووية. وكان العامان اللذان شَهِدا علاقةَ سارتر وكامي في أوثق مراحلها أوشكا في الوقت نفسه على النهاية؛ نظرًا إلى تدنِّي وتفكُّك أواصر أخوة المقاوَمة التي امتدَّت على مساحة واسعة، ابتداءً من الديغوليين وحتى الشيوعيين. ولم يأتِ هذا مصادَفةً يقينًا؛ إذ بينما كان سارتر وكامي تجمعهما الكثير من النظرات النقدية إزاء الشيوعيِّين، فإنهما اختلفا وبحدَّة في شأن المواقف الأساسية لكلٍّ منهما تجاه الحزب الشيوعي الفرنسي. ومن دواعي السخرية أنه بينما نظر كامي إلى الشيوعية باعتبارها عدوَّه السياسي الرئيسي، بدأ سارتر يُصبِح العدوَّ الفكري الرئيسي للحزب.
لماذا سارتر وليس كامي؟ اعتاد سارتر الاستمتاع في تلذُّذ بالمحاجة، بينما هو مرتبط معهم بوسيلة مختلفة تمامًا عن كامي. كان سارتر في نظرهم مؤلفًا لفلسفة معقَّدة وجذَّابة، ويجد تأييدًا ودعمًا من العديد من الخصوم، وهيَّأ هذا لسارتر فرصة الطعن صراحةً في الماركسية من حيث هي أيديولوجية، ورأى فيه مثقَّفو الحزب الشيوعي الفرنسي «زعيم مدرسة».
«ذهبت (إلى اللقاء) تحْدُوني رُوح المصالَحة، ووجدت نفسي أواجِه محاكمة؛ حيث هاجَمني غارودي وموغان بعنفٍ في شأن فلسفتي التي قالا عنها إنها عَفِنة. وكان غارودي الأشدَّ عنفًا، مؤكِّدًا أن لا مجالَ للاتِّفاق بشأن أي موضوع بيني وبينهم. هنا سألت مذهولًا: لماذا إذن هذا اللقاء ما دامت انتفَت أيُّ فرصة للتوفيق والمصالحة؟»
وفي ٢١ ديسمبر، نشرت مجلة «لو ليتر فرانسيز»، التي تتبنَّى الآن خطَّ الحزب الشيوعي الفرنسي بالكامل، مقالًا افتتاحيًّا بقلم كلود مورغان يوضِّح التزامات الصحيفة السياسية والأدبية، ومؤكِّدًا: «إننا نُكافح ضد أدب العبث واليأس — وهي الأوصاف عينها التي أُضفِيت على كتابَيَّ «كاليغولا» و«دروب الحرية»، اللذَين عُرِضا فورًا.» وأكَّد رينيه سكيرر في العدد نفسه أن الماركسية ليست في حاجة إلى استكمالها بالوجودية، وأن كلتَيهما وجهتا نظر مُتعارِضتان تمامًا. وفي ٢٨ ديسمبر، نشرت المجلة في صفحتها الأولى إدانةَ غارودي لسارتر باعتباره «نبيًّا زائفًا»، والوجودية «مرضًا». وهاجم غارودي كل كتابات سارتر، بما في ذلك «جمهورية الصمت»، التي نشَرتها الصحيفة نفسها، ووصف سارتر بأنه «حفَّار قبور»، كما وأنه — بنصِّ كلمات سارتر — «مرَّغه في الوحل يمينًا ويسارًا».
وردَّ سارتر على هذا بأن مرَّغ غارودي نفسه في الوحل في مجلة «الأزمنة الحديثة»؛ ففي يونيو ويوليو شدَّد عليه النكير في مقالات فلسفية «المادية والثورة»، التي انتقد فيها المادية الميكانيكية للشيوعية الستالينية، بينما دعا إلى التضامُن مع العمَّال والثورة، وشنَّ هجومًا قاسيًا على شخص غارودي؛ إذ وصفه بإنسان غير واعد، ويكاد لا يجد له مكانًا سوى داخل الحزب، كما أنه متَّهم بالتزامه نزعةً علموية «ساذجة وجامدة». وأثبتَت هذه المقالات ثقةَ سارتر العالية بنفسه، على الرغم من أنه لم يُشِر من قريب أو بعيد إلى أنه قرأ ماركس.
ودفع سارتر بأن الاشتراكية المادية تنطوي على تناقض اصطلاحي؛ ومن ثَم أكَّد أن أي حدث جزئي (إفقار العمَّال كمثال) من شأنه فقط أن يتولَّد عنه حدَث آخر: «إن حالة العالم لن يتولَّد عنها أبدًا وعي طبقي.» ونحن حتى وإن كنَّا مُستعبَدين، نُعتبر أحرارًا، حسب معنًى أساسيٍّ ما. وعلى الرغم من أن «أسطورة المادية» أفادت في تفسير القهر، فإنها كانت عديمة الفائدة تمامًا في تفسير كيف ولماذا يعمل البشر لتحرير أنفسهم. وطوَّر سارتر أفكاره وقضاياه الرئيسية الخاصة — العمل والموقف والتعالي والحرية والوجود في العالم ومحورية الذاتية والتعارض مع أي أخلاق قبلية، والعداء للفكرة البُرْجوازية عن الحقوق — وصاغ أفكاره هذه في إطار جديد من الاتجاهات الاجتماعية والسياسية. وخاض سارتر حوارًا ساخنًا وحادًّا مع الحزب الشيوعي الفرنسي، وقدَّم في حواره هذا الوجودية بديلًا عن الماركسية. وأصبح سارتر، شأن كامي، هدفًا لهجوم الحزب، لكنه اختلف عن كامي في رد الصاع صاعَين وهو واقف على أرضه.
•••
شنَّ هارفي هجومَه ضد كامي في يونيو ١٩٤٥م، والذي أعقبه حادث هيروشيما، وخلص بعده كامي إلى نتيجةٍ مُؤدَّاها أن التطهير ضلَّ السبيل. وكانت هذه إشارة إلى نهاية آمال كامي خلال فترة ما بعد الحرب. تبدَّدت موجة المقاوَمة الأولى للإصلاح الاجتماعي بعد أن تفتَّتت الحركة على نحوٍ لا سبيلَ إلى إصلاحه. وعلى الرغم من أسطورة أن المقاوَمة حرَّرت فرنسا، كان حدث هيروشيما بمنزلةِ رمزٍ دالٍّ على حقيقة أعمق — بمعنى أن فرنسا، ومنذ الآن، سوف تخضع لقوى تتجاوَز حدودَ سيطرتها — وأشارت تأمُّلات كامي المريرة في شأن التطهير إلى نهاية حِقبة، وإلى نقطة تحوُّل شخصية في حياته. كان قد عقد الأمل في البداية على الانتقال من «المقاوَمة في الثورة»، وهو ما يعني عنده الاشتراكية قرين الحرية، ولكنه طامَنَ طموحاته وقنع بتعزيز الروح الأخلاقية والاحترام المُتبادَل والانفتاح الفكري والحوار الصادق الأمين، ولكن مع حلول صيف ١٩٤٥م بدَت هذه الأهداف أيضًا ضربًا من الأحلام. لقد عادت السياسة القديمة، وجفَّ قلم كامي فلم يَعُد لديه المزيد ليقوله، وبدا الشعار الرئيسي لصحيفة «كومبا» شاذًّا وغريبًا الآن. انتهت المقاوَمة، والثورة حدثٌ خارج نطاق التفكير.
وحان الوقت لكي يتراجع كامي ويتأمَّل خطأ الماضي، واتخذ لنفسِه اتجاهًا من واقع خبرته مع الشيوعيِّين. ونلحظ أنه بعد عشر سنوات من التفاعل مع الحزب الشيوعي الفرنسي امتزج فقدان كامي لتفاؤله السياسي الذي خامَرَه بعد الحرب بشعوره بأنهم «هم» المسئولون. وإذ ظهر كامي باعتباره الصوتَ البارز المعبِّر عن اليسار غير الشيوعي، فقد حاوَر نظرة الحزب لكن باعتباره ندًّا ورفيقًا في آنٍ واحد. وانتهى الحوار الآن بسبب الشجب القبيح على لسان هيرفي. وطبيعيٌّ أن مثل هذه المعاملة السيئة، خاصةً إذا جاءت على أيدي مَن يَراهم كامي على خطأ أساسي فلسفي وسياسي، كانت تعني بالنسبة إليه أنه بات لزامًا عليه من الآن فصاعدًا أن يتحدَّث عن الشيوعيين، وليس أبدًا أن يتحدَّث إليهم.
وأعلَن كامي في أول سبتمبر ١٩٤٥م انتهاءَ افتتاحياته بأنْ أجمَلَ خبرتَه عن السنة الماضية كصحافي يسعى إلى خلقِ حوار. لقد حاولَت مجلة «كومبا» مُخلِصةً تحديدَ مواضع الاتفاق والاختلاف مع الشيوعيِّين، «بيْدَ أننا لم نتلقَّ أيَّ إجابة على الإطلاق». وخاطَب أيضًا فرانسوا مورياك الكاثوليكي بلهجة «أسكتَتنا»، ولكن كامي لم يوجِّه اللوم إلى آخَرين لأنَّهم جعلوا الحوارَ مُستحيلًا؛ إذ بدا الأمر «إخفاقًا مؤقتًا»، بسبب «أننا لم نجد بعدُ اللغة» التي تجمع بيننا في الحوار. ولعلَّ مثل هذه الكلمات الشجاعة كان من شأنها أن تدفَع إلى مواصَلة البحث عن أرضٍ مشتركة، غير أن كامي، بدلًا من هذا، اتَّجه إلى مذكِّراته، وتحوَّل تدريجيًّا بحيث أصبح شيئًا فشيئًا يعامل الشيوعية باعتبارها مرضًا حضاريًّا، «جنون العصر». وعكف على مدى الأشهُر الستة عشر التالية في محاوَلة لفَهم طبيعتها وأسبابها ومسلَّماتها التي ترتكِز عليها، والنتائج المترتِّبة على ذلك.
وشرع كامي، على إثر مقال هرفي مباشَرةً في تأمُّل التوتُّر بين مُصطلَحين رئيسيَّين في فهمه للشيوعية، وهما الحرية والعدالة. لقد حاوَل جاهدًا في افتتاحياته التماسَ الاشتراكية مع أو قرين الحرية، ولكن الشيوعيين، حسبما دفَع هو، هم الذين التمسوا عدالةً من دون حرية، وأن عليه أن يختار بين الاثنَين. واختار: «أخيرًا آثرتُ الحرية؛ ذلك لأنه حتى لو لم تتحقَّق العدالة، فإن الحرية كفيلة بالحفاظ على قدرة الإنسان على أن يحتجَّ ضد الظلم، وأن يظلَّ باب التواصُل مفتوحًا.» أن يظلَّ مفتوحًا ما لم يخنقه أو يَسدُدْه الشيوعيون الذين يفتقرون إلى الحرية الفكرية ويُقرِّرون أن «العدو هو الصواب». وبعد بضعة أشهر أكَّد أن «الماركسيين لا يؤمنون بالإقناع أو بالحوار»، وأن المنوط بهم من الشيوعيين — وهم قادة الحزب الشيوعي الفرنسي — التحدُّث إلى الجماهير لا يَعْبئون بالحرية. نعم، لا يزال الكثيرون من المنحازين إليهم يختارون العدالةَ دون الحرية؛ ذلك لأن «العدالة وحدها تكفل لهم الحدَّ الأدنى من الضروريات.»
ظلَّت هذه الآراء تتراوَح ما بين التحدِّي والتشاؤم، ووجد كامي نفسه بين صفوف أقلية صغيرة جدًّا مآلها الاستشهاد: «برنامج للغد: إعدام كئيب ومهيب لشهود الحرية». وبذل جهده للتوفيق بين العدالة والحرية باعتبار هذا هو «الأمل الأخير» للغرب، بيْدَ أن هذا بدا في ضوء مناخ اليوم تفكيرًا طوباويًّا. «هل تتعيَّن التضحية بأيٍّ من القِيمتَين؟ تُرى ماذا يكون الرأي في هذه الحالة؟»
«كيف نختار بين الاثنين؟ شيء بداخلي يقول لي، ويُقنِعني، أن ليس بإمكاني أن أنتزع نفسي من زمني والعصر الذي أعيش فيه من دون الخنوع، ومن دون العبودية، ومن دون إنكار أمي وحقِّي، وليس لي ولا بوسعي أن أفعل هذا، أو أن أقبل التزامًا بأنَّني في آنٍ واحد مُخلِص ونسبي ما لم أكُن على سبيل الافتراض مسيحيًّا. ليس مسيحيًّا، بل يتعيَّن أن أمضي إلى النهاية. ولكن المُضيَّ إلى النهاية يعني اختيار التاريخ على أنه المُطلَق، ومعه قتْلُ الإنسان إذا كان قتْلُ الإنسان ضرورةَ التاريخ. من دون هذا أنا لستُ سوى شاهد، وهنا السؤال: هل بوسعي أن أكون مجرَّد شاهد؟ أو بعبارة أخرى: هل لي الحق أن أكون مجرَّد ممثِّل؟ ليس بوسعي أن أُومِن بهذا. وإذا لم أختَر الموقفَين معًا ضد الرب وضد التاريخ، فأنا شاهد للحرية المحضة، التي مآلها في التاريخِ الإعدامُ.»
كتَب كامي هذا بعد فترة قصيرة من مَطلع شهر نوفمبر ١٩٤٥م. لم يرَ في أثناء كتابته هذا أيَّ بدائل عن «الصمت أو الموت». الإيمان بالتاريخ شأن الشيوعيِّين هو الطريق إلى «الزيف أو القتل». وإنه لمن دواعي الإحباط أن يبدو الدِّين البديلَ الوحيد. «أفهم أن الإنسان بوسعه أن يُهروِل ليُلقي نفسه بين أحضان الدِّين دون وعي أو إرادة ليهرب من هذا الجنون، وهذا التمزُّق الأليم» (نعم، إنه أليم مُبرِّح حقًّا).
وبدأ كامي ببُطء شديد وبعد جهد مرير يَصوغ درْبَه السياسي الخاص البديل، محاوِلًا إيجاد أساس أخلاقي في مقدوره التحدِّي والصمود أمام الضغوط التي يُحسُّ بها. وتمثَّلت مصطلحاته الرئيسية في العبث والطهر … الثورة. وحوالي هذا الوقت ذكَر كامي، ولأول مرة، سارتر في مذكراته. وأوضح أنه هو نفسه كان ممثِّلًا وليس فيلسوفًا، لأنه قال: «أفكِّر وفقًا للكلمات، وليس وفقًا للأفكار.» وصرَّح قائلًا: «ضد أدب الالتزام.» إن الفرنسي الأفريقي فكَّر في أن وطنه الرُّوحي قائم خارج المدن — التي كانت وطن مفكِّرين من أمثال هيغل وسارتر، وخارج «جميع فلسفات التاريخ الحديثة» — ووسط «دوام واتِّزان» الطبيعة. تُرى كيف كانت صورة سارتر في تأمُّلات كامي، وكان سارتر العام ١٩٤٥م بعيدًا عن هيغل بُعدَ كامي عن ماركس؟ أعتقِد أن كامي ميَّز نفسَه عن سارتر خلال عملية توضيح معارَضته المتزايدة لماركس. وحسب رأي كامي، فإن سارتر إذ طالَب بانغماس المرء في عصره، كان منحازًا إلى الماركسية، بينما واصَل كامي إصرارَه على أن «كل البشرية غير مُتطابقة مع التاريخ». واعتقد حسب تفكيره أن سارتر أخفَق في رؤية هذه الحقيقة: «الإنسان ليس موضوعًا اجتماعيًّا فقط».
ولكن وصف كامي لكلٍّ من سارتر والماركسية ليس مُتطابقًا تمامًا. إنَّ السمة المُذهلة أكثر من غيرها في هذه التأمُّلات المتكررة أنها تكشف عن عدم وجود أيِّ دليل على قراءة «الوجود والعدم»، أو أي شيء كتبه ماركس. ربما كان كامي يردُّ على نداء سارتر بالالتزام في العام ١٩٤٥م، ولكنه ضمَّنها الماركسية دون تفكير في الفوارق الأساسية؛ ومن ثَمَّ فإن القراءة الدقيقة الفاحصة ربما كانت توضِّح له أن مذهب الوجود «الأنطولوجيا» عند سارتر بشأن الوجود في ذاته والوجود لذاته من شأنه أن ينفي إمكان أن يستوعب أو يبتلع التاريخ الإنسان. وحقيقة الأمر أن التوتُّر بين منطلقه اللاتاريخي والعالم التاريخي سوف يظلُّ دون حسمٍ بعد تحوُّل سارتر إلى الماركسية، هذا بينما مُزاوَجة كامي بعد ذلك بين الماركسية والقتل إنما كانت ضربًا من التفكير الشمولي العام، ولكن من دون سند يدعمه. ربما كان كامي يفكِّر في تبريرات أعضاء الحزب لجرائم ستالين، ولكن المعادلة الفجَّة بين الماركسية والقتل غير ذات معنًى، وهو ما يمكِن أن يكون قد قاله له جي موليه من القِطاع الفرنسي للأممية العمَّالية، ومعروف عنه أنه ماركسي واشتراكي ديمقراطي معتدِل. وربما شاء كامي أن يمسَّ بعضًا محددًا من مظاهر تصوُّر الماركسية، ولكنه غير واضح في هذا عن يقين. إن المشكلة أن أحكامه عن سارتر والماركسية لا تتمثَّل في حُجة كامي، بل في غياب حُجته. ونظرًا إلى أنه يُحاول في إطار هذه القضايا الإشكالية، فإنه غالبًا ما كان ينطلق من مزاعم مطلَقة دون دقَّة في التحليل أو القراءة أو النصوص التي يتَّخذها مَراجعَ له.
•••
بينما كان كامي عاكفًا على هذه الأفكار ويتهيَّأ للانتهاء من «الطاعون»، كان العالَم من حوله يتغيَّر جذريًّا؛ إذ العام ١٩٤٦م هو العام الذي انشقَّ فيه حِلف زمن الحرب وانقسم إلى معسكرَين، وهو العام الذي بدأت فيه التوتُّرات بين القوى العُظمى تأخُذ شكل حرب بين الحضارات — أو لنَقُل حربًا داخل الغرب بهدف الحفاظ على الحضارة ذاتها. وعبَّر السفير جورج كينان في فبراير عن الأساس الأيديولوجي في نظر الغرب للصراع بين الخير والشر في رسالته الشهيرة «بَرقية مُطوَّلة» من موسكو. وفي مارس قدَّم ونستون تشرشل بشكلٍ علني وصريح خطابَه «الستار الحديدي» في فولتون في مقاطعة هيستوري، وتفاقَمَت حدَّة التوتُّرات بين الشرق والغرب بشأن إيران وتركيا واليونان وبولندا، ولكن بدا واضحًا أكثر فأكثر أنَّ الاتحاد السوفييتي عاقد العزم على استمرار سيطرته على البُلدان المُتاخمة له مهما كانت التَّكلفة.
كان المَوقف العالَمي يتغير، والأحداث في فرنسا تسير في اتجاه الحرب الباردة حسب تعريفهم لها. أصبح الائتلاف الثلاثي الحاكم مشلولًا، والذي يضمُّ الاشتراكيين والشيوعيين والحركة الشعبية الجمهورية الديمقراطية المسيحية. والمعروف أنَّ هذا الائتلاف استهلَّ سلسلةً من الإصلاحات الأوَّليَّة بمنزلة استرداد للأنفاس، وذلك على مدى الأشهر التي أعقبَت التحرير مباشَرةً، وحدد من خلالها نظام فرنسا الحديث لمجتمع الرفاه وتدخُّل الدولة في الاقتصاد. وشهدت انتخابات الجمعية الوطنية لأول مرة عقِب الحرب، في خريف العام ١٩٤٥م، انتصارَ حزبَي الجناح اليساري وحصولهما على أغلبية واضحة، مع بقاء الحزب الشيوعي الفرنسي الحزبَ القائد للبلاد. وفي مايو ١٩٤٦م استخدَم ليون بلوم رئيسُ الوزراء الاشتراكي عبارةَ الخطر الشيوعي للفوز من واشنطن بإعفاء فرنسا من الديون ومنحها قروضًا ائتمانية جديدة (وهي أموال كانت مخصَّصة أصلًا للاتحاد السوفييتي). وسانَدَت الولايات المتحدة طرفًا في الحكومة ضد الطرف الآخَر. وعلى الرغم من أن الشيوعيين في الحكم، فإنه لم يُسمَح لهم بالوصول إلى السلطة. ومع هذا، حصل الحزب الشيوعي الفرنسي على ٢٨,٦ بالمائة من الأصوات في انتخابات ۱۰ نوفمبر.
شرع كامي يستوعب التحوُّل الجاري في المناخ السياسي، والتوتُّرات التي سوف تُفضِي إلى الحرب الباردة، واعتقد — شأنه شأن الغرب ونصف اليسار الفرنسي — أن الشيوعية الصاعدة ستكون الهدف الرئيسي. ونذكر أن كامي في مَطلع العام ١٩٤٦م جابه، ولأول مرة، كتابَ آرثر كويستلر «ظلام في الظهيرة» الذي صدَر لتوِّه، وسرعان ما أصبح مادة لطاحونته. وقرأ فيه أوصافًا عن «التفكير الاستدلالي التاريخي»، الذي بدأ يراه هو المشكلة. ولحظ أيضًا عرض كويستلر لتناقُض الشيوعية؛ إذ جعلت من الفرد مجرَّد سنٍّ في ترس، وأنكرت حرية الإرادة، ومع هذا طالبت «تلك السنَّ بالثورة ضد آليَّة الساعة وتغيير مسار حركتها».
وزار كامي الولايات المتحدة فيما بين شهرَي مارس ومايو ١٩٤٦، واستأنف بعد عودته إصدارَ صحيفته، وركَّز أفكاره على نقطتَين؛ ربطِ الماركسية بجريمة القتل مُتأثرًا في هذا بكتاب «الظلمة وقت الظهيرة»، ورفضِ سارتر وتأكيد الوجودية على التاريخ والالتزام. وعكَف كامي على الإجابة بأسلوبه الخاص على هيرفي والشيوعيِّين.
•••
وكانت شرارة واحدة وأخيرة لازمة لإشعال هذا المزيج؛ إذ في هذا الوقت تمامًا، وبنصِّ كلمات بوفوار «اخترق جماعتَنا وافد جديد ميَّال لإثارة الشغب والصخب»؛ آرثر كويستلر شخصيًّا. أحسَّ كامي وكويستلر «بزمالة في التوِّ واللحظة»، واستخدما منذ البداية أسلوبَ المخاطَبة الذي لا يحمل طابعَ الرسميات فيما بينهما. والمعروف أن كتاب «الظلمة وقت الظهيرة» كان من أكثر الكتب مبيعًا، وكذا مجموعة مقالات كويستلر التي تحمل عنوان «اليوجي والمسئول الحزبي» صدرت حديثًا في مجلد واحد، وميَّز هذا الكتاب بوضوح شديد بين التوجُّه الاجتماعي التأمُّلي لنوع الشخص الساعي لتغيير العالم، وبين النهج التأمُّلي والفني عند المتعبِّد على طريقة اليوجا — وهي تمييز كان كامي عاكفًا على تأكيد صوابه. وفنَّد أيضًا، وبشكلٍ منهجي، الأسطورةَ السوفييتية بناءً على وقائع وأرقام وتحليلات، ثم خلص إلى نتيجةٍ مفادُها أن «الاتحاد السوفييتي يمثِّل حكمَ الفرد المُطلَق الشمولي لنظام رأسمالية الدولة». وحاوَل كويستلر أيضًا ابتكار تصوُّر بديل لليسار. لقد كان هو كشخصٍ عنصرَ إثارة وتحريض، ويَفرض مُعاداته للشيوعية على أصدقائه الجُدد. والتقاه كامي خلال الشهر نفسه الذي يروِّج فيه ميرلو-بونتي دعمه النقدي للاتحاد السوفييتي، بينَما ينتقد «الظلمة وقت الظهيرة»، وكذا فهم كويستلر للماركسية. قضى كويستلر وقتًا مع الشراب ومحاوَلة خلق علاقة اجتماعية أليفة، ليس فقط مع كامي، بل وأيضًا مع سارتر وبوفوار صاحبَي الصحيفة التي هاجَم فيها ميرلو-بونتي كويستلر. ووقَع كامي في حبِّ شريكة كويستلر، وتُدعى مامين، والتقَت بوفوار لقاءً جنسيًّا مع كويستلر.
«تناولنا العشاء معه هو ومامين وفرانسين، ثم انتقلنا إلى صالة رقص صغيرة في شارع دي غرافيليير. دعانا بعد ذلك، وألحَّ في دعوته للذهاب إلى شهرزاد. وطبيعي أن أيًّا منا، أنا وكامي، لم يَسبق له أن وطئ بقدمَيه هذا المكان. طلب كويستلر شراب زاكوسكي وفودكا وشامبانيا. وكان مقرَّرًا أن يُلقي سارتر محاضَرةً في السوربون بعد ظُهر الغد تحت رعاية اليونسكو، وموضوعها «مسئولية الكاتب»، ولم يكُن قد أعَدَّها بعدُ. ولكن الكحول وموسيقى الغجر، ثم قبل هذا حرارة مناقَشاتنا، جعلته يفقد التقدير الصحيح للوقت.»
«عاد كامي إلى موضوع أثير جدًّا لدَيه: «لو كان ممكِنًا فقط قول الحقيقة.» بدا كويستلر عَبُوسًا لسماعه «العينَين السوداوَين»، وقال بلهجة الاتهام: «يستحيل أن نكون أصدقاء إذا اختلفتَ معي في السياسة.» وأفرَغ في قالب جديد ضغائنَه القديمة ضد روسيا في عهد ستالين، مُتهمًا سارتر بل وكامي بمُحاوَلة التوفيق مع السوفييت. لم نأخُذ عبوسَه الشديد على محمل الجد. لم نكُن نُدرك الأعماقَ الغاضبة لمعاداته للشيوعية. وبينما واصَل كامي حديثه، قال كامي لنا: «الشيء المشترك بيني وبينكما هو أن الفرد يكون أولًا.» ونحن نفضِّل العِياني على المجرَّد، ونفضِّل الناس على المذاهب، ونضع الصداقة فوق السياسة. ووافقنا ونحن في فرط البهجة بسبب الكحول من ناحية، وكذا بسبب تأخُّر الوقت. عاوَد كويستلر حديثه: «مستحيل! مستحيل!» وأجبتُ بصوت خفيض ولكن واضح: «هل هذا مستحيل ونحن البرهان على صِدق ما نقول في هذه اللحظة تحديدًا؛ حيث إننا، وعلى الرغم من الاختلافات في الرأي بيننا، سعداء جدًّا بوجودنا معًا؟» لقد فتحت السياسة هوَّةً بينَنا وبين آخَرين، ولكنَّنا لا نزال نرى أن لا شيء فرَّق بيننا وبين كامي سوى القليل جدًّا من المدلول الاصطلاحي.»
«الغاية تبرِّر الوسيلة في حالة واحدة فقط، وهي إذا كان النظام النِّسبي للأهمية معقولًا. مثال: «بوسعي أن أرسل سان-أكزويري في بعثة محفوفة بخطر الموت لإنقاذ فريق، بيْدَ أنني لا أستطيع نفي ملايين الأشخاص وقمع كل مَظاهر الحرية من أجل نتيجة معادَلة كميًّا مع حساب ثلاثة أو أربعة أجيال ضحَّت في السابق».»
وحين تهيَّأ كامي للبدء في كتابه «لا ضحايا ولا جلَّادون»، لخَّص محادثةً جرَت في ٢٩ أكتوبر عن الشيوعية بينه وبين كويستلر وسارتر وميرلو-بونتي ومانيس سبيربر. وتحدَّث كويستلر عن اللحظة التي توقَّف فيها عن تقديم المعاذير للاتحاد السوفييتي، ورأى أن ستالين ليس أفضل من هتلر: «شيء انتهى وتحلَّلَ عند هذه النقطة.» وتشكَّك ميرلو في أن البروليتاريا هم أعلى قيمة تاريخية. ورفَض سارتر أن يوجِّه «قِيَمه الأخلاقية ضد الاتحاد السوفييتي فقط دون سواه»؛ حيث إنَّ تاريخ العنصرية الأمريكية ليس أقلَّ شرًّا من عمليات النفي السوفييتية. وأكَّد كويستلر آنَئذ التزامَهم بشجب «ما الذي يستحقُّ شجبه». وبعد أن فرغ كامي من كتابة هذه المناقَشة، أضاف ملاحظة تَنطوي على شك: «كان من المستحيل تحديد كم من الخوف أو الصدق يتخلَّل كلامَ كلٍّ منَّا.»
وحوالي هذه الفترة كتب بعضَ الهراء الدرامي، بيْدَ أنه لم ينشره؛ «ارتجالات الفلاسفة» (سوف نُناقشها تفصيلًا فيما بعدُ). ونَذكُر من بين شخصيات هذا العمل الدرامي مسيو فين، وهو صيدلاني وعمدة محلي، والآخَر مسيو نانت بائع أفكار جوَّال، ومجنون، ويدور خطابه عن الكرب النفسي والعبث بطريقة تبدو وكأنها تُثير السخرية من كلٍّ من كامي وسارتر. وتتألَّف هذه الدراما التي من نوع الفارس أو المسرحيات الساخرة الهزلية من ٣٥ صفحة بخطِّ اليد. وتتلاعَب بالأسلوب الوجودي المميَّز من دون أن يكون من السهل على القارئ استنتاج مشاعر كامي الشخصية تجاه سارتر. ويبدو واضحًا أنها أكثر سخريةً من الشيوعيِّين، وربما أيضًا من انتخابات ۱۰ نوفمبر؛ حيث إن فين في بحثِه عن الحرية يتحدَّث عن نواياه بأن يصوِّت لمصلحة «مَن يريدون قمعها». وبعد ٢٩ أكتوبر بفترة قصيرة، كتب كامي في مذكراته:
الماركسية = القتل. بهذه الخطوة تحدَّد الآن هدف كامي. قبل هذا بأيام تعذَّب بسبب ما يُعانِيه من ألم مبرح إزاء فكرة كتابة تلك المقالات لمجلة «كومبا». بيْدَ أنه شأن كويستلر سوف يقول الآن بالدقة والتحدي ما يشعر بالحاجة إلى الإفصاح عنه.
•••
«الإرهاب مُباح فقط حال التزامنا طوعًا بالمبدأ الذي يقول: «الغاية تبرِّر الوسيلة.» وهذا المبدأ بدوره يمكِن قَبوله فقط إذا اعتبرنا فعالية أي عمل غايةً مُطلَقة، كما هي الحال في الأيديولوجيات العَدمية (لا بأسَ من أي شيء، فإن النجاح هو الشيء الوحيد الجدير بأن نتحدَّث عنه)، أو في تلك الفلسفات التي تجعل من التاريخ غايةً مُطلَقة (هيغل، ومن بعده ماركس: الغاية مجتمع لا طبقي، وكل شيء طيب ما دام يقودنا إليه).»
وإذ رفض كامي العنف السياسي، فقد أصرَّ على أن «قَبول الماركسية باعتبارها فلسفة مُطلَقة»، يعادل تمامًا إجازة القتل، وكتب يقول: «حسب المنظور الماركسي، فإنَّ مائة ألف جثة لا تساوي شيئًا إذا كانت ثمن سعادة مئات الملايين.» وأضاف إلى هذا ثنائياته: إمَّا أن يكون هناك منطق في التاريخ، وتكون الواقعية ماركسية، والعنف صوابًا، أو أن تكون هناك قِيَم أخلاقية مستقلَّة عن التاريخ، وبذا فإن الماركسية زيف.
ونلحَظ أن كامي حتى حين صرَّح بمناهَضته للشيوعية رفض مقدَّمًا الحرب الباردة. وهاجمَت هذه المقالات ذاتها المواجَهةَ المتفاقمة بين الشرق والغرب، ودانت مناخ الإرهاب الذي أثارته الحرب الجديدة «التي تستعد لها الآن جميع الأمم». والتمس كامي نفسَه هدفًا طوباويًّا واضحًا بذاته عقليًّا «عالَم القتل فيه غير مشروع». وهكذا نجد أن التوجُّه الداعي إلى الابتعاد عن العنف، والذي ميَّز فكره المناهِض للشيوعية، قاده إلى استكشاف بديل عن الحرب.
حاوَل وضع مخطَّط عام لطريق للإصلاح من شأنه أن يُقلِّل مخاطر الدمار العام. ومفتاح ذلك التخلِّي عن أي أمل في الثورة. بيْدَ أنه لا يزال ينشد «يوتوبيا نسبية: «السعي من أجل وَحْدة العالَم وديمقراطية دولية. لقد أصبحت الحدود القومية لا معنى لها»؛ إذ لم تَعُد هناك أيُّ سياسة، سواء محافظة أو اشتراكية، يمكِنها العمل وحدها حصرًا داخل إطار قومي». وإن الهدف هو تحقيق أدنى حدٍّ من السياسة المحلية التي أضحت اليومَ مُقتصِرة على «المشكلات الإدارية»، وأن نستخدم حركة السلام بهدف ابتكارِ عقدٍ اجتماعي دولي. تلك هي النتيجة، حسبما أكَّد كامي، المستخلَصة من «مُجمَل التفكير السياسي المعاصر الذي يرفض تبرير الكذب والقتل.»
عبَّرت هذه المقالات عن نزعة إصلاحية يسارية مناهِضة للحرب الباردة ومناهِضة للشيوعية. وتكمُن قوَّتها في رغبة كامي فصْلَ نفسه عن جميع التيارات الرئيسية القائمة: حركة اليمين تجاه مناهَضة عنيفة للشيوعية، وقَبول اليسار باعتدالٍ للحرب الباردة والتخلِّي عن أيِّ أمل في تغييرٍ ذي قيمة، وقُدرة الشيوعيِّين على التبرير العقلي للعنف والقسوة، حسبما هو مُفترَض، في سبيل إقامة مجتمع أفضل. وطوَّر كامي، بعد خبرته بالنشاط السياسي المكثَّف، القُدرةَ على ابتكار بدائل، واستعداده للدفاع عنها بنفسه إذا لزم الأمر، وتحديد ما ينبغي عمله. ولقد نبعت هذه القوة جزئيًّا من التزام كامي العميق؛ التزامه تفادي جعْل العنف فضيلة. وليس معنى هذا أن يكون سلاميًّا، وهو ما لم يدَّعِه قَط. وسبق أن رأينا في «رسائل إلى صديق ألماني» إصراره على خوض المعركة بيدَين نظيفتَين — واستخدامُ العنف لا يكون أبدًا إلا حين تقتضيه الضرورة بشكل مُطلَق، وفي حدود، ردًّا على خطر حيوي. واتخذ هذه الخطوة بعد أن جادَل أولًا ضد الاشتراك في الحرب العالمية الثانية. العنف هو الملاذ الأخير.
ويمثِّل موقف كامي الرافض للعنف والمناهِض للشيوعية رفضًا للحرب الباردة. وفعَل هذا بوضوح واتساق فكري، حتى إن غيره من مناهِضي الشيوعية عزفوا عن محاكاته. وعلى الرغم من أنه برَّر حمل السلاح ضد المحتلِّين الألمان لم يكُن ليبرِّر حملَ السلاح ضد الاتحاد السوفييتي. وإذا كان كامي ساعد على توفير أيديولوجيا لأحد أطراف الحرب الباردة، فإنه لم ينضمَّ إليه؛ ومن ثَم فإن مقالاته التي قُرِئت على نطاق واسع إنما كان القرَّاء ومنذ فترة باكرة ينظرون إليها باعتبارها «طريقًا ثالثًا» بين الطريقَين، وأن هذه كانت بداية تشكُّله.
وضَع كامي، بهذا الموقف الذي وقفه وحيدًا، اتجاهًا جديدًا لليسار في فرنسا. ورأى سارتر أن كامي أصبح نموذجًا؛ وذلك خلال العامَين ١٩٤٤م و١٩٤٥م. ولكن هل ظلَّ الأمر على ما هو عليه في نهاية العام ١٩٤٦م؟ نقرأ أن بوفوار بعد فترة طويلة من القطيعة بين سارتر وكامي تَلوم كامي لإخفاقاته الشخصية؛ ومن ثَم مناهَضته للشيوعية كسببٍ لفتور الصداقة. ولكن بينما كان كامي يُفصِح عن موقفه السياسي الناضج، كان سارتر لا يزال في مُستهلِّ عملية تطوير منظوره السياسي الخاص، وأصبح — على عكس كامي — أكثر اهتمامًا بموضوع عنفِ الدولة الفرنسية والعنف الذي يمثِّل جزءًا من طبيعة نظامها الاقتصادي. وها هي الدولة الرأسمالية الديمقراطية متورِّطة في ارتكاب مذابح مذهلة في الجزائر العام ١٩٤٥م، على أثر انتفاضة مدينة سيتيف مباشَرة، وها هي على أهبة الاستعداد للشروع في شنِّ حربٍ مدمِّرة لاستعادة احتلالها الاستعماري في فيتنام، وها هي أيضًا تَعتزم خلال العام أن تَفرض الأحكام العُرفية على مناطق مناجم الفحم في شمال فرنسا. وإزاء هذه الحقائق رأى سارتر أن لا مَناصَ من نقد الحزب الشيوعي الفرنسي، على الرغم من خطابه عن الثورة؛ ذلك لأنه غير ثوري، ولالتزامه سبيلًا شرعية وتقليدية للوصول إلى السُّلطة السياسية. وسرعان ما بدأ يؤنِّب صديقه كامي الذي كان واحدًا من بين قليلين في فرنسا الذين أدانوا استخدامَ القنبلة الذرية واستخدام القوة العسكرية ضد العرب الجزائريين العام ١٩٤٥م، وإذا به غير مُهتمٍّ بالعنف في فيتنام.
إن كامي الذي جعل من استخدام السلاح النوَوي والعنف الماركسي قضيةً أساسية، نراه الآن لا يكاد يُشير إلى العنف الذي تمارِسه الحكومة الفرنسية، سواء عبر البحار أو داخل البلاد. وبينما بذَل قدرًا هائلًا من طاقته ليحلِّل ويفنِّد ما رآه عنفًا متأصِّلًا في الشيوعية، خاصةً العنف هناك في الاتحاد السوفييتي، إذا به يقنع بالنَّزْر اليسير من التعليقات النقدية بشأن العنف الحكومي والمنظَّم، ويشير فقط إلى مَظاهر الإفراط في العنف حين وقعَت هنا في فرنسا. ونعرف أنه على مدى السنوات التالية من حياة كامي غرقت فرنسا في حروب استعمارية، كيف يتأتَّى إذن لكامي أن يقول إن الماركسية تُعادِل القتل، بينما الرأسمالية أو الاستعمار ليس كذلك؟ ورفَض كامي كلَّ أشكال التعاون مع الشيوعيِّين، هذا بينما نراه إذ يَبذل جهده للاهتداء إلى حلٍّ للوضع في الجزائر يسعى للتأثير في المؤسَّسة الفرنسية، وأيَّد انتخابَ السياسي المُعتدِل بيير منديس-فرانس، والتقى جاك سوستيل الحاكم الفرنسي العام للجزائر، مثلَما التقى ديغول نفسه.
ثَمَّة تناقُض أصيل إذن في بِنية سياسة كامي المُكتمِلة. وغنيٌّ عن البيان أن إخراج الشيوعيِّين من السلطة كان القضية المحلية الرئيسية في السياسة الفرنسية. معنى هذا أن على الاشتراكيِّين الديمقراطيين لكي يَصِلوا إلى الحكم أن يعتمدوا على اليمين ويتخلَّوا عن أيِّ نوعٍ من التغيير الحقيقي.
وعقَد كامي الأمل، شأن الاشتراكيِّين الذين انفصلوا عن الشيوعيِّين في ربيع العام ١٩٤٧م، في التزام سياسة إصلاح يسارية، مع إصرارهم في الوقت نفسِه على استعادة تأييد ربع سكان فرنسا، وهم العمَّال الصناعيون المؤيِّدون للحزب الشيوعي الفرنسي.
وقد تُفيد هذه الورطة في تفسير الإشارة المتكلِّفة الواردة في «لا ضحايا ولا جلَّادون». وإذا كان كامي، كما ذكرنا آنفًا، بدأ بالفضيلة الأخلاقية، فإنه انتهى إلى إضفاء الأخلاقيات. وها هو الإنسان الأخلاقي المستقيم الذي دانه هيرفي قبل ذلك بثمانية عشر شهرًا نراه الآن في كامل عُنفوانه، وتناولته بوفوار كثيرًا في ضوء الماضي. وإذ رفض كامي أهداف اليسار باعتبارها «بعيدة المنال ووهمية بغير اسم»، فإنه يجادِل ليثبِت أن اقتراحه الخاص بيوتوبيا دولية هو الخيار الممكِن الوحيد لدى «الواقعيِّين المخلِصين»، الذين رفضوا «التوافق مع القتَلة». إن نظامًا اجتماعيًّا يقلِّل إلى أدنى حدٍّ من الفقر والخوف، دون أن يتخلَّى عن الأحلام الثورية والجرائم الحتمية الناجمة عن ذلك ضرورة، سوف يستلزم «العمل والتضحيات»؛ أيْ سوف يستلزم رجالًا.
لقد كان أحد أسباب عداء كامي للشيوعية هو عدم سماحها بالحوار والمحاجاة، ولكنَّه هنا يعامِل كلَّ مَن اختلفوا معه باحتقار. ونلحظ أنه يساوي بين الماركسية والقتل دون أن يقرأ الماركسية كما هو واضح، ونجده في مناصَرته للحرب الباردة يصِف مَن لا يقفون إلى جانبه ليس فقط بأنهم مخطئون، بل وغير مخلِصين، وأدنى مستوى من البشر، وأنهم مثل صديقه تار، قَتَلة.
•••
ربما كان كامي مُستغرِقًا في مهمَّة إنجاز كتابة هذه المقالات وقتَ اهتياجه في حفل فيان؛ إذ وصل إلى هناك في أثناء عزف موسيقى الجاز والجمهورُ في حالة مزاجية رائقة. ثم التقى الرجلَ صاحب البيانات التي يَمقُتها كامي أشدَّ المقت. كان ميرلو-بونتي قد فرَغ لفوره من مهاجَمة كويستلر، الشخص الذي يساعِد كامي من أجل أن يهتدي إلى الاتجاه الذي يسير فيه، علاوةً على أن ميرلو-بونتي برَّر محاكَمات موسكو، وها هو كامي بعد أن فرغ من كتابته عن الاستشهاد، يواجه الفيلسوف الذي يعتقد أنه ربما يُطالِب بإعدامه؛ أيْ إعدام كامي. وبدا غضبُه مفهومًا، وإن كان كويستلر قد فهم يقينًا. ولكن روايتنا مصدرها المعسكَر الآخَر، وبعد الواقعة بزمن طويل. ولقد عمد سارتر، شأن بوفوار، إلى تتفيه سلوك كامي: «قضى أخيرًا بضعة أيام مع امرأة فاتنة، ولكنَّها ماتت. لهذا، وبسبب الحب والانفصال، انطوى على نفسه واستبدَّت به الكآبة.» وهكذا، بعد أن حيَّا كامي الجميعَ فردًا فردًا، شرع في الهجوم ضد ميرلو-بونتي. ويقول سارتر في مذكِّراته: «كان الوضع مؤلمًا للغاية. أكاد أراهم رأيَ العين حتى الآن. هاج كامي ثائرًا، بينما ظلَّ ميرلو-بونتي مجامِلًا واثقًا، وإن بدا على وجهِه بعضُ الشحوب. أحدهما أرخى لنفسه العِنان، والثاني رافِض مباهج العنف.» وبعد أن غادَرَنا كامي تمتم هو بشيء عن «ثوريِّي الضفَّة اليسارية». تبعه سارتر على أمل إصلاح الموقف، ولكن دون جدوى.
وتجاوَز عداء كامي عداء ميرلو-بونتي للشيوعية، وهو العداء الناجم عن كلٍّ من اختيار كامي السياسي والضغوط التي تسبَّب فيها هذا الاختيار، بما في ذلك إحساسه الشخصي بالعزلة. سانَدَ كويستلر كامي، بيْدَ أنه كان يأتي إلى باريس لمامًا. ولم يقتصر الأمر على عدم مسانَدة سارتر لكامي بعد أن اتَّخذ هذا الموقف الحاسم ضد الشيوعية، وإنما اعتبره مادةً للطعن فيه. وسبَق أن حدَّد كامي في مقاله الثاني «لا ضحايا ولا جلَّادون» أوجُهَ الخلاف بينهما بشكل حادٍّ دون ذِكر اسم صديقه، وانتقد فكرة سارتر عن الالتزام التي ظلَّت موضوعًا للنقاش طويلًا العام ١٩٤٦م، وأضفى عليها الآن منحًى فريدًا. وقال كامي: «ليس بوسعِنا الإفلات من التاريخ ما دُمنا غارقين فيه حتى رقابنا، ولكن يمكِن للمرء أن يكافح داخل سياق التاريخ لكي يَنتزع من التاريخ ذلك الجزءَ من الإنسان الذي ليس نطاقه الخاص.» وعلى الرغم من أن كامي لم يقرأ سارتر جيدًا أو يقرأه خطأً، فإنه دأب على المجادَلة والدفع بأنه خارج التاريخ تكمُن الأخلاق. وانطلاقًا من الأخلاق وعلى أساسها أصدَر كامي أحكامه على أحداث العصر. وطبيعيٌّ أنه إذ يفعل هذا إنما يكشف في وضوح عن اختلافه مع نظرية صديقه عن الالتزام.
وبدأ سارتر يرى في ميرلو-بونتي الناصح السياسي له، تمامًا مثلما بدأ كامي يتخلَّى عن آماله في إحداث تغيير جذري. وكتب كامي لصديق أمريكي يقول: «بدأتُ أفهم مدى ما كنتَ تشعر به من وحدة حال استخدامك للغة بعينِها … ليس بوسعك هجر «وضعِك»، كما أنني لا أستمتع بوضع الضحية.» ومنذ ذلك التاريخ فصاعدًا بدأ يتناول الاختلافات السياسية وفي داخله دافع للقتال.