الفصل الخامس

نقطة التحول عند سارتر

«سأجعلهم يكرهونني لأنني لا أعرف طريقًا آخَر لحبِّهم. سأعطيهم الأوامر ما دمتُ لا أعرف طريقًا آخَر للطاعة. سوف أبقى وحيدًا مع هذه السماء الفارغة التي تعلو رأسي، ما دمتُ لا أملك طريقًا آخَر لأكون بينهم. هذه هي الحرب التي يتعيَّن عليَّ مُكافحتها، وسوف أكافحها.»

غويتس في مسرحية
«الشيطان والرب الرحيم»، سارتر

مع نهاية ١٩٤٦م لم يكُن سارتر قد شرع بعدُ في العمل السياسي. ولكن تُشير أكثر التقديرات إلى أنه أنجز قدرًا مذهلًا منذ الحرب: أصبح اسمُه على كل لسان، وأشرف على تحرير الصحيفة الفكرية الرائدة في فرنسا «الأزمنة الحديثة»، وخلَق عُصبةً مُنتقاة حول الصحيفة، وأصبحت الوجودية على كلِّ لسان، وحظيت موضوعاته الفكرية، من مثل الالتزام، بحوارات ساخنة. وأصدر منذ التحرير روايتَين، وأخرج المسرحُ له مسرحيتَين جديدتَين، وأعاد إخراج ثالثة؛ وكتب عشرات المقالات الصحافية عن الولايات المتحدة، فضلًا عن العديد من المقالات الطويلة للصحيفة؛ ونشر كتابًا عن «معاداة السامية»، وآخَر عن سيرة حياة بودلير، ثم محاضَراته عن الوجودية. وبدا، باعتباره كاتبًا ملتزمًا، أنه يتمتَّع بنجاح عظيم؛ إذ نقد انحرافات بودلير، وطالَب الكتَّاب الآخَرين بالعمل في صفوف اليسار، وأخَذ موقفًا شجاعًا بشأن قضية مُعاداة السامية التي لا تزال السلطات تحظرها، وهيَّأ للمفكِّرين والمثقَّفين الشيوعيين دَفْعةً قوية لتداوُل أفكارهم.

وعلى الرغم من كلِّ ما أنجَزه، أدرك سارتر أنه لا يزال يتحدَّث أكثر ممَّا يعمل. بيْدَ أنه كان يتكلَّم بوضوحٍ أكثر عن معنى أن ينخرط المرء في العالم وأن يؤثر فيه. وإذا كانت الوجودية إنسانية مناضِلة حسب وصفه لها أمام الشيوعيين في نهاية ١٩٤٤م، فقد أصبح لازمًا، إن عاجلًا أو آجلًا، الحكمُ عليه في ضوء دعوته هو إلى «العمل، الجهد، الكفاح، التضامن». ورأى أن العمل السياسي هو السبيل لاستكمال الرحلة التي بدأها مع حديث له مع بوفوار وريموند آرون العام ١٩٣٣م، وقتما اطَّلع على الفلسفة الظاهراتية لهوسرل. تُرى ما معنى هذا بالنسبة إلى سارتر؟ واصَلَ كامي تقديم المثال؛ إذ إنه حين عاد إلى الجزائر كان مناضلًا شيوعيًّا، وأنشأ وأدار شركة للمسرح، ودخل في صراع مع قادة الحزب، وطرده الحزب، ثم أصبح مراسِلًا لا تهدأ معارِكُه، ثم رئيس تحرير، وقام بمهامَّ عديدة خَطِرة إبَّان المقاوَمة، وبعد التحرير أصدَر صحيفة يومية وكتَب عددًا لا يُحصى من الافتتاحيات التي قرأها مئات الآلاف. وها هو كامي مع نهاية العام ١٩٤٠م مُفكِّر سياسي وصاحب موقف مهمٍّ فيما يتعلق بقضايا العصر، وأصبح له وزن عالَمي حقيقي لا يزال عزيزًا على سارتر؛ إذ يُعتبر عبقريًّا في الفلسفة والأدب. إن سارتر الذي ناهَزَ الواحدة والأربعين من العمر لا يزال وراء مَن يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، والذي اعتاد العمل المؤثِّر سياسيًّا وهو لا يزال في مطلع العشرينيات من العمر.

ولكن، على الرغم من أن سارتر كان على شفا الانخراط في العمل العام ١٩٤٧م، لنا أن نسأل: تُرى هل كانت في ذهنه مثل هذه المقارنات؟ تُرى هل رأى الفارق الكبير بين كتاباته ومقالات كامي الأخيرة في «كومبا»؟ إنَّ سارتر — وإن لم يصرِّح بذلك — يعترف في رسالة العام ١٩٥٢م التي أعلن فيها قطيعتَه مع كامي، أن كامي في العام ١٩٤٤م عاش «أول اتصال له بالتاريخ … على نحوٍ أعمق وأثرى من كثيرين منَّا (بمن فيهم أنا أيضًا)». ثم قال لقد ظلَّ كامي ولسنوات طويلة «الرمز والبرهان على التضامُن الطبقي». لم يكن كامي «بعيدًا عن أن يكون قدوة ومثالًا». وجدير بالذكر أن سارتر، قبل أن يقول هذا بخمس سنوات ونصف، قرأ لصديقه «اتخاذ موقف ناضج». وعلى الرغم من أن سارتر ربما كان يختلف مع رُؤى كامي من نواحٍ عديدة، فإنَّ هذه تختلف عن كل ما حاوَله سارتر.

ولنا أن نَستنتِج الكثير إذا ما قارنَّا اهتمامات سارتر الأدبية منذ «الغثيان» مع رُؤى كامي عن التضامُن والعمل في «الطاعون». لقد كانت القضية الرئيسية عند سارتر هي كيف يَنخرط المرء، عن أصالةٍ وثقة، في العالم التاريخي الواقعي. وإذ تأمَّلنا شخصيات سارتر، ابتداءً من أورست في «الذباب» الذي يترك آرجوس بعد الثأر لأبيه، إلى جارسين في «لا مَفر» المحرِّر المسالِم الذي يأخذ طريقه إلى الحدود حين اشتدَّت الأحداث، ثم إلى ماثيو في المجلدَين الأولَين من ثلاثية «دروب الحرية»، الذي هام على وجهه حائرًا في إطار الحرية غير المُلتزمة؛ أقول إذا تأمَّلنا هذه الشخصيات نجدها تحسُّ أنها غير واقعية إزاء نفسها أو عاجزة عن العمل، أو لنَقُل إنها غير ملتزمة أو افتعلتها الضرورة وفقدت فعاليتها الذاتية، أو لنَقُل أيضًا إنها تعمل من مُنطلق نية سيئة وعبر حركات درامية.

وفي الوقت الذي كان ينشر فيه كامي «لا ضحايا ولا جلَّادون»، كان سارتر عاكفًا على كتابةِ نصِّ فيلم بعنوان «في الشرك». ونظرًا لأنه اكتمل على إثر «الظلام في الظهيرة»، لم يتسنَّ تصويره فيلمًا سينمائيًّا (وإن تمَّ تمثيله على المسرح)، ولم يصدر إلا العام ١٩٤٨م. ويحاول النص عرضَ ظاهرة الستالينية. وأحد شخصياته ثَوري ضد العنف، متطهِّر أخلاقيًّا، عاطل من أي رؤية بشأن مُقتضيات التاريخ. وكان مصيره أن قتَلَه البطلُ جين أجويرا. وسعى أجويرا، الذي يصوِّر ستالين، إلى أن يهيِّئ الوقتَ اللازم لحكومته الثورية بالخضوع لطلباتِ بلدٍ مجاوِر قوي، وإن تحوَّل في أثناء ذلك إلى حاكم طاغٍ عنيف. وانتهى أمره بأن غرق في العنف وحطَّمه العنف. بيْدَ أنه على الرغم من هذا يظلُّ واضحًا ومُلتزمًا بأهدافه الثورية الأصلية. ولكن أجويرا، وهو أكثر تعقيدًا واهتمامًا من صديقه لوسيان الأخلاقي، أطاح به رفاقه الذين مجُّوا أساليبَه وحاوَلوا الاحتفاظ بوعود الثورة. غير أن هؤلاء الرفاق سرعان ما أرغَمهم الجار القوي على التعاون والمساوَمة وتبنِّي أساليب أجويرا.

وأُعِيد إخراج موضوع النص السينمائي بعد إثراء شخصياته وإضفاء أفكار أكثر تعقيدًا، بحيث أصبح أساسًا مرجعيًّا لانحياز سارتر أخيرًا إلى الشيوعية، وتعبيرًا عن موقفه في السِّجال الفكري بينه وبين كامي؛ إذ يوضِّح أن لا سبيلَ إلى تغيير عالَم قائم على العنف والقهر دونَ أن يكون المرء ذاته عنيفًا وقاهرًا. ونرى سارتر في «الشرك» يحاوِل تلمُّس الطريق دونَ أن يصل إلى ما أصبح يَعتبره سياسة تاريخية أصيلة معارضة للسياسة الأخلاقية الساذجة. ويبدو نصُّ الفيلم الذي كتَبه سارتر محاوَلةً للرد على كتاب كامي «لا ضحايا ولا جلَّادون»، كما يُضمَّن النصُّ استكشافًا للطهر الذي يتحدَّث عنه كامي عند لوسيان، وواضح أن سارتر سمع وفهم دراسة كامي، وأنه — كما سنرى فيما بعد — يختلف معه بشأنها. وإذ أخذ سارتر كامي كمثال حي للكاتب الملتزم، نراه الآن في مستهل صياغة فكره ضدَّ كامي.

وبعد فترة قصيرة من صدور «لا ضحايا ولا جلَّادون» شرع سارتر في العمل على إحكام فكرته عن الالتزام، وأصدَر سارتر نقده الوحيد المنشور عن كامي قبل القطيعة، وصدر هذا النقد وهو بسبيله إلى الانتهاء من «ما هو الأدب؟» الذي صدر أولًا في صورة مقالات في مجلة «الأزمنة الحديثة» خلال الفترة من فبراير إلى يوليو ١٩٤٧م. وبعد أن كان يُقرُّ بأن اللجوء إلى العنف يمثِّل دائمًا انتكاسة، بدأ يعرض حُجة ميرلو-بونتي دون أن ينسب إليه الكلام، وقال ربما يكون صحيحًا أن استخدام العنف ضد العنف لا يؤدِّي إلا إلى استمرار العنف، ولكن على الرغم من هذا يكون العنف «هو الوسيلة الوحيدة» لإنهاء العنف. ثم بدأ سارتر في التعليق مباشَرةً على حُجَّة كامي التي ساقها قبل ذلك بنصف العام، ولكن دون ذِكر اسمه.

استهلَّ حديثَه بالإشارة إلى أنه في اليوم الأول بعد صدور صحيفة «كومبا»: «نقرأ مقالًا ذكيًّا يقول إنَّ من الضروري أنْ نرفض التواطؤ مع العنف أيًّا كان مصدره.» ولكن في هذا اليوم تحديدًا أعلنَت الصحيفة عن الطلقات الأولى للحرب الفرنسية في فيتنام. «وأودُّ أن أسأل كاتب المقال اليومَ: كيف لنا أن نرفض المشارَكة بشكلٍ غير مباشِر في كل أشكال العنف؟» ولن نفنِّد القول بأن الحرب تعني التسليم باستمرارها حتمًا. «ولكن إذا حدث أن توقَّفت فجأةً وبأي ثمن، فإنك ستكون بصدد مذبحةٍ ما (للفرنسيين في فيتنام)، وبذا فإنك تمارِس العنف ضد جميع الفرنسيِّين ممَّن لهم مَصالح هناك.» وجدير بالذكر أن الفكرة التي يَسُوقها سارتر هنا إلى كامي هي أنه إذا كان العنف واقعًا أيًّا كان وأين كان هو، فإنه «يتعيَّن على المرء أن يختار وفقًا لمبادئ أخرى». ويرى سارتر أن المسألة هي ما إذا كان هذا الاختيار أم سِواه قرَّب فرنسا إلى تحقيق ديمقراطية اشتراكية. «وهكذا أصبح لزامًا أن نتأمَّل ونفكِّر في المشكلة الحديثة الخاصة بالوسائل والغايات؛ بحيث لا يقتصر تفكيرنا على النظرية فحسب، بل نتناول الحالةَ العِيانية الواقعية.»

•••

الحُجَّة هنا مشوَّشة قليلًا. ونحن لا نستطيع أن نُغفِل طابعَها الرسمي أكثر مما ينبغي — «أودُّ أن أسأل كاتب المقال اليوم»، و«إذا قلت» … إلخ. ربما لم يكن سارتر مرتاحًا إلى أن ينتقد صديقًا في العلن، حتى على الرغم من أن كامي انتقده في مقالات «كومبا». أم إن سارتر نفسه لم يكن ندًّا، ويخاطر بنفسه في مضمار الآخر! أو ربما أحسَّ الكاتب أنه لا يخاطب ندًّا له، وإنما يعلِّم تلميذًا درسًا. وسبَق أن رأينا سارتر يتعامل مع كامي بهذا الأسلوب، وهو ما سوف نراه ثانيةً. على أيِّ حال، لقد رأى سارتر أن من المُهم الإجابة على كامي، وعمد في هذه الأثناء إلى تطوير موقفه بشأن العنف السياسي. ونلحَظ أن دراسةَ كامي «لا ضحايا ولا جلَّادون»، وردَّ سارتر الموجَز، إنما كانا البداية لحدوث اختلاف مهم في آراء اليسار بشأن دور العنف. وأفصَحَ كامي عن رأيه، بينما اختلف معه سارتر، ولكن في سياقِ نصٍّ معقَّد يمضي في اتجاه مختلف تمامًا. ويعترف سارتر في المقال بعد ذلك أن كامي وميرلو وكويستلر — وهو نفسه ضمنًا — كتَّاب معاصِرون يبدِعون «أدبًا من مواقف متطرِّفة»، ثم يُثني على رواية «الطاعون» التي نشَرها كامي من فوره.

ونجد سارتر أيضًا في الفصول الأخيرة من «ما هو الأدب؟» يتَّجه إلى الطبقة العاملة لأول مرة منذ زيارته للولايات المتحدة العام ١٩٤٥م. وربط اكتشافه للالتزام السياسي الذي يتَّحدث عنه مُقترنًا بما رآه جهدَ العامل المعاصِر «لتحرير نفسه، وأيضًا لتحرير جميع البشر من القهر إلى الأبد». وفكَّر سارتر مليًّا ورأى أن العامل يمكِن، من حيث التصور، أن يكون جمهوره هو: «نحن نتقاسَم معه واجبَ النضال والتدمير: إنه يريد حقَّه في أن يصنع التاريخ في الوقت ذاته الذي نكتشِف نحن فيه تاريخيتنا.» وتحرَّك سارتر صوب الطبقة العاملة لأنه — شأن ماركس منذ قرابة مائة العام — تنبَّأ بأن أفكار الكاتب لن تصبِح حقيقة واقعة من تلقاء نفسها: «إنَّ مصير الأدب مرهون بالطبقة العاملة.»

لقد كان لكتاب «ما هو الأدب؟» دور مهم بالنسبة إلى سارتر؛ إذ ربط موضوعاته الفلسفية الرئيسية بالتزامه المتنامي بالعالم التاريخي وبإقامة مجتمع اشتراكي. وجدير بالذكر أنَّ اطِّراد هذا الخط الفكري بدأ قبل ذلك بعام في «المادية والثورة»؛ حيث قدَّم سارتر أساسًا كانطيًّا صلبًا أقام عليه أسبابه بشأن الالتزام. إنَّ الاشتراكية شأن علاقة الكاتب-القارئ مبنيةٌ على الاعتراف المتبادَل بالحريات، وتهدف إلى إنجاز مملكة الغايات. وأوضح في الوقت نفسه رؤيةً كلية عن مهام وقُدرات الكاتب، علاوةً على حُجَّة فلسفية تدعم الاشتراكية، وربما كان هذا ما فكَّر فيه كامي إذ نراه في مذكراته خلال الفترة من يونيو وأكتوبر العام ١٩٤٧م يَبوح ساخرًا بعبارة تقول: «سارتر أو الحنين إلى الأنشودة الرعوية الكلية.»

ولكن كامي بحماسته الثورية في هذه المقالات، نراه على عكس سارتر يقرِّر أن أدنى الإصلاحات تواضُعًا هي أقصى ما يمكِن إنجازه، والذي لا ريبَ فيه أنه كان أكثر أُلفةً ودرايةً بتأمُّلات سارتر النقدية عن الشيوعية. وقال سارتر إنَّ الحزب «يسد الطريق على الكتَّاب الراغبين في الحديث إلى العمَّال». إن هؤلاء الناس الذين يتعيَّن علينا التحدث إليهم، يفصلهم عنَّا ستارٌ حديدي في داخل بلدنا نحن: إنهم لن يسمعوا كلمة مما نُريد أن نقوله لهم. وإن غالبية البروليتاريا يَرسفون في قيد الحزب الواحد، تُحاصِرهم الدعاية التي تعزلهم، وبذا يشكِّلون مجتمعًا مغلَقًا أصمَّ من دون أبواب أو نوافذ. وأصبحت الشيوعية السوفييتية «نزعةً قومية دفاعية ومحافِظة»، جعلت بدورها الحزبَ الشيوعي الفرنسي حزبًا محافظًا عاجزًا عن اتِّباع سياسة ثورية، أو عن المناقشة الصريحة المنفتِحة. وإن «سياسة الشيوعية الستالينية تتنافَر في فرنسا مع الممارَسة الأمنية لمِهنة الأدب». وربما وجد كامي شخصية هيرفي في المخطَّط الساخر الذي رسمه سارتر عن أسلوب مثقَّفي الحزب الشيوعي الفرنسي في المحاجاة مع مَن ينتقدون الحزبَ من أهل اليسار:

«الإقناع عن طريق التكرار والترويع، والتهديدات المُقنعة، والكلام المعبِّر عن القوة والازدراء، والتلميحات ذات المعاني الخفية بعروض لن تتحقَّق، والكشف عن اعتقاد بلغ غاية الكمال والجلال يضع نفسَه منذ البداية فوق أي جدال، ويفرض سِحره ويتحوَّل إلى عدوى، والخصم لن يجد ردًّا أو إجابة على الإطلاق، وإنما تسقط عنه أسباب الثقة، ويُوضَع في مصافِّ الشرطة والمخابَرات ويُوصَم بأنه فاشي.»

وإن إرادة سارتر التي تزايدت قوةً وعزمًا باطِّراد على التورُّط مع الحزب الشيوعي الفرنسي إنما تُؤكِّد على أنه مع العام ١٩٤٧م لم يكُن قد فرغ فقط من صوغ اتجاه لا شيوعي جذري خاص به وبصحيفته، بل وإنه بلغ أوج قوَّته. تُرى متى له أن يلزم نفسه مباشرة؟

وسبَق أن رأينا كامي يدق جرس الإنذار إزاء كتلتَين ضخمتَين متطاحنتَين بدأتا تتشكَّلان وقد جلبتا معهما تهديدًا جديدًا بالحرب. ولقد كان على صواب؛ إذ في مارس ١٩٤٧م أفصح مبدأ ترومان عن دور جديد للولايات المتحدة في اليونان وتركيا، مؤكِّدًا على الصراع من أجل الحرية ضد القهر. وفي يونيو أعلن مشروع مارشال الذي لم يستهدِف فقط إنعاش ألمانيا، بل وأن يقدِّم أيضًا للبُلدان الأوروبية الأخرى يدَ المساعَدة لإعادة تعميرها بعد الحرب. ولم تكُن مصادَفةً أنه فيما بين مارس ومايو تم طرد الأحزاب الشيوعية من حكومات ما بعد الحرب الائتلافية في إيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ وأيضًا فرنسا. وبدأت الحرب الباردة تلوح في الأفق، واضطرَّت تشيكوسلوفاكيا وفنلندا إلى رفض مساعَدات مشروع مارشال تحت ضغط الاتحاد السوفييتي، وأعلنت سلطات بولندا والمجر إلغاءَ أحزاب المعارَضة خلال الصيف، كما أعدمَت سلطاتُ بلغاريا شنقًا بيتكوف زعيمَ حزب الفلَّاحين البلغار بتُهمة الخيانة، وانعقد في بولندا خلال شهر سبتمبر اجتماعٌ أعاد فيه الاتحاد السوفييتي إحياء الكومنترن، ولكن باسم جديد «الكومنفورم». وأعلن آنذاك ألكسي زادانوف ردَّ الاتحاد السوفييتي الغاضب الشديد اللهجة على مشروع مارشال «الاستعماري»، وعلى كتلة الجامعة الأمريكية التي تضمُّ بُلدان الأمريكتَين وأنشأتها الولايات المتحدة في ريو دي جانيرو. وهكذا تحوَّل الشرق والغرب إلى معسكرَين معادِيَين.

وعكست أحداث فرنسا تدهور المناخ؛ إذ بعد التحرير بعامَين بدأ مستوى المعيشة في الانخفاض، ونجد أن حصة الخبز التي كانت ٢٧٥ جرامًا في أسوأ فترات الاحتلال تنخفض إلى ٢٠٠ جرام في يونيو ١٩٤٧م، وأغفلَت الحكومة اعتراضات وزير الدفاع الشيوعي الذي لا حول له ولا قوة، وبادَرت بشنِّ هجمات في الهند الصينية كجزء من سياستها الاستعمارية الكارثية فيما بعد الحرب، في مجامَلة منها لاستعادة سيطرتها في كل أنحاء الاتحاد الفرنسي، حتى وإن اقتضى الأمر شنَّ حربٍ لذلك. وأعلن عمَّال شركة رينو التروتسكيين الإضراب في مايو، الذي لم يَستطِع الشيوعيون التنصُّل منه. وعقِب الإضراب مباشَرةً تمَّ طرد وزراء الحزب الشيوعي الفرنسي من حكومة راماديير، وأدَّى مشروع مارشال إلى الجمع بين القضيتَين الرئيسيتين في السياسة الفرنسية الداخلية — التعمير الاقتصادي لما بعدَ الحرب، وعزل الشيوعيين. وهنا انحاز الاشتراكيون الديمقراطيُّون وحلفاؤهم أكثر إلى اليمين، وقبلوا المساعَدة الأمريكية، وابتدعوا أسلوب العمل المحلِّي المناهِض للشيوعية، والذي استمرَّ على مدى جيل كامل. وأعلن القطاع الفرنسي للأممية الدولية SFIO — أقرب المنافسين للحزب الشيوعي الفرنسي وأكبر أحزاب الحكومة الائتلافية طوال العام ١٩٤٧م — عن انحياز فرنسا داخليًّا ودوليًّا إلى الولايات المتحدة في مناهَضة الشيوعية. ولكن الشيوعيِّين الذين أصبحوا مصدرَ خوف وكراهية، ولكن دون تأثيم أو تجريم، كانوا لا يزالون يحصلون على ما يقرب من ثلث الأصوات في الانتخابات المحلية في خريف هذا العام. وتميَّزَ هذا العام أيضًا بالصعود المتزايد المثير لحزب ديغول؛ «تجمع الشعب الفرنسي» الذي خاض معركته في آنٍ واحدٍ ضد البونابرتية والشيوعية.

امتزجت المواقف الداخلية والدولية، وواجَه قادة الحزب الشيوعي الفرنسي خلال المؤتمر التأسيسي للكومنفورم نقدًا شديدًا لأوهامهم البرلمانية طوال السنوات الثلاث. وأكَّدوا التزامًا بشعائر شيوعية بالية، خط ستالين الجديد، بأن اعترفوا بأخطائهم حين اتَّبعوا الخطَّ السابق. ولكن ما إن عادوا إلى فرنسا حتى واجَهوا معارَضةً شَرِسة. وشرعوا في الوقت ذاته في معارَضة انضمام فرنسا إلى المعسكر الأمريكي، وأعلَنوا مسانَدتهم للعمَّال التي تدهورت، ولا تزال، مستوياتُ معيشتهم الكارثية. وبدأت موجة من الاضطرابات النضالية استهلَّها اتحادُ النقابات الفرنسية والاتحادُ العام للعمَّال بقيادة الشيوعيِّين، والتي وُوجِهت بحالة من هستيريا مناهضة الشيوعية والخوف الواسع النطاق من قيام تمرُّد على الحكومة. وبدأ خوف شديد يلاحِق كلَّ فرنسا؛ من مارسيليا التي شهدت إضرابًا عامًّا، وحتى مناطق المناجم في الشمال التي تُسيطِر عليها قوَّات من المليشيات غير المنظَّمة، وبلغ الوضع ذروتَه المروِّعة بوقوع حادث انحراف قطار عن الخط، مما أدَّى إلى موتِ واحد وعشرين راكبًا. وكتب كويستلر رسالة إلى صحيفة ديغولية بعد هذا ببضعة شهور، وأشار فيها إلى ما يُفيد أن الشيوعيين يُعِدُّون سرًّا لإشعال حرب أهلية.

إنَّ كتاب «ما هو الأدب؟» نقَل سارتر خطوةً على طريق العمل. وها هو الآن في سبتمبر ١٩٤٧م نراه يَقبل عرضًا بتقديم بَرنامج إذاعي أسبوعي بعنوان «الأزمنة الحديثة»، يناقش من خلال المجلة الأحداثَ الجارية، بالاشتراك مع بوفوار وميرلو-بونتي وآخَرين. كذلك في سبتمبر، وحسب رواية بوفوار:

«كان هناك حفنة من الاشتراكيِّين — مارسو وبيفرب وجازيير — يَسعَون لتشكيل معارَضة داخل «القطاع الفرنسي للأممية الدولية»، لالتماس مساعَدة أهل اليسار غير المنتمين إلى أيِّ حزب. وقرَّروا أن يقدِّموا معًا نداءً من أجل السِّلم وإقامة أوروبا المحايِدة والاشتراكية. واعتدنا أن نلتقي كلَّ أسبوع في بيت جورج إيزارد: دافيد روسيت، وميرلو-بونتي، وكامي، وأندريه برتون، وقليلين آخَرين، وكنَّا نناقش كلَّ كلمة، بل وكل فاصلة أو نقطة. وفي نوفمبر انتهينا من نصِّ النداء، ووقَّعت عليه مجلة «أسبريت»، و«لي تامب مودرن» (الأزمنة الحديثة)، وكامي وبورديه دروسيه، ونُشِر في الصحف.»

ويُلاحظ أن الحرب الباردة التي تَلُوح في الأفق كانت تحرِّض بعض اليساريين غير الشيوعيِّين من أجل البحث عن مخرج إلى خيار جديد غير «إما/أو». وجدير بالإشارة أن النص الذي ظهر في العديد من الصحف، ثم في صحيفة «أسبريت» في نوفمبر كان قد وقَّع عليه أيضًا سارتر لإذاعته عبر البَرنامج الإذاعي في ديسمبر. وقد بدأ البَرنامج في ٣٠ أكتوبر بالهجوم على الديغولية، في الوقت ذاته الذي أصبح فيه «تجمع الشعب الفرنسي» بسبيله ليكون الفائزَ الأكبر في الانتخابات المحلية. وبدأ بَرنامج الأسبوع التالي، وهو عن الشيوعية، بالتسليم بأنَّ الحزب الشيوعي الفرنسي يمثِّل الطبقة العاملة الفرنسية، وأنَّ من الضروري فهم الاتحاد السوفييتي في سياق دولي، ومن حيث علاقته بالأوضاع الصعبة الداخلية. بيْدَ أن البَرنامج استطرد لينتقد بشدَّة الاثنين. وثارت ثائرة الديغوليين والشيوعيين على السواء إزاء البَرنامجَين الإذاعيَّين. وتناول البَرنامج الثالث العاصفةَ التي أثارها البَرنامجان الأوَّلان. وتحدَّثت أغلب البرامج الإذاعية ضد الحرب الباردة وضد حتمية الحرب، كما انتقدت الاشتراكية المعاصرة، وكذا الشيوعية والديمقراطية الرأسمالية. وركَّز بَرنامج واحد على موجة الإضرابات الجارية، بأن أجرى حديثًا مع زعيم الاتحاد العام للعمَّال، الذي يُعارض استراتيجية الحزب الشيوعي الفرنسي.

وجدير بالذكر أن البرامج الإذاعية التي تمثِّل جهدًا جماعيًّا كثيفًا أثارت الكثير من السِّجال. وتلقَّى سارتر عشرات الرسائل المعادِية، بل والتي تهدِّده. وتضمَّنت إحدى الرسائل صورة لسارتر، وقد غطَّتها فضلات بشرية. وكانت العادة أن يتولَّى ميرلو-بونتي القيادةَ والمسئولية السياسية عن أغلب المناقَشات المحدَّدة في البرامج الفردية. وعلى الرغم من أن سارتر كان مشاركًا نشِطًا، فإنه عُنِي بالتفكير في القضايا التي تحتاج إلى أساليب نظرية مجرَّدة وعامة، وتمَّ تسجيل ثلاثة برامج أخرى، وكان الثاني عن سارتر وهو يقرأ النص الذي وضَعه مع إيزارد. وعقِب الانتخابات المحلية حلَّ روبرت شومان الأكثر محافَظةً محلَّ الاشتراكي راماديير، ولكن الحكومة الجديدة ألغت السلسلة فجأةً.

والقصة الكاملة لنصِّ هذه البرامج الإذاعية التي عكف على إعدادها كلٌّ من كامي وسارتر تضمَّنت حقيقةً مثيرة؛ المداخَلة السياسية الأولى التي نهض بها سارتر كانت كتابة جماعية جديدة لمسوَّدةِ بيانٍ سبَق أن كتبه كامي؛ ذلك أن كامي كتب بيانًا ردًّا على خطاب ترومان في ريو دي جانيرو في مَطلع سبتمبر، وذلك بهدف أن يوقِّع عليه معه آخَرون، واستهلَّ البيان بوصف خطاب ترومان بأنه «قاتل»، ورفض منطقه الذي يقوم على مبدأ التدخُّل العسكري. وأتى كامي بالبيان لعرضه في اجتماعات ضمَّت، فيمَن ضمَّت، سارتر. واختلف الحاضرون بشأن «كل كلمة وكل فاصلة في بيان كامي»، حتى أصبح صياغة جديدة للنص النهائي، وهو النص المنشور في نوفمبر ١٩٤٧م. والملاحَظ أن المعنيِّين بإثباتِ كتب سارتر يَنسبون إليه النص، بما في ذلك العنوان «نداء أول إلى الرأي العالَمي»، من دون ذِكر مسوَّدة كامي أصلًا.

وتوضِّح لنا المقارَنة بين مسوَّدة كامي والنص الأخير الذي وضَعه سارتر أن المجموعة أسقطَت الإشارة الأولى التي أشار فيها كامي إلى ترومان، واحتفظَت بالقسط الأكبر من البنية الأساسية، وضاعَفَت من حدَّة العبارات الختامية الغامضة، وخفَّفوا من حدَّة خوف كامي من احتمال غزو سوفييتي، وإن احتفظوا بأكثر أفكاره، وكذا بنصِّ صياغته في سبعة مواضع على الأقل. وتتمثَّل النقاط الأساسية في كلٍّ من مسوَّدة كامي ونص سارتر في أن نشوء كتل فتح الطريق للحرب؛ وأن الحرب بالنسبة إلى أوروبا تعني الاحتلال أو دمارها كساحة للمعارك، أو الاثنين معًا، علاوةً على أن الاستعداد للحرب سوف يُشِيع الاضطرابَ والفوضى في الحياة الاقتصادية و«يؤخِّر التحرُّر الاجتماعي». وإن فكرة توازن الخوف لا معنى لها على الإطلاق، ولكن يمكِن تجنُّب الحرب إذا ما أصبحت أوروبا قوة فاعلة نشِطة. ثم جاء الاختلاف؛ إذ يتعيَّن على أوروبا أن تكون الرائدة لإنشاء منظَّمة دولية تتجاوز حدود السيادة القومية، وتُنشئ مجتمعات لا هي رهن الشرطة ولا خاضعة للمال (كامي)، أو عليها أن تتَّحد لتستعيد سيادتها ضد الكتل وتلتزم مسار «التحول الراديكالي للنظام الاجتماعي القائم» (سارتر). وعلى الرغم من أن النص الثاني أكثر قليلًا من حيث الطابع النضالي عن النص الأول، فإن الاقتراحَين يفتقران إلى بؤرة الاهتمام كما تعوزهما المصداقية. وكان هذا أحد الأسباب في أن الجهد خاطَب آذانًا صمَّاء.

إن سارتر، المبتدئ في السياسة، صاغ مداخلته السياسية الأولى جنبًا إلى جنب كامي المحنَّك، وتخلَّص من أسْرِ نَص صديقه. وعلى الرغم من اختلاف مَشارب وتطوُّر كل منهما، فإنهما، سارتر وكامي، ارتبطا معًا من خلال مشروع مشترك. وشهد سارتر وبوفوار الكثير من كامي خلال هذا الخريف. وتصفُه بوفوار في حديثها إلى ألجرين بقولها: «رجل ظريف، ولكنه صعب المراس.» إنه حين ضاق بروايته التي يكتبها «الطاعون» تكبَّر وتعجرَف، ولكن ما إن حقَّق نجاحًا ملحوظًا حتى أصبح مُتواضِعًا مخلِصًا للغاية. وعاد كويستلر إلى باريس في أكتوبر، وتكشف رسائل بوفوار في هذه الفترة عن أن مُعارَضته للشيوعية كانت أشدَّ غلوًّا من عداء كامي لها، وأنها هي وسارتر أصبحا أكثر عداءً تجاه الشيوعيِّين، وأقرب إلى كامي في هذا النطاق، مما سيكون عليه الوضع بعد ذلك. واعتادوا أن يقضوا الوقت جميعًا معًا، وقضَوا إحدى الأمسيات معًا في مسكن كامي، وأفسَد عليهم هذه الليلةَ بالحديث عن مناهَضة الشيوعية كلٌّ من كويستلر وصديق أمريكي، على الرغم من أن كامي كان ودودًا للغاية ورائقَ المزاج. ثم غادَر كويستلر باريس ولكنه عاد بعد سنة، وتقول بوفوار في هذا:

«طلب أن نكرِّر ليلتنا (أكتوبر)، وأن نقضي هذه الليلة في شهرزاد. ذهبنا معه — مامين وكامي وسارتر وأنا — ولم يكُن معنا فرانسين، ولكن إلى نادٍ ليلي رُوسي آخر. وأصرَّ على أن يعرِّف رئيسَ العمَّال في الفندق أنه يَحظى بشرف خدمة كامي وسارتر وكويستلر، وعاد بنغمة أكثر عدائيةً من العام الماضي إلى موضوع «لا صداقة من دون اتِّفاقٍ سياسي في الرأي». وأراد سارتر على سبيل الدعابة أن يغازِل مامين مُبدِيًا إعجابه لها، ولولا أنه تصرَّف على نحوٍ غيرِ مألوف للغاية، لَكان من الصعب القول إنه أحمق طائش، وكنَّا جميعًا قد لعبت الخمر برءوسنا، بحيث لا نَعتبر أن في الأمر مساسًا بأحد. وفجأةً قذف كويستلر كأسًا إلى رأس سارتر لم تُصِبه، وتحطَّمت الكأس على الحائط.»

ويبدو على الأرجح أنَّنا لن نعرف مدى المنافسة التي يضمِرها سارتر بينه وبين كامي أو كويستلر بشأن مامين الحبوبة؛ إذ لا بدَّ من أن التوتُّرات كانت معقَّدة في الحقيقة، وراوَدَ بوفوار أمل عقد علاقة عاطفية مع كامي قبل ذلك بسنتين ولكنها لم تنجَح. واستضافها كويستلر ليلةً في العام السابق وقتَما وقع كامي في غرام مامين، وسافر كامي وفرانسين إلى إنجلترا في أواخر ذلك العام، وبصُحبتهما مامين وكويستلر.

«وختَمنا أمسيتنا، ولكن كويستلر لم يشأ العودة إلى البيت. ثم تبيَّن له أنه فقَد محفظته؛ ومن ثَم عليه الانتظار في النادي. ومشى سارتر مُترنحًا فوق الرصيف، واستغرق في الضحك حين قرَّر كويستلر أخيرًا أن يصعد الدَّرَج مُنحنيًا وهو يسير على أربع. وشاء له أن يواصل شجاره مع سارتر. وقال كامي لكويستلر وهو يربِّت بلمسةٍ وَدُودة على كتفه: «تعالَ، هيا نذهب إلى البيت.» أزاح كويستلر يدَه من على كتفه بقوة، ووجَّه ضربة إلى كامي الذي حاول حينئذٍ الانقضاضَ على المُعتدي. ولكنَّنا باعَدنا بينهما، وتركنا كويستلر مع زوجته وركبنا في سيارة كامي. كان هو الآخَر منقوعًا في الفودكا والشمبانيا واغرورقَت عيناه بالدموع: «كان صديقي وضربني!» وظلَّ مُنحنيًا بجسده ضاغطًا على عجَلة القيادة بينما السيارة تَنطلِق مندفِعة يمينًا ويسارًا بشكل مروع، وحاولنا إيقافه وقد أفقنا تمامًا بسبب الخوف.»

ورأينا كامي خلال الأيام القليلة التالية وقد وضَع نظارة شمس ليُخفي عينَيه السوداوَين. واعتاد كلٌّ من سارتر وبوفوار وكامي خلال هذه الفترة استعادةَ ذكرى تلك الليلة معًا. وكان كامي يسأل في حيرة: «هل تعتقد أن بالإمكان أن تمعِن في الشراب على هذا النحو، ثم يكون بوسعك أن تعمل؟»

•••

قاد بيان كامي/سارتر إلى نشاط سياسي ألقى سارتر بنفسه في خضمِّه — التجمُّع الثوري الديمقراطي، حركة اشتراكية ومحايدة جديدة. وتحدَّد دوره في معارَضة كلتا الكتلتَين والضغوط من أجل الحرب مع العمل في الوقت نفسه على خلق مساحة لفرنسا المستقلة والاشتراكية عن أصالة. ويضم في الأساس شيوعيين سابقين، وأعضاء سابقين من الجناح اليساري في القطاع الفرنسي للأممية الدولية، وتروتسكيين، ويساريين مسيحيين، وغير هؤلاء من الاشتراكيين المستقلين. ونما التجمع الثوري الديمقراطي بسرعة وازدهر خلال فترة قصيرة، ثم انشقَّ على نفسه بعد أن طغَت عليه ضغوط قضايا الحرب الباردة.

وعقد التجمُّع الثوري الديمقراطي خلال شهرِه الأول، مارس ١٩٤٨م، اجتماعًا حاشدًا حضَره أكثر من ألف شخص، ثم تبعه اجتماع آخَر ضمَّ أكثر من أربعة آلاف. وكتب سارتر البيانَ الأول للتنظيم، ويَحمل عنوان «جمعية الشعب الحر من أجل ديمقراطية ثورية لبناء حياة جديدة على أساس مبدأ الحرية والكرامة الإنسانية، وربط ذلك بالنضال من أجل ثورة اجتماعية». ورأى سارتر أن الغرض الرئيسي من تشكيل التجمُّع الثوري الديمقراطي هو الجمع بين مُصطلحَين يئس كامي من التوفيق بينهما: الحرية والاشتراكية. وسوف يكون هذا هو رد فرنسا وأوروبا على الصراع والمنافسة بين الأمريكيين والروس. وإذ سعى التجمُّع الثوري الديمقراطي إلى الجمع بين الروح الثورية والديمقراطية، فقد أعلن رفضه الحربَ الباردة، وانتقد كلًّا من الاتحاد السوفييتي والغرب الرأسمالي، وحرص على أن يكون «تجمُّعًا» لا حزبًا — على الرغم من أن المعروف والشائع أنه «حزب سارتر وروسيه» — وبذا سمح للعديدين من أعضاء الأحزاب السياسية المختلفة بالانضمام إليه. وحظي التجمع باهتمام الصحافة التي خصَّصت له مساحات لعرض فعالياته، كما عقد عددًا قليلًا من الاجتماعات الجماهيرية، وأصدر صحيفة نصف شهرية.

ولكنَّ زميلَي سارتر، وهما جورج ألتمان وروسيه، بدآ في قَبول أموال أمريكية ومصدرها، كما نعرف الآن، المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)؛ ولذلك فإنه مع أبريل ١٩٤٨م، وهو موعد عقد أكبر حشد جماهيري ضمَّ عشرة آلاف شخص، سمع الحاضِرون ثناءً على الأسلحة النووية الأمريكية. وطبيعي أن اتَّجه هذان اليساريان غير الشيوعيَّين إلى اليمين نتيجةَ ضغوط الحرب الباردة والتمويل الأمريكي. وأحسَّ سارتر بالخيانة؛ ومن ثَمَّ أعلن استقالته من قيادة التجمُّع في ذلك الخريف، وسرعان ما انقسم التجمع.

وشارَك كامي سارتر في منصة الخطابة إبَّان أحد الاجتماعات الرئيسية للتجمُّع الثوري الديمقراطي، ولكنَّه لم يكُن قَط منخرطًا فيه مثل سارتر. وخطَّط الاثنان للسفر معًا إلى الولايات المتحدة باسم «التجمع الثوري الديمقراطي». ولكن بعد أن أخفقَت هذه الخطة سافرا إلى أمريكا الجنوبية. وتوافَرت لدى كامي أسبابٌ عديدة للابتعاد عن الآخَرين، وعكف آنذاك على كتابة «المتمرِّد»، التي كانت عملًا تقتضيه الظروف بإلحاح، ولم يكن في نهاية الأمر مُلتزمًا شديد الحماس، بل شخص تخلَّى عن المخطَّطات الكبرى للتغيير الاجتماعي، لإيمانه الآن بأنَّ من المستحيل إنجازها من دون عنف واسع النطاق وتدخُّل بالقوة. وهكذا تطامنت آماله وطموحاته التي ساوَرَته بعد الحرب، وشرع كامي الآن يتحرَّى عن عدوِّه على الطرف اليساري. وإذ أصبح الآن مناهضًا للشيوعية ومناهضًا للماركسية، بدأ يصف نفسه بعبارة «الإصلاحي العنيد».

واصطدم كامي وسارتر علنًا إزاء فكرة محدَّدة؛ إذ كتب سارتر مقالًا عن الحرية السياسية وظهر في مجلة «كاليبان» الواسعة الانتشار (وهي تُشبه مجلة «المختار» من ريدرز دايجست الأمريكية)؛ وذلك في أكتوبر ١٩٤٨م. وبعد شهر من صدورها ظهر مقال آخَر على النقيض تمامًا بقلم كامي، ونظَّم إصدار المقالَين جان دانييل، وهو فرنسي جزائري صديق لكامي ويدعم المجلة. وجدير بالذكر أن دانييل نشَر مقال سارتر تحت عنوان «أن يكون المرء جوعان يعني أنه يطالب بالحرية». ويمثِّل هذا العنوان صيغة جديدة راجَعَ من خلالها دانييل حديثًا أدلى به سارتر في اجتماع للتجمع الثوري الديمقراطي في ربيع العام ١٩٤٨م.

ووصف سارتر الحرية في ظل الرأسمالية بأنها «خداع»؛ ذلك لأنَّ العمال لا يملكون حرية اقتصادية حقيقية. إن جوعهم، على العكس من ذلك، هو مطالَبة بأن يتحرَّروا من الحاجة، وأن يكونوا بشرًا بكل معنى الكلمة. وتحدَّث كامي في ردِّه عن الديمقراطية بأنها «ممارَسة في تواضُع». لم يشأ تبسيط المسائل على نحو ما يفعل الرجعيُّون والثوريُّون، وتبنَّى الديمقراطية باعتبارها «أقلَّ نُظُم الحكم شرًّا». ورفَض، مثلما رفَض سارتر، الموافَقة على وضع البروليتاريا، ولكنه رفض بالقدر نفسه «أن يفاقِم من البؤس باسمِ نظريةٍ ما أو باسمِ عقيدةٍ جامدة عمياء تحدِّثنا عن الخلاص». وهاجم سارتر الديمقراطية «البُرْجوازية»، بينما أثنى كامي على الديمقراطية ثناءً كبيرًا — متجنِّبًا صفة البُرْجوازية — إذ اعتبرها أقلَّ نُظم الحكم عدوانيةً. ولم يكُن سارتر، حسبما هو واضح، الديمقراطيَّ «المُتواضِع» الذي يتحدَّث عنه كامي. ومن أسفٍ أن المقالَين لم يُؤلِّفا معًا حوارًا حقيقيًّا؛ ذلك لأنَّ دانييل الماكر جعل كامي يبدو في صورة مَن يردُّ على سارتر، على الرغم من أن مقاله ظهَر في يوليو. بيْدَ أن الحديث يمكِن اعتباره حوارًا من حيث إن الاثنين التزَما طريقَين متباعدَين بوضوح. ولكن حريٌّ بنا ألَّا نقف طويلًا عند اختلاف الرأي؛ ذلك أن مقال كامي ظهَر أولًا في صحيفة «لا جوش»، التي يُصدِرها «التجمع الثوري الديمقراطي».

•••

وفي أبريل ١٩٤٨م، عقب بداية نشاط التجمُّع الثوري الديمقراطي بفترة قصيرة، مُثِّلت مسرحية سارتر «الأيدي القَذِرة» لأول مرة. إنها أكثر مسرحياته تعبيرًا عن الالتزام عنده، والتي كتبَها وعرَضها لأول مرة مع مُستهلِّ شروعه في العمل السياسي. وتُمثِّل الشخصية الرئيسية، واسمه هويردر، القائدَ الماركسي العقائدي، ولكن في غير جمودٍ نظَري، وهو البطل الأكثر إيجابيةً عند سارتر. وشاء لهذا البطل أن يلوِّث يدَيه بالعمل على إنجاز الاشتراكية. وتبدو القصة من نواحٍ كثيرة مُوحِية إلى حدٍّ كبير بمقتل ليون تروتسكي في المكسيك العام ١٩٤٠م. واكتسب التزام هويردر ثراءً بفضل دفئه ونظرته إلى الناس، ومواقفه المباشِرة الصريحة، وما يتحلَّى به من أمانة ومرونة وحسٍّ بالمنظور التاريخي. ويعامل هويردر الناس باعتبارهم أفرادًا، ويحاول فَهم جميع المواقف كما هي في الواقع. صفوة القول أنه شيوعي مثالي كأبسطِ ما يكون الشيوعي في الحياة وأكثر ما يكون اعتدالًا، ولا يمثِّل النمط السائد للحرب، إلا في أنه يقول لهوجو لو أنه في مكانه — كقاتلٍ دسَّه الفصيل المعارِض في الحزب — لَما كان له قَط أن يتراجع على نحوِ ما فعَل هوجو أول الأمر.

وتشكَّل الحزب عن طريق اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين بزعامةِ هويردر والشيوعيين. وإن مَن يعتزمون اختيارَ هويردر هم الشيوعيون الحقيقيون — وهو ما يشحذ من حدَّة نقد سارتر للحزب. وردًّا على هذا، ثارت ثائرة الحزب الشيوعي الفرنسي واحتجَّ على تمثيلها؛ ذلك أن المسرحية تصوِّر في نهاية الأمر أولجا ولويس المأجورَين الستالينيَّين، وهما يعامِلان هويردر باعتباره عميلًا يتعيَّن استئصاله لأسبابٍ تتعلَّق باختلاف أساليب العمل. ويُلاحَظ أن هذَين المأجورَين الستالينيَّين من أصحاب الفكر العقائدي الجامد وأصحاب رأي متصلِّب لا يعرف المرونة؛ ومن ثَم فإنهما عاجزان عن التفكير في استقلال، ويَعمدان إلى تقليدِ آخِر أساليب خط الحزب وصولًا إلى درجةِ جعْلِ هويردر — بمكرٍ ودهاءٍ — بطلًا بعد موته، نظرًا إلى أن خط الحزب قد تغيَّر. ولكن لا مَناصَ من الشعور باليأس: لقد ماتَ هويردر وهوجو، وخط الحزب متهم ومسئول، وأُعِيدت كتابة التاريخ ثانيةً. ونعرف رأي كامي في المسرحية من مذكِّرات سارتر:

«ذهَب معي كامي لحضور أحد العروض التجريبية (البروفات) الأخيرة (ولم يكُن قد قرأ المخطوطة بعد). وبينما نحن عائدون معًا بعد ذلك، قال: رائع، ولكن ثَمَّة جزئية واحدة لا أُوافِق عليها؛ لماذا يقول هوجو «لا أحبُّ الناسَ لما هُم عليه، بل لما ينبغي أن يكونوا عليه»؟ [وهذا اقتباس تقريبي من المشهد الخامس]، ولماذا يُجيب هويردر: «وأنا أحبُّ الناس لما هم عليه»؟ عندي أن يكون الأمر على العكس. أو بعبارة أخرى أنه ظنَّ في الحقيقة أن هوجو أحبَّ الناسَ لما هم عليه، ما دام لم يشأ أن يكذب عليهم، أمَّا هويردر، فهو على النقيض، بدا في نظره شيوعيًّا عقائديًّا جامدًا، يقيِّم الناسَ في ضوءِ ما ينبغي أن يكونوا عليه، وقد خدَعهم باسمِ مَثلٍ أعلى. وهذا تمامًا عكس ما قصدت قولَه.»

انحاز كامي إلى هوجو، وانحاز سارتر إلى هويردر. ولكنَّ كلَيهما عارَضا ما اعتبراه الموقفَ المهيمِن للحزب: كل شيء مُباح اليومَ من أجل بناء مجتمع الغد الجيد. وربما ظنَّ كامي أن حبَّ هويردر مُغرِق قليلًا في التجريد والشكليات، وأن الحب الوحيد العملي العياني في المسرحية هو حب هوجو لهويردر. علاوةً على هذا، فإن سارتر أضفى على شخصيةِ كلٍّ من هويردر وهوجو تعقُّدًا كافيًا وحياةً وصوابًا سياسيًّا أخلاقيًّا بحيث يمكِن التوحُّد مع أيٍّ منهما.

بيْدَ أن الشيء الأكثر أهميةً في رواية سارتر هو أنه وكامي فسَّرا السلوكَ العملي للشخصَين في ضوءَين مختلفَين. ليست المسألة القراءة «الصحيحة» لمسرحية «الأيدي القَذِرة»، بقدرِ ما هي مواقف كلٍّ منهما التي نظَرا من خلالها إلى المسرحية. إنَّ كامي المُتشبِّث بالمبدأ ورافض الكذب وقاءً للسياسة، لا يَقبل الانفصال عن احترام الناس وحبِّهم. ولكن سارتر يرى أن الالتزام بالعمل على أساس المبدأ يكون صحيحًا بالنسبة إلى الغايات البعيدة المدى.

•••

فيما بين العامَين ١٩٤٦م و١٩٤٨م طالَب كلٌّ من سارتر وكامي بإقامة أوروبا الديمقراطية والمتحوِّلة جذريًّا لتجنُّب الحرب واتخاذ طريق وسط بين الكتلتَين الرأسمالية والشيوعية. وهذا هو عين ما حاوَله التجمُّع الثوري الديمقراطي؛ ومن ثَم كان لانهياره أثَره العميق في نفس سارتر على نحوِ ما تُشير مذكراته: «تمزَّقت بسبب الضربة القاسية للتجمُّع الثوري الديمقراطي. التزام واضح ومحدَّد بالواقعية. ليس بوسع المرء خلق حركة. أصبحَت الآن الإمكاناتُ الفعلية التغيير السياسي أمرًا حاسمًا. بدَت الظروف مُواتية للرابطة. إنها تمثِّل إجابةً مؤكَّدة على مَطلب نظري مجرَّد حدَّده الموقف الموضوعي، ولكنَّها ليست إجابة على أيِّ مَطلب واقعي بين الناس. لذلك، وبناءً عليه، لن يساندوها.»

سوف يشدِّد سارتر الآن على أن الظروف الاجتماعية والإمكانية التاريخية محوريَّان لأيِّ مناقَشة للأهداف السياسية، ولكن حيث إنَّ الحرب الباردة تضيق من المساحة التاريخية المتاحة لعملٍ ذي قيمة، فإنَّ سارتر الواقعي الجديد «مُضطر إلى الاختيار» بطريقة لا يقبلها كامي. ولكن سارتر شاء أن يقف إلى صفِّ أكثر الإمكانات المقبولة على نطاق أوسع للتقدم الاجتماعي؛ لذلك فقد اتجه إلى الشيوعية بعد أن حاوَل اتِّباع طريق ثالث مثالي، وقرَّر حينئذٍ أن الحقائق التاريخية جعلَت هذه المحاوَلة ضربًا من المحال. واهتدى بشقِّ النفس إلى طريقة في السياسة بعد فترة طويلة من التلمذة السياسية. ولهذا بات مفهومًا لماذا جعل ماركس الواقعية معلمًا مميزًا لسياسته. ورأى سارتر أن السير مع تيَّار التاريخ، وهو ما يَكرهه كامي، أمر لا فكاكَ منه.

وبينما كانت الحرب الباردة تَفرض نفسها بقوَّةِ دفعٍ متزايدة، ظل سارتر وكامي بعضًا من عالَم يتضاءل، هو عالَم المثقَّفين اليساريِّين المستقلِّين الملتزِمين باتِّباع موقفٍ نقدي تجاه كلٍّ من الشرق والغرب، مع التماسِ طريقٍ وسط بينهما. وطبيعيٌّ أنهما داخل هذا العالَم الصغير جدًّا يمكِن أن يختلفا بشأن احتمالات التغيير ومدى راديكالية التغيير المرتقَب، وما إذا كان نقدهما العميق للشيوعيِّين مصدرُه موقفُ الحزب الشيوعي الفرنسي، وهل هو ثوري بما يكفي أم ليس كذلك. ولكن انهيار التجمع الثوري الديمقراطي قضى على هذا العالَم. وها هنا دمج سارتر مذهبه الوجودي في الماركسية وزاوَجَ بين العنف والثورة، واتَّخذ موقفًا حاسمًا ضد الغرب. وطبيعيٌّ أنه مع كل خطوة على هذا الطريق واجَه ورفَض المثال الذي يعبِّر عنه كامي، وكذا حججه، ولكن دون ذِكر اسم صديقه.

وفي هذه الأثناء انخرط كامي، العام ١٩٤٨م، في مساجَلات علَنية مع إيمانويل أسيتير دولا فيجيري، وهو رفيق طريق لكامي وشخصية بارزة في المقاوَمة ورئيس تحرير صحيفة «ليبراسيون» الموالِية للشيوعيين. انتقد أسيتير «لا ضحايا ولا جلَّادون». وتضمَّن ردُّ كامي على نقد أسيتير ملاحظتَه الشهيرة أنه لم يتعلَّم الحرية عن طريق ماركس: «تعلَّمتها من الفقر.» ونظرًا لاتِّهام كامي بالتواطؤ مع المجتمع البُرْجوازي، فقد وجَّه نقدًا مُقذعًا ضد أسيتير وضد جميع الشيوعيِّين ورفاق الطريق من المثقَّفين الذين سعَوا من أجل «الهيمنة على العالَم باسم عدالة المستقبل». ولقد كان مَسعاهم تواطؤًا مع القتل، وانتصارُهم انتصارًا للمذابح: «إن مَن يدَّعون الإحاطةَ علمًا بكل شيء والقُدرة على حسم وإقرار كل شيء، ينتهي بهم الأمر بقتل كل شيء.»

وأصبح كامي في سبتمبر ١٩٤٨م مؤيدًا لموقف غاري ديفيز، وهو أمريكي تخلَّى عن مواطَنته الأمريكية، وأعلَن نفسَه مواطنًا عالميًّا؛ وذلك خلال اعتصامٍ أمام المقر الرئيسي للأمم المتحدة في باريس. واستشعر كامي ألمًا مُبرحًا لرفض سارتر وبوفوار مشارَكتَه في مسألةٍ اعتبر أنها «كلام فارغ ولا شيءَ على الإطلاق». وهنا عقَد كامي مؤتمرًا صحافيًّا لدعم جهود ديفيز من أجل التحدث أمام اجتماع للأمم المتحدة في نوفمبر. ووجَّه كامي خطابَين لمسيرتَين ضخمتَين، تأييدًا لموقف ديفيز. وهلَّلَت صحيفة «لوموند» للخطاب الثاني واعتبرَته «رائعًا وحادًّا قاطعًا»، وفي يونيو ١٩٤٩م أعلن سارتر أخيرًا مسانَدتَه الحاسمة للحركة.

ورأى أصدقاء كامي أنه يشجِّع في سذاجة مخطَّطًا لإنسان غريب الأفكار وليس أمامه فرصة للنجاح. ولكنه على خلاف سارتر لم يحاوِل أن يكون واقعيًّا بمعنى ربط نفسه بمواقف واضحة للعِيان أمامها احتمالات قوية للنجاح. وقدَّم كامي في «لا ضحايا ولا جلَّادون» بَرنامجًا «طوباويًّا» غير واقعي من أجل وحدة عالمية وديمقراطية دولية، وأفضى هذا الموقف إلى رفض الجانبَين الضالعَين في الحرب الباردة، وكذا رفض الصراع ذاته، والصراع من أجل قِيَم أخلاقية ضد الاتجاه المروع الذي يتحرَّك فيه العالم. وأدَّت قرارات كامي مباشَرةً إلى بدائل «غير واقعية» — من مثل الدفاع عن المواطَنة العالمية — بينما تقود «الواقعية» إلى تبنِّي موقف إحدى الكتلتَين الموجودتَين على الساحة. ولقد كان كامي يقينًا مثاليًّا. لم يكُن أبدًا داعيةً يؤيِّد الحرب الباردة؛ ذلك أن نُفوره من العنف تزايَد قوةً مع الأيام. وإذا كان تنامي الالتزام عند سارتر بالعمل الفعَّال المثمِر قاده إلى التخلِّي عما اعتبره مثالية في باكر حياته، فإن مثالية كامي التي لا تستند إلى أيِّ مبرِّر تنطوي على ضَعف وليس قوة «التخلي عن» الواقع من أجل تغييره. وهكذا يتجلَّى البُعد «الطوباوي» أو الخيالي مرة ومرات ليتمثَّل في اقتراحه لإعلان هُدنة مدنية إبَّان الحرب الجزائرية. وكان تجاهُل ما في موقف كامي من قوةٍ مُظهِرًا الاستخفافَ باقتراحه على نحوِ ما فعلت بوفوار في العام ١٩٦٣م، وشدَّد على ضرورة ابتكار بدائل بغضِّ النظر عن قلة عدد المؤيدين له في البداية.

•••

ظلَّ سارتر وكامي يتحرَّكان في اتجاهَين متضادَّين خلال الفترة من ١٩٤٩م حتى ١٩٥١م. ونلاحِظ أن أول نشاط سياسي رئيسي لسارتر منذ التحرير سقَط ضحيةً للحرب الباردة، وهذا هو النشاط الذي ربما قادَه عبر عدد من الاتجاهات، بل وربما بعيدًا عن السياسة تمامًا. وإزاء هزيمة التجمع الديمقراطي الثوري ناضَل سارتر لفَهم حقيقة الخطأ الذي حدث بالنسبة إلى الحركة، ومن أجل الاهتداء إلى سبيلٍ آخَر مؤثِّر في الأحداث.

ونجد كذلك أنَّ الاختلافات التي ربما أدَّى أيٌّ منها إلى اجتذابِ كلٍّ منهما إلى الآخر، أصبحت الآن عاملَ فرقة وانقسام. ووقعَت في العام ١٩٤٨م حادثةً شديدةَ الأهمية، حتى إن سارتر تذكَّرها بعد مُضيِّ خمس وعشرين سنة في معرض ردِّه على استفسار بوفوار كيف سارت الأمور بينه وبين كامي وتدهورت من «سيِّئ إلى أسوأ» حتى وصلت إلى حد القطيعة. وقعت «حادثة شخصية لم يكُن من شأنها على الأقل أن تجعلَني أغضب منه، لكنه رآها غير مقبولة». وسألته بوفوار: «هل هذا موضوع المرأة التي أردتَ عمل علاقة غرامية معها؟» لكن لا يزال رد سارتر، وبعد مرور سنوات طوال، يتأرجَح حول المسألة:

«كان حادثًا أخرق. قطعَت هذه المرأة علاقتَها به لأسباب شخصية، وناصَبَني العداء لفترةٍ ما. إنها في الحقيقة قصة معقَّدة. نشأت علاقة غرامية بينه وبين كاساريس، ثم انفصلا. قطع هو العلاقةَ معها وأسرَّ إلينا عن ثقةٍ بهذا الانفصال. وأذكر ذاتَ مساءٍ كنت معه في حانة؛ إذ اعتاد خلال هذه الفترة التردُّدَ كثيرًا على الحانات. كنت وحدي معه، وكان هو قد انفصل لتوِّه عن كاساريس، ويحمل في يدَيه خطاباتٍ منها له … خطابات قديمة عرَضها عليَّ وهو يقول: «ها أنت كما ترى! متى وجدتها ثانية، ومتى أستطيع أن أقرأها ثانية …» ولكن السياسة باعَدَت بيننا.»

وعادت العلاقة بين كامي وماريا كاساريس في يونيو ١٩٤٨م. كانت قد انفصلَت عنه منذ ثلاث سنوات بسبب رفضه الانفصالَ عن زوجته. ولكنَّهما الآن، وعلى الرغم من ذلك، قرَّرا الارتباطَ على مدى امتداد حياة كامي. تُرى هل قال سارتر إنَّ ثَمَّة علاقة غرامية نشَأت قبل ذلك بينه وبين كاساريس، وإن كامي عرف ذلك ومن ثَمَّ استشاط غضبًا؟ لا يوجد دليل آخَر على أنها المرأة المقصودة، ولكن هناك توترات ناشئة عن علاقات جنسية أخرى — سبق أن احتجَّ سارتر في العام ١٩٥٤م على واندا كوزاكيوفيتش وحذَّرها من الوقوع في غرام كامي، وهناك علاقة الحب بين كامي ومامين كويستلر. وعلاوة على هذا، ما هو معروف عن سارتر وكامي وملاحقاتهما المستمرة النساء؛ ومن ثَم، وفي ضوء هذا كله نرى أن المواجَهة ربما تكون حتمية. وحرص الاثنان على كتمان المنافَسات الأخرى. لذلك فلا غرابةَ أن نجد من العسير مناقَشة هذه العلاقة تحديدًا، أو أن نحاول تجميع شذرات من هنا ومن هناك على مدى خمس وعشرين سنة.

«واعتاد الاثنان خلال العام ١٩٤٩م أن يلتقيا أقلَّ ممَّا كانت الحال في السابق، وإن واظَبا على تناول الغداء المُعتاد مرةً في الأسبوع. وحدَث أن قال كامي في نوفمبر، خلال حديث معه، إن علاقته الودية مع سارتر لا تزال قائمة راسخة: «نعم، لقاءاتنا أقلُّ ولكن دافئة.» وبعد ذلك بفترة غير قصيرة وافَق سارتر مع بوفوار على أن هناك دائمًا «قدرًا مُعيَّنًا من الحميمية على المستوى الشخصي الخاص ما داما مُتفاهمَين، بل إن خلافاتنا السياسية لا تُثير قلقَنا كثيرًا خلال محادَثاتنا». ولكن ظلَّ طريقُ كلٍّ منهما يتباعد عن الآخَر.»

•••

وفي العام ١٩٤٩م نشر سارتر «النوم المضطرب»، وهو المجلد الثالث من «دروب الحرية». ونقرأ في هذه الرواية أن ماثيو استقر رأيه أخيرًا على الانخراط في العمل وإن بدا عبثيًّا، وارتبط معه الشيوعي برونيت بما لديه من حَمِية وطاقة سياسية. وتُشير خاتمة الرواية إلى الجمع بين الأصالة الشخصية والسياسية؛ الأمر الذي يناضِل سارتر من أجله. وأصدر كامي المجلد الأول من المقالات السياسية الكاملة في العام ١٩٤٩م، لكنه كان عاكفًا أساسًا على إنجاز «المتمرِّد»، والمسرحية الرفيقة لها «القَتَلة العدول»، والتي ظهر أول عرض مسرحي لها في نهاية السنة. ويستكشف هنا قتل دوق روسي كبير في نهاية القرن. ونجد كامي هنا، كما هي الحال في «المتمرِّد» مَعنيًّا بأمر المثقَّفين ونزوعهم نحو العنف الثوري، وركَّز اهتمامه على الموقف المعقَّد لشباب المثقَّفين عند تحوُّلهم إلى ثوريين. وتتَّسم شخصياته بالكثير من الضَّعف الذي يَعزوه كامي إلى مُعارِضيه: إنهم مَعنيُّون بالعدالة المجرَّدة، دون الاهتمام كثيرًا بالأفراد في وجودهم المادي المحسوس؛ إنهم يقدِّسون العنف ويؤمنون بأن المستقبل له أولوية على الحاضر، وأنهم يكرهون الحياة، بما في ذلك حياتهم هم، ويُريدون — بنظرته المشئومة — القتلَ، والقتلَ بلا نهاية حتى يضعوا نهايةً للقتل. ومع هذا، حسبما يقول كامي، وهو ما سوف يفصله في «المتمرِّد»، إنهم أكثر جاذبيةً وأجدر بالاحترام من سِواهم في مُنتصف القرن؛ ذلك لأنهم رفضوا قتل ابن عم وابن أخت الدوق الكبير، وأنهم يُحبُّون بعمق، ويُريدون تولِّي مسئولية القتل؛ أعني أنهم ليسوا بعد عدميِّين. إنهم يريدون الموت طواعيةً جرَّاء إزهاقهم لروح، «بينما هناك آخَرون يَنتحلون سلطتَنا للقتل، لكنهم أبدًا لن يُضحُّوا في المقابل بحياتهم». وكلمة «آخَرون» تعني أسيتير وغيره من المثقَّفين الشيوعيين والمناصِرين.

لم يكُن سارتر قد أصبح من عداد هؤلاء بعدُ، وحين رآه كامي هو وبوفوار عند افتتاح المسرحية في إحدى ليالي ديسمبر في العام ١٩٤٩م، «أعاد دفءُ التحية أجملَ أيَّام صداقتنا». وقالت امرأة واقفة بجوار كامي إنها أحبَّت المسرحية أكثر مما أحبَّت «الأيدي القَذِرة». وإذا كامي الذي لم تَستثِره بعدُ هذه المزاوَجة يتَّجه نحو سارتر وعلى شفتَيه ابتسامةُ رضًا، وقال: «عصفوران بحجر واحد.»

•••

فرغ سارتر فورًا من توقيع اسمه لاعتماد افتتاحية ميرلو-بونتي في مجلة «الأزمنة الحديثة»، والتي تتناول موضوع معسكرات العمل القسري في الاتحاد السوفييتي، وهو الموضوع الذي أثارت بشأنه الصحافةُ الفرنسية تنبُّؤاتٍ جديدة. وتضمَّن المقال انتقاداتٍ أساسية للاتحاد السوفييتي، سائلًا بأيِّ حقٍّ يمكِن أن نسمِّي بلدًا اشتراكيًّا وهو يُودِع عُشرَ سكَّانه في معسكرات عمل قسري؟ … ورفض ميرلو-بونتي جهودَ زميلِه السابق دافيد روسيه لوصف الاتحاد السوفييتي بعبارة «العدو رقم واحد»، وأن يجعل كل صراعات العالم أمرًا ثانويًّا بالقياس إلى معارَضة الشيوعية. وشدَّد المقال على انتقاد القهر في كلٍّ من الشرق والغرب. وإن انحطاط الشيوعية الروسية ليس من شأنه أن يجعل الصراع الطبقي أسطورة، أو أن يجعل «مشروعات الأعمال الحرة» ممكِنة أو مُستصوَبة، أو انتقاد الماركسية بعامةٍ كلامًا فارغًا وباطلًا. وكان الأهم في نظر سارتر هو مسانَدته لأمرَين تحديدًا؛ الأول أن المقال أكَّد من جديد على «الإلهام الإنساني» للماركسية، بما يعني أنه هو وميرلو-بونتي يُؤمنان بقِيَم واحدة باعتبارهما شيوعيَّين. والثاني، أيًّا كانت طبيعة المجتمع السوفييتي الراهنة، فإنَّ الاتحاد السوفييتي إجمالًا يحتلُّ موقفًا في ضوء توازُن القوى، إلى جانب المناضِلين ضد أشكال الاستغلال المعروفة لنا. حقًّا إن معسكرات العمل شوَّهت الصورة، لكنها لم تَنفِ المكانةَ التقدُّمية للاتحاد السوفييتي في العالم. وتجلَّى في هذا المقال الموقفُ المعقَّد الذي يتَّخذه ميرلو-بونتي تجاه الشيوعية. وطبيعي أن إضافة اسمه إلى المقال يعني أن سارتر، وقد اضطرَّ إلى الاختيار، إنما كان ميَّالًا تجاه الشيوعية على الرغم من عيوبها.

•••

في يونيو ١٩٥٠م غزَت كوريا الشمالية الجنوب، مُستهلَّةً واحدة من أخطر المواجَهات التي عرفَتها الحرب الباردة. وفقَد ميرلو-بونتي أملَه الأخير في إمكانِ أن يقوم الاتحاد السوفييتي بدور إيجابي تاريخي، وقرَّر التزامَ الصمت، كما فقدَت «الأزمنة الحديثة» اتجاهَها نتيجةً لذلك. وبقي قدرٌ من الدفء واضحًا بين سارتر وكامي. وتحرَّكَت القوات الأمريكية شمالًا، وساد حينئذٍ في فرنسا حديثٌ عن إمكانِ أن يغزو الاتحاد السوفييتي فرنسا على نحوِ ما تَذكُر بوفوار:

«سأل كامي سارتر: «هل فكَّرت فيما قد يحدُث لك حين يصل الروس إلى هنا؟» ثم أردف بقدرٍ كبير من الانفعال: «يجب ألَّا تبقى!» وهنا سأله سارتر: «هل من المتوقَّع أن تغادِر البلاد أنت أيضًا؟» «أوه سأفعل ما فعلته أثناء الاحتلال الألماني.» لقد كانت لوستانو-لاكاو دائمًا إحدى الجمعيات السرية التي بدأت فكرة «المقاوَمة المسلَّحة السرية». بيْدَ أننا لم نَعُد نُناقش كامي بحرية؛ إذ سرعان ما يَغضب أو على الأقل يبدو عنيفًا. وتمثَّلَ اعتراض سارتر الوحيد في أنه لن يقبل أبدًا محارَبة البروليتاريا، وردَّ عليه كامي بحدَّة: «يجب ألَّا تجعل البروليتاريا سرًّا غامضًا.» ثم شرع يشكو من العمَّال الفرنسيين بسبب لا مُبالاتهم إزاء معسكرات العمل السوفييتية. وأجاب سارتر: «لقد عانَوا ما فيه الكفاية دون أن يُساوِرهم القلق في شأنِ ما يجري في سيبيريا.» فقال كامي: «صحيح … ولكن سيَّان، فإنهم لم يَحوزوا وسامَ الشرف!» وبَدَت كلماته غريبة؛ ذلك أن كامي، شأن سارتر، رفَضا وسامَ الشرف الذي أراد أصدقاؤهما من رجال السلطة منْحَه لهما في العام ١٩٤٥م. لقد شعرنا بأن المسافة الفاصلة بيننا بعيدة جدًّا، لكنه بقدر من الدفء الحقيقي قال ليحثَّ سارتر: «يجب أن تغادر البلاد. إنك إذا بقيت فلن تخاطِر بحياتك وحدها فقط، بل بشرفك أيضًا. إنهم سيُرحِّلونك إلى أحد المعسكرات حيث تموت هناك. ثم سيقولون إنك لا تزال على قيد الحياة. وسوف يستخدمون اسمَك لحثِّ الناس على الاستقالة والخضوع والخيانة. وسوف يُصدِّقونهم.»

وهكذا لا يزال كامي مع الدفء، وعلى الرغم من بُعد الشقَّة، يرى نفسه على الجانب نفسه الذي يقف فيه سارتر. وتصف بوفوار محادَثات مُماثلة مع آخَرين، وتخلص إلى نتيجةٍ مؤدَّاها أن سارتر على الرغم من أنه لم يصدِّق حقيقةَ أن السوفييت سوف يغزون، فإن مجرَّد التفكير في ذلك لعب دورًا كبيرًا في تطوُّره فيما بعدُ.» ونشر مع نهاية شهر يوليو ١٩٥٠م تصديرًا لكتاب عن الشيوعية اليوغوسلافية، حيَّا فيه دور الذاتية المتجسِّد في ماركسية تيتو، وأعلن أن هذا سيكون مشروعه هو: «يجب أن نُعِيد التفكير في الماركسية، ويجب أن نُعِيد التفكير في الإنسان.» وهكذا مع الأيام شغل المكان الذي غادَره معلِّمه ميرلو-بونتي.

ومع مستهلِّ العام ١٩٥١م شرَع يُعِيد التفكير في الإنسان باهتمامٍ وشغف، وهو ما نجده واضحًا في «الشيطان والرب الرحيم»، وهي مسرحية عن حرب الفلاحين في القرن السادس عشر. وخطا سارتر هنا خطوة رئيسية على طريق تطوُّره السياسي الأخلاقي؛ إذ يتحرَّك بطل المسرحية غويتس من كونه مجرَّد شر نظري مجرَّد، ثم خير نظري مجرد، إلى العمل أخيرًا، وبذلك الجهد المستمر لتحرير نفسه من خلال نضالٍ مادي محسوس في مُوازاة مع الآخرين. وتُعتبَر المسرحية بمعنًى من المعاني، في تصويرها للمحادَثات المعادِل في أعمال سارتر لرواية كامي «الطاعون»، باستثناءِ أن التضامن ليس هو نسيج الدراما، بل الحل الذي تمَّ التوصل إليه أخيرًا؛ إذ وجَد البطل غويتس نفسه واقعًا في مآزقَ لا حلَّ لها؛ ولذا أصبح في النهاية فردًا ملتزمًا، وتخلَّى عن الأمل في العيش وعمل الخير في صورة خالصة مجرَّدة — ممَّا أدَّى إلى كارثة واسعة النطاق — ومن ثمَّ وافَق على متطلبات صراع طويل الأمد. وما دام هو وأقرانه من البشر غير أحرار، فإنه بدأ يدرِك أن سبيله الوحيد لكي يُحبَّهم هو قَبول النضال معهم قائدًا لهم. ويمثِّل التضامن الحبَّ الممكِن الوحيد في زمن النضال الاجتماعي. ويعلِن غويتس في النهاية: «سأجعلهم يكرهونني لأنني لا أعرف طريقًا آخَر لحبِّهم. سأعطيهم الأوامر ما دمتُ لا أعرف طريقًا آخَر للطاعة. سوف أبقى وحيدًا مع هذه السماء الفارغة التي تعلو رأسي، ما دمتُ لا أملك طريقًا آخر لأكون بينهم. هذه هي الحرب التي يتعيَّن عليَّ مُكافَحتها، وسوف أكافحها.»

ومنذ الآن فصاعدًا أضحَت الأخلاق عند سارتر أمرًا لا يُمكِن تمييزه عن التاريخ والسياسة. ولكي يكون المرء أخلاقيًّا، يتعيَّن عليه الاعتراف بأننا وعالَمنا نتَّصف بعنف لا فكاك منه. وتخلَّى غويتس عن واقعيته المُثيرة للسخرية مثلما تخلَّى عن مثاليته الساذجة، وبذلك تيسَّر له أن يقوِّم كلًّا من هدف مستقبل لا يعرف العنف، وضرورة استخدام كل وسيلة ممكِنة، بما في ذلك العمل الثوري العنيف بغية الوصول إلى الهدف. وها هنا نجد أن مملكة الغايات التي صوَّرها سارتر في «المادية والثورة»، وكذا «ما هو الأدب؟»، أصبحت هي النضال الثوري. وجاءت مسرحية «الشيطان والرب الرحيم» ثمرةً عملية طويلة ومعقَّدة صاغ خلالها سارتر أخيرًا إطارًا عامًّا لأخلاق تُرضِيه، أيْ تعني أن التغيير السياسي الراديكالي هو السبيل الوحيد لإقامة عالَم تكون فيه العلاقات الإنسانية الأخلاقية أمرًا ممكِنًا، ولكن هذه الأخلاق ستُفضِي في النهاية على المستويَين الثقافي والسياسي إلى تدهور حاسم في العلاقة مع كامي.

شاهَد كامي العروض التجريبية، ولحظ كيف تبنَّى غويتس Goetz العنفَ سبيلًا لبناء مجتمع صالح خيِّر. وكان كامي خلال هذا يضع اللمسات النهائية لنقده المنهجي للعنف السياسي. وختم الفصل قبل الأخير من «المتمرِّد» بمناقَشة تحريضية ضد الوجودية، كما عبَّر عنها سارتر في مسرحيته. والجدير ذكره أن سارتر في هذه المسرحية في سبيله إلى أن يصبح واقعيًّا سياسيًّا من نوع جديد يريد أن يطابق مع شروطهم ما كان يعتبره القوى التاريخية الوحيدة للتقدُّم البشري — تمامًا مثلما كان كامي يكرِّر رفضَه «عبادة التاريخ» — مؤكِّدًا ضرورةَ أن يقف المرء بقدمَين راسختَين على ساحة الحكم الأخلاقي.

وتُفيد مذكرات سارتر أن بوفوار رأت في المسرحية «مرآة تعكس مُجمَل التطوُّر الأيديولوجي لسارتر». وقارنَت بين رحيل أورست من أرغوس في نهاية «الذباب» وبين قرار غويتس بالبقاء والمشاركة في معارك الفلَّاحين، وقالت: «في العام ١٩٤٤م ظنَّ سارتر أن أيَّ موقف يمكِن التعالي عليه بفضلِ جهدٍ ذاتي. وفي العام ١٩٥١م عرف أن الظروف يمكِن أحيانًا أن تسلُبنا قدرتَنا على التعالي؛ وفي هذه الحالة يستحيل أي خلاص فردي، وإنما فقط النضال الجمعي.» ولقد كانت مسرحيات سارتر السابقة، مثل ثلاثية «دروب الحرية» تَعمد إلى المقابَلة بين الفرد الحر ذاتيًّا والمناضِل المنضبط، لكنها الآن، وعقِب تطوُّر طويل الأمد، يطرح غويتس تركيبةً جديدة: إنه يقر النظام والانضباط من دون إنكارٍ لذاتيته الخاصة … إنه التجسيد التام والكامل للإنسان المؤمن بالعمل، حسبما تصوَّرَه وصوَّره سارتر، وها هو غريتس يعيش تضامنه وحريته معًا.

ونرى هنا، ولأول مرة، حرية الفرد عند سارتر مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحرية كل إنسان، وأن العمل من أجل حرية الآخرين يستلزم الانضمام إلى نضالهم. مثال ذلك أن هوغو في مسرحية «الأيدي القَذِرة» نراه يتقلَّب بين بديلَين، إمَّا عصابي إلى أقصى حد، أو منضبِط إلى أقصى حد لكي يعمل ما يتعيَّن عمله لدفع القضية إلى الأمام. وإنَّ مَن يتولَّون تفسير وتسيير «القضية» يفتقرون إلى الذاتية الفردية وإلى المبدأ، مما يُوحي بأن القضية ذاتها ليست إصلاح الإنسانية. ويفسِّر لنا هذا لماذا احتجَّ الشيوعيون على «الأيدي القَذِرة». ولكن بعد ثلاث سنوات، وحين قرن غويتس حريتَه الفردية بالنضال العام الأشمل، فإنه أصبح ما كان سارتر يسعى إليه لنفسه منذ زمن طويل: إنسانًا بين الناس. وينضمُّ غويتس بمِلء حُريته إلى نضال زملائه، ويخضع لنظامهم. وظلَّ سارتر حتى الآن يتحدَّث عن التاريخ والالتزام، أو ينشئ صحيفته هو، أو يُقيم تنظيمًا جديدًا. ولكن «يستحيل على امرئ أن ينشئ حركة». وحان الوقت للخطوة التالية: «الانضمام إلى صفوفِ نضالٍ قائم بالفعل، وهو نضال برمَّته خارج سيطرته.»

ونجد في اللحظة الأخيرة في «الشيطان والرب الرحيم» ضابطًا يَرفض قيادةَ غويتس لجيش الثورة. ويحذر غويتس الضابطَ ويُطالِبه بالخضوع، ولكنه يرفض، ويطعنه غويتس طعنةً تُودِي بحياته. ويبدو الأمر هنا جريمةَ قتلٍ مجانية وصادمة. نعم، غويتس في حاجة إلى إقرار النظام ضمانًا لكي يجد جيش الفلَّاحين فرصته، بيْدَ أن هذه الطعنة لا تعني قَبولًا لضرورة العنف في إطار حدود معيَّنة. إنها إيماءة مسرحية تتضمَّن، فيما أرى، شيئًا أعمق. ربما أراد سارتر أن يصدم مشاعر الرضا بالذات لدى جمهور المشاهِدين ممَّن يريدون — شأن صديقه كامي — تحديد العنف والسيطرة عليه. علاوةً على هذا، يبدو العنف في ذاته قيمةً حسبما نرى في إيماءة غويتس التي تشبِه موقفَ أورست في «الذباب». ألقى كامي القفاز: أن تكون ثوريًّا يعني أن تلتزم العنف. والتقط سارتر القفاز مُعلِنًا ردَّه القاطع الذي يؤكِّد ذلك.

ونذكر هنا ما قالته بوفوار عن نقطة التحوُّل: «انتهى العمل الذي بدأه في العام ١٩٤٥م بمقاله عن التزام الكاتب؛ لقد هدم تمامًا كلَّ أوهامه عن إمكان الخلاص الشخصي. وصَل سارتر إلى النقطة نفسها التي بلَغها غويتس؛ إذ أصبح مُستعدًّا لقَبول نظام جمعي لا ينكِر حريته الخاصة.» ثم عادت ثانيةً إلى مذكِّرات سارتر: «بعد عشرة أعوام من التأمُّل وصلتُ إلى نقطةِ تحوُّلٍ حاسمة: لم يَعُد مطلوبًا غير ربتة خفيفة.»

•••

أثناء إجراء بروفات «الشيطان والرب الرحيم»، دبَّت الحياة من جديد في صداقة سارتر-كامي، عندما اعتاد كامي أن يقف بانتظامٍ بجوار المسرح ليَلتقِط في سيارته ماريا كاساريس التي تمثِّل واحدة من نجوم المسرحية. واتَّفق سارتر وكامي على أن تنشر «الأزمنة الحديثة» الفصلَ الخاص عن نيتشه في «المتمرِّد»، التي يعكف عليها كامي الآن ويُوشِك على إتمامها. ولكن على الرغم من أنهما لم يتحادَثا في هذا الشأن، فإنَّ أفكار المسرحية والهجوم فيها يتعارَضان تمامًا مع كلِّ ما كتبه وقاله كامي حتى الآن. لذلك، وعلى الرغم من ظهورهما معًا في صورةٍ تبدو للناظر وكأنهما وثيقَي الصِّلة أحدهما بالآخر، فلن ندهش، وكما تذكُر بوفوار، أن الاحتفال بليلة الافتتاح في ٧ يونيو ١٩٥١م الذي شاركنا فيه كامي وماريا كاساريس وأصدقاؤهما كان «وليمة متواضِعة كئيبة، وبدا وكأنَّ الدفء القديم الذي ساد علاقتنا مع كامي أصبح شيئًا من ذكريات الماضي التي لا تعود.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥