الفصل السادس

العنف والشيوعية

«مَن كان على صواب، كامي أم سارتر؟
طبيعي أن الحرب الباردة حدَّدت إلى درجة كبيرة مَن الذي سيختار هذا الجانب أو ذاك؟»
المؤلِّف

ظلَّت رواية «المتمرِّد» على مدى خمس سنوات تستلزم ممَّن قرءوها اتخاذَ موقف. وهذا حق؛ ذلك أنه فيما بين منتصَف أكتوبر ١٩٥١م وصيف ١٩٥٢م، اتخذ كلٌّ من سارتر وكامي بشكل حاسم موقفًا من الحرب الباردة. ظهرت «المتمرِّد» أول الأمر في صورة عرض لما رآه كامي المرضَ الحضاري الذي دفع الناس إلى الإيمان بالشيوعية. وفي أبريل، وبعد الكثير من المقالات التي تناولت الرواية بالعرض النقدي، وبعد الكثير جدًّا من المناقَشات السجالية، انتقد فرنسيس جينسون الكتابَ بشكلٍ حادٍّ مع بيان السلبيات، وذلك في مجلة «الأزمنة الحديثة». وأعلن سارتر في يوليو تطابقه مع الشيوعية، بما في ذلك تقديره للعنف الشيوعي. وظهر ردُّ كامي على جينسون في أغسطس، وأعقبه ردٌّ سريع من سارتر وجينسون. وفجأة، وعلى غير توقُّع، تحطَّمت كل خيوط الرابطة الشخصية والسياسية والفلسفية.

ورأى سارتر وكامي كلاهما الآخر في مجال اجتماعي عقِب العروض التجريبية لمسرحية «الشيطان والرب الرحيم»؛ وذلك في ربيع العام ١٩٥١م. ونشرت مجلة «الأزمنة الحديثة» خلال هذا الصيف الفصلَ المكتوب عن نيتشه في كتاب «المتمرِّد». وأكثر من هذا أن سارتر وكامي تناوَلا شرابًا معًا بعد لقاءٍ سياسي في فبراير ١٩٥٢م. ولكن حان الوقت لاتخاذ موقف بين طرفَين. وكتبت بوفوار تقول: «انتهت فترة ما بعد الحرب. لم يَعُد ثَمَّة مجالٌ للإرجاء والتأجيل، ولا مجالٌ لمزيد من التوفيق والمصالَحة. بات لزامًا عمل خيارات واضحة محدَّدة.» وسبق أن سمع كامي تحذيرًا من معلِّمه القديم جان غرينييه؛ إذ قال له إن مخطوطة «المتمرِّد» ذكَّرته بشارلس موراس الملكي الذي أصبح مؤيدًا لحكومة فيشي. وهنا أجاب كامي: «شيء سيئ جدًّا، ولكن يتعيَّن على المرء أن يقول ما يفكِّر فيه.»

وجدير بالإشارة أن هذا العمل أصبح معروفًا في عالم المتحدِّثين بالإنجليزية بعنوان يُعطي دائمًا فكرةً خاطئة عما يقوله كامي؛ إذ تحدد «المتمرِّد» على أساس علاقته مع سلطة قائمة وشرعية مقابل ما يَثور المتمرِّد ضدَّه. تُرى هل أراد كامي توصيل هذا المعنى بما يتضمَّنه من إشارة إضافية إلى هزيمة متكررة، على غير ما تفيده مصطلَحات فرنسية متداولة مثل كلمة Rebelle، المتمرِّد أو الخارج على القانون؟ إن التعبير الذي اختاره تحديدًا هو «الإنسان المتمرِّد L’homme revolte»، والذي يرتبط على نحوٍ وثيق بعبارة «المتمرِّد man in revolt». وإذا كان المتمرِّد لا يمكِن تصوُّره بمعزل عن السلطة التي يتمرَّد عليها، والتي تعمل دائمًا على قهر المتمرِّد، فإن «الإنسان الثائر» يقف مستقلًّا عن السلطة، ولكن دون أن يكون هدفه الانتصار الذي يَنشُده «الثوري» الذي يطلب تغييرًا جذريًّا. ونجد أن استخدام كامي الملتبس لعبارة «الإنسان المتمرِّد» نقَل إلى الذهن نيَّتَه في تمييز الدافع الأصلي للتمرُّد عن اثنين مترابطين داخليًّا من حيث المعنى: «المتمرِّد الذي يتحدَّى ويناضل دائمًا ضد سلطة يراها تقوده إلى نتائج هي الأشد كارثيةً؛ والثوري الذي يعاني إحباطًا عدميًّا ويلتمِس سبيلًا لتغيير العالم وينجح في تولِّي السلطة … وهكذا.» واحتفظ عنوان كامي أيضًا بمعنى الشخص الذي دفَعه إلى التمرُّد مجتمعٌ أقامته الثورة. لذلك، وفي ضوء ما يقصده ضمنيًّا كامي، سوف أستخدِم «المتمرِّد» man in revolt، على الرغم من أن الإنجليزية ليس بها مثل هذا العنوان.

العنوان الحقيقي للكتاب «الإنسان المتمرِّد»، ويمثِّل مُطالَبة باتخاذ موقف. إنَّ الشخص المتحدِّي في جرأة في قلب كتاب كامي إنما تشكَّلَ في سياق معارَضة الثوري. وجدير بالذكر أن أول صياغة صدرت العام ١٩٤٥م، وتضمَّنت توضيحًا أكثر واستقطابًا أقل، نجد فيها المتمرِّد «احتجاجًا مبهمًا لا يتضمَّن مذهبًا ولا أسبابًا»؛ إنه «محدود النطاق»، وهو «مجرد شهادة ودليل»، ولكن الثورة «تبدأ بفكرة واضحة … بينما المتمرِّد حركة تُفضِي من الخبرة الفردية إلى الفكرة». وعمد كامي ابتداءً من العام ١٩٥١م إلى شَحذ هذه التباينات وإدخالها في تناقُضات أيديولوجية ساهمت في الحرب الباردة. إن الوضع الصحي، التمرُّد، يتعلَّق بالاحترام والتضامن، ولكنَّ الوضع غير الصحي، وهو الثورة، يتعلَّق بمحاوَلة بلوغ الكثير جدًّا وارتكاب عمليات القتل لبلوغه. وهذا الأخير هو ما فعله الشيوعيون.

وعلى الرغم من تعاظُم الخلافات، ظلَّ سارتر وكامي يَعتبران نفسَيهما صديقَين. وتمنَّى كامي أن يقدِّم سارتر عرضًا إيجابيًّا للكتاب، كما أن سارتر الذي يميل إلى صون الصداقة تردَّد بعصبية بشأن كتابة العرض. وعلى الرغم من أن كامي انتقد سارتر في الفصل قبل الأخير من «الإنسان المتمرِّد»، فإنه انتقاد محسوب ومحدود وبلُغة مُنتقاة بحرص وحذَر توقَّعَت ردًّا منه وليس قطيعة. وبدا وكأن كامي لا يزال يفكِّر في أن بالإمكان إقناع سارتر بأن يغيِّر تفكيره، بيْدَ أن كلًّا منهما شقَّ طريقه لاتخاذ موقف فكري وسياسي متعارض تمامًا مع الآخر؛ ومن ثَم، شاءا أم أبَيا، تحوَّل كلٌّ منهما إلى قائد لمعسكر على نقيضِ الآخَر. وإن خياراتهما التي جاءت استجابةً لتطوُّر الموقف السياسي الأشمل أصبحَت الآن قوة فاعلة داخل هذا الموقف، ودمَّرَت بالكامل ما تبقَّى من الصداقة.

•••

نوفمبر ١٩٥١م: كامي يُلقِي قنبلته عن الشيوعية. يوليو ١٩٥٢م: سارتر يُقسِم بالتزام كراهيته لطبقته الاجتماعية مدى الحياة، والانحياز إلى الشيوعية. وحدَّد كتاب كامي هدفَه السياسي بأنه تطوير معادَلته السابقة التي ساوَى فيها بين الشيوعية والعنف. وتضمَّنت مقالة سارتر هذه المعادَلة ذاتها إلى حدِّ بيانِ أن مثل هذا العنف مشروع وحتمي. وإذا قرأنا الاثنين اليومَ، بل وعقِب الحرب الباردة، فسيكون عسيرًا تجنُّب التشبُّث بهذا الاتجاه أو ذاك. مَن كان على صواب، كامي أم سارتر؟

طبيعيٌّ أن الحرب الباردة حدَّدت إلى درجة كبيرة مَن الذي سيختار هذا الجانب أو ذاك. ونجد أن المثقَّفين اليساريِّين المناصِرين للشيوعية في فرنسا انحازوا في الغالب الأعم ضد «الإنسان المتمرِّد»، بينما مجموعة أقل عددًا وأضعف صوتًا من اليساريين رحَّبوا به. ولكن الأقرب إلى اليمين رحَّبوا بالكتاب، باستثناء مجموعة صغيرة من أمثال رايموند آرون الذي رفض أسلوب كامي في التفكير. ولا غرابةَ في أن العروض الأمريكية والبريطانية للكتَّاب في الصحافة حيَّت كامي لشجاعته وثاقب بصيرته.

ونلاحظ أنه مع اطِّراد بقاء الشيوعية السوفييتيَّة استمرَّت الضغوط المطالِبة باتخاذِ موقفٍ كلَّما بُعث «الإنسان المتمرِّد» من جديد ضمن موجة مناهضة للشيوعية في أواخر السبعينيات. ظهر «الفلاسفة الجُدد» على المسرح، واليساريون من جماعات الطلاب في السابق يبحثون عن جذور أخطائهم والكوارث الثورية على مدى القرن، واقتدَوا عن وعيٍ وتصميمٍ بخُطى كامي. ومع الإطاحة بالشيوعية في شرق أوروبا، ومن بعدها في الاتحاد السوفييتي على أيدي أبنائها في هذه البُلدان، علاوةً على ترحيب الكثيرين من المتحدِّثين بالإنجليزية؛ أصبحت النتيجة التي استخلصَها كامي هي الرؤية المهيمِنة على مدى الطيف السياسي. وبناءً على هذا فإن مَن يريد قراءة «الإنسان المتمرِّد» باعتبارها جزءًا من سيرة حياة كامي-سارتر، سيجد نفسه مُضطرًّا، تحت ضغوط عديدة، إلى الانحياز إلى جانب الكتاب في ضوء الرؤية السائدة اليوم: كامي على صواب دائمًا، ولم ينَل حقَّه بكل أسف إلا متأخرًا. وعلى الرغم من التعارض بين «من الطبيعي» و«على العكس»، فإن بعض أنصار سارتر يصرُّون على اتخاذ موقف ضد «الإنسان المتمرد»، ومواصَلة المعركة من على الجانب الآخَر المهزوم. وطبيعي لو كان كامي على صواب، فإن سارتر مخطئ، والعكس صحيح. ولقد كان هذا هو منطق الحرب الباردة، ونحن لم نبعُد عنها بعيدًا حتى الآن.

بيْدَ أننا إذا ما سمحنا لهذه النزعة المانوية، نزعةِ الصراع بين الخير والشر، أن تحدِّد لنا إطار قراءتنا لكتاب «الإنسان المتمرِّد»، فإن هذا من شأنه أن يخذل الهدف الذي ننشده. إنني أناقش مسألة اضطرار المرء إلى اتخاذ موقف والانحياز إلى أيٍّ من الجانبَين، لا لشيء إلا لأبيِّن كيف هيمنَت هذه المسألة على كامي وسارتر، كيف أنَّ كلًّا منهما انحاز ضد الآخر، ودمَّرت الصداقة وأسهمَت في التقسيمات التي اصطنعتها الحرب الباردة التي صاغت النصف الثاني من القرن العشرين. ونحن يتعيَّن علينا أن نرى القطيعة بينهما بألوانها الحقيقية، باعتبارها نتاجَ اختيارٍ مشوَّه. إن الحرب الباردة أفسدَت وشوَّشَت التفكير السياسي ودمَّرت الصداقة والأفراد، وشوَّهت اليسار وكل العالَم السياسي. أمَّا عن بقية قصة كامي-سارتر، فإن رؤية وجهة نظرِ كلٍّ منهما على أساسٍ من النقد والتعاطف من شأنها أن تُهيِّئ لنا فرصة للتحرُّر من التفكير الثنائي عن الحرب الباردة.

•••

التمرُّد يفترض عند كامي مكانة في الخبرة البشرية تعادِل المكانة التي أضفاها ديكارت على الفكر معيارًا للوجود في الكوجيتو: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود»، أو المكانة التي أضفاها سارتر على النشاط لذاته، لكي يَنفي النشاط في ذاته؛ ليكون نقطةَ انطلاق أولى ولا سبيلَ لاختزالها إلى ما هو أقل. ويبدو أن المسوَّدة الأولى لأفكار «الإنسان المتمرِّد»، والتي جاءت تحت عنوان «ملاحظات عن التمرُّد»، إنما كتبها كامي في العام ١٩٤٣م أو ١٩٤٤م مباشَرة في ضوء ما أوحى به مقال «الوجود والعدم»، عند قراءة كامي له. إذ إن هذا المقال القصير غنيٌّ على نحو مذهِل بإيحاءاته بشأن طريقة سارتر في رسم معالم نفي «في ذاته» لما هو «لذاته». واتساقًا مع هذا النهج شدَّد كامي، وبالأسلوب السارتري، على أن التمرد يخلق القِيَم. إن العمل إيجابي وليس سلبيًّا أبدًا، ويُفضي في الوقت نفسه إلى تولُّد القِيَم البشرية والكرامة والتضامن، «أنا أتمرَّد، إذن أنا موجود». وهذا التمرُّد في جوهره الميتافيزيقي تمرُّد ضد العبث، ضد طبيعتِنا الفانية ذاتها، وضد هذا الكون العبثي الفارغ من المعنى ومن أسباب التلاحُم والاتساق. وجدير بالذكر أن كامي سطَّر ست صفحات في مذكراته قبل فقرة مؤرَّخة في ٢٤ سبتمبر ١٩٤٤م، وذكر في هذه الصفحات «الوجود والعدم» مرتَين، وتحدَّث خلالها كثيرًا عن «الطاعون».

وتصِف رواية «الإنسان المتمرِّد» هذا الجهد للتغلُّب على العبث بأنه قائم وراء التمرُّد التاريخي؛ ذلك أن استهداف العدالة المطلَقة إبَّان الثورة الفرنسية أُعلِن في خطوة واحدة حاسمة، وهي قتل الملِك الذي طمس الغرض الأصلي للتمرد المؤكد للحياة وللذات وللتضامُن. ويمتد «تاريخ المجد الأوروبي» عند كامي إلى أيام الإغريق وصدر المسيحية، ثم يمضي وصولًا إلى المركيز دو ساد والرومانسية ومذهب الدانديزم (التأنُّق المُتكلَّف في الأسلوب)، والإخوة كرامازوف وهيغل وماركس ونيتشه والسوريالية والنازية والبلشفية. ويتحدَّث كامي عن التمرُّد باعتباره قوة مُتزايدة باطِّراد مع الزمن وتحولها إلى عدمية بائسة تحلُّ الإنسانَ محلَّ الرب، وتستخدم القوة بوحشية مُتزايدة. وإن التمرُّد التاريخي ضاربٌ بجذوره في التمرد الميتافيزيقي، ويُفضي إلى ثوراتٍ تسعى إلى استئصال العبث عن طريق السيطرة الكاملة على العالم. ويمثِّل القتلُ أداتهم الرئيسية. ورأى كامي أن الشيوعية هي التعبير العصري لهذا المرض الغربي.

وبناءً على «منطق حتمي للعدمية» بلغت الشيوعية ذروة الاتجاه الحديث لتشييئ الإنسان، ولتحويل وتوحيد العالم؛ لذلك فإن متمرِّد اليوم يخضع لدافع أعمى «يطالب بالنظام في خضمِّ الفوضى، وبالوحدة في وسط الوجود الزائل»، مما يقود الإنسان المتمرِّد على الطريق ليصبح ثوريًّا يَقتل ويبرِّر جريمة القتل بأنها شرعية. وبات لزامًا على المتمرِّد أن يتعلَّم أن يعمل ويعيش داخل حدود، وألَّا يعقد إلا على آمال أكثر اعتدالًا، بل وأكثر إصلاحيةً، «أن يعيش ويَدَع غيره يعيش»، حتى نبني ما نحن عليه. وهكذا فإنَّ كامي إذ يكتب ضد الثورة إنما أراد توضيح الروح الأساسية للتمرد والتمييز بينه وبين تشوُّهاته القاتلة، خاصةً «الاشتراكية القيصرية»، وأن نتذكَّر أصوله الأكثر تواضعًا.

وإنَّ هذا البناء الرائع من جنسٍ آخر غير البناء الذي اصطنعه على سبيل المثال فيكتور كرافتشنكو في كتابه «آثرتُ الحرية»، أو بناء كويستلر في كتابه «الظلمة وقت الظهيرة» (والاثنان من أكثر الكتب مبيعًا في فرنسا فيما بين ١٩٤٥م و١٩٥٥م). وإنه لا يقدِّم تنبُّؤات أو ترتيبات سياسية صريحة، ولا يتضمَّن سوى النزْرِ اليسير مما يُعتبر من قبيل التحليل الاجتماعي العملي أو الدراسة التاريخية المحدَّدة موضوعيًّا، وإنه على الأصح تاريخ فلسفي وأدبي عن الأفكار والاتجاهات الأساسية. ولنا أن نقول بكلمات سارتر إن الإنسان المتمرِّد تاريخ لسوء الطويَّة، ولعملياتِ رفضٍ تتزايَد باطِّراد تنظيمًا وكارثيةً لمواجَهة وقَبول العبث والعيش معه. واتَّضح أسلوب ومحتوى ولهجة كتاب كامي ونحن على بُعد نصف قرنٍ منه، ونُدرك أن كامي كان يطبِّق أفكاره واستبصاراته العبثية على السياسة بالطريقة نفسها التي بدأ بها المفكِّرون الاجتماعيون أصحاب التوجُّه التحليلي النفسي، من أمثال إريك فروم ونورمان أو براون، في تطبيق الاستبصارات الفرويدية على السلوك والحركات الاجتماعية.

وزعم «الإنسان المتمرِّد» أنه يصف ما هو كامنٌ وراء القسمات الشرِّيرة للسياسة الثورية المعاصرة، وأصبح بسبب زعمه هذا حدثًا سياسيًّا كبيرًا. ونجد أن مَن حرصوا حتى على عدم متابَعة كامي صفحة بصفحة لا يريدون أن يفوتهم وصفه للكيفية التي يتحوَّل بها دافع التحرُّر إلى قتل عقلاني منظَّم. وجدير بالذكر أنه منذ ظهوره لأول مرة وحتى الآن رأى كثيرون من قرَّاء «الإنسان المتمرِّد» أنفُسهم في محاوَلة التمرُّد الفاشلة لتنظيم عالَم عبثي. ويكمُن سرُّ بقاء هذا الكتاب طويلًا في هذا، وفي اكتشافه لنقاط الانطلاق وللمشروعات ولمَواطن الضَّعف والإغراءات لدى الأجيال الحديثة العهد. وإذا افتقد الدين التقليدي قوَّته، أصبح الشباب يكبرون ولديهم إحساس مُتزايد بأن كل شيء ممكن. وها هي العلمانية الحديثة تتحرَّك في اتجاه حالة عقلية من عدمية بسبب افتقارها إلى ما اعتبره كامي رؤية الخلاص الوحيدة: الحياة عبث، ولكن على الرغم من هذا يجب أن نثُور، ولا شيء يمكِن أن يُقيم نظامًا أو يزيل ألم الموت.

ولم يشأ كامي بعَرضِه لهذه الرسالة نقْدَ الستالينية مثلما يَنقد المُدافعين عنها. إن أهدافه المحدَّدة مُخاطَبة المثقفين الذين استهوَتهم الشيوعية، مثلَما كان هو في الماضي أو سارتر الذي لا يزال على حاله. إن قرَّاءه الذين يستهدفهم هم مئات آلاف اليساريين المتعلِّمين الذين اشتروا وقرَءوا نصوصًا أدبية وسياسية وفلسفية، وفكَّروا في السياسة بقدْرِ ما فكَّروا في العمل السياسي، ومَن تمثِّل لهم الأفكار عناصر حاسمة للولاء السياسي. ويضمُّ هؤلاء طلابًا ومُعلِّمين وآخَرين غيرهم ممَّن نصِفهم عادةً بكلمة «المثقَّفين»، والذين يقرءون الصحف من مثل صحيفة «كومبا» أو «الأزمنة الحديثة». وتحدَّث كامي بلهجة فردية، ومتأثِّرة بعُمق بالحركات الأدبية الحديثة، وأهمها الرومانسية والوجودية. وإذا كان جمهوره العام ١٩٤٤م ضمَّ شبابَ ما بعد الحرب الذين تشبَّعوا بأفكار سارتر وكامي، فإن آمالهم التي عقَدُوها على التحرير منذ العام ١٩٥١م (من المقاوَمة إلى الثورة) قد ماتت تمامًا، مثلَما تلاشى أملُهم في بذل الجهود لتوجيهِ تيَّارٍ يساري مستقل يحتلُّ موقعًا وسطًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وتقول بوفوار في هذا الصدد: تساءل الناس في دهشة ماذا عساهم أن يفعلوا إذا ما غزا الروس البلاد؟ ولا ريب في أنه إذا ما تيسَّر لمِثل هؤلاء القرَّاء، على يدَي صحافي سياسي ورُوائي مشهور، تحليلُ بِنية العقل الكامنة وراء الشيوعية، فإن هذا سيكون عملًا سياسيًّا مهمًّا بالنسبة إليهم.

•••

ويمثِّل «الإنسان المتمرِّد»، بنجاح نظرة إلى العالَم، مركَّبًا متَّسقًا مع مسلَّمة ومزاج ووصف وفلسفة وتاريخ، بل وانحيازٍ استهوى جمهور كامي على مُستويات عديدة. وتشدَّدَ كامي في موقفه من أن كلًّا من جاذبية الشيوعية وطابعها الشرير نبَعا من مصدر واحد، دافِع إنساني حيوي. ونَعرض فيما يلي إحدى النتائج المدوية المترتبة على مناقشته لماركس:
«مرة أخرى، وفي خاتمة هذه الرحلة الطويلة، نجد تمردًا ميتافيزيقيًّا يدفع هذه المرةَ في اتجاه صدام الأسلحة والتهامس بكلمات السرِّ، وإن أغفل مبادئه الحقيقية، وقد دفن عزلته في صدور الجماهير المسلَّحة، وأخفى فراغ سلبياته وراء سكولائية١ عنيدة. ويَمضي مع هذا كله متجهًا إلى المستقبَل الذي اتخذه ربًّا أوحد له. ولكنه انفصلَ عنه من خلال عديد من البُلدان التي يتعيَّن الإطاحة بها، وقارات يتعيَّن الهيمنة عليها. وتأسيسًا على العمل كمبدأ فريدٍ له، ومملكة الإنسان باعتبارها مظنَّة الاعتذار، بدأ في شرق أوروبا يبني معسكره الخاص المدجَّج بالسلاح في مواجَهة مع معسكرات أخرى مدجَّجة هي الأخرى بالسلاح.»

وإذ صادَق كامي على التمرد كنقطة انطلاق حيوية، فإنه رفَض الحلول الطوباوية والإيمان بأن التاريخ هو جماع سياق الخبرة البشرية. إنه ينتقد إضفاء طابع شمولي على السياسة، مؤكدًا أن الحياة يتعيَّن أن نعيشها في الحاضر وفي العالم الحسِّي. ويَستكشِف تاريخ الحركات الأدبية والثقافية العدمية وما بعد الدينية. ويهاجم العُنف السياسي مع نظرة إلى الحدود والقيود والتضامن. ويختم بتوضيح الدور الميتافيزيقي للفن وكذا للسياسة الراديكالية المدركة لحدودها الذاتية. ويَخلص إلى رؤية عن الاعتدال المتوسطي، يأمل بوضوح أن تكون مفعمة بالحياة ومعبِّرة عن المشاعر، وتربط القارئ برؤاه واستبصاراته.

وانحرف جدول أعمال كامي المناهِض للشيوعية مثلَما صاغ «الإنسان المتمرِّد». ويكاد يكون مستحيلًا فصل حدود ونقاط ضَعف الكتاب عن مَواضع قوته، وينبع الاثنان من اختيار كامي أن يكتب الكتاب بهذا الأسلوب تحديدًا. وحيث إن كامي انطلق من معادَلته الأوَّلية التي يساوي فيها بين الشيوعية والقتل، فقد استقرأ الثورات من الأفكار ومن حالات الرُّوح. إنه لا يُجري أيَّ تحليل دقيق عن الحركات أو الأحداث، ولا يرى دورًا للحاجات المادية أو للقهر، بل يعرض أفكاره بشكل عام وشامل. ويظهر البحث عن العدالة الاجتماعية باعتباره فقط محاوَلة مُستوحاة على نحو ميتافيزيقي لإبدال «سلطة المطلَق بسلطة العدالة»، فضلًا عن الإقلال من الحديث عن الكرامة البشرية.

ونستطيع أن نَلمح قوة كامي وحدوده إذا ما تأمَّلنا الفصلَين الأوَّلَين من الكتاب، وهما مدخلان لموضوعَين رئيسيَّين، القتل والثورة. ويبدأ كامي بصورة مذهلة:

«ثَمة جرائم انفعال وجرائم منطق، ولم تتحدَّد بوضوحٍ بعدُ الحدودُ الفاصلة بين الفئتَين. ولكن قانون العقوبات يجعل العَمدَ وسبْقَ الإصرار هو المعلم المميز والمقبول. ونحن نعيش حِقبة العَمد وسبْقِ الإصرار والجريمة الكاملة. ولم يَعُد مجرمو عصرنا أطفالًا لا حول لهم ولا قوة ممَّن لهم أن يُدافِعوا بأن الحب عذر مقبول لأفعالهم. وإنما على العكس، هم كبار ناضجون، ولديهم أعذارهم الكاملة: فلسفة يمكِن استخدامها لجميع الأغراض، وحتى لو لتحويل القَتَلة إلى قضاة.»

وأصبح القتل في القرن العشرين حدثًا «مقبولًا» و«يمكِن الدفاع عنه نظريًّا» وتبريره في ضوء العقيدة والمذهب. وإذ اتخذ كامي من هذه الرؤية محورًا يسرع في تناول أهم قضايا القرن، ويحدِّثنا عن سبعين مليون حالة وفاة منذ العام ١٩٠٠م (ومع نهاية القرن العشرين زاد العدد النصفَ أيضًا). ويوضِّح أن القرن العشرين أصبح على أُلفة ﺑ «الجرائم المنطقية» — موت جماعي، سواء كان مخطَّطًا له أو متوقَّعًا، وتُساق التبريرات على المستوى العقلي. لذلك فإن المهمَّة الثقافية المؤثرة أكثر من سِواها هي فَهم لماذا تحدُث هذه الكوارث — كيف ظهر القتَلة وكيف تسنَّى تبرير أفعالهم. ويُسمي كامي، عن حق، قضيةَ العصر المحورية «الجريمة المنطقية»، ويسعى «لعمل دراسة مدققة للحُجج المستخدَمة لتبريرها»، ثم يشرع في استكشاف كيف أصبح القرن العشرون قرنَ المذابح.

ولكن «الإنسان المتمرد»، يغيِّر بؤرة الاهتمام. لقد تشوَّش العقل البشري بسبب «معسكرات الاستعباد المقامة تحت أعلام الحرية، والمذابح التي يجري تبريرها بدافع حب البشرية، أو النزوع إلى ما هو خارق للبشرية» — والتشبيهان الأوَّلان إشارة إلى الشيوعية، بينما الثالث إشارة إلى النازية. ويكفُّ عن الإشارة إلى النازية بعد ذلك في المتن (إذ كانت في النهاية منظومة «إرهاب لا عقلاني»، وليست أبدًا ما يهم كامي). وحدَّ هذا كثيرًا من نطاق البحث. ويكشف عن تحوُّله سؤاله: كيف يتأتَّى ارتكاب الجريمة عمدًا مع تخطيط مسبق ثم تبرِّرها الفلسفة؟ إن «الجريمة العقلانية» التي يهتمُّ ببحثها كامي لا يرتكبها الرأسماليون أو الديمقراطيون أو الاستعماريون أو الإمبرياليون أو النازيون، وإنما يرتكبها الشيوعيون. ويُعتبر ألبير كامي هو الكاتب الوحيد في منتصف القرن القادر على الإحاطة بهذه الكوارث. ولكن على الرغم من أنه كتب ضد عنف النازي، فإنه لم يتعرَّض لموضوع المحرقة. وعلى الرغم من أنه كان الصوتَ الوحيد الذي احتجَّ ضد هيروشيما، فإنه لا يسأل الآن كيف حدثَت. وعلى الرغم من أنه بعد أحداث مدينة سطيف الجزائرية كان واحدًا من بين قليلين اتهموا الاستعمار الفرنسي، فإنه الآن لا يأتي على ذِكرها إلا في صورة هامش في أسفل الصفحة. ولنا أن نسأل في دهشة كيف تسنَّى لكامي أن يركِّز اهتمامه فقط على عنف الشيوعية، ونحن في خضمِّ الحرب الاستعمارية الفرنسية في فيتنام، وعندما عرف هو (قبل جميع الناس) أن صراعًا مريرًا سوف يشتعل قريبًا على أرض الجزائر؟ ومن عجبٍ أن الكاتب راغب وقادر بقوة على تناول مسألة القتل في القرن العشرين، ولكن أَعْمته الأيديولوجيا. لقد فصَل الشيوعية عن شرور القرن الأخرى، وصبَّ جام غضبه عليها هي وحدها. وطبيعي أن أفكار كامي تطوَّرت ونضجت مع مرور السنين منذ أن استهلَّ الكتابةَ عن التمرد. ولكنَّ ثَمَّة شيئًا آخَر حدث: تغيَّر جدول أعماله ونطاق اهتماماته: التمرُّد، موضوعه الأصلي التحريضي، ونرى كامي يكبح نطاقه ويَقصره على كونه المقابل والبديل للشيوعية التي أصبحت عدوه الأول.

ونتيجةً لذلك لم يَعُد كامي مهتمًّا بأهداف محددة في الحركات السياسية، وأغفل قضايا ملموسة يتضمَّنها النضال من أجل التغيير، ومن بينها العمل لامتلاك السلطة. لم ينظر إلى المجتمعات وهياكلها، وأغفل المهامَّ الاقتصادية الاجتماعية للماركسية. وذهَب كامي إلى أن الماركسية لا علاقةَ لها بالتغيُّر الاجتماعي. إنها ليسَت أكثر ولا أقل من تمرد «يُحاول ضمَّ كل الخلق». وثَمَّة فصل يُثير الدهشة لما فيه من ثنائيات نقيضية، كتَبه كامي عن نيتشه، وظهر في «الأزمنة الحديثة» في يوليو ١٩٥١م. ويميِّز كامي هنا بين نيتشه وبين استخدام النازي له، بل إنه يقول في حماس وتحدٍّ: «يجب أن نكون أنصارًا لنيتشه». بيْدَ أنه يضع هيغل في صورة كاريكاتورية (الذي يرى الغازي على صواب دائمًا)، ويُشوِّه صورة ماركس (الذي وجد كل أشكال الجمال الموجودة تحت الشمس غريبة تمامًا)، وإنَّ أيًّا من هذَين لا يأتي ذِكره لذاته، وإنما يذكره كامي فقط لدعم حُججه. وإن مَن يقرأ «الإنسان المتمرِّد» لن يجد أيَّ إشارة تُفيد ضمنًا وجودَ التراث الماركسي المعتدِل أو الإصلاحي، بل ولا إشارة إلى التراث الماركسي الثوري الديمقراطي. ولكن على العكس، فإن البديل السياسي للماركسية على نحوِ ما نرى في فصل من فصول الكتاب أكثر إثارةً وحساسية، هو صورة لأنشطة الإرهابيين الروس الذين سبق أن صوَّرهم كامي في «القَتَلة العدول». إنهم يرفضون مهاجمة الأبرياء ويريدون التضحية بحياتهم. إنهم يقتلون، ولكن فقط أفرادًا بعينهم. وإذ يدركون أنهم بهذا قد أفسدوا النظام الأخلاقي، يُصبح لزامًا عليهم أن يُضحوا بحياتهم في المقابل. ويركِّز كامي اهتمامه على القادة الثوريين ونظرياتهم، وهنا يُبدي أشدَّ إعجابه بجميع الإرهابيين الروس، دون أن يناقش أبدًا مَن يكدحون ويتمرَّدون عند الدرجات المختلفة من قاع السلم — سكان المستعمرات أو أفراد الطبقة العاملة.

ربما يكون هذا التركيز الأحاديُّ الهدف لإثباتِ نظريةٍ ما، هو الذي حوَّلَ أسلوبَ كامي المعروف تقليديًّا بهُدوئه وهجوميته ودقَّته المطلَقة، إلى أسلوب تُعوزه الرشاقة، وإلى تعبير قاطع نهائي ولا تنبعث فيه الحياة إلا لمامًا. ويزخر النص بكلمات دالة على استخلاص نتائج (مثل: ومِن ثمَّ، وإذن، وبناءً عليه، ولهذا)، والتي نادرًا ما تعقبها النتائج المترتِّبة على مقدِّمات سابقة، بل مجرَّد كلام مرسَل لا يستند إلى برهان أو تحليل، وتشيع فيه جُمَل عن موضوعات صاغها بحذرٍ وإحكامٍ للدلالة على أفكار رئيسية — والتي تستلزم من القارئ متابعتها على أساس تطوُّرها عبر كل فقرة وصفحة وفصل، بينما هو بدلًا من هذا يقنع بأن يورد الأفكار تباعًا، الواحدة بعد الأخرى، ثم ينتظر دون تطوير لها إلى أن تَرِد جملة معبِّرة عن فكرة رئيسية وقد صِيغت صياغةً جيدة ومُحكمة. ونجد هذا واضحًا بشكل خاص في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب، والتي تَستخلِص نتائج بناءً على مناقَشات سابقة، ولكنَّنا نقرأ بين الحين والآخَر موضوعاتٍ جديدة؛ وهكذا بدلًا من استكشاف قضايا في ضوء أسلوب كامي المحكَم والدقيق عادةً نجد «الإنسان المتمرِّد» يكشف من أول صفحة عن أسلوب يتَّصف بالتعسُّفية والخروج عن المألوف.

•••

تحتلُّ مثالب وعيوب مناهَضة الشيوعية مكان القلب من «الإنسان المتمرِّد»، وسوف نرى أن «الأزمنة الحديثة» عرضَتها وشجبتها على نحو ملائم وفي الوقت المناسب، وأن أخطاء كامي وأفكاره المتسلِّطة على ذهنه يسَّرت لمَن خالَفوه الرأي في موقفه المناهِض للشيوعية أن يُغفِلوا أهمية الكتاب. ولكن الكتاب لا يزال، وبعد مُضيِّ خمسين عامًا، واحدًا من أكثر الجهود أصالةً وتحرِّيًا للحقيقة كمُحاولة لفَهم كيف أن دافِع الحرية العظيم في العصر الحديث تولَّدَت عنه مجتمعات شمولية. وقد لا يكون من الإنصاف في شيء أن نَنتقِد كامي لأنه لم يقدِّم لنا إجابة شافية وكاملة عن هذا السؤال. إنه ولا ريب قدَّم إسهامًا ذا شأن كبير؛ إذ تساءل بشكلٍ جادٍّ عن هذا الأمر، وسعي لتفسيره في إطار المواقف والتوجهات الأساسية للغرب. ويؤكِّد كامي أن الإنسان الحديث والمستنير بكل معاني الكلمة، والغربي حتى النخاع، هو النظري المجرد، التسلُّطي، الثوري في تطلُّع مستقبلي، والساعي إلى تحويل العالم وفقًا لمقتضيات العلم، والتزامًا بقوانين التاريخ، والمؤمن بأن الضرورة الموضوعية حاكمة له. وهكذا يتطلَّع عن كثب إلى ما كان يمثِّل خيطًا رئيسيًّا في الماركسية عبر عدسات نزعة راديكالية مناهِضة للثورة وعنيدة، وإن كانت لا تزال تنظر في إطار من الشك. ولا يزال «الإنسان المتمرِّد» يستهوي القرَّاء حتى اليوم من خلال نظرته شزرًا إلى الحضارة الغربية وإلى التقدم، بل وإلى العالم الحديث ذاته — كأنَّ كامي تنبَّأ ببعض التيَّارات الفكرية التي ستظهر فيما بعدُ.

ولا يزال «الإنسان المتمرِّد» يشتمل على وسائل بنَّاءة للتفكير في العمل السياسي من منظورٍ يساري. إن حسَّه الواقعي العِياني، بل والمتواضِع، بالسياسة يتعارض مع الأوهام والأفكار النظرية المجرَّدة المفروضة من خارج. وقاوَم كامي أيَّ فكرة تزعم أن «مملكة السلام» «سوف تتحقق»، مؤكِّدًا أن الكمال حُلم ليس إلا. وشدَّد على ضرورةِ أن تظل الأخلاق محورًا للسياسة، ولم يكفَّ أبدًا عن مناصَرة حرية القول والتعبير والمؤسَّسات الديمقراطية والحقوق المدنية في أيِّ حركة داعية إلى العدالة الاجتماعية.

ومن أهمِّ النظرات الثاقبة في الكتاب، فَهم كامي لمعنى المعامَلة بالمثل وفرض القيود، وإدراكه لمعنى العنف؛ إذ لا يزال هذا كله واقعًا وثيقَ الصلة بالحياة الآن. «إن كل حرية إنسانية هي في جذورها … حرية نسبية»، وإن حرية أي شخص تحدُّ من حرية الآخَرين، وبالأحرى تحدُّ من حرية الحاكم. وإذا كانت الفلسفة الثورية تغرس ميلًا إلى العمل، وكأن بإمكاننا أن نعرف ونحسم كل شيء، فإن فلسفة التمرُّد على النقيض؛ إذ إنها فلسفة الحدود والقيود والجهل المحسوب والمخاطَرة. «وإن هذا التفكير لا يعني تفويضًا بعدم العنف على نحو مُطلق، لكنه يعني يقينًا نبذ العنف الملزم مبدئيًّا» — العنف الذي نَقبله بشكل نظري مجرَّد وتبرِّره الفلسفة. ويؤكِّد كامي أن العنف لا يمكِن تبريره أبدًا. وإذ يتطلَّع كامي إلى أن نتجنَّب إفسادنا بهذا النهج، فإنه يرفض جميع الجهود التي تهدف إلى أن تبرر نظريًّا استخدام القوة لفرض إرادة شخصٍ على الآخَرين. وهذا هو السبب الذي من أجله ينظر كامي إلى حرية الكلمة والتعبير باعتبارها مهمة للغاية. إنَّ فرض الصمت يعزل الناس بعضهم عن بعض، ويدمِّر تضامنهم، إنه قد يخلق مجتمعًا مصطنعًا، ولكنه أبدًا لا يُحقِّق تواصُلًا بين الناس. ومن ثَم فإن حرية التواصُل هي السبيل الوحيد الذي يهيئ للناس إمكانَ خلق علاقات متبادلة قائمة على أساس حدود مفروضة ذاتيًّا.

وإذا كان كامي قد رفَض ما آلَت إليه ثورات القرن العشرين، فإن هذه الأفكار تظلُّ يقينًا أفكارًا يسارية في جوهرها. ويَقبل كامي — بالفعل — أن التمرُّد سوف يحدُث ضد الحكومات التي تتَّخذ العنف والقهرَ أداةً لها. وأجاز استخدام العنف، ولكن فقط من أجل إنشاء «مؤسَّسات تحدُّ من العنف وتقيِّده … لا تلك التي تقنِّنه». ومضى إلى أكثر من ذلك؛ إذ حدَّد بعض المبادئ الأساسية للعنف السياسي: «يجب أن يكون مرحليًّا مؤقتًا، ورهن المسئولية الشخصية الفردية، ولا نلجأ إليه إلا حين نكون إزاء خطر فوري مباشِر، ونقاوِم أي شكل آخَر للعنف.»

•••

على الرغم من مَواطن الضَّعف في كتاب «الإنسان المتمرِّد»، فإنه أثبت وجودَه وظلَّ راسخًا، كما ظلَّ كامي نفسه فخورًا به حتى نهاية حياته. وعرف كامي كم كلَّفه هذا الكتاب، وعرف أن الغرب سوف يرحِّب به، بينما سوف يزدريه اليسار. وعرف علاوةً على هذا أنه يشنُّ هجومًا على توافُقِ آراءٍ واسع النطاق في شأن التقدُّم والتنوير والثورة الفرنسية. والجدير ذِكره أنه فيما يتعلَّق بالتاريخ الروسي، لم يَقِف كامي إلى جانب البلاشفة، ولا مع الماركسيِّين الإصلاحيين، لكنه — وكما أوضح في «القَتَلة العدول» — وقف إلى جانب الإرهابيين الثوريين الاجتماعيين غير العمليين والرومانسيين اليائسين. وعرف كامي أيضًا أن الاستقطاب الشرقي-الغربي قد مضى بعيدًا في إنتاج واقعياته المعارضة، بحيث لم تَبقَ هناك مساحة لنهجه المغرِق في المِثالية. بيْدَ أنه، مع هذا، استمرَّ في إصراره على استخدام وتوسيع نطاق تلك المساحة. أراد لنفسه أن يُحلِّق وحْدَه في قلب العاصفة لكي يستثير عاصفة، ولكي يقول ما يراه هو الحق، ولكي ينتج البديل في صورة شرعية، والذي لا يدعو إليه أحدٌ سواه، وهذا هو ما كان يفتقر إليه سارتر على الرغم من كل عبقريته: القُدرة على الوقوف صامدًا وحده سياسيًّا.

تُرى هل كانت المنافَسة مع سارتر هي السبب في أنْ حاوَلَ كامي — وأجهَدَ نفسَه في المحاوَلة — في كتابه «الإنسان المتمرِّد»؟ حقًّا، عمد إلى أن يشرح باستفاضة أفكارًا سياسية في كتابه «لا ضحايا ولا جلَّادون»، وكتب تتمَّةً لدراسته «أسطورة سيزيف»، ولكنه حوَّل كل هذا إلى كتابٍ بدا أحيانًا وكأنه تحدٍّ لكتاب «الوجود والعدم»، ليكون أشبه بجهد يبذله للتفكير من خلال الهياكل الأساسية للوجود البشري. ولهذا نجد، حسب معنًى من المعاني، أن بالإمكان أن نسمِّي «الإنسان المتمرِّد» عملًا فلسفيًّا. والجدير ذِكره أن كامي في الأربعينيات عمد إلى تمييز نفسه عن سارتر الفيلسوف بأن وصَف نفسه بأنه فنَّان يَنأى عن جهد سارتر المنظومي في فَهم العالم. بيْدَ أنني أشك في هذا، وأرى أن كامي ربما كان يودُّ أن يواصِل تسمية نفسه فيلسوفًا، لولا صداقته مع هذا الفيلسوف العبقري. ونلحظ أن «الإنسان المتمرِّد» في مستهلِّ بدايته يرى التمرُّد معادِلًا للكوجيتو الديكارتي: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود»، وفي ختامه يبدو في صورة المنافس لدراسة سارتر «ما هو الأدب؟». ذلك أنه عمد إلى أن يستكشف بإسهابٍ المعنى الأساسي للخلق الفني، وخاصة الكتابة. واعتاد كامي آنذاك، في خجل وتحفُّظ أكثر من سارتر، أن يكتب في الفلسفة وتاريخ الأفكار والحركات الأدبية، وفي علم الجمال والنظرية السياسية. وبدا في هذا كله وكأنه يردُّ على سارتر عبر جبهاتٍ عديدة في آنٍ واحد.

ولكن سارتر على النقيض؛ إذ على الرغم من أن أحدًا لم يتَّهمه بكبح النفس، فإنه اعتاد أن يركِّز كل نصٍّ من نصوصه على بُعد واحد فقط، ويعمل على تطويره في حذر وحرص. مثال ذلك كتاب «الوجود والعدم»، يحصر نفسَه في نطاق عرض أهم الهياكل الأنطولوجية وأكثرها أساسيةً، ويُنجِز هدفه بقوة وعمق مَهولَين، وحين أراد سارتر تطوير النتائج السياسية والإبيستمولوجية والأخلاقية لهذا الكتاب، فإنه فعل هذا في ثلاثة كتب منفصلة. بيْدَ أنه حين ربط الأدب بالسياسة، فإنه حقَّق هذا في مجموعة واحدة من المقالات. ولم يحدث أبدًا في الحقيقة أن كتَب سارتر كتابًا ولديه طموح بأن يصل مَداه إلى المدى الذي بلَغه «الإنسان المتمرِّد».

ونحن لن يتسنَّى لنا أبدًا أن نعرف إلى أيِّ مدًى تمثِّل العلاقة بين الكاتبَين عنصرًا خافيًا في «الإنسان المتمرِّد». ولكن الذي لا شكَّ فيه أن الكتاب يضم فصلًا رئيسيًّا وكاشفًا؛ إذ إنه مكتوب صراحةً ضد سارتر. وعلى الرغم من أنه يبدو في خاتمته وكأنه استطراد وحوار جانِبي عن «الوجوديِّين»، فإنه يركِّز على «عبادة التاريخ»، وهو الموضوع الذي يهاجمه الكتاب في كل صفحاته. غير أن أهمية هذه الإشارة إلى الوجوديين تُسقِطها من الاعتبار إضافةٌ عرضية مدروسة تأتي في المقدمة، وهي عبارة «على سبيل المثال، هذا علاوة على تجنُّب كامي ذِكر سارتر بالاسم — على الرغم من أنه ذكَر أسماء معاصرين له مثل أندريه مالرو، وأندريه بريتون، ورينيه كار. ويمثِّل هذا في الحقيقة حوارًا معمًّى لكتاب «الشيطان والرب الرحيم» الذي يَعرفه كامي جيدًا، ويمثِّل تحديدًا نقدًا لفِكرة محورية في المسرحية تُفيد أن غويتس ينمو وهو ينتقل من التمرُّد إلى الثورة.

ويقول كامي في عالَمنا المعاصر ينكِر التمرُّد ذاته حين يتحوَّل إلى ثورة. وإنه لكي يبقى ويظل صادقًا مع نفسه، يجب أن:

«يجد موضوعًا جديدًا للإيمان، ودافعًا جديدًا. وقبل المضيِّ خطوة أبعدَ، يتعيَّن على الأقل بيان هذا التناقُض في لغة واضحة. وليس من باب التعريف الواضح أن تقول شأن الوجوديِّين، على سبيل المثال، (الخاضعين الآن لعبادة التاريخ وتناقُضاته) إن ثَمة تقدُّمًا في الانتقال من التمرُّد إلى الثورة، وإن الإنسان المتمرِّد ليس شيئًا بالمرة ما لم يكن ثوريًّا. إن التناقُض في الحقيقة مقيد إلى درجة كبيرة؛ ذلك أن الثوري هو في آنٍ واحد إنسان متمرِّد أو ليس ثوريًّا، لكنه شرطي وبيروقراطي يتحوَّل ضد التمرُّد. لكنه إذا كان إنسانًا متمردًا، فإنه في نهاية المطاف يتَّخذ موقفًا ضد الثورة. وحيث إنَّ الأمر كذلك، فلن يكون هناك على الإطلاق تقدُّم من موقف إلى آخَر، بل تعايُش وتناقُض يتزايد إلى ما لا نهاية. إن كل ثوري مآله إمَّا أن يصبح قاهرًا أو مُهرطِقًا. والتمرد والثورة في عالَمهم التاريخي المحض الذي اختاروه سينتهيان إلى المأزق نفسه: إمَّا حكم الشرطة أو الجنون.»

وعلى الرغم من أن كامي بدأ هذه الفقرة ارتجالًا، فإنه يرسم خلالها خطًّا بيدِه فوق الرمال. ويفعل هذا ليس بدافع حقد أو ضغينة، وإنما لاستثارة المناقَشة. ونجد على أحد الجانبَين صورته التي رسمها للمتمرِّد، ونجد على الجانب الآخر صورة سارتر عن الثورة. ويعرف قرَّاء كامي أن ثورة غويتس تتحرَّك به بعيدًا عن الميتافيزيقا، وتسير به في اتجاه التحول إلى إنسان آخَر في العالم، وأن قَبول العنف يعني التزامًا بالواقع لتغييره. وها هنا في هذه الفقرة يُلقي كامي بالقفاز مُتحدِّيًا سارتر أن يختار. المتمرِّد إما أن يستولي على السلطة ويَسقط ضحيةً لكل الأدواء التي يصِفها كامي، أو أن يبقى صادقًا مع نفسه ويُحارب حتى الثورة القائمة في السلطة.

•••

في الوقت الذي كان فيه كامي يكمل «الإنسان المتمرِّد»، كان سارتر يكمل تحوُّله إلى ثوري. واتخذ سارتر من ميرلو-بونتي المناصِر للشيوعية مُعلمًا له، مثلما فعَل كامي بالنسبة إلى كويستلر المناهِض للشيوعية، وهكذا مضى سارتر خطوة أبعد وتبنَّى العنف سبيلًا ضروريًّا للتغلب على القهر الإنساني. وحدث تحوُّل سارتر في خطوة على مرحلتَين: «الشيطان والرب الرحيم» في ربيع العام ١٩٥١م، و«الشيوعيون والسلام» في يونيو ١٩٥٢م. وكان سارتر وكامي حتى هذه اللحظة يتحرَّكان في اتجاهَين هما في آنٍ واحد متكامِلان ومتناقِضان. وبدا لهما، ولو على نحو شِبه شعوري على الأقل، أن كلًّا منهما يصوغ نفسَه ضد الآخَر. ونذكر في هذا الصدد ما عرضه سارتر بعد ذلك في السيرة الذاتية لغوستاف فلوبير في أسرة تضم أحد شقيقَين أحدهما يشغل، ومن ثم يخصِّص لنفسه، الفضاءَ المُتاح لاختيار ذاتية محددة لنفسه، بينما الشقيق الأصغر نادرًا ما كان يختار الاتجاهَ نفسه ويميل إلى التطوُّر على نحو مختلف، وأحيانًا ما يختار سبيلًا غير متوقَّع. ولا ريب في أن أيَّ مثقف سياسي فرنسي شاء أن يحاوِل أن يجد لنفسه اتجاهًا بين عامَي ١٩٤٤م و١٩٥١م لم يكُن ليجد أمامه غير سارتر وكامي يُسيطران على ساحة الخيارات السياسية الفكرية لليسار غير الشيوعي. وليس بإمكان أيِّ إنسان في هذا الكون أن يفكِّر في شأن قضايا العصر من دون النظر إلى سارتر وكامي. ونجد بالمثل أن كلًّا من الصديقَين وجَد لزامًا عليه أن يكافح وينافس الآخَر، واستلزم كلٌّ منهما، لكي يوضِّح آراءه وفكره، أن يميِّز نفسه عن الآخَر.

ونلاحِظ أن بيان سارتر لأفكاره عن الموقف والالتزام قادَت كامي إلى الحركة في اتجاه البديل الذي صاغه لنفسه وعبَّر عنه بحدَّة أكثر. ونجد كذلك أن بيان كامي القوي عن اللاعنف في مناهَضة الشيوعية دفَع سارتر إلى توضيح مُقابله عن العنف. وإذا كان فِكر كامي عن «الطوباوية» المميزة و«الإصلاحية المتشدِّدة» يتعارض بعُمق مع سارتر حديث العهد بالسياسة والأكثر تطرُّفًا، فإن سارتر الآن بصدد اكتشاف طريقه الخاص إلى التغيير مُتبنِّيًا العنف والثورة تأسيسًا على إحساس يتفهَّم الواقعية بعمق.

•••

في مَطلع العام ١٩٥٢م رجا أعضاء الحزب الشيوعي من سارتر تأييدَ حملة ضد المحاكَمة العسكرية للضابط هنري مارتن، وهو ضابط بحري رفَض المشاركة في حرب فيتنام. ونظرًا إلى أن قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي تشعر الآن بالعزلة الكاملة، فقد وصَل بهم الأمر إلى حد التطلُّع إلى غير الشيوعيين. وقَبِل سارتر النداء وكتَب تعليقًا على كتاب بشأن قضية مارتن. وغادَر بعد ذلك بصحبة بوفوار لقضاء إجازتهما السنوية في إيطاليا. وحضر في هذه الأثناء إلى باريس جنرال أمريكي يُدعى ماتيو ريدغوتي وهو في طريقه لتولِّي قيادة حِلف الناتو. ونظَّم الحزب الشيوعي لهذه المناسَبة تظاهرة نضالية أفضَت إلى حوادثِ شغبٍ. قمعت الشرطة الشغب، وألقَت القبض على جاك دوكلو قائد الحزب الشيوعي الفرنسي. وصادرت الشرطة من سيارته بعض الحمَام الذي كان قد حمله معه إلى بيتِه ليُعِدَّه للعشاء. واتَّهمته الشرطة بأنه حمَام زاجل يستخدمه لتنظيم وتنسيق أعمال الشغب.

وكتَب سارتر:

«عرفتُ من الصحافة الإيطالية أمر القبض على دوكلو وسرقة يومياته ومهزلة الحمَام الزاجل. إن هذه الحِيَل الخسيسة والطفولية جعلتني أشعر بالغثيان. ربما كانوا أشخاصًا أكثر وضاعةً، ولكن لا أحدَ منهم أكثر فهمًا. ذلك أن من المناهض للشيوعية كلبًا. وليس في وسعي أن أرى مَخرجًا غير هذا، ولن أجد … وبعد عشر سنوات من التفكير والتأمُّل مليًّا بلغتُ نقطةَ اللاعودة، ولستُ في حاجة إلا إلى هذه القشَّة الأخيرة. وأقول بلغة الكنيسة ها هنا بدَّلت عقيدتي وإيماني … وباسم هذه المبادئ التي غرستها في نفسي، وباسم دعوتها إلى الإنسانية وتوجُّهاتها الإنسانية، وباسم الحرية والمساواة والأخوة أقسِم للبُرْجوازية بأن أحمل لها الكراهيةَ التي لن تُفارِقني حتى الموت. سأعود فورًا إلى باريس، وواجبي أن أكتب أو أن أختنق. وها أنا ذا واصلتُ الليلَ بالنهار، وكتبت الجزء الأول من مقال «الشيوعيون والسلام».»

صدرت هذه المقالة في يوليو ١٩٥٢م، وأعلَن فيها سارتر أنه رفيق طريق. وتمثِّل المقالة نصًّا غريبًا معقدًا، إنها تسرد الحجَّة تلو الحجة في سجال مع مناهِضي الشيوعية حول معنى تظاهرة ٢٨ مايو. ويستخدم سارتر الجزءَ الأكبر من مقالته لتسوية حسابات مع عديدين من أنصار مواقف سبَق له أن أيَّدها أو يرفضها الآن، ومن بينهم، ضمنًا، كامي.

ويشرع سارتر بعد ذلك في الدفاع عن لجوء العمَّال والحزب إلى العنف وغيره من أعمال غير مشروعة. ونلحظ أن هذا النقاش بعيد النظر يُجافي تمامًا فَهم كامي للعنف؛ إذ يبدأ ببيانِ كيف أن قانون الانتخابات الجديد وضَع العمال كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وأوضح أنه في انتخابات العام ١٩٥١م كان عائد تصويت خمسة ملايين شيوعي هو ۱۰٣ نوَّاب، بينما نصف هذا العدد من المقترِعين الاشتراكيِّين أعطَوا عائدًا قدره ١٠٤ نوَّاب. «وأقول فيما بيننا إن هذا شيء يمكِن أن يدفع بالناس إلى الخروج إلى الطرقات، وإلى تكسير بعض النوافذ، أو أن يصفعوا بعنفٍ بعضَ الوجوه.» وقبل هذه الانتخابات بزمن طويل تم وضع العمال والحزب الشيوعي الفرنسي في عزل إجباري. وها نحن الآن نجد اثنين من العاملين في الميناء يمشيان معًا على رصيف ميناء لو هافر، وإذا بواحدٍ منهما ليس له حقُّ الاقتراع، بينما الآخَر اقترع بلا جدوى. معنى هذا أن حرية الاقتراع التي هي علامة مميزة للمجتمع البُرْجوازي أسقطَتها البُرْجوازية الآن.

وقال سارتر إن حربًا طبقية تكمُن عند جذر هذا الخداع المُقنَّن. لكوني عضوًا منظمًا أقول إن فرنسا «مجتمَع قهر»، وإن أولئك الذين يَنحُون باللوم على الحزب الشيوعي الفرنسي بسبب العنف والأعمال غير المشروعة يُغفِلون حقيقةً هي «أن كل أنواع العنف اليومَ، المباشِر وغير المباشِر، مصدرُها البروليتاريا التي تردُّ إلينا ما أعطيناه لها». وحسب هذا المعنى، فإن العنف يغرسه ويُقنِّنه النظام الاجتماعي.

«إن العامل مهما غاص في الماضي يجد نفسه أسيرَ مجتمعٍ له قوانينه ونظامه التشريعي، وحكومته وفكرته الجاهزة عمَّا هو عادل وما هو ظالم، ولكن ما هو أكثر أهميةً أنه مجتمع له أيديولوجيته التي يشاركه فيها تلقائيًّا. ثَمة مصير وقيود مفروضة عليه، وهو محكوم عليه بأداءِ مهامَّ شِبه آلية ومجزَّأة، لا يدرك لها معنًى أو غرضًا، وبسبب أمراض الصناعة، إنه مجبَر على تكرار حركة واحدة آلافَ المرات في اليوم، وقد أثقَله الوهن والفقر، وحالا دونَه وممارَسة خصاله الإنسانية. إنه أسير عالَم غبي من التكرار. ويُصبِح قليلًا قليلًا مجرد شيء. بيْدَ أنه حين يحاول الكشفَ عن المسئولين عن وضعٍ لا يجد أحدًا، كل شيء على ما يرام: لقد تلقَّى أجره المُستحق له.»

عنف العمال إذن ردٌّ على هذا العنف «الطبيعي» العادي.

«ويدَّعي الناس أن العنف يُولَد فجأةً لحظةَ الشغب أو الإضراب. أبدًا، إنه يَطفر إلى العلن في لحظات الأزمات، هذا كل ما في الأمر. انعكس وضع التناقض: العامل الوديع يَرفض ما هو إنساني في داخله، والعامل المتمرِّد يرفض ما هو غير إنساني. وهذا الرفض ذاته هو إنسانية، إنه يتضمَّن مَطلبًا مُلِحًّا من أجل عدالة جديدة. ولكن نظرًا إلى أن القهر ليس عدوانًا ظاهرًا للعِيان، ونظرًا إلى أن أيديولوجيا الطبقة الحاكمة هي التي تحدِّد ما هو عادل وما هو ظالم، ونظرًا إلى استحالة الحصول على شيءٍ ما لم يتمَّ تحطيم النظام بقوَّة، فإن العامل يرى السبيل الوحيد إلى تأكيد حقيقته كإنسان إنما يكون في تجلِّيها من خلال العنف.»

وما إن ينخرط العامل في العنف حتى يبدأ المجتمع في تصعيد العنف ويتَّسع الشَّرَك. «إن سخطه لا بدَّ من أن يتحوَّل إلى إضراب، ويتحوَّل الإضراب إلى شِجار، والشجار إلى قتل.» ثم يفرض المجتمع هدوءًا قمعيًّا «ليس إحلالًا لسلام، بل عودة إلى العنف الأصلي.»

وحسب وجهة النظر هذه، فإن عنف العمَّال «إنسانية إيجابية»، و«حقيقة الأمر أن الإنسانية والعنف وجهان لا انفصامَ بينهما للجهد المبذول من أجل خروجه من وضع القهر الذي يعيشه». لذلك فإن عنف العمَّال هو جوهر الحزب الشيوعي عينه، وقوَّته. وتأسيسًا على هذا يختم سارتر مقاله بالسخرية من كلِّ مَن يرُوق لهم أن يرَوا يسارًا حسَن السير والسلوك، «ودودًا، مهذبًا، مهيئًا لعمل تمايُزات، وتحفُّظات رقيقة؛ يسارًا يحارب الرأسمالية لكنه عادل في موقفه من الأشخاص، يسارًا لا يرفض العنف، ولكن يلجأ إليه كملاذٍ أخير، ويسارًا يعرف كيف يستثير حماسةَ البروليتاريا الفيَّاضة، لكنه حريص — إذا دعت الضرورة — على حمايتهم من الغلو في استخدامها.»

وهذا الطابع الدرامي المتفجِّر عاوَد الظهور ثانيةً بعد عقد من الزمان في تصدير لكتاب فرانز فانون «المعذَّبون في الأرض»، وكذلك عند تأييده لعنف ولا مشروعية اليسار الثوري إثر أحداث مايو ١٩٦٨م. وهنا سارتر — لكونه أخلاقيًّا سياسيًّا — دانَ عنف الحكَّام وناصَر مُقدمًا عنف المقهورين. إنه لم يشأ حتى مجرَّد التنازل والقول بأن عنف المقهورين أمر نأسف له، إنما هو حتمي ومقبول داخل حدود معيَّنة، وليس بتطرُّف يتجاوز الحدود. إن سارتر مؤيد للثورة، رافِضٌ إضاعةَ الوقت في أي كلام عن العنف باعتباره سبيلًا إلى إضعاف المعنويات أو الإفساد، مُغفِلًا ما يُسبِّبه من دمار؛ ولهذا نصَّب من نفسه محاميًا وقاضيًا يدافع في شراسة عن المقهورين. وواضح تمامًا عند هذه النقطة تحديدًا التعارض التام بين اتجاه سارتر واتجاه كامي؛ إذ بينما نذَر كامي كلَّ طاقته للكتابة ضد العنف، خاصَّةً العنف الثوري، نجد سارتر تبنَّى تدريجيًّا العنف ودافَع عنه، خاصةً العنف الثوري.

١  الفكر اللاهوتي التقليدي في العصر الأوروبي الوسيط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥