الفصل السابع

الانفجار

«إلى السيد رئيس التحرير …»

مقدمة خطاب كامي إلى سارتر

«عزيزي كامي، لم تكُن صداقتنا سهلة، وإن كنتُ سأفقدها؛ إذ أنهيتها اليومَ …»

من رد سارتر على رسالة كامي
قُرب خاتمة كتاب «الإنسان المتمرِّد»، بدا واضحًا أن كامي يستحثُّ سارتر على الرد. ولكن لماذا عدم الرغبة في ذِكر اسم صديقه؟ يختلف موقف كامي بقوة عن موقف سارتر، ويريد أن يعرف كيف يمكِن لفلسفة ذات توجُّه تاريخي أن تكون أخلاقية. لهذا بدا وكأنه مُجبَر على الدخول في مواجَهة مع سارتر، وإن حاوَل تفادي ذلك في الوقت نفسه. ونلحظ حتى قبل صدور الكتاب أن كامي تورَّط في سجال مع الشاعر السوريالي والمفكر والمناظِر الذي لا يكلُّ أبدًا، أندريه بريتون. وإذا تأمَّلنا هذا الآن نجد القسط الأكبر من جدل كامي مع بريتون يبدو أشبه بتجربة أو بروفة. واستبق هذا السجال وبشكلٍ مُذهل، سواء من حيث مَواطن الخلاف أو التماثل، النزاع المرتقَب بعد شهرَين بين الصديقَين. هاجَم كامي فكرة محورية في فلسفة كلٍّ من الرجلَين، وهي الفكرة التي اعتبرها الأخطر سياسيًّا. وفي مَطلع العام ١٩٥١م نشرت مجلة «كراسات الجنوب» اقتباسًا من «الإنسان المتمرِّد»، مُتضمنًا نقد كامي للشاعر لوتريمونت الأثير لدى السورياليين. وربط كامي في نقده هذا دافع الشاعر نحو الحرية المُطلقة بنقيضه:

التماثلية إحدى الغوايات العدمية للتمرُّد، والتي تهيمِن على مساحة كبيرة من تاريخنا الفكري. إنها تؤكِّد كيف أن المتمرد الذي يتهيَّأ للعمل يجد غواية، إذا ما نسي أصوله، للخضوع والاستسلام للتماثل المطلق في أقصى صوره. وهكذا، فالتماثُلية تفسِّر لنا القرن العشرين … وإن لوتريمونت الذي يحتفي به عادة باعتباره الشاعر الحماسي للتمرد الخالص، هو على العكس، يُثني على ميلاد ذوق للعبودية الفكرية آخِذ في الازدهار في عالَمنا المعاصر.»

وعقِب هذه الفقرة مباشَرة في كتاب «الإنسان المتمرِّد» نقرأ فصلًا بعنوان «السوريالية والثورة»، يُهاجم كامي فيه ليس فقط رامبو، بل وأيضًا بريتون نفسه باعتبارهما من «العدميِّين رجال الصالونات»، مع إدمان العنف. وكان لا بدَّ لهذا النقاش المهم أن يثير عاصفة. ونعرف أن السورياليِّين هم من أبناء فرنسا، وأنهم بقيادة بريتون حظوا بلحظةِ مجدٍ كان لهم فيها نفوذ مباشِر عقِب الحرب العالمية الثانية مباشَرة، وكانوا لا يزالون يحظون باحترام واسع النطاق لأسباب كثيرة، من أهمها أنهم ضمُّوا بين أعضائهم في وقت أو آخَر أهمَّ شعراء فرنسا المعاصرين. ولا تزال السوريالية لها أتباعها المتحمِّسون لها، على الرغم من أن كامي وسارتر وكثيرين آخَرين من أبناء الجيل الجديد يعتبرونها صرعة انتهى زمانُها، أو «موضة» قديمة. ولم يعترض كامي فقط على مغازَلتهم للشيوعية في الماضي، وانحيازهم الذي لا يزال متصلًا لفكرة الثورة، بل يعترض قبل ذلك على حبِّهم الشديد لدرجة الاستسلام للاشعور واللاعقلاني باعتبار ذلك سبيلهم للتحرُّر. وإذا كان كامي يؤمن بالاعتدال، فإنَّ السورياليِّين التمسوا سبيلًا للتحرر الانفجاري، ودفعوا بأنَّ كل القوى التي تكبِّل النفس هي بعض من المجتمع البُرْجوازي بحيث يمثِّلان وحدة واحدة معًا. لقد التمس السورياليون التعبيرَ عن اللاشعور؛ ومن ثَم جعلوا من موضوعات وصور العنف محورًا لعملية تحرير الدوافع النفسية المكبوتة. وجاءت أشهر ملاحظة على لسان بريتون حوالي العام ١٩٣٣م: «قوام أبسط عمل للإنسان السوريالي يتمثَّل في الاندفاع إلى الشارع والمسدَّس في يده، ويطلِق النارَ عشوائيًّا على الجمهور بأسرع ما يمكِن حسبما تُسعِفه سرعة الضغط على الزناد.» وأثارت هذه العبارة فزع كامي، ورأى أن مثل هذه المبالَغة في التمثيل الفكري للتعبير عن العنف غذَّت العنف المنظَّم المهووس في القرن العشرين.

لم يرَ بريتون كتاب كامي قبل الهجوم على الفصل الخاص بالشاعر لوتريمونت. وإذ أدرك الاتجاهَ الذي يَقصده كامي، كتَب على الفور ردًّا شديد اللهجة نشرَته المجلة الثقافية الأسبوعية «آرتس» في ١٢ أكتوبر، وقبل ظهور الكتاب بأسبوع. واعترف بريتون بأنه شعر بانزعاجٍ شديد لأنَّ كاتبًا مشهورًا مثل كامي يعتزم مهاجَمة مَن هو أعظم منه بألف مرة. إن كامي إذ يُغفِل قوة التحرير للسوريالية، ويهاجِم عدمية لوتريمونت، إنما «يَنحاز إلى أسوأ عناصر النزعة المحافِظة والامتثال للتقاليد».

واتسمت لهجة كامي في الرد بالاعتداد بالنفس وسلاطة اللسان والحسم: «واضح أن بريتون لم يقرأ لي … وإن محاجاته العاطفية الخالصة لم تؤثِّر على أيٍّ من آرائي الفعلية بشأن لوتريمونت.» وقال كامي نحن جميعًا من مؤيدي السوريالية، ولكن بالإضافة إلى شجاعتها في التمرد فقد تولَّدت عنها أيضًا مواقف للعبودية والامتثالية. لقد زعم أن أيَّ امرئ قرأ حقًّا دراسته عن لوتريمونت سيكون في مقدوره أن يَستكشِف هذا من بين السطور. النزعة المحافظة؟ لم يتنازل كامي عن ذرَّة واحدة من راديكاليته السياسية لصالح بريتون: «إذا كان في مجتمعنا شيء نحافظ عليه، فإنني لن أخجل أبدًا في أن أكون محافظًا. ولكن لسوء الحظ، فإن الأمر ليس كذلك.»

آذنَت هذه الملاحظة بما سوف يُعلِنه كامي بعد ذلك بعشرة أشهر إلى سارتر، حين قال: «إذا كان الحق عند اليمين، فسوف أكون هناك.» وأكَّد بريتون في ردِّه أنه قرأ الكتاب بالفعل، وأدلى بحديث لمجلة «آرتس» رفَض فيه الزعم المحوري في كلام كامي لتناقُضه الواضح مع السوريالية:

«ما هذا الشبح المُسمَّى تمرُّدًا الذي يحاول كامي الوثوق به، والذي يحتمي وراءه، ويَصوغ تمرُّدًا هو عنده مدخل «الاعتدال»؟ ما الذي يتبقَّى من التمرُّد بعد أن نفرغه من جوهره الانفعالي؟ … لا ريب عندي في أن كثيرين سوف يخدعهم هذا الدهاء؛ فهذا أسلوب تُبقي فيه على الكلمة بعد أن تُفرغها مضمونها ذاته.»

وأوضع كامي في ردِّه، وفي مقال مطول بعد ذلك، أن صوت الجيل الحالي مكافئ تمامًا لصوت المتحدِّث العظيم باسم الجيل القديم، جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى. وفي ديسمبر ١٩٤٨م، جمعت المنصة كلًّا من كامي وبريتون وسارتر معًا في أثناء أنجح اللقاءات التي نظَّمها التجمُّع الثوري الديمقراطي لسارتر. وها نحن الآن نرى الأجيال تتحاور عبر صحيفة أسبوعية مشهورة بشأن المعنى السياسي لموضوعات رئيسية خاصة بالثقافة القومية، وانضمَّ إلى الحشد آخَرون خلال الشهور القليلة التالية.

ولعلَّه كان من الأوفق وصْفُ الصراع بعبارة «كامي مقابل بريتون». وتأكَّدت قدرة كامي على مثل هذا السجال من خلال جرأته على كتابة دراسة تحليلية سلبية هي الأولى من نوعها عن لوتريمونت الشاعر، الذي طالما أُعجِب به المثقَّفون الفرنسيون، ثم بعد ذلك نازَل بابا السوريالية. ومع هذا، كما قال في رسائله الشخصية، فإنه يستشعِر الآن خوفًا جديدًا استنفد طاقته، إلا أنه لم يَكبح نفسه.

وبلَغ السجال بين كامي وبريتون ذُروته في حادثَين، يعكس كلٌّ منهما قوةَ كامي الاجتماعية. الأول ندوة عن كتاب «التمرد موضوع البحث»، الذي نشره شباب من أتباع بريتون، وقد رفَض كامي المساهَمة فيه (وبناءً عليه اتَّهمه رئيس التحرير «بعدم التواضُع، وازدرائه لجيل الشباب»). والثاني مُصالَحة شخصية؛ إذ على الرغم من عراكهما، أوصى كامي بدعوة بريتون للتحدث إلى حشدٍ ضد إسبانيا برئاسة فرانكو، وذلك قرب نهاية شهر فبراير ١٩٥٢م. وجدير بالذكر أن بريتون، وهو الأكبر سنًّا، حين سمع بهذا انفجَر باكيًا. وحين التقيا في الاجتماع الحاشد تبادَل الاثنان حديثًا وديًّا وهُما على المنصة، وقال كامي فيما بعدُ إن ذلك لأنه أحجَمَ عن الرد على الرجل الأكبر سنًّا باللهجة الحادَّة ذاتها التي اعتادها بريتون معه. ونلحظ أن كامي ربما تفاعل مع بريتون بسهولة أكثر من تفاعله مع سارتر؛ ذلك لأنهما لم يكونا صديقَين شخصيَّين، أو ربما لأن خلافاتهما كانت بشأن السوريالية وليس الشيوعية. لقد كان الأمر محفوفًا بكثير من المحاذير فيما يخص العلاقة بين كامي وسارتر. وبعد الاجتماع خرج سارتر، الذي كان على المنصة أيضًا، لتناول شراب مع كامي، وأبلغه أن عدد مايو من مجلة «الأزمنة الحديثة» سيقدِّم عرضًا نقديًّا لكتاب «الإنسان المتمرِّد».

•••

وظهر العديد من العروض لكتاب «الإنسان المتمرِّد»، خلال الفترة ما بين تاريخ نشره ومايو ١٩٥٢م. وظهرت جميعها في منشورات سياسية وأدبية ودينية وإصدارات تتناوَل اهتماماتٍ عامة، وكذلك في صحافة يومية وأسبوعية وشهرية، وإصدارات تشمل مختلف ألوان الطيف السياسي. وتَناوَله أيضًا كتَّاب متخصصون في عرض الكتب الأدبية، وكذا شخصيات مشهورة، بمَن فيهم رفاق كامي أيام المقاوَمة، وأصبح الكتاب حديثَ الناس على نطاق واسع، وتلقَّاه الناس بعامةٍ لقاءً حسنًا. وطبيعيٌّ أن كان هناك نقَّاد له، خاصةً مع ظهور المقالات المطولة والمبنية على فكر تأمُّلي. بيْدَ أن رد الفعل السياسي لم يكُن على نمطٍ واضح. ويوضِّح لنا رد كامي على صحيفة «لو بزرفاتور» إلى أيِّ مدًى كان هو شديد الحساسية. ذلك أن كلود بوردييه الذي أعطى كامي منصبَه كرئيس تحرير في المقاوَمة في مَطلع العام ١٩٤٤م، قدَّم عرضًا جادًّا وإيجابيًّا للكتاب في عددَين من مجلته الأسبوعية. وبعد ذلك كتَب كاتبٌ آخَر في «لوبزرفاتور» اسمه ليبار، وقال إن العرض الذي كتبه بيير هيرفي خصمُ كامي القديم، ونشرته الصحيفة الشيوعية «لا نوفيل كريتيك»، يمثِّل «دراسة مثيرة للاهتمام». وهنا أخطأ كامي وهاجَم مجلة «لوبزرفاتور» لأنها قالت إن المقال الشيوعي «دراسة جيدة». ويبدو أنه لم يدرِك أن ليبار استطرد ليشرح لماذا هي دراسة تثير الانتباه؛ ذلك أنه أقرب إلى أن يكون «كُتَيبًا لا مقالًا». وحتى يزيد الطين بلَّة، أرسَل كامي رسالة تتَّسم بالغطرسة يؤكِّد فيها أن على الصحيفة أن تختار «بين كلاب الحراسة والأحرار، أو يسار الدولة البوليسية واليسار الحر».

وتذكَّر أحد المراسِلين الاجتماع الحاشد من أجل السِّلم، المنعقِد في سال دو بلوييل في ديسمبر ١٩٤٨م، والذي تحدَّث فيه كلٌّ من سارتر وكامي وبريتون، ونعوا على اليسار غير الشيوعي الموحد آنذاك، وقد تفرَّق وانقسم إلى شظايا. وبدا مؤلِّف «الإنسان المتمرِّد» متصلِّبًا عنيدًا عندما سُئل عن ذلك: «إن ما انتهى هو عصر التشوُّش والفوضى.» و«يتزايَد باطِّراد عدد مَن يرفضون غوامض وألغاز هذا القرن.» وأعرَب كامي عن أمله في أن نتَّحد جميعًا من جديد، شريطةَ ألَّا نُخفي بعد ذلك خلافاتنا، وأن يعترف كلٌّ منا بالمشكلة الحقيقية التي نعانيها اليوم، وهي الشيوعية، وأن نشجبها. أو لنَقُل بعبارة أخرى إنَّ مناهَضة الشيوعية، وليسَت الاشتراكية، أو الحيادية؛ هي التي يجب أن تكون صرْحَنا الرئيسي ليسار موحَّد قبل أن يشارِك كامي.

وها هنا يؤكِّد كامي النتيجة السياسية الرئيسية التي يمكِن أن نستخلصها من كتابه الجديد. ونراه خلال هذه الفترة جامعًا بين التعالي والعدوانية وإثارة المتاعب، علاوةً على خاصيته الأساسية المتمثِّلة في استقلاله السياسي وقوة الاقتناع. وإذ تآلفت كل هذه الاستعدادات، قادَته إلى الرغبة في الجدال مع كل الوافدين، وإن لم يذكر أسماءَهم دائمًا. وأعرَب كامي في رسالته إلى «لوبزرفاتور» عن غضبه من بيير هيرفي، ومن «لا نوفيل كريتيك»؛ لأنها لم تنشر عرضًا لكتابه إلا بعد سبعة أشهر. ماذا نتوقَّع أن يكون شعوره إذن إزاء مجلة «الأزمنة الحديثة»، ورئيس تحريرها سارتر؛ إذ زاد شهرًا على ذلك؟ لقد حرص كامي عامدًا على تمييز نفسه عن «الوجوديِّين» لسنوات طويلة، لكن ها هو أحدهم الآن أخيرًا، وهو جينسون، يردُّ تفصيلًا. وإذا كان كامي شديد الحساسية إزاء التعليقات السلبية (أو العدائية حسب رؤيته هو)، فكيف سيكون رد فعله إزاء عرضٍ نقدي شامل؟

•••

أثارَت مسألة كيفية التعامل مع «الإنسان المتمرد» مشكلةً في مجلة «الأزمنة الحديثة» منذ لحظة ظهور الكتاب. وتقول لنا بوفوار: «في نوفمبر سأل سارتر عن متطوِّع يعرض كتاب كامي «المتمرِّد». ولم يكُن ليسمح لأحد أن يقول شيئًا سيئًا عنه بسبب صداقتهما. ولسوء الحظ أن أيًّا منَّا لم يكُن ليفكِّر في شيء طيب. وتساءلنا: كيف الخروج من الورطة؟» وظلت المسألة مطروحةً كل أسبوعَين على طاولة اجتماعات هيئة التحرير. وبدأ بعض المحرِّرين يقولون إن الكتاب يعتمد على مَراجع من الدرجة الثانية، وليس المَراجع الأصلية. وأشار فرنسيس جينسون مدير التحرير الاسميُّ للصحيفة إلى أن سارتر ظنَّ أن كامي يناقش أمورًا لم يفهمها، وأنه لم يقرأ لا ماركس ولا إنجلز مِن كتُبهما مباشَرة، وإنما قنع باستخدام ملخَّصات أوردها كتَّاب آخَرون. إذن لماذا لا يعرض سارتر نفسه الكتابَ ما دام يعرف ما يجب أن يُقال، ويمكِنه أن يحقِّق التوازن الصحيح؟ ونظرًا لأستاذيته في اللغة وصداقته مع كامي، رفع حاجبَيه تعبيرًا عن مفاجأته بالاقتراح. ولكن مفكِّر فرنسا الأعظم ورئيس تحرير أهم صُحفها تحاشى انتقادَ كامي بأن عهد مهمةَ عرض الكتاب إلى واحد من أتباعه. وأوضحُ تفسير لذلك أنه تجنَّب مواجَهةً يمكِن أن تؤذي صديقَه وتدمِّر الصداقة. كان هو وبوفوار يعرفان أن كامي يستشيط غضبًا بسهولة، وتعلَّما انتقاءَ كلماتهما عند الحديث إليه، خاصةً مع تزايد اختلافاتهم. ويُلاحَظ أن كامي إذ يلتزم أحيانًا بأفكاره بشكل عقائدي جامد، فإنه ينزع إلى أن يكون نقديًّا في حديثه، ومعتدًّا بنفسه، ودفاعيًّا في موقفه. وتقول بوفوار: «كما لاحظتُ أن هذا السلوك زاد سوءًا مع الزمن.» ويبدو أن سارتر آثر الطريقَ السهل للخروج — إنه يعرف مدى أهمية رأيه بالنسبة إلى كامي، ويعرف أن الإفصاح عنه سوف يُغضِبه ويسبِّب مشكلات خطيرة بين صديقَين قديمَين، ومن ثَم التمس مَخرَجًا بأن يطلب من شخصٍ آخَر أن يجيب على كامي، شخصٍ لا تربطه به علاقة شخصية. وقال سارتر في هذا الصدد: «سوف يكون الأمر أكثر سوءًا وغير مقبول إن لم نَقُل شيئًا عن كتابه.» وهكذا، عهد بالمهمة إلى جينسون، الذي، حسبما توقَّع، سيكون «مهذَّبًا». وطبيعيٌّ أنَّ تجنُّب المسألة على هذا النحو أمر مفهوم، وإن انطوى على حمق وقِصَر نظر.

سبب آخر محتمَل لفشل سارتر في عرض كتاب كامي بنفسه، وهو عنف كلمات سارتر في خطابه أخيرًا مع المؤلف. إنه لن يترفَّع عن الرد مباشَرة على شخص إذا تحدَّث عنه لا يذكره بالاسم. وحريٌّ بنا أن نتذكَّر كيف أن سارتر بعد أن أشار إليه كامي بقوله «كاتب اليوم»، عنَّف كامي لمعرفته السطحية بالفلسفة. لقد أصبح سارتر مشهورًا عالميًّا، وفي مستوى مفكِّرين ذكر كامي أسماءهم في «أسطورة سيزيف»، و«الإنسان المتمرِّد»؛ ومن ثَم، فإن تعمُّد إغفال اسم سارتر يمثِّل إهانة تستلفت نظر ناقد أدبي واحد على الأقل. وإذا نُوقِشت المسألة صراحةً ومباشَرة، فإن سارتر سيضطر إلى الرد صراحةً ومباشَرة. ولكن حيث نُوقِش مع إغفال اسمه في الوقت نفسه، فإن أفضل رد على هذا إغفال اسم كامي بدَوْره على يدِ ناقدٍ صغير يتولَّى النقد، ويكون كامي على معرفة بموقفه السلبي منه. هل يُبدِي مودة صريحة في العلن مع صديقه؟ هل يتجنَّب الصراع ويَحمي صديقه؟ هل يكبت غضبه؟ هل يبادِل الاستخفاف؟ إن عزوف سارتر عن الرد يوحي بكل هذه الدوافع. وانفجر غضبه صريحًا في النهاية بعد أن عامَل كامي جينسون أضعافَ معامَلته لسارتر؛ إذ هاجَمه، ولكن رفَض ذِكر اسمه.

سبب آخَر لعزوف سارتر عن عرض «الإنسان المتمرِّد»، ويبدو معقولًا بالقدر نفسه في ضوء تاريخ التطور السياسي لسارتر، ويمكِن أن يكون هذا السبب هو العجز عن الرد على كامي؛ إذ على الرغم من أن «الشيطان والرب الرحيم» كان في مستهلِّ طريق تحوُّل سارتر الثوري، فإن موقف سارتر بشأن الثورة كان لا يزال على صعيد تجريدي إلى حدٍّ كبير. ونعرف أن صداقته مع كامي دبَّت فيها الحياة لفترة وجيزة في أثناء بروفات المسرحية؛ إذ بقيا معًا في أثناء ليلة الافتتاح، واقترح سارتر أن ينشر في «الأزمنة الحديثة» الفصلَ الذي كتَبه كامي عن نيتشه. وسبَق لي أن ذكرتُ نصَّ تعليق سارتر إذ قال: «كان هناك دائمًا قدر من الحميمية ما دُمنا على وفاق، بل إن اختلافاتنا لم تُثِر قلقَنا ولم تؤثِّر في محادَثاتنا.» ولكن ربما كانت صداقتهما مجرَّد قشرة خارجية، ولكن العلاقة استمرَّت. وتباعَدا وكلٌّ يراقب المواقفَ السياسية للأعداء، وتهيَّأ كلٌّ لاتخاذ موقف ولكي يصبح المتحدث الرئيسي باسم الموقف الفلسفي-السياسي الذي يمقته الآخَر أشدَّ المقت، على الرغم من الحفاظ على صداقة شكلية، بل وبعض المحبة تجاه الآخَر. وتذكُر بوفوار أنها هي وسارتر رأيا كامي «في مقهًى صغير يُطلُّ على ميدان سان سوبليس في شهر أبريل. أبدى مداعَبات كثيرة إزاء الانتقادات الخاصة بكتابه، واعتبر من المسلَّمات أننا معجَبون بها. ووجد سارتر صعوبةً جمَّة لكي يعرف ماذا يقول له.» وكانت هذه آخِر مرة رأته فيها بوفوار.

كتب سارتر «الشيطان والرب الرحيم» في شتاء العام ١٩٥١م. وفي أواخر ربيع العام ١٩٥٢م عاد على عجلٍ من روما إلى أرض الوطن ليكتب الجزءَ الأول من «الشيوعيون والسلام». وتحمِل كلماته الأولى ترديدًا لعبارة: «ذلك أن المناهِض للشيوعية كلب. وليس بوسعي أن أرى مَخرجًا غير هذا، ولن أجد … وبعد عشر سنوات من التفكير والتأمل مليًّا، بلغتُ نقطة اللاعودة، ولستُ بحاجة إلا إلى هذه القشَّة الأخيرة. وأقول بلغة الكنيسة ها هنا بدلتُ عقيدتي وإيماني.» وجدير بالإشارة أن المماطَلة من جانب سارتر وصحيفة «الأزمنة الحديثة»، بشأن عرض «الإنسان المتمرِّد»، ثم تحويل سارتر الأمر إلى جينسون، كل هذا حدث خلال الشهور السابقة على هذا التحول في العقيدة.

وقبل صيف العام ١٩٥٣م قرَّر سارتر نظريًّا الالتزامَ بطريق الواقعية الثورية، وإن لم يخطُ خطوة عملية على الطريق. ولم يأخذ هذه الخطوة إلا بعد قراره بالانحياز إلى الشيوعية. ويُشير تاريخ تتابُع الأحداث إلى النتيجة، وهي أنه لا يستطيع تقديم عرض نقدي لكتاب «الإنسان المتمرِّد» لسببَين: لا يزال كامي صديقًا له، فضلًا عن أن الحدث الذي أشار إليه بعبارة «القشَّة الأخيرة» لم يكُن قد وقَع بعدُ. وإذا كان كامي يمثِّل تحدِّيًا له خلال الفترة من خريف العام ١٩٥١م وربيع العام ١٩٥٢م، فإنه كان صديقًا. وحسم سارتر اتجاهه السياسي فقط بعد أن شرع في كتابة «الشيوعيون والسلام». وأصبح تأسيسًا على هذا البيان الرائد الأول المستقل نصيرَ الشيوعية في فرنسا.

ولكن، هل جهود سارتر لتفادي الصراع أكبر من جهود كامي؟ لقد بذَل كلٌّ منهما غايةَ استطاعته لتفادي المواجَهة، كما أن كلًّا منهما خطا خطوات في اتجاهها. وطبيعي أن المراوَغة لتجنُّب المواجَهة والاستفزاز في اتجاه المواجَهة ليس لهما من نتيجة سوى إشعال الانفجار. تزايَد من دون شكٍّ نفادُ صبر كامي بينما كان يكافح في الوقت نفسه على جبهات أخرى، وتلقَّى سارتر اتصالًا من الحزب يسأله المساعَدة في قضية هنري مارتن، وتحرك في هذه الأثناء تجاه المسانَدة الصريحة للشيوعية، وربما قراءته لكتاب «الإنسان المتمرِّد»، أعانته على استكمال هذه العملية؛ إذ دفعته بقوة إلى شحذ موقفه في معارَضة موقف كامي. وبعث كامي ردَّه إلى «الأزمنة الحديثة» في ٣٠ يونيو بعد أن أكمل سارتر الجزء الأول من «الشيوعيون والسلام». ويمثِّل هجومه على كامي أولَ عملٍ له كرفيق طريق. وقرأ ردَّ كامي على العرض الذي كتبه جينسون، وهنا أقدَمَ على عملٍ ما ظلَّ يتجنَّبه على مدى العام تقريبًا؛ إذ وجَّه الحديثَ مباشَرةً إلى كامي.

•••

الموارَبة الاستفزازية التي تجنَّب من خلالها كلٌّ من الطرفَين التعاملَ المباشِر مع الآخَر، حقَّقت الآن نتيجتها المُفْضية إلى الانفجار. وعرَض سارتر تصوُّرَه للأحداث خلال حوار مع بوفوار تاريخُه «أغسطس-سبتمبر ١٩٧٤م» والمنشور بعد وفاته:

«حدثت القطيعة النهائية حوالي الوقت الذي نشَر فيه كامي «المتمرِّد». حاولتُ الاهتداء إلى شخص يتطوَّع لتقديم عرض نقدي للكتاب في مجلة «الأزمنة الحديثة» من دون أن يكون شديد القسوة. ووجدت صعوبة في ذلك، ولم يكُن جينسون موجودًا آنذاك، ولم يشأ أحد من أعضاء تحرير «الأزمنة الحديثة» أداءَ المهمَّة نظرًا إلى أنني أردت الاعتدال، بينما الجميع يَمقُتون الكتاب. وهكذا لم تَذكر «الأزمنة الحديثة»، شيئًا عن «المتمرِّد» لمدة شهرين أو ثلاثة. ثم عاد جينسون من أسفاره، وقال لي: «أنا راغب في ذلك».»

كان جينسون قد التقى سارتر العام ١٩٤٧م في مكتبه في مجلة «الأزمنة الحديثة». كان يناهز آنذاك الخامسةَ والعشرين من العمر، ويعاني — شأن كامي — من مرض السل، وفرغ من فوره من تأليف واحد من أول وأفضل الكتب عن سارتر، وكتب سارتر تصديرًا لهذا الكتاب. ونشر جينسون أول مقال له في «الأزمنة الحديثة» العام ١٩٤٨م، وشغل منصب مدير تحرير المجلة بعد أن خرج منها ميرلو-بونتي في أوائل العام ١٩٥١م. ويصف نفسه بنَص كلماته بأنه «تلميذ» وليس «ببغاء» أبدًا لسارتر. ولم يكن عضوًا ضمن الأسرة، ولم يكن قَطُّ صديقًا شخصيًّا لسارتر، على الرغم من أن سارتر كان شاهدًا على زواجه بزوجته الأولى. ويتميز جينسون بأنه مفكِّر أصيل ثاقب البصيرة، ولعله أول كاتب أبرز الخلافات بين سارتر في مرحلته الأولى وبين كامي بشأن العبث؛ إذ قال في أول كتابٍ له إن سارتر يؤمن بأن البشر بوسعهم بشكلٍ ما التغلُّب على العبث، بينما يصرُّ كامي على محورية العبث في تجرِبة حياة البشر جميعًا. ونشَر جينسون عددًا من المقالات في مَطلع العام ١٩٤٧م قبل نفاد كتابه بوقتٍ قصير، وقدَّم نقدًا قويًّا ومفحِمًا لفكر كامي، يتجاوز كثيرًا كلَّ ما قاله سارتر على مدى سنوات طويلة. ورأي جينسون أن إصرار كامي على «بقاء العبث» لا يعني قَبُول وقائع التجرِبة، بل يعني التخلِّي عن الفكر الفلسفي ذاته، وإنكار «النداء الباطني»، نداء العقل. وعنده أن كامي استسلم لشكلٍ ما من الانهزامية قادته إلى «العبثية»، بأن حوَّلت واقع العبث إلى قِيمة. «أن تطرح سؤالًا عن العبث حتى وإن كنت تقبله، فإن هذا يعني أنك لا تزال تُريده.»

وبحلول العام ١٩٥١م كان جينسون قد انتقل من داخل الوجودية في اتجاه الماركسية، وجسَّد كلًّا من البُعد الذاتي الفردي للتجرِبة والمَطلب الاجتماعي والتاريخي للتغيير الهيكلي في نظرة عامة واحدة. وأحسَّ أنه «ماركسي أكثر من الماركسيين»، ولكنه لم يكُن قَطُّ عضوًا في الحزب، ولم يرَ نفسه أبدًا رفيقَ طريق. وكتب العام ١٩٥١م مقالًا عن الطبقة العاملة «حالتها الصحية وميولها ومستقبلها»، وفيه يؤيِّد في تردُّدٍ الحزبَ الشيوعي الفرنسي فقط؛ لأنه الحزب الممثِّل للعمَّال في فرنسا. وهكذا نجد هذا الشاب في تحرُّكه تجاه الماركسية، وفي رغبته في تقديم دعمه النقدي للشيوعيين، وكذا في قدرته النظرية على الجمع بين الوجودية والماركسية، إنما مضى بعيدًا حيث تجاوَز معلِّمه في أواخر الأربعينيات ومَطلع الخمسينيات. ويمكِن القول إنه فكريًّا وسياسيًّا كان هو الأصلح من أستاذه لكتابة عرض نقدي لكتاب «الإنسان المتمرِّد».

بيْدَ أنها مهمة مستحيلة على جينسون الحفاظ على صداقة سارتر مع كامي بينما ينتقد كتابًا هو نفسه يمقُت سياسته، فضلًا عن أنه رفض فلسفة مؤلفه. ونظرًا إلى أنه لا تربطه علاقة شخصية مع كامي، وهو المستهدَف، فإن سارتر لن يكون له تأثير على كتابته للموضوع. وحدث أن سارتر أعرَب عن استيائه لأن جينسون «كتَب المقال على نحوٍ لم أكن أريده، بمعنى أنه كان عنيفًا، جارحًا، وأبرز أخطاءَ الكتاب التي لم يكُن من العسير كشفها.» وتذكَّر سارتر إحدى التفصيلات المُهمة. كان ميرلو-بونتي في باريس، ومسئولًا عن المجلة في الوقت الذي كان فيه سارتر خارج فرنسا، وظنَّ ميرلو-بونتي أن سارتر ربما لا يُريد لمِثل هذا العرض النقدي العنيف أن يَظهر. ويشرح سارتر ما حدث بعد ذلك من خلال كلماته الأخيرة عن هذا الحوار:

«حاوَل ميرلو-بونتي أن يحثَّ جينسون على تغيير رأيه — وحدثَت مشاجَرة عنيفة — وأخيرًا كان كل ما استطاع أن يفعله هو أن يأخذ المقالُ طريقَه للنشر، وظهر بالفعل ولكن تحت شروط خاصة قَبِلها جينسون، وهي التحفُّظ الوحيد الذي قَبِله، بأن يعرض مقاله على كامي قبل صدوره، وسأله إن كان قد وافَق أم لا.»

تضمَّن مقال جينسون الذي يقع في إحدى وعشرين صفحة دراسةً نقدية لكتاب «الإنسان المتمرد»، ويلتزم بموضوعَين رئيسيَّين: الهجوم على المؤلف والكتاب. والملاحَظ أن جينسون حتى قبل أن يلمس جوهر الكتاب، شرع ينتقد الرجل وكتاباته السابقة، واستقبال الناس للكتاب وأسلوبه. وهنا فقط بدأ يُهدِّئ من لهجته الساخرة لينتقد أفكارَ كامي. وعزا بعد ذلك لهجته الساخرة إلى رغبته في الحد من شهرة كامي كقدِّيس أخلاقي. وإذا كان كامي اعتاد بذل جهد صريح لحثِّ سارتر على الحوار، إلا أن جينسون، على العكس من ذلك، عامَل كامي كخصمٍ يقوم بتشريح حُججه والكشف عن أخطائه. وتعمَّد جينسون الخشونة في حديثه عن كامي وحرمان خصمه السياسي والفكري من أيِّ أساسٍ يَرتكز عليه؛ لأنه مُخطئ أولًا وأخيرًا، وكان هذا هو العنف.

لحظ قرَّاء جينسون أول ما لحظوا عنوان العرض النقدي، وتضمَّن هجاءً لاذعًا لكامي: «ألبير كامي أو الروح المتمرِّد». وإذ قرن جينسون «الإنسان المتمرِّد» ﺑ «الروح المتمرِّد»، فإنه بهذه الثورية أضاف معنًى آخَر إلى «الروح المتمرِّد»؛ أي «المتمرِّد». وهذه إشارة ضمنية إلى «الروح الجميل» عند هيغل في «ظاهراتية (فينومينولوجيا) الروح»، التي تستكشِف كيف أن الجهد المبذول للبقاء نقيًّا يتحوَّل ضد ذاته. وسبق أن تحدَّث كامي نفسه عن هيغل الذي استهلَّ الهجوم في العصر الحديث ضد النقاء «بشجبه الروح الجميل والمواقف العقيمة». وبينما كان جينسون ثم من بعده سارتر يدافِعان عن تفاني «الأرواح الجميلة»، فإنهما يُبدِيان ازدراءَهما لكامي لهذا السبب. وعرف جينسون كيف يَلفِت الأنظار من خلال عنوان المقال إلى أن كامي هو المستهدَف.

تمثِّل السخرية النغمة المهيمِنة على المقال. بدأ جينسون بالإشارة إلى العروض السابقة للكتاب، وأخذ يَقرع كامي للمديح الذي أزجاه اليمين على «الإنسان المتمرِّد». وانتقل بعد ذلك ليُقرَّ بأن الكتاب لقيَ استقبالًا حسنًا أيضًا لدى كثيرين من أهل اليسار، ويرى أن هذا النجاح الواسع راجِع إلى ما يتَّسم به الكتاب من «ضَعْف فكري» و«إنسانية مُبهمة» و«قدر من تفكُّك الفكر، مما يجعله في النهاية مِطواعًا وقابلًا للتشكُّل إلى ما لا نهاية وقادرًا على استقبال أشكال متباينة كثيرة». ويبدأ جينسون ذلك بانتقاد الكتاب لأنه مكتوب بأسلوب جيد. ويرى جينسون أن كامي خان مبدأه الذي يقول: «الأسلوب العظيم هو مطابقة أسلوبية خفية»؛ وذلك بابتداع أسلوب «مفرط في الجمال، ومفرط في التأثير، ومفرط في الثقة بالنفس». ويتراجع جينسون عن مديحه السابق العام ١٩٤٧م، ويهاجم الآن «الطاعون» لما فيه من «أخلاق الصليب الأحمر»، أو أخلاق العمل الخيري.

ويلخِّص جينسون الموضوعات الرئيسية عند كامي، ويُوضِّح أن كامي إذ يرى الثورات هدفها «تأليه الإنسان»، إنما يرفض في الواقع «أي دور للتاريخ والاقتصاد»، ويتحوَّل الموجز الساخر إلى رؤية نقدية:

«يَسيرٌ على المرء أن يرى أن هذا المفهوم «الغريب» عن التاريخ يُفضي إلى قمعه من حيث هو كذلك؛ لأنه يُلغي كلَّ المواقف العيانية الملموسة بغية الوصول إلى حوار خالص مع الأفكار؛ إذ من ناحية، يحتجُّ الميتافيزيقي ضد المعاناة والموت؛ ومن ناحية أخرى، الغواية الميتافيزيقية المُكافئة تجاه القوة المطلقة. يمثِّل الأول التمرُّد الحقيقي ويمثِّل الثاني انحرافَه الثوري. وعند هذا المستوى الرفيع من الفكر يمكِن للنزاعات اللاهوتية أن تظهر يقينًا باعتبارها حاسمة. بيْدَ أن هذه ليست هي على وجه اليقين حالة الوجود البسيط للناس الذين يمكِن أن يكونوا، على سبيل المثال، جوعى، والذين قد يُعِدُّون أنفُسهم، تأسيسًا على منطقهم المتدنِّي، من أجل النضال ضد المسئولين عن جوعهم. وهكذا تؤكِّد كل الشواهد أن كامي لا يؤمن بالبنى التحتية».

إن كامي بدلًا من أن يَدرس «الهياكل العيانية للفعل الثوري»، والتي تتضمَّن طريقة انبثاق وتطوُّر الثورة، وكذا «السلوكيات التي تتألَّف منها»؛ نراه يعطي «الأولوية المطلَقة للأيديولوجيات، وينحو باللائمة على المفكِّرين وأفكارهم لمسئوليتهم عن كل ما حدث من أخطاء. ويقول جينسون وبناءً على هذا يخصِّص كامي ربعَ كتابه لتحليل الثورات الحديثة»، وذلك بدراسة العقد الاجتماعي عند روسو، وخطب سان جوست، و«فينومينولوجيا الروح» عند هيغل، والإيمان بعقيدة عدمية فوضوية إرهابية لدى مفكِّري الفاشية وعند لينين والنظرية الستالينية. «أليس هذا التاريخ الزائف لثورات فاشلة ما هو إلا تاريخ فاشل لأيديولوجيات ثورية؟»

وينبني نقد جينسون على أساس فهمه أن كامي يُدِين الثورات مقدَّمًا بسبب نواقص فكرية يزعم أنها من مكوِّناتها، أو لنَقُل بعبارة أخرى إنَّ كامي يبشِّر بنوع من النزعات الصوفية التي تدعو إلى التأمل والسكينة. وبعد أن رفض جينسون تفسير كامي الخاطئ لفِكر هيغل، يمضي قُدمًا لينتقد جدوى الثناء الذي يُزجيه كامي إلى النزعة النقابية الثورية باعتبارها الموقفَ السياسي الأصيل الفعَّال الوحيد. وهكذا يدعو كامي إلى «تمرُّد خانع» مقابل «التمرُّد المظفَّر» الذي يجسِّده الاتحاد السوفييتي. ويهاجِم جينسون ما يعتقِد أنه عبادة الانهزامية السياسية — تأكيد كامي أن الموقف السياسي المشروع الوحيد هو ذلك الموقف المقرَّر فشله مقدَّمًا في معاناة سيزيف. ويرد جينسون متحدِّيًا قائلًا إن الحزب الشيوعي يتحدَّث باسم الطبقة العاملة؛ ومن ثَم فإن رفض هذا تعسُّفًا يعني القول بحتمية الفشل.

ويذهب جينسون إلى أن الدافع وراء هذا هو رغبة كامي «أن يكون التاريخ هو الفاعل المنجز»؛ إذ إن المُطلَق المفتقَد هو الذي يحتلُّ تفكير كامي: «إنه يريد فقط أن يتحدَّاه، وأن يظلَّ بالنسبة لهذا السيد الأعظم، العبدَ المتمرِّد إلى الأبد.» بيْدَ أن هذا المُطلَق ودراما العبثية عنه تجعل «من العسير النظر بجدية إلى المظالم النسبية؛ ومن ثَم لا جدوى من ادِّعاء معالجتها؛ إذ سيموت الأطفال دائمًا ظلمًا، حتى وإن كانوا داخل مجتمع كامل.» ويقول جينسون في هذا الصدد: «ليس من سبيلٍ لإنكارِ أن تمرُّد كامي هو أسلوب راديكالي لرفض التاريخ» حين يكون التمرد مميزًا بحدوده وقيوده، بينما التاريخ هو عين مركز «الغلو»، والفعل الساخر والتدمير والعبودية بغير حدود وسلسلة لا نهايةَ لها من «التشنُّجات» والغمِّ الجمعي المَهول.

استشعر جينسون قلقًا بسبب موقف كامي ضد الثورة؛ ذلك لأنَّ الثورة غالبًا ما تكون أمل الشعب الوحيد؛ ومن ثم فإنَّ إسقاط الثورة مقدمًا يجعل مصيرهم رهن احتجاجات لا طائلَ منها. إن الثورات، سواء اقترحها أم لم يَقترحها مثقفون يرَون في أنفسهم الكمال، إنما تتمثَّل مجسَّدة عِيانيًّا عند حرمان الشعب من حاجاته الحيوية، ويدفعهم هذا إلى التجمع في رابطة واحدة للإطاحة بمَن هم في السلطة، ويغيِّرون مواقفهم جذريًّا. نعم، ربما يأتي هذا العمل بنتائج مرذولة، ولكن هذه هي كلفة التغيير الاجتماعي، خاصةً إذا عرفنا القوى الهائلة المتاحة لمَن هم في السلطة.

ولقد كان الاختلاف الفلسفي والسياسي بين جينسون وكامي اختلافًا شرسًا، غير أنه كفَّ عن إخراج كامي من زمرة اليسار أو استخدام لغة الخيانة التي ربما يختارها آخَرون ممن تتلمَذوا على السِّجالات التي غرسَتها الثورة البلشفية. وحقيقةُ الأمر أن هذا العرض النقدي المطوَّل والسلبي ظهَر في صحيفة أخرى — مثل مجلة «أسبري»، صوت رفاق اليسار الكاثوليكي — لأنه بمنزلة نقطة تحوُّل في الحياة الفكرية الفرنسية، ولكن ظهوره في صحيفة سارتر يعني الكثير. وتتمثَّل الدراما الرئيسية لهذا المقال في الكيفية التي قرأ بها كامي المقال — أو كيف كان عليه أن يقرأه. وإذا سلَّمنا بمحاوَلته الفجَّة ولكن المخلِصة لزجِّ سارتر في المناقَشة، وإذا سلَّمنا بتاريخهما الشخصي، فإنَّ كامي كان لا بدَّ أن يغتاظ؛ إذ تحدَّث مع سارتر وبوفوار لتأسيس صحيفة دُعي هو ليكون واحدًا من هيئة التحرير الأصليِّين، ونشرَت له فصلًا من «الإنسان المتمرِّد» قبل ثمانية أشهر فقط من تاريخ نشر العرض النَّقدي الذي كتبه جينسون. وبعيدًا عن كل هذه الاعتبارات، فقد كان اسم كامي مثبتًا على رأس الصفحة. وأكثر ما يحيِّر أن سارتر لم يكُن فقط لزامًا ألَّا يقع عليه الاختيار لكتابة العرض النقدي لكتاب «الإنسان المتمرِّد»، بل إنه اختار للمهمة عضوًا من صغار المحرِّرين في مجلة «الأزمنة الحديثة»، ولم يكُن حتى عضوًا ضمن هيئة التحرير — مجرَّد تابع يشغل وظيفة لم يشغلها كامي أبدًا.

وطبيعيٌّ أنه في ضوء كبريائه الخاصة وشكوكه الذاتية المُضمَرة، كان لا بدَّ من أن يأخذ كامي ما حدَث على اعتبارِ أنه جهد متعمَّد لإذلاله، وبرهان أمام الجميع لكي يرَوا أن أفكاره لم تكن حتى لتستحق اهتمام سارتر نفسه. إن مقالًا يتضمَّن تقديرًا كاملًا يكتبه محرِّر صغير ربما ما كان ليروق له — هذا على الرغم من أن «الإنسان المتمرِّد» سبَق أن ناقشه عدد من النقَّاد المُهمِّين. وإن مكانة كامي التي حقَّقها بشق النفس، ربما كانت تجعله في ظروف أخرى متعاطفًا مع شابٍّ مغمور يشترك معه في حوار. لكن ربما تمثَّلت أكبر الإهانات في أنه هو شخصيًّا غير معروف داخل سياق مجلة «الأزمنة الحديثة». كذلك حقيقة أن شابًّا صغيرًا انتقده بدلًا من سارتر لا تدلُّ إلا على شيء واحد، وهو رفض سارتر لكامي. ويبدو — على الأرجح — أن الملاحظات الساخرة بشكل شخصي — «الروح المتمرِّدة» و«الروح الجميلة»، و«لم يَقُم كامي بأيِّ دور»، و«أخلاق الصليب الأحمر» — أثارت غضب كامي لأنها جاءت على لسان معاوِن صغير من مُعاوِني سارتر. لهذه الأسباب جميعًا لم يقرأ كامي المقالَ شأن غيره الذي أعلَن فيه سارتر القطيعة بينهما.

•••

ويحمل ردُّ كامي المؤلَّف من سبع عشرة صفحة، والمؤرَّخ في ٣٠ يونيو ۱۹٥۲م، والردُّ موجَّه إلى «السيد رئيس التحرير»، دون أن يذكر اسم جينسون ولو مرةً واحدة. وعلى الرغم من أن كامي أشار إلى جينسون في المسوَّدة الأولى، فإنه شطب على الاسم بعد ذلك. وبدلًا من هذا استهلَّ رسالته بالإشارة إلى «المقال الذي خصَّتني به صحيفتكم.» وكان كامي يذكر في تبادلٍ عبارةَ «معاوِنكم» وعبارة «مقالكم»، وتَعامَل مع مقال جينسون وكأنه مقال كتَبه سارتر؛ لأنه على يقين من أن سارتر «متضامِن» مع موقف الكاتب. وحيث إنه صحافي، فقد عاد إلى البروتوكول الصحافي، واعتبر رئيس التحرير مسئولًا عن المقال وعن الآراء الواردة فيه؛ وهذه حيلة لا تنطوي على رئيس تحرير صحيفة مثل سارتر؛ ذلك لأنَّ المساهمين في الكتابة لهم حقُّ التعبير بحرية ومن دون تدخُّل من جانب هيئة التحرير. لكن كامي إذ قرَّر توجيهَ خطابه مباشَرةً إلى سارتر، فإنه بذلك أنهى جهودَه لتجنُّب المواجَهة.

وعبَّر كامي عن ثورة غضبه إزاء ما اعتبره تشويهًا فاضحًا ومنافيًا للذوق، لشخصه ولحياته ولكلِّ ما أراد أن يقوله في «الإنسان المتمرِّد». لقد اتَّهمَه الناقد بأنه يعيش فوق السحاب، بعيدًا عن أي التزام، وبالكتابة على نحو يُنافي أيَّ دليل ومعاد للتاريخ، ويعيش منفصلًا عن الواقع، وأنه مِثالي لا يعرف للتوبة والندم طريقًا. وانقلب كامي على الصحيفة بعد سبع سنوات من العلاقات الدافئة معها:

«أخيرًا، لا أحدَ سوى صحيفتكم سيُراوِده التفكير في الطعن في الدعوى بأنه إذا كان ثَمَّة تطوُّر قد حدث من رواية «الغريب» إلى «الطاعون»، فإنَّ هذا التطور مضى في طريق التضامُن والمشاركة. وإن الزعم بغير هذا كذب أو حلم خيال. لكن كيف يتسنَّى للمرء أن يعمل على نحو مختلف، إذا كان عليه أن يثبِت، في منافاة لكل الشواهد والبيِّنات، أنني منفصل عن الواقع والتاريخ؟»

تتضمَّن هذه المُلاحظة القطيعة مع سارتر، كما عبَّر كامي عن إحباطه لتفسير موقفه وفكره على نحو خاطئ؛ ومن ثَم تصميمه على التحكم في الطريقة التي يتعيَّن تفسيره بها، واستعداده لئلَّا يرى أي قراءة غير مجاملة قراءة نابعة من عدم أهلية أو سوء طوية. وتمثِّل رسالته نموذجًا لعادته في تقديم ردود استباقية إلى كلِّ مَن يخالفه الرأي. ونلحظ أنه كرَّر عشرات المرات، بل أبدى أسفه لأن «الأزمنة الحديثة» أغفلَت حججه الواضحة والظاهرة للعِيان.

ولقد أثار جينسون قضية مشروعة: هل كان كامي يضع نُصب عينَيه أفكارًا ما بشأن استبعاد عمليات تاريخية أخرى، وما هو موقف الكتاب من هذا؟ حاوَل كامي أن يجعل من «الأزمنة الحديثة» القضيةَ المشار إليها.

«قوام منهج معاوِنك يتمثَّل في القول … إنني أنكِر الدور المحوري للعوامل الاقتصادية، وإنني «بوضوح» (وهذه لا ريبَ مسألةُ وضوحٍ ذاتي باطني) لا أُومِن بالبِنى التحتية. ولكن لماذا نقَد كتابًا إذا قرَّر المرء ألَّا يهتمَّ بقراءة ما تضمَّنه؟ هذا الإجراء قسمة مطرَّدة وثابتة في مقالك، ويجهض مقدمًا كلَّ إمكان للمناقشة. إنني حين أقرِّر أن السماء زرقاء، وأنت تُقوِّلني إنني أظنُّ أنها سوداء، فلن يكون أمامي من خيار سوى أن أعترف بجنوني أو أن أعلن أن مُحاوِري أصم. ولحُسن الحظ أن حقيقة وضع السماء باقية على حالها بقاءَ الفرضية موضوع نقاشنا في هذه الحالة. ولهذا يتعيَّن عليَّ دراسة الأسباب التي ساقها معاوِنكم لكي أقرِّر إن كنت مجنونًا أو أنه هو أصمُّ.»

ويرى كامي أن «المساعد» كشَف عن دافِعه لدخول هذه المعركة:

«في الحقيقة أنه ليس أصمَّ بقدر ما هو، على ما يبدو، عازفٌ عن السمع. إن فرضيته بسيطة: إن ما سمَّيته أزرق هو أسود. ويعتمد مقاله في جوهره على مناقشة موقف لم يحدُث أنني لم أدافع عنه أصلًا، بل لم أناقِشه على الإطلاق أو أنتقده في كتابي. هكذا شاء له أن يوجِزه على الرغم من أن «الإنسان المتمرِّد» يُكذبه: كل شر قائم في التاريخ، وكل خير خارجه. هنا أرى لزامًا أن أحتجَّ وأعترض وأقول لك في هدوء إن مثل هذه الحِيَل غير كريمة. إن ناقدًا من المفترَض أنه أهل للنقد، يتحدَّث على صفحات صحيفة من أهم صحف هذا البلد، يَنبري دون سبب أو دليل لتقديم موضوع للنقاش على أنه الفرضية الأساسية لكتاب، بينما الكتاب يخصِّص جزءًا كاملًا لدحْضِها. ومثل هذا الوضع يعطي فكرة مُثيرة للقرف عن مدى احتقار الأمانة الفكرية اليوم. ويجب أن نفكِّر فيمَن سيقرءون المقال وليس لديهم الميل أو الوقت لشراء الكتاب؛ إذ سيعتبرون أنفُسهم قد أُحِيطوا علمًا بما فيه الكفاية عن الكتاب. وبصرف النظر عن هذا كله، فإنهم سيكونون مخدوعين، ومقالكم هو الذي كذَب عليهم.»

هذا بيان عام إلى الصديق الذي اعتقد أنه قطَع علاقته به بنشره لهذا العرض النقدي. ونراه، بشكلٍ مباشر أكثر وكأنه يخصُّ سارتر بالحديث، يتَّهم المحرِّرين بعدم الرغبة في الكشف عن أسباب قلقهم بشأن «مواجَهة» معه. ويشير كامي أكثر من مرة في هذه الرسالة إلى ما كان يأمل أن يجده في مجلة «الأزمنة الحديثة»: «إن ناقدًا حكيمًا وأمينًا ما كان له أن يشوِّه كتابه، لكنه على الأصح سوف يركِّز على «فرضيَّتي الحقيقية: وأعني بها أن أي إنسان ينشد خدمة التاريخ لخاطر التاريخ في ذاته سوف ينتهي إلى العدمية». وتعني عبارة «لخاطر التاريخ في ذاته» بوضوح التاريخ بمعزل عن المعايير والقِيم. وطبيعي أن مثل هذا الناقد سيكون قد «حاوَل البرهنة على أن التاريخ في وسعه مستقلًّا أن يهيِّئ القِيم التي ليست هي حصرًا القِيم الفاعلة، أو بدلًا من هذا حاول أن يثبت أن في وسع المرء أن يعمل في سياق التاريخ دون التماس أيِّ قيم». وغنيٌّ عن البيان أن مثل هذه البراهين عسيرة، ولكن «هذا الجهد سيكون قد أسهَمَ في التقدُّم المشترك لنا جميعًا، وأقول، بأمانة، إنني توقَّعت ذلك لكم، بيْدَ أنني أخطأت».»

واستطرد كامي في شكواه من أنه لقي معامَلة سيئة للغاية، واستطرد في محاوَلته تصحيح السجل. وتضمُّ الفقرة قبل الأخيرة من الرسالة تعليقًا آخر مباشرًا وشخصيًّا على سارتر: «بدأت أشعر بقليل من السأم إذ أرى نفسي — بل وما هو أكثر أن أرى المُناضِلين السابقين الذين لم يرفضوا أبدًا صراعات عصرهم — أتلقَّى دروسًا بلا نهاية عن الفعالية من نقَّاد لم يفعلوا أي شيء سوى أن يُديروا مقعدهم في المسرح في اتجاه التاريخ.» ولنتذكَّر هنا كلمات كامي عندما أيقَظ صديقه النائم الذي كان «يشغل» الكوميدي فرانسيز أثناء ثورة أغسطس ١٩٤٤م؛ إذ قال له: «لقد حوَّلت مقعدك في المسرح في اتجاه التاريخ.» وها هو كامي الآن يذكِّر سارتر بعلاقتهما الأصلية، وبسجلِّه مقارنًا بسجلِّ سارتر. إنه يذكِّرنا أيضًا بمدى الصعوبة التي واجهَت سارتر في تحوُّله إلى شخصٍ ملتزم. ويذكر سارتر أين كانت الأمور وقتَما كان كامي رئيس تحرير ويعهد إلى سارتر بكتابة مقالات لصحيفته. مَن كان خارج التاريخ آنذاك؟ ومع هذا يحاول كامي كبح جماح نفسه. وطبيعي أن الوحيدين الذين فهموا هذه الإشارة هم سارتر نفسه وحفنة من الناس الذين عرفوا ما حدث.

•••

كان كامي على صواب: جينسون أسقط حجته الرئيسية، لكن القارئ يمكِنه أن يُدرك أن ثَمَّة مراوَغة مدروسة على كلا الجانبَين، بدءًا من «الإنسان المتمرِّد»، وبالاشتراك مع جينسون. ونسأل في النهاية: مَن هو الهدف الرئيسي لكتاب كامي؟ كتب كامي ضد مَن يبرِّرون القتل، المثقَّفين المتواطئين مع الشيوعية، أولئك الذين صاغوا المبرِّرات العقلية لذلك لبقية العالم. وإذا كان سارتر قد صرَّح الآن فقط عن مكنون نفسه، فإنه هو وصحيفته لا بد — يقينًا — من أنهم يتَّجهون في هذا المنحى جميعًا. ونعرف أن كامي شرع بعد التحرير مباشَرة في انتقاد نزوع سارتر إلى أن يوثِّق فكره تاريخيًّا، وقضى سنوات يميِّز نفسَه عن سارتر، ثم أعرب عن تحذيره الذي لم يلحظه أحد. وانصبَّت دراساتهما بين العامَين ١٩٤٦م و١٩٤٧م على فكرتَين: العنف والالتزام، واحتلَّت هاتان الفكرتان محور تطوُّر كلٍّ منهما على مدى السنوات التي انتهت بهما إلى القطيعة.

بعد أن اتخذ كامي لنفسه موقفًا مُتعمدًا وشاذًّا عن المألوف في الحروب السياسية الدائرة آنذاك، ربما فهم على الأرجح أن المختلفين معه سوف يُشعِلون حربًا ضده، ولن يتعاملوا معه كصديق. بيْدَ أن هذا الفهم يعني أنهم سيرون حُجته من منظورهم هم وليس من منظوره هو، وهذا هو ما رفض أن يفعله. وهكذا لدينا المشهد الحزين الذي عبَّر عنه كامي بصيحته «سخف»، وخصَّص النصف الأول من ردِّه لمواجَهة اتِّهام يفيد أن مجلة «الأزمنة الحديثة» شوَّهَت أفكاره.

والآن يحاوِل كامي في منتصَف رسالته أن يقلب الطاولة على سارتر و«الأزمنة الحديثة»، ويبدأ الحديث مباشَرةً عن المحظور — دعم سارتر للشيوعية — ويتحوَّل نقده للعرض إلى نقد لسارتر. ويعود إلى تعقيبه الموجز في نهاية «الإنسان المتمرِّد»، وكذا إلى ملاحظاته عن الوجودية منذ العام ١٩٤٥م، وهنا يتحدَّث كامي بصراحة كاملة ومن دون موارَبة ليقول لسارتر ما في تفكيره وفي سياسته.

ونعرف أن سارتر وصحيفته تبنَّيا منظورًا شيوعيًّا، وإن رفَضا إثبات ذلك بصدق وأمانة: «إن كل ما ورد في مقالك يبدو وكأنك تدافع عن الماركسية كعقيدة ضِمنية.» وها هو العرض «على نقيض مواقفك السابقة» يُغفِل كلَّ التقاليد الثورية غير الماركسية؛ ومن ثم يعتبر «أن ليس هناك حلٌّ ثالث، ولا بديل عن الوضع القائم أو الاشتراكية القيصرية». ولم يكُن موضوعًا في الاعتبار إمكانُ نقدِ الماركسية، أو القول بأنها باتت موضة قديمة شأن أي أبنية فوقية أخرى، وكذلك بالنسبة إلى كل الجهد المبذول في «الإنسان المتمرِّد» بهدف استكشاف الروابط بين ثورات القرن العشرين والإرهاب. و«على أيِّ حال، إذا كان من رأي المرء أن الاشتراكية الاستبدادية هي التجربة الثورية الرئيسية في عصرنا، فإنه يبدو لي أن من الصعوبة بمكانٍ التوافقَ مع الإرهاب الذي تفترضه مقدمًا خاصة اليوم — وكذا، على سبيل المثال … مع حقيقة معسكرات الاعتقال». ويقول كامي إنه سيجد الأمر طبيعيًّا، بل وشجاعًا، إذا ما واجَه المشكلة صراحةً، «إنك تبرِّر وجود هذه المعسكرات. وإن ما يبدو غريبًا ويكشف حقيقةَ قلقك أنك لم تعلِّق على هذا أبدًا أثناء مناقشة كتابي، واكتفيت باتهامي أنني لم أُصِب كبدَ الحقيقة.» وكان كامي يرى أن المعسكرات هي كبد الحقيقة وجوهر القضية. ويُؤكد، في معرض دعوته إلى الثورة، أن العرض النقدي للكتاب «يقول، كما يبدو واضحًا، نعم لمذهب، بينما يلتزم الصمت إزاء السياسات المترتبة عليه».

ولم يرَ كامي أيَّ التزام بالحرية في تحوُّل سارتر تجاه الماركسية، بل تطلعًا للخضوع. إن الوجودية، خاصةً أن نقطة انطلاقها هي الحرية الإنسانية، كانت على نقيض الفكرة الماركسية بشأن الضرورة التاريخية. ولا ريب في أنَّ تحرير البشر من كل أنواع العوائق أمر يتناقض مع الزجِّ بهم في السجون باسم الضرورة التاريخية. و«حقيقة الأمر أنَّ مُعاوِنك يودُّ لو يتمرَّد الناس ضدَّ كل شيء فيما عدا الحزب والدولة الشيوعية». ويعود هذا بكامي إلى عزوف العرض النقدي عن تناول حُجته:

«ليس عبثًا أن يعجز مقالك عن تناول حقيقةِ نص؛ ومن ثمَّ يُضطرُّ، لكي ينتقده، إلى إبداله بغيره. وليس عبثًا وقد ووجهت بكتاب مهموم تمامًا بالموقف السياسي في أوروبا في العام ١٩٥٠م، فإذا بمقالك لا يُشير إلى قضايا الساعة؛ ذلك لأنه لكي تشير إليها سيكون لزامًا التحدث صراحة. وعلى الرغم من أن من العسير على كاتبك اتخاذ موقف ضد العنصرية والاستعمار، فإن موقفه المتناقِض يَحُول دونه والصراحة الواضحة عن الستالينية.»

الفكرة الرئيسية في حُجة كامي واضحة: إنها الوجودية، كفلسفة حرية، وقد تبنَّت الضرورة وتواطَأت مع الستالينية. انبرى سارتر في هذه الآونة وسانَد الشيوعية صراحةً، وحوَّل كامي صراحةً كلَّ حُجته ودراسته في «الإنسان المتمرِّد» ضد سارتر و«الأزمنة الحديثة». ونلحَظ في رده على العرض النقدي الجمع بين شكوى كاتبٍ مُغتمٍّ بسبب إغفال أفكاره ورؤية عدوانية. وإذ أراد كامي أن يعيد تأكيد أفكاره، عمد في شجاعة إلى تصعيد الحوار.

•••

«عزيزي كامي، لم تكن صداقتنا سهلة، وإن كنت سأفقدها؛ إذ أنهيتها اليوم …» يوضِّح سارتر منذ البداية أن رد كامي، وليس العرض النقدي الذي كتَبه جينسون، هو المَلُوم بشأن إنهاء الصداقة بينهما. ولكن لهجة المحادَثة المباشِرة في رسالة سارتر، في مقابل حديث كامي الفظ عن بُعد، تشير إلى أنه هو، على الأقل، سيستخدم الجانب الشخصي لتبرير القطيعة؛ لذلك فإنه من اللحظة التي أمسَك فيها بالقلم، اعتاد قارئ «الأزمنة الحديثة» على مشهد مثير للاهتمام، حيث يجري الحسم بصورة عامة وعلنية لحسابات شخصية بين صديق سابق وآخَر، وأسهَم جينسون هو الآخَر في ردِّ كتبه من دون أن يطَّلع على رد سارتر، لكن نشر هجوم من ثلاثين صفحة، علاوة على عشرين صفحة أخرى كتَبها سارتر يمثِّل كمًّا فوق الطاقة. وأعطى الاثنان انطباعًا بأن «الأزمنة الحديثة» بصدد هجمة شاملة ضد شخص كامي وضد أفكاره، لكن القليلين هم مَن لحظوا مقال جينسون، ليس فقط لأنه زيادة على اللازم، لكن أيضًا لأن القطيعة بين الصديقَين جعلت كلَّ شيء آخَر في الظل.

يوجِّه سارتر نقدًا شديد القسوة، ويكشف أمام الرأي العام وبالكامل مَظانَّ الضَّعف لدى صديقه السابق. لم يشأ سارتر أن يُمسِك عن شيء، على نقيض كامي الذي كبَح جِماحَ نفسه:

«كم من المؤسِف أن تضعني عن عمدٍ أمام مُحاكَمة، وبمثل هذه اللهجة القبيحة، بحيث أصبحت عاجزًا عن الاستمرار في التزام الصمت من دون أن أفقد ماء وجهي. لذلك سوف أُجِيبك من دون غضب، ولكن في إسهاب (لأول مرة منذ عرفتك). إنَّ جمعك بين تصوُّرات كئيبة وموقف هشٍّ حالَ دائمًا دونَ الناس واطِّلاعك على الحقيقة من دون تجميل أو موارَبة. والنتيجة أنك أصبحتَ ضحية زهو أخرق، يُخفِي مشكلاتك التي تطوي عليها صدرك، والتي أظن أنك قد تُسمِّيها اعتدالًا متوسطيًّا. وهذا ما سوف يقوله لك شخصٌ ما، إن آجلًا أو عاجلًا، ولن يختلف عما قد أقوله بنفسي. ولكن لا تخَف، لن أُحاوِل تلوين صورتك مثلما أنني لا أريد أن أتعرَّض لما أضفته من تأنيبٍ مجاني على شخص جينسون. سوف أتحدَّث عن رسالتك، وعنها فقط، من خلال بِضْع إشارات إلى كتُبك إذا اقتضَت الضرورة.»

بعد ذلك بدأ سارتر يسلخ كامي بأشد الكلمات مساسًا بشخصِه. وأخذ يشرح بذكاء وخُبث مُعاداة كامي للشيوعية باعتبارها تهرُّبًا من النضج الشخصي ورفضًا للحياة بكل ما تقتضيه الحياة في إطار تغيير العالم الواقعي وما يَفرضه. وأطلق سارتر لنفسه العِنان بشكل محسوب، وقام بدور مُبهر ومثير للقلق. وإن ردَّ سارتر الذي تجاوَز كلَّ حدود العنف لا يبرِّره شيء مما حدث قبل ذلك.

وأراد سارتر في أكتوبر ١٩٥١م أن يحمي الصداقة ويتجنَّب مواجَهة مرذولة. ما الذي حدث بحلول صيف العام ١٩٥٢م؟ هل هاجَم كامي لأنه يرى الآن مَن يعادون الشيوعية «كلابًا»؟ يقينًا إن تحوُّل سارتر في مُعتقَده ما كان له أن يَقوده إلى إعادة كاملة لتحديد صديقِه إذا كان كامي لم يقطع حبل الصداقة، مما يسمح لسارتر أن يحكم عليه بأسلوب سياسي خالص. ولعلَّ سارتر ظلَّ محجِمًا حتى هذه اللحظة، نظرًا لنُزوع كامي عادةً إلى أن يفقد أعصابه ويُلقي مواعظ أخلاقية — ليلعبَ دور «سان جوست» لسنوات ما بعد الحرب. ولكن أما وقد أعتَقَه كامي من التزامات الصداقة، مثلَما أعتَقَه بشكل غير مباشِر في اختياره جينسون ناقدًا للكتاب، فقد أصبح الآن قادرًا على التعامل مع كامي «بموضوعية»، كشخص قطَع صلتَه به ولم يكُن لا أكثر ولا أقل من مناهِض للشيوعية. وهكذا أصبح سارتر ولأول مرة حرًّا ليقول لكامي كلَّ ما يجُول بخاطره عنه.

وهكذا استخدم، وهو سعيد في داخله، الصداقة كسلاح في نزاعه. زالت القيود التي تَفرضها الصداقة، وبذا أصبح في وسع سارتر الآن أن يفجِّر كل ما استثاره وضايَقه من كامي على مدى السنوات العشر الماضية، سواء من حيث سلوكه أو كتاباته، وأن يفعل هذا لكي يشوِّه سمعته. كل هذا لا لشيء سوى لأن رد كامي على نقد جينسون كشَف السمات نفسها التي تتَّسم بالنزَق والتقوى والالتزام بالقِيم، وهي السمات التي أثارَت حنق سارتر وهما أصدقاء. هذا علاوة على ما اعتبره سارتر من مَظاهر الضحالة الفكرية والكسل عند كامي.

وإنَّ أشد ما اعترض عليه سارتر هو أسلوب كامي في التعامل مع جينسون. ومَن يعرف سارتر لن يدهش لذلك. وإذا كانت ثَمَّة عداوة استقرت في نفس سارتر، فإنها ستعود بنا إلى كتابَيه اللذَين قدَّم لهما كامي عرضًا نقديًّا في العامَين ۱۹۳۸م و١٩۳۹م. وتجلَّى هذا في نفوره من أسلوب البشر في تعامُلهم مع الآخَرين كأشياء، وأن يدَّعوا كذبًا لأنفسهم حقوقًا على غيرهم. وتبدو هذه الغطرسة الاستقلالية في طريقة صناعة وتنشئة الإنسان الفاشي التي عرضها في «طفولة زعيم»، وكذا عند الكتبي الكورسيكي في «الغثيان». وتبدو كذلك في تفسيره لمُعاداة السامية في العام ١٩٤٦م، ثم للاستعمار بعد ذلك. وتمثل سبب كراهيته للتعذيب ورؤيته للمعذَّبين بأنهم أشخاص لا سبيلَ إلى تقويمهم وإصلاحهم. وبلَغَ تصميمه على مكافَحة هذا السلوك حدًّا جعله يمثِّل لُبَّ فلسفته. وإن إغفاله جينسون مع مهاجَمته له يعني معامَلته «كموضوع» وشخص ميت. واتَّهم سارتر كامي بأنه تحدَّث عنه «وكأنه سلطانية حساء أو آلة مندولين، ولم يتحدَّث أبدًا إليه». ما معنى هذا إلا أن كامي وضَع جينسون خارج الإنسانية؟ ومع افتراضِ أن مِن حقِّ كامي ألَّا يعامِل جينسون كزميل، لكنه نظر إليه بتعالٍ أخلاقي وصَفه سارتر بأنه «عنصري»: «هل نتعامَل هنا على أساسٍ مِن عنصرية الجمال الأخلاقي؟ أنت لك رُوح جميلة وهو رُوح قبيحة؛ ومن ثَمَّ فإن التواصُل بين الاثنَين مستحيل.»

هذا الهجوم على معنى «الروح الجميلة» للسموِّ الأخلاقي ينحرف تمامًا عمَّا اتَّسم به كلٌّ مِن نَقدِ جينسون ورسالةِ كامي من تحفُّظ وتلميح. وأشار سارتر قرب بداية ردِّه إلى استراتيجية: «كم آثرت أن يمضي عراكنا الراهن مُستقيمًا إلى قلب الموضوع من دون خلط مع الرائحة الكريهة للغرور الجريح!» وقضى سارتر بهذه الكلمات الجارحة على كلِّ إمكانٍ للتراجُع، ووجَّه الحديثَ مباشَرةً إلى كامي، وأشار — على عكس كامي — إلى أنه سوف يسمِّي الأشياء بأسمائها، مما يعني فضح نوازع ودوافع كامي الشخصية. وطبيعي أن إضفاء الطابع الشخصي بهذه الصورة له معنًى سياسي، وهو أن كامي أصبح مُعادِيًا للثورة: «تؤكِّد رسالتك — بما لا يَدَع مجالًا للشك، إذا كان لا بدَّ من أن أتحدَّث إليك بالأسلوب ذاته الذي يتحدَّث به عدو الشيوعية عن الاتحاد السوفييتي — أنه، للأسف، الأسلوب عينه الذي تتحدَّث به، وأنك أنت الذي صغتَ لنفسك انقلابَك، أو الحدث الثرميدوري Thermidor١
ويُمثِّل النصف الأول من الرسالة هجومًا خبيثًا ضد كامي: «منحتَنا شرف المساهَمة في هذا العدد من «الأزمنة الحديثة»، ولكنَّك حملتَ معك أسباب الإعجاب.» ذلك أن كامي عرَض مُتباهيًا إشارات إلى فقره السابق، مما جعل «المُحلَّفين يبكون». وسدَّد سارتر سهامه ضد أسلوب كامي بعد أن اتهمه بأنه وضَع نفسه خارج دائرة الحوار والكتابة بأسلوب الوعظ والإرشاد، وأنه يضع نفسه فوق النقد بالحديث المُخزي عن موت المقاوَمة واستخدام أساليب الترويع والابتزاز والعنف اللفظي:

«إن أشدَّ ما يُثير في رسالتك أسلوبُها المنمَّق على نحو مُفرط. أنا لا ألومك على ما فيها من أبهة مُصطَنعة؛ إذ هذه طبيعتك، وإنما للسهولة التي تعالِج بها حالةَ الحنق عندك. أدرك أن أوقاتنا تضمَّنت بعض المظاهر غير السارة على الإطلاق، وأنه في مناسَبةٍ ما يتعيَّن توافر متنفَّس للطبائع الدموية لكي تَطرق بعنف فوق الطاولة وتَصيح. بيْدَ أنني آسِف إذ أراك تنحطُّ بخطابك إلى هذا الحد من الاضطراب، حتى إن كان هناك مبرِّر لذلك. وإن التسامح الذي تُضفيه على العنف اللاإرادي يجب رفضُه حين يتسنَّى التحكُّم في العنف وضبطه. ما أشدَّ دهاءَك حين تلعب دور الإنسان الهادئ! وذلك حتى تهبَّ علينا ثورات غضبك المفاجئة فتأخذنا الدهشة. ويا لفنِّك في الكشف عن غضبك، ولكن لا لشيءٍ سوى أن تُخفِي فورًا ابتسامةَ ثقة زائفة. هل خطئي أن هذه الأساليب تذكِّرني بمحكمة الجنايات؟ واقعُ الأمر أن المدَّعي العام هو الذي يتمتَّع بمهارة فائقة في التحوُّل سريعًا إلى حالة الغضب عند الاقتضاء، وفي الاحتفاظ بغضبه إلى الغاية التي يقصدها ثم يغيره، إذا لزم الأمر، حتى ليكاد يغدو غناءً مع آلة التشيلو. ومَن يدري، ربما كان لازمًا أن تطلِق عليك جمهورية الأرواح الجميلة اسمَ نائبها العام الرئيسي.»

وردًّا على كلام كامي؛ إذ قال «إنه سيجد الأمر عاديًّا، بل ومشجعًا» إذا شرعت «الأزمنة الحديثة» في مناقَشة وربما حتى تبرير معسَكرات الاعتقال السوفييتية. يقول سارتر:

«نحن الآن في قسم الشرطة، عند ميناء أورفيفر، والشرطي يسير بالقرب منَّا وحذاؤه يُصدِر صريرًا تمامًا مثلَما هي الحال في أفلام السينما. «أقول لك نحن نعرف كل شيء. إنَّ صمتك هو ما يجعلني أرتاب فيك. ويقول امضِ أمامي أنت شريك في جريمة. أنت تعرف عن هذه المعسكرات. حسن، اعترف، وسوف يضع المُحلَّفون اعترافَك في الاعتبار». يا إلهي، كامي! إلى أيِّ حدٍّ أنت جاد؟! تستخدم كلماتك ذاتها، يا لك من طائش!»

وردًّا على «افتراء» كامي بشأن أسلوب الصحيفة في تناول معسكرات العمل السوفييتية، يدافع سارتر عن «الأزمنة الحديثة» بتوضيحِ أنه خصَّص الافتتاحية وسبع مقالات عن هذا الموضوع فور نشر معلومات عنه في فرنسا، ثم عدنا إلى القضية بعد عدَّة شهور مع افتتاحية أخرى. بيْدَ أنه الآن مَعنيٌّ بالمسألة السياسية: «نعم كامي، أنا مثلك أرى هذه المعسكرات غير مقبولة، ولكنني لا أقبل بالقدر نفسه استخدامَ عبارة أن «ما يُسمَّى بالصحافة البُرْجوازية (صياغة كامي) تتحدَّث عنك كلَّ يوم». هل تعلم أن أعداء الشيوعية يُحْيون نبوءات روسيت بشأن المعسكرات السوفييتية وفي نفوسهم بهجة لا روع؟»

«نحن إن فتحنا أفواهنا احتجاجًا ضد بعض مظاهر الابتزاز، فسوف يغلقونها فورًا بعبارة: «وماذا عن المعسكرات؟» إنهم يدعون الناس لإدانة المعسكرات تحت طائلة عقوبة تتمثَّل في اتهامهم بالتواطؤ. أسلوب رائع: إمَّا أن يدير البائس الفقير ظهرَه للشيوعيِّين، وإمَّا أن يصبح متواطئًا مع «أكبر جريمة على ظهر الأرض». وها هنا بدأت أزدري هذه الابتزازات، وحسب تفكيري فإن فضيحة المعسكرات تضعُنا جميعًا أمام المحاكمة — أنت وأنا على السواء، وكل الآخرين. إنَّ الستار الحديدي ليس سوى مرآة حيث يرى نصفُ العالم نصفَه الآخر. ويعمل كلٌّ من الطرفَين إلى لفِّ مسمار البرغي هنا لكي تتناسب اللفة مع لفة هناك، وأخيرًا فإن كلَينا هنا وهناك، نحن كِلا الطرفَين مَن يُدير ومَن يُدار.»

ويُندِّد سارتر بقوةٍ بأسلوب كامي لاستخدامه المعسكرات في رسالته قصدًا: «دحض ناقد لم يَمتدحك». وينتقده أيضًا لرفضه التمييز بين السادة والعبيد: «نحن إذا طبَّقنا مبادئك، فإن الفيتناميِّين هم الذين يعيشون تحت وطأة الاستعمار؛ ومن ثَم فهم عبيد، ولكنَّهم أيضًا شيوعيُّون، ومن ثَم فهم أيضًا طغاة.» ولا عجبَ إذن، حسبما يشير سارتر، أن الحرب في الهند الصينية كانت عسيرة أشد العسر على كامي.

ويردُّ سارتر بعد ذلك بشكل مباشِر أكثر على مسألة استعداده للتعاون مع الشيوعية، ويقول لا سبيلَ للهرب من القفص الذي يحتوينا جميعًا اليوم.

«وإذا كنت حقًّا تأمُل في منع أي حركة للناس يمكِن أن تتحوَّل إلى طغيان، فلا تبدأ بإدانتها وأنت عاطل من القُدرة على جذب الاهتمام، وبتهديدهم بالتراجع إلى الصحراء. لكي يكون للمرء حق التأثير في المناضِلين، يتعيَّن عليه بداية المشارَكة في نضالهم، وهذه البداية تعني قَبُول أشياء كثيرة. هذا إذا رغبت في تغيير قليلين منهم.»

ولكن سارتر لم يضمِّن كل سِجاله المسألة الأخلاقية الخاصة بالوسائل والغايات: هل قَبُول نظام تتولَّد عنه معسكرات العمل من شأنه أن يُفضي إلى غاية إيجابية؟ أليسَت أحداث الرعب الواضحة تدلُّ على عيب قاتل في المشروع الثوري ذاته، ويستلزم رفضًا واضحًا للشيوعية؟ وعند أي نقطة يُصبِح العنف الثوري سلاحًا للتدمير وتجريدِ الإنسانية من إنسانيتها وليس تحريرًا؟ وكانت رغبة سارتر الوقوف إلى جانب الحركة الشيوعية، على الرغم من شرور الاتحاد السوفييتي؛ لأنه أصبح، كما يراه، الأملَ الحقيقي الوحيد والتعبير السياسي عن أغلبية عمال فرنسا. وانتقد كامي لأنه رفَض ذلك دون بحث عن بديل. غير أن نقد كامي للثورة هو عين نَقدِه للشيوعية؛ كِلاهما قائم على نهجٍ خاطئ أساسًا ومدمِّر للإنسانية وللتاريخ وللواقع نفسه. ولم يقدِّم سارتر أبدًا إجابة كاملة شافية للطعن الأساسي الذي يقدِّمه كامي، ولا كذلك فِعل جينسون. وحين قارَب الخاتمة غيَّر الموضوع، وعاد إلى كامي وأطلق العِنان لجَولته الأخيرة لإزاحة العقَبة التي في الطريق.

ولا تزال الصفحات الأخيرة تُثير الدهشة بعد مُضيِّ خمسين عامًا. يذكِّر سارتر كامي بأول لقاء بينهما، ويحاوِل بذلك استكشاف مشروع كامي، ولقاءه بالتاريخ من خلال المقاوَمة، وموقفه مع التحرير، ومكانته في الآداب الفرنسية، بما في ذلك فقرات مقتبَسة من كتابات كامي. وهذه صورة مصغَّرة من دراسات سارتر لكبار كتَّاب فرنسا؛ إذ سبَق له أن قدَّم دراسة تحليلية عن بودلير وعن جينيه، كما خطَّط لدراسة عن مالارميه، وهو بصددِ دراسة مؤلَّفة من حوالي ثلاثة آلاف صفحة يحلِّل فيها فلوبير. ويحاول سارتر في العرض العام الموجَز عن كامي أن يمسِك بالدوافع الأساسية لدى كامي ومَظانِّ قُواه المؤثِّرة وطريقته في الجمع بين السياسي والشخصي كرئيس تحرير لصحيفة سرية. ويتذكَّر هنا الأمانة المذهِلة التي اتَّصف بها ميرسولت:

«لقد كنتَ في نظرنا — وبوسعِك أن تكون غدًا — الرابطةَ العجيبة للإنسان والعمل والنشاط. كان هذا في العام ١٩٤٤م. اكتشفنا كامي المقاوِم، مثلَما اكتشفنا كامي مؤلِّف «الغريب». وعندما ارتبط رئيس تحرير مجلة «كومبا» السرية بميرسولت الذي حمل الأمانة إلى درجة رفضه البوْحَ بأنه أحبَّ أمَّه وعشيقته، والذي دانه مجتمعنا، وحين عرفنا أهم شيء، وهو أنك توقَّفت عن أن تكون لا هذا ولا ذاك، وعندما قادنا هذا التناقض الظاهري إلى التقدُّم في معرفة أنفُسنا ومعرفة العالم، لم تكُن آنَذاك بعيدًا عن تصوُّرك مثالًا يُقتدى به؛ ذلك لأنك استعدتَ تناقُضات زماننا، وتعالَيت عليها من خلال رغبتك الحماسية في أن تحياها.»

ويتصل هذا التقدير على مدى أكثر من أربع صفحات، ويصف فيه الإنسان الذي ظلَّ على مدى سنوات عديدة «الرمز والبرهان على التضامن الطبقي»، مثلَما يشير إلى مكانته في «تراثنا الكلاسيكي العظيم». وهذا هو كامي الذي يقول عنه سارتر: «لَكَم أحببناك آنذاك!»

ما الذي يدفع سارتر إلى هذه النقطة؟ لماذا لم يَدَع الأمور تستقر قبل ذلك ببِضع صفحات ويختم بما يمكِن اعتباره الكلمة الأخيرة: «لقد دِنْت نفسك إذ دِنْت سيزيف؟» ألَمْ يسجِّل لنفسه نقاطًا لمصلحته قبل ذلك وشوَّه سُمعة كامي، وخفَّف من حدَّة الغضب الذي أنكَره، وإن عبَّر عنه بعنف وقدَّم ما شاء له من حُجَج سياسية، ودافَع بنجاح عن جينسون وعن مجلة «الأزمنة الحديثة»؟ ما الذي يفسِّر هذه الصفحات الختامية التي يذكِّرنا فيها بكامي، وبمثل هذا الإسهاب والإثارة، لكي يوضِّح لنا لماذا أخفق في التغيير مع التاريخ؟ ولماذا أخيرًا حرص سارتر على أن يَمضي بعيدًا جدًّا؟

لعلَّ أحد الأسباب الأولى لانفجار سارتر هو تلك الملاحَظة الساخرة الشخصية جدًّا في رسالة غير شخصية. ويذكرها سارتر قُرب بداية الرد، لكنه سرعان ما يتجاوز تلميحاتها إلى نفسه. إنها الاستطراد الذي يشكو فيه كامي من «نقَّاد لم يفعلوا شيئًا أبدًا سوى أنهم أداروا مقعدهم في المسرح في اتجاه التاريخ». ويتذكَّر سارتر الآن تلك العلاقة الأصلية بصراحة أكبر: «إذا قلت «أول اتصال لك بالتاريخ»، فليس معنى هذا أنه كان لديَّ نوع آخَر وكان الأفضل. نحن المثقَّفين جميعًا لم يكُن أمامنا سواه، وإذا سمَّيته اختيارك أنت، فذلك لأنك عشت فيه بعُمق أكثر وبالكامل أكثر من أيِّ مدًى آخَر من بين الكثيرين منَّا (بمن فيهم أنا).» وينبني تشويه كامي على أمور كثيرة من بينها حسُّه المُميز لضبط النفس. ولكن إذا كانت إشارته إلى التاريخ تكشف عن عزوف كامي عن توجيه ضربة قاضية لسارتر، فإنَّ بالإمكان أن نعتبره تهديدًا مستترًا: كان كامي يعرف، حتى وإن لم يفكِّر مليًّا في ذلك، أين كانت الأمور في أغسطس ١٩٤٤م عندما أغفى سارتر وهو جالس على مقعد المسيح.

والنصف الثاني من رسالة سارتر هي مقلوب ما ذهب إليه سارتر: الفائز يَخسر، والخاسر يكسب. نراه يطرح سؤالًا: لماذا كامي النموذج والقُدوة لم يتلاءَم مع التاريخ بعد التحرير؟ وكم هو غريب حقًّا أن اتَّخذ سارتر التحريرَ سنة الأساس والبداية للتاريخ، وكأن المقاوَمة هي نقطة البدء لمِثل هذا التكيُّف المطلوب. ويحتاج سؤال سارتر إلى ترجمة وتوضيح. إن المقدمة الأولى المُفتقَدة والموضوعة بين حاصرتَين (بمَن فيهم أنا) هي مقارَنة بينه وبين كامي: أنا، سارتر — الذي كان حتى العام ١٩٤٤م الأقل انغماسًا — تغيَّرتُ بعد ذلك وتعلَّمت أن أحيا في التاريخ، وها أنا ذا اليومَ مُلتزِم تمامًا وأخاطِر، وأنت كامي، كنت آنَذاك شجاعًا للغاية ومُندمجًا تمامًا ولكن لم تتطوَّر، وبدأت منذ ذلك التاريخ تهرب من التاريخ، وقرَّرت تجنُّب الإقدام على أيِّ مخاطَرة. إنَّ الحقيقة المحورية هي ما الذي اكتشفه سارتر، وما الذي أغفله كامي منذ الحرب «نضال الإنسان» على الرغم من أن الطبقة العاملة هي مَنْبته:

«تمرَّدت على التاريخ، ولكن الأحزمة الصناعية المحيطة بالمدن ضمَّت رجالًا تمرَّدوا ضد الأوضاع الاجتماعية التي تزيد من معدَّل الوَفَيات. كنت إذا مات طفل ألقيتُ باللوم على عبث العالم … ولكنَّ أبا الطفل إذا كان عاطلًا أو عاملًا غير ماهر، وجَّه اللوم للناس؛ إذ عرف جيدًا أن عبث وضعنا ليس هو عين العبث في ساحات أخرى.»

والجدير ذكره أن صورة كامي بعد الحرب واهتماماته وقناعاته كانت جميعها تحمل رسالةً مفادُها أن «الخلاص الشخصي متاح للجميع». بيْدَ أن هذا زيف واضح. أيَّ شيء آخَر فعله كامي؟ «عليك أن تتغيَّر إذا ما أردتَ أن تبقى أنت نفسك، ولكنك تخشى التغيير.» التغيير مع الاحتفاظ ببعض مُعتقَداته، وأيضًا بالاستجابة إلى مَطالب هذه الجماهير المقهورة. ويذكر سارتر سببًا قويًّا دفَع كامي إلى تحويل طاقته ضد الشيوعية: ربما كان ذلك بسبب أن «ممثِّليها» — الحزب الشيوعي الفرنسي — أهانوه «كما هي عادتهم»، بحيث إنه «قرَّر الوقوف ضد التاريخ». ونتيجةً لذلك حاوَلَ كامي الإبقاء على مكاسبه مع قطع الصلة بالعلاقة التي جعلتهم وجودًا مُمكِنًا. «إن شخصيتك التي كانت واقعية وحيوية ما دامت اغتذَت على الأحداث أضحَت سرابًا.»

ونجد أن ملاحظات سارتر من حيث هي تحليل لشخصية كامي تمثِّل حقيقةً ذات رنينٍ أحاديِّ الجانب، ونحن نعرف أن كامي لم يكفَّ أبدًا عن الانخراط في «التاريخ»، ولكنه انغمس فيه بأسلوبه الخاص. نعم، إن عداءه للشيوعية وللالتزام بالسلام أغفَل قضايا أخرى، ولكنها ارتكزت على تقييم لشرور واقعية. بيْدَ أن هذه ليست المسألة الرئيسية هنا؛ إن الإفصاح بشكل شخصي بين صديقَين عن مثل هذه الملاحظات مهما كانت جارحة، كان يمكِن أن يدلَّ على قدر كبير من الصدق والأمانة والدخول مباشَرةً (بكلمات سارتر) إلى «قلب الموضوع»، هو التماس سبيل لإعادة ربط الصديق بتياراته الحيوية الخاصة؛ وهنا لن يكون لأحادية الجانب فيها تأثير مفرط. لكن الكتابة عنها علانيةً «إلى» — وفي الحقيقة عن — الصوت القائد لتيار سياسي منافس، وتحديدًا لأنها تضمَن الكثير ممَّا هو حق؛ فإنها أفادَت معنًى آخَر مغايرًا. وأصبح الشخص بذلك سلاحًا مدمرًا في إطار الصراع السياسي. إنَّ سارتر الذي كان بمبعدة عن التاريخ في العام ١٩٤٤م — حتى وفقًا لملاحظة كامي في مسرح الكوميدي فرانسيز — أصبح الآن ملتزمًا بشكل كامل. وإن كامي الذي كان ملتزمًا بشكلٍ كامل في العام ١٩٤٤م، يصوِّره البعض على أنه يقف بعيدًا. والجدير الإشارة إليه أن التطور الشخصي المُتباين لكلَيهما رآه البعض مصدر مواقفهما المتناقضة تجاه الشيوعية. وطبيعي أن فضح صديق سابق بهذا الأسلوب عملٌ من أعمال الحرب، وبقدر ما فيه من عنف فيه من الصدق. وإنَّ سارتر الذي يؤمن بالعنف يقدِّم الآن الدليلَ على مدى ما يتَّصف به من عنف. ولم تكن الصورة بعامة التي وضعها سوى محاوَلة لكي يدمِّر كامي بالكامل، إن لم يكُن لكي يَقضي عليه ويُخرِسه. ويختم سارتر رسالته بإشارة نهائية قاسية؛ إنها صمتُه المُجلجل:

«على أيِّ حال، كان من الخير أن أقول لك ما كنتُ أفكِّر فيه. الصحيفة أبوابها مفتوحة لك إذا شئت كتابةَ ردٍّ على رسالتي، بيْدَ أنني لن أردَّ بعد ذلك. أفصحت لك عمَّا كنتَ تعنيه لي وعمَّا تعنيه لي الآن. ولكن أيًّا كان ما سوف تقوله أو تفعله في المُقابل، فإنني أرفض نزالك، وآمُل أن يكون صمتنا سببًا لنسيان هذا الجدل الحاد والعنيف.»

١  Thermidor: الشهر الحادي عشر في التقويم الجمهوري الفرنسي بعد الثورة. ويُقال رد الفعل الثيرميدوري إشارةً إلى انقلاب التاسع من شهر ثيرميدور الذي أُعدِم فيه روبسبير على المِقْصلة وانتهى حكم الإرهاب. وأصبحت العبارة تعني عند المؤرِّخين «المرحلة في بعض الثورات التي يرتدُّ فيها البندول عائدًا إلى نقطة الصفر؛ حيث الوضع يُشبِه ما قبل الثورة، وتفلت السلطة من أيدي القيادة الثورية الحقيقية». (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥