تدبير أمور كثيرة وأداء أعمال حقيقية
«إنني لم أضع أحدًا على المحك قبل أن أضع أنا في الوقت نفسه كلَّ ما أعتقده على المحك.»
«لكي يكون لك حقُّ التأثير في المناضِلين، يجب عليك أولًا أن تُشاركهم نضالَهم.»
في الخامس من سبتمبر ١٩٥٢م كان كامي قد عاد لتوِّه إلى باريس بعد عطلة صيف في لو بلانسيير، وكتب إلى فرانسين بشأنِ ما ينتظره:
ظهرت «الأزمنة الحديثة»، وبها عشرون صفحة ردًّا كتَبه سارتر، وثلاثون صفحة بقلم جينسون. ونشرت مجلة «لوبزرفاتور» بعض اقتباسات من المقالَين قبل ظهور «الأزمنة الحديثة» في المكتبات. الأمور تسير نحو انطلاقة جديدة سوف تتوالى باطِّراد، ويبدو بالنسبة إلى الردَّين أن أحدهما يثير الاشمئزاز، والآخَر غبي.
وعلى مدى الأسابيع القليلة التالية، كان حديثُ باريس الأوصافَ التي تضمَّنتها العناوين الرئيسية، من مثل «جدل عنيف»، و«اختلاف الآراء»، و«المعركة الأدبية».
ولم تشأ مجلة «لوبزرفاتور» الانحيازَ إلى أيٍّ من الجانبَين، ولحظ رئيس تحريرها روجر ستيفان أن «الموقفَين تجاه العالم» بصدد خطر حدوث مواجَهة «تعنينا جميعًا». ولكن كامي لحظ أن محرِّري «لوبزرفاتور»، كشفوا عن انحيازهم بأسلوب حاسم — ذلك أن ستيفان خصَّص لسارتر مساحة تُعادل ثلاثة أمثال المساحة المخصَّصة لكامي. وأخذ جينسون جزءًا من المساحة المخصَّصة لكامي، وكأن هذا إشارة تكشف عن أسلوب التعامل مع الخمسين صفحة التي كتَبها جينسون. وعندما ظهر عدد أغسطس من مجلة «الأزمنة الحديثة» في المكتبات، نفد سريعًا حتى إنه أُعِيد طبعه لينفد ثانية. وأعلنت عناوين الصفحة الثانية من صحيفة الإثارة «ساميدي سوار» على مدى يومَين أن «القطيعة بين سارتر وكامي» اكتملت، ونعَت في نفاقٍ ما سوف يَشعر به أعداؤهما من سرور. وأشارت «لوموند» إلى أن موقف كلٍّ من سارتر وكامي إزاء الشيوعية هو جوهر النزاع، ولكن شخصيةَ كلٍّ منهما فاقمت منه وتجاوز حدود الجدل بشأن أيديولوجيا سياسية. ونشرت مجلة «كومبا» صفحتَين داخليتَين كاملتَين على سبعة أعمدة تضمَّنت اقتباسات مهمة. وأشار المُحرِّرون إلى أن سارتر أدرك على نحو يثير الإعجاب «كيف أنه عقِب الاحتلال بكلِّ ما فيه من فوضى وتشوُّش القِيم ظهر كامي أمام البلاد وكأنه التجسيد الحقيقي لأملها الذي لا غِنى عنه». وأكَّدوا أنه اليومَ «يصطدم مزاجان بشريَّان معًا — وأسلوبان للتعامل مع الحياة». ونشهد على مدى بقية شهر سبتمبر توالي ظهور المجلات الأسبوعية الواحدة بعد الأخرى تروِّج بشكل مُثير للقطيعة، وكلٌّ تحاوِل حرفها وفقًا لخطتها الخاصة، واشتهر النزاع كحدثٍ ملأ الأسماع، بحيث إنه مع نهاية سبتمبر خصَّصت كلٌّ من «لوموند» و«لوبزرفاتور» مقالًا يعود ثانية إلى الحدث. ونلحظ أن إحدى المجلتَين انحازت إلى كامي، والأخرى تسخر من جميع المعلِّقين الذين لا يزالون يسجِّلون نقاط انتصار بينما أخفقوا في إدراكِ أن مصيرهم هم معرَّض للخطر، وكذا «سُوء نيَّتهم ومسرحياتهم الهزلية وكلامهم المثير للاشمئزاز».
•••
كل هذا الاهتمام لم يكُن له من دور بالنسبة إلى كامي، إلا أنه جعل الأمور تتفاقَم وتسير إلى ما هو أسوأ. وارتاح سارتر إلى هذه الضجَّة الإعلامية، بينما كامي الذي غشيه شكٌّ ذاتي شعر بالغمِّ والكآبة على مدى شهور. وتمثَّل أول ردِّ فعلٍ له في التماس سند، من فرانسين ومن ماريا كاساريس ومن أصدقاء على صلة وثيقة به، ومن زملاء له لدى دار غاليمار. وحدث في إحدى المناسَبات أن اندفع كالإعصار إلى داخل شقة ماريا ويكاد الدمع يُغالِبه. ويشير صديق جزائري قديم، هو جان تيراسيني، أنه ظلَّ يتأمَّل وصفه كواحد من عمَّال مجاورة جزائرية: «ماذا تُريدني أن أفعل إزاء هذا، هل ألطمه على وجهه؟ إنه أقل كثيرًا.» وتحدَّث إلى أوريين بولوغا، وهو صديق مقرَّب إليه ويعمل صيدلانيًّا، وليس بعيدًا عن الصراعات الأدبية في باريس، وأعرَب له عن شكوكه فيما إذا كان على صواب منذ البداية.
وجدير بالذكر أنه على مدى اليوم التالي لصدور عدد «الأزمنة الحديثة» حاوَل كامي، في دأب وإصرار، الحصول على مسانَدة من دار غاليمار، ولكن لم يُحالِفه حظ كبير. لم يتشكَّك أحد في مشروعية هجوم سارتر العنيف، وكأن من الطبيعي تمزيق شخص علنًا والاستفادة بشواهد مُستقاة من الصداقة مع هذا الشخص. وتحوَّل كامي إلى زملائه، ولكن سرعان ما اكتشَف أن الغالبية العُظمى منهم يُصدِّقون، فيما يبدو، أن سارتر كسب المعركة، وأن النزال كان عادلًا. وتبرَّع الناس بمنح درجات لكلٍّ منهما، ولكن سارتر احتلَّ المقدِّمة بجدارة. وزار كامي أماكنَ عملٍ كثيرة وفي يدِه مجلة «الأزمنة الحديثة» وسأل: «هل رأيت هذا؟» ولم يُجِبه أحد. لم يسمع كامي كلمة عزاء، ولكن أخيرًا حطَّم ديونيس ماسكولو جدارَ الصمت المحيِّر وقال: «سوف نتحدَّث عن هذا فيما بعدُ في بار ليسبراتس.» واستدار كامي وخرج.
«أي من الرسالتَين لا تُجيب عن أسئلتي، فيما عدا سارتر عند نقطة واحدة، بينما الخمسون صفحة هي إهانة مُتعمَّدة. ولهذا يسرُّني أن يُسمُّوني شرطيًّا وممثلًا بارعًا في أدائه من بين أمور أخرى. إن كلَّ ما قيل في مقالٍ طويل مدعاة لكبريائي، ولولا هذا لَكان ضربة حقيقية لي كما ترين. إنَّ هذا سيكون مصدر بهجة للكثيرين. وأقول بحسمٍ إنَّ هذا الكتاب كلَّفني كثيرًا. بيْدَ أنني اليومَ أتساءل هل له من قيمة؟ وهل لي من قيمة ما دمتُ أماثِله على نحوٍ شِبه كامل؟»
«عشت وحدي تقريبًا كلَّ هذا الوقت، تُلازمني أفكار سوداء وقد جفاني النوم الهادئ. أحاول التكيُّف مع الوضع قدر الاستطاعة على نحوِ ما يحاوِل المرء أن يتَّخذ وضعًا ملائمًا فوق سرير غير مريح. ليس الأمر يسيرًا دائمًا. أفهم أنهم يناقِشون كتابي وقد كنتُ أنا أول مَن ثارت في نفسي تساؤلات بشأنه حتى على أعمق المستويات. ولكن ليس عندي ما أقوله إذا ما اتَّهموني شخصيًّا؛ ذلك لأنَّ أي دفاع أسوقه حينئذٍ يُصبح تبريرًا ذاتيًّا. إنه لَأمر مُثير هذا الانفجارُ لكراهية دفينة قسرًا زمنًا طويلًا، وهو ما يؤكِّد لي أن هؤلاء الناس لم يكونوا قَطُّ أصدقاء لي، وأنني أسأت إليهم دائمًا بمَشاعري، ومن هنا كانت هذه الكراهية واستحالة موقف كريم. لا أجد تفسيرًا آخَر لهذه السوقية المُفرطة في هذه الهجمات، بيْدَ أنني لن أردَّ عليهم لاستحالةِ أن أفعل ذلك.
سأحاوِل فقط كشف الزيف من الحقيقة وسطَ كلِّ هذا الخليط دونَ أن أَضيق أو أُذعِن لمنطق الآخَرين، يجب أن أُقاوِم إغراء الإفراط في الاحتقار، وكذلك النأي بنفسي تمامًا عن الاحتقار. صفوة القول: يجب أن أعرف كيف تكون القطيعة بيني وبين الآخَرين (نعم، هذه حقيقة)، ولكن دون استياء أو سخط. وإن مثل هذه الألاعيب البهلوانية ليسَت سهلة، ولكنها قدري ومصيري على الرغم من أن لديَّ، لسوء الحظ، أمورًا كثيرة تشغلني ويلزمني ترتيبها، وطاقتي الحيوية أقل من السابق. وأرى أن الجدوى الوحيدة لهذه العملية أنها ألقَت ضوءًا على الخلاف. هذان السيِّدان يريدان، يسعيان إلى العبودية. وسوف يكون كلٌّ منهما على الأرجح مستعبدًا وخاضعًا في آنٍ واحد، وليهنآ بالحظ السعيد.»
التمسَ كامي سبيلًا لردِّ الفعل، والعمل للتوافُق مع صداقته المفقودة مع سارتر. وإن كلمتَي «أبدًا» و«دائمًا» كانتا بدايتَين لجهد من أجل محْوِ أثر العلاقة. وتحدَّثت رسالة سارتر يقينًا عن عداوة اختمرَت طويلًا مثلَما تحدَّثت أيضًا عن بداية حب. وركَّز كامي على الأولى وأغفل الثانية، ووضع بَرنامجًا شاملًا «لترتيب الأمور» — يتحكَّم من خلاله في ردود أفعاله. وإذا كان قد اعترف باحتمالِ أن يكون مخطئًا، فإنه رفض تمامًا «قاعدة عمل» التحليل اللاذع القاسي لشخصه الذي قدَّمه سارتر.
لماذا إذن يبسِّط كامي من دافِع سارتر؟ ألم يكُن هذا من شأنه أن يخفِّف من ألمه، ويدرك أن الهجوم عليه وعلى عمله إنما هو في الأساس هجومٌ سياسي يضرب بجذوره في العالم التاريخي؛ ومن ثَم فهو مسألة مصير ما دام أنه استخدم المصطلحَ لنفسه؟ ولكن المذهل أكثر من غيره في ردِّ كامي هو أسلوبه الخاص الذي صبغ على القطيعة صبغة شخصية. إنها أولًا ضِيق من نطاق البُعد السياسي للخلاف، وثانيًا حاول، على الرغم مِن حذرِه من ذلك، إغفال النقد الشخصي. وانحصر الجانب السياسي في فكرة وحيدة، هي أن سارتر بمُسانَدته الشيوعية سعى إلى العبودية. وهكذا أصبح الشخص خاضعًا لهيمنةِ ما بدا له الآن مُفاجئًا تمامًا وقاسيًا للغاية: سارتر لم يكُن قطُّ صديقَه، وكان دائمًا يحتقره. واكتشف تحت هذا حقيقةً قبيحة بالقدر نفسه، والتي بدأ يعبِّر عنها في مذكراته: «سارتر غير مُخلِص كإنسان وكفعل».
لماذا كانت معامَلة سارتر لكامي صدمة كبيرة على هذا النحو؟ نعرف أن سارتر اشتكى من سلوك كامي قبل القطيعة: «كلَّ مرة نَلتقي فيها يؤنِّبني بصوت عالٍ. لم تكُن قطيعة بَعدُ، ولكن الأمر أصبح أقلَّ فأقلَّ إمتاعًا.» وبعد هذا استهدف كامي في «الإنسان المتمرد» الطعن في اليسار، وفي ديسمبر ١٩٥١م راوَده هاجس باحتمال كارثة مرتبطة بهذا الكتاب: «إنني أنتظر في صبرٍ كارثةً تأتي على مهل.» وأشار سارتر إلى حدوث حالة تهدئة بينهما؛ الاحتفال الذي كانا يأمُلان في إقامته ليلةَ افتتاح «الشيطان والرب الرحيم»، ولكن الأمل تبدَّد. كذلك كامي الذي ساوَره الشك إزاء وجودية سارتر على مدى سنوات، انتقَد اتجاهَه المؤيد للثورة في «الإنسان المتمرد».
ولكن صحيحٌ أيضًا أن مثل هذه القيود يختبرها العامل الفرنسي الجزائري على نحو مختلف عن الباريسي خريج مدرسة المعلِّمين العُليا. ذلك أن سارتر في مرحلته الجديدة اعتبر العدوَّ هو المُعادِين للشيوعية، سواء هذا أو ذاك. وسبَق أن قطع علاقته مع صديقه القديم آرون لأسبابٍ مماثِلة، وهو على وشك أن يقطع علاقته مع ميرلو-بونتي وآخَرين. وإذا كان التاريخ ليس هو كل شيء في رأي كامي، فإن السياسة كذلك تمامًا؛ إذ رأى أن ثَمَّة شيئًا أعمق مشكوكًا فيه؛ الولاء الشخصي. وردَّ على سارتر وكأنَّ موقفهما تجاه الشيوعية لن يهزَّ هذا أبدًا. وتتَّفق مذكرات سارتر وبوفوار على أن خلافاتهم لم تكن لتؤثر، إلى حدٍّ ما، على تعاطفهما مع كامي — مثال ذلك المناقشة التي دارت بين ثلاثتهم بشأنِ احتمال غزو سوفييتي — ولم تؤثِّر كذلك على الرابطة الشخصية الوثيقة.
اعتاد كامي أن يُعلي من قيمة الإخلاص الشخصي فوق كل شيء آخَر. لقد تأثَّر بشدة نتيجةَ معامَلة سارتر القاسية له، وظلَّ يَحمل ذلك في نفسه طوال بقية حياته. وطبيعيٌّ أن قطيعته مع سارتر، علاوةً على فقدان صداقته مع باسكال بيا، من شأنهما أن يعكِّرا صفْوَ حياة كامي ويخلقا سحابة سوداء لم تكُن جائزة نوبل لتبدِّدها. ورأى أن الواجب يَقتضي أن يظلَّ مخلصًا على الرغم من هذا الخلاف. ويذكر أن من بين اللحظات القليلة الشفَّافة التي تضمَّنتها شكواه الطويلة إلى مجلة «الأزمنة الحديثة»، إنما تجسَّدت حين استخدم كلمة «مخلِص»؛ إذ اشتكى من معامَلة المجلة له كعدوٍّ دونَ اعتبار لأفكاره بشكل مُنصِف ومباشِر. واعتاد كامي — على خلاف سارتر — الإبقاءَ على نواة من أصدقاء مُخلِصين دون شروط، وغالبيتهم من أيامِ أن كان في الجزائر، علاوةً على الصيدلاني أوربين بومغ والشاعر رينيه كار. هذا بينما سارتر، على العكس، كان له صديق رجل واحد الذي كان ندًّا له بعد الحرب، وهذا هو كامي. ولكن كامي، وعلى الرغم من النغمة الباردة في عبارته «إلى رئيس التحرير»، كبَح جِماح غضبه، واكتفى بالإشارة تلميحًا إلى إغفاءةِ سارتر في مسرح الكوميدي فرانسيز.
وجديرٌ بالذكر أن روبرت غاليمار، وهو من القلائل الذين احتفظوا بصداقتهم مع الرجلَين، وصَف القطيعة بين سارتر وكامي بأنها نهاية قصَّة حب، ولقد كان لها يقينًا مثل هذا التأثير على كامي. وغلبه في أول الأمر شعورٌ بالصدمة والجمود وإحساسٌ بالخيانة، وإحساسٌ بأنه ربما أخطأ على نحو غير واضح. وناضَل للعمل من خلال ألمه المباشر، ثم تشبَّث بمشاعره على مستويات عديدة، وحاوَل في البداية الاحتفاظ بكبريائه. ولحظ كلَّما تطلَّع حوله أن باريس فجأةً تحوَّلت إلى ساحة ملغومة. وإذا كان سارتر هو حارس بوَّابتها الذي رحَّب به منذ عشر سنوات مضَت للاندماج ضمن عالَمها الأدبي، أَفلَا يكون الهجوم بمنزلةِ طردٍ له؟ وتضاعفَت مشاعر المرارة في نفس كامي تجاه المدينة ذاتها. وبدأ يتجنَّب الأماكن العامة في سان جيرمان دي بري، وانزوى بعيدًا عن المطاعم التي اعتاد أن يلتقي فيها سارتر. وأحسَّ أنه تحت الحصار، ودعاه بيير ده بواديفر الذي انحاز إليه في صحيفة «لوموند» للمشارَكة في ندوة، ولكن كامي حين تلقَّى هذه الدعوة اعتذر عنها لأنه أحسَّ «أنَّ كل ما يجري لا يزال في مرحلته الصحافية»، وأنَّ أي شيء سيقوله سوف يُستخدَم ضده. والملاحَظ أنه على الرغم من أنه عُومِل معامَلة خاطئة كشخصٍ تلقَّى إهانة علَنية على الرغم من عدم جواز تحمُّله خطيئةً ما، فإنه يجد من المستحيل على نفسه الآن التزام جانب الأدب. «أعتقد على سبيل المثال أن خصومي في مجلة «الأزمنة الحديثة» غير مؤهَّلين، وأن هذا ما سوف يقولونه إذا ما اضطررتُ إلى الكلام.»
«عُذرهم الوحيد ماثل في العصر الرهيب. ثَمَّة شيء في داخلهم يرنو في النهاية إلى العبودية. راوَدَهم حلم بالوصول إلى هناك عبر طريق نبيل مُفعَم بالأفكار. ولكن ليس ثَمَّة طريق ملكي إلى العبودية. هناك خداع وإهانة وشجب للأخوة. وبعدها تظهر الثلاثون قطعة من الفضَّة.»
•••
على الرغم من كل هذه الإعلانات الجَسُورة، لم يكُن كامي آمنًا، وواصَلَ جهده «يرتِّب الأمور». ما فتئَت كلمات سارتر وجينسون تطنُّ في أذنَيه، وهو عاجز عن الكفِّ عن الرد عليها. وظلَّ ينسج الردَّ نقطة بعد نقطة، وأرسله إلى معلِّمه السابق جان غرينيير لكتابة تعليقاته، وأرسل غرينيير ردَّه مع نهاية ديسمبر، ورأى أن لهجة كامي تنطوي على قدر قليل من الخشونة، وأوصاه بعدد من التغييرات لتكون أكثر لينًا. ولكن كامي لم يراجع ولم ينشر ردَّه، إلى أن نشَر كوييو ما كتبه كامي تحت عنوان «دفاع عن الإنسان المتمرِّد»، بعد وفاة كامي بخمس سنوات. ويعرض كامي هنا الأسباب الشخصية والتاريخية وراء «الإنسان المتمرِّد». ويوضِّح أنه أبعد ما يكون عن وصفه بأنه مناهِض للثورة كما زعم سارتر، وإنما هو أقرب كثيرًا جدًّا إلى اليسار. ويَعمد أيضًا، ودون ادِّعاءات أخلاقية، إلى تصويب الكثير من الاتهامات المحدَّدة التي اتهمه بها سارتر وجينسون، ودافَع عن نفسه بقوَّة مع تصعيد الهجوم ضد متَّهِميه.
ويحاكي كامي أسلوب سارتر، ويبدأ بأسلوب مباشِر على نحو غير مألوف مع الاعتماد على السيرة الذاتية، ويعرض كيف أن تجربته مع الاحتلال قادَته لتطوير تبريرات للمقاوَمة. وحاوَل تأصيل «الإنسان المتمرِّد» وردَّ جذوره إلى تجرِبة جيل كامل. وتحقيقًا لهذا يشرح كامي كيف أنه حين وُوجِه بضرورة النضال ضد الألمان «كانت جعبته خاوية تمامًا من أيِّ أسباب قائمة على الأخلاق المعيشة». ووجد الدين عاطلًا من أيِّ توجيه يهديه، بينما القِيم البُرْجوازية جميعها قائمة على التسوية والحلول الوسط. ووجد الشيوعيين يحاجون ويدافعون (في مجال تبرير حِلف هتلر-ستالين) عن «ضرورة التعاون مع العدو قبل محارَبته»، وأن مَن عقدوا العزم على مقاوَمة النازي وجدوا أنفُسهم يبحثون عن «قِيمة أوَّلية تكون هي الأساس». وأصبح التمرُّد والثورة في نظرهم هما الموضوعَين الرئيسيَّين. ويوضِّح كامي في هذا «الدفاع» أنه رفض الاختيار بينهما مؤكِّدًا أن كلًّا منهما يستلزم الآخر.
وإذ يضع كامي «الإنسان المتمرِّد» صراحةً وبشكل مباشر ضمن التزام اليسار بالاشتراكية وتحرير العمَّال، فإنه يُعيد التوازن من جديد ويفسِّر من جديد، بمعنًى ما، القضايا الرئيسيةَ للكتاب الذي يُعلي من قيمة التمرُّد على الثورة، ويُحاول الكشف عن المرض الحضاري الكامن وراء المجتمعات الثورية المعاصرة. ويؤكِّد الآن أنه «على الرغم من جميع التشوُّهات»، فإن «الإنسان المتمرِّد» لا يعلِن «إدانة شاملة للموقف الثوري». ويدفع بأنه يعطي تقييمًا نقديًّا «للأداة الوحيدة التي ادَّعت تحريرَ العمال، وذلك حتى لا يكون هذا التحرير أيَّ شيء آخَر سوى سلسلة طويلة من الحيرة المثبطة للهِمَم». وهكذا يعلن الآن انتصاره بما قدَّمه من وثائق ومعلومات على اتِّهام سارتر له بأنه مناهِض للثورة وبُرْجوازي؛ لأنه لم يرفض فقط البُرْجوازية «لأنها غير جديرة بدَوْرها القيادي»، ولكن أيضًا بتأكيد نسبه إلى الطبقة العاملة؛ الأمر الذي عجز سارتر عن أن يفعله: «إنني أريد التحرير الحقيقي للعمَّال، أولًا لأولئك الذين تربطني بهم رابطة الدم. وأيضًا باسم حبِّ جميع مَن أحترمهم في هذا العالَم.» ويؤكِّد أنه لا يسعى من أجل «انتصار حفنة من الباحثين»، بل من أجل تحقُّق أشكال موضوعية وملموسة لتحرير العمَّال، ويَربط ما يريده للعمَّال بأسبابه في معارَضة الشيوعية: «سعادتهم اليومية، ووقت فراغهم، وأَنْسنة عملهم، ومشاركتهم في مشروع عظيم جَسُور — لا أعتقد أن هذا التحرير سيكون في مقدوره أن يخطوَ خطوة واحدة إلى الأمام إذا ما أبدلنا مديري المكاتب برجال شرطة.»
هاجَمه سارتر لقيامه بالوعظ الأخلاقي، والآن يقلب كامي الطاولة: «إنني لم أضع أحدًا على المحك قبل أن أضع أنا في الوقت نفسه كلَّ ما أعتقده على المحك.» أو بعبارة أخرى، كان «الإنسان المتمرِّد» تحليلًا تشريحيًّا لاتجاهاته وكذا لاتجاهات الآخَرين. لقد هاجمه كلٌّ من سارتر وجينسون، لأنه يَلتمس «الراحة» خاصةً في موضوع الحدود أو القدر المحدود، بيْدَ أن نقَّاده مُذنِبون «بالتلاعب الطفولي بالكلمات، وبخاصة تجريد المرجعية من التجربة المعيشة». نحن في أفضل الأحوال نعيش داخل حدود ونعرف قدر وكرامة الآخرين. ويعني التزام الاعتدال العيشَ في علاقة من التوتُّر المتجدِّد دائمًا، رافضين الغلوَّ الذي يُفضي إلى العبودية. ولكن ربما عزف نقَّاده عن لغته في ضوء النهج الراهن وما تضمَّنه من عبارات عدوانية كثيرة مَبنية على «الجوع لمآثر وإنجازات عسكرية في مجتمعنا الأدبي». وزعموا كاذبين أنه أدان التاريخ باسم الفرد، وأحلَّ الفرد مكانه فوق التاريخ، ولكن الفرد لكي «يكون» لا بدَّ في الوقت نفسِه من أن يتعاون مع التاريخ ويُقاوِمه. ونظرًا إلى ضرورة كلٍّ من التمرُّد والثورة، يُسقِط كامي الآن التناقُضات التي يَزخر بها «الإنسان المتمرِّد»، ويركِّز على التفاعل والتوتُّر المنتج. ويعمل أيضًا على توفيق وملاءَمة تأكيده السابق على الفرد باعتباره المقابل للتاريخ، وبذا يجعل كلًّا منهما ضروريًّا للآخَر، مع بيان أن أفضل علاقة لهما هي علاقة توتُّر.
«لا أجد أيَّ شيء في كلِّ ما اقترحتموه علينا يمكِنه مساعدتي في لحظة الصراع الراهنة دون أمل. وإنما الأمر على العكس، وفي ضوء نتيجة التجارب والتأمُّلات التي سردتها في «الإنسان المتمرِّد»، أستطيع أن أؤكِّد وبقوة — إذا كان ضروريًّا أن نحيا اليومَ من جديدٍ ما عِشناه على مدى الأربعينيات — أنه يتعيَّن أن أعرف أمرَين معًا: لماذا وضدَّ مَن أخوض الحرب؟ إنني لم أقدِّم ما هو أكثر من شهادة، ولا أجد ما يُغرِيني لعملِ ما هو أكثر. ولكن بعد أن هدأت العاصفة العقيمة التي ثارَت حول هذه الشهادة، سوف يُصبح بالإمكان العودة إليها وأن نقيم أهميتها ودلالتها بنزاهة. وأخيرًا، إذا لم تُفِد إلا في بقاء البعض على قيد الحياة، فإن هذا يكفيني.»
وعلى الرغم من أن كامي يكتب الآن عامدًا، وعن وعي، من داخل إطار اليسار وأهدافه، فإنه شحذ حدَّة خلافاته مع سارتر. ولكن لماذا لم ينشر هذا الردَّ؟ إننا إذا نظرنا في ضوء الشيوع الإعلامي للقطيعة بينهما، نجد أن كثيرًا من الدوريات كانت تَتُوق لطبعِ أيِّ شيء ترتَّب عليها، خاصة إذا كان هذا الشيء ردًّا كتَبه كاتب مشهور افترَسه الآخَر. ولقد كانت كلٌّ من مجلتَي «آرتس» و«لوبزرفاتور» على استعداد لاختطافه، حتى وإن اختلفا في الرأي مع كامي؛ ذلك لأنه خبر جدير بالنشر.
ولكن كامي آثَر أن يُودِع هذا المقال المُفعَم حيويةً الدُّرْجَ. لقد وافَق منذ البداية على أن سارتر أكثر ذكاءً، بينما كامي هو الفنان الأعظم. وجدير بالذكر أن كتاب «الإنسان المتمرِّد» يمثِّل طعنًا أخرق في صحَّة هذا التخصيص لمجالِ كلٍّ منهما. وكانت النتيجة كارثية: أعطاه الأستاذ نفسه درسًا في الفلسفة، وأنَّبه بعنفٍ لأنه لم يقرأ كتابه؛ ومن ثَم فإن الإجابة الآن، وكما أسرَّ كامي في مذكراته، تنطوي على مخاطَرة؛ إذ قد يبدو في صورة تدعو إلى السخرية. ثم استسلَم لما اعتبرَه سرَّ الزمن؛ أعني أن الكاتب لا بدَّ أن يتحمَّل الإساءةَ إليه في صمت: «عليك أن تعوِّد نفسك تقبُّل إهانةٍ من تابع من توابع الأدب أو الحزب دونَ أن يَدفعك هذا إلى الإحجام.» ولنا أن نخلص من هذا إلى أنه في تلك اللحظة، وعلى الرغم من الشكوك التي ساورَته واللطمات التي تلقَّاها، كتب كامي «الدفاع» لا ليكسب المحاجَّة، بل بدافع ذاتي مُلِح، وهو تأكيد الذات. وواضح أن كتابة «الدفاع» ساعدته على التعامُل مع الأزمة المباشِرة؛ ومن ثَمَّ يعيش ليكافح يومًا آخَر، وعلى ساحته هو. و«رتَّب»، ووضَّح، وأكَّد من جديدٍ أفكارَه ومشاعره الخاصة، وكان هذا كافيًا الآن. إن الفنان في انتظار الوقت الملائم.
•••
يبدو أن سارتر أسقط كامي من تفكيره؛ إذ المُلاحَظ على مدى الشهور والسنوات القليلة التالية أنه لم يأتِ على ذِكر صديقه السابق، لم يترك أيَّ أثر في مواد الصحف أو الرسائل أو المحادَثات تَذكُره لنا بوفوار أو أصدقاؤه. ولم يُناقِش سارتر أيَّ شيء يتعلَّق بصديقه المفقود حتى وفاة كامي في يناير ١٩٦٠م. ومع هذا، وعلى الرغم من أن رسالة سارتر إلى كامي وسلوكه بعد ذلك بدَوَا وكأنه وضَع صديقه خارج الاعتبار والتفكير، فإن سارتر يعترف في خطاب التأبين بأن هذا غير صحيح على الإطلاق. لقد احتفَظ كامي بالقوة الفكرية والمعنوية التي كانت دائمًا محلَّ ثقة سارتر. وقال سارتر إنه «في معركته المُريبة ضد أحداث هذا العصر» لم يفتأ كامي يؤكِّد ويُعيد التأكيد على «وجود حقيقة أخلاقية تحتلُّ مكان القلب من عصرنا وضد المكيافيلية وضد العِجل الذهبي للواقعية». وواضح يقينًا أن هذا التعليق ينتقد كامي، ولكنه ينتهي باقتراح يدعو إلى النقد الذاتي. إن سارتر على مدى سنوات قربه الشديد من الشيوعيِّين (١٩٥٢-١٩٥٦م)، قد سقط ضحيةً لهذا الوثن. وأصرَّ على أن «كامي لا يمكِن إلا أن يكون من القوى الرئيسية في مضمارنا الثقافي»، ويمثِّل بأسلوبه الفريد تاريخَ كلٍّ من فرنسا والقرن. وهكذا نجد أن تأبين سارتر لكامي يُلقي ضوءًا على الماضي، وكيف أنه هو ذاته عاش السنوات السبع التي انقضت بين القطيعة وموت كامي:
«لقد تشاجرنا هو وأنا. الشجار في ذاته ليس شيئًا — حتى وإن لم يرَ أحدنا الآخَر بعد ذلك — وإنما الشجار نهجُ حياة معًا وليس فقدانًا لرؤية أحدنا الآخَر في العالم الصغير المحدود المُعطى لنا. ولم يَمنعني هذا من التفكير فيه، ومن إحساسي بنظرته وهو يحدِّق في صفحة الكتاب أو الصحيفة التي يقرؤها، ومن سؤاله: ما رأيه في هذا؟ ما رأيه في التو واللحظة؟»
وسُئل سارتر بعد مضيِّ سنوات عديدة عن هذا التأبين، فتحدَّث عن أنه استسلم لإغراء كتابة «بعض العبارات النثرية الجميلة» التي لم يقصدها، على الرغم من أنه لم يُحدِّد شيئًا بذاته. ونراه في حديث آخَر يُسلم بوجود «قليل من الزيف في هذا النعي الذي كتبته عن كامي، وذلك حين قلت إننا، حتى وقت الخلاف الناشب بينَنا، كنَّا نريد معرفة ما يفكِّر فيه.» تُرى هل كان التأبين عاطلًا من أي صدق وإخلاص؟ لقد كانت هذه هي المرة الرابعة التي تحدَّث فيها سارتر علانيةً عن كامي الإنسان: والمناسبات السابقة هي رؤيته العام ١٩٤٢م عن اكتشاف كامي، ومحاضرته العام ١٩٤٥م عن كتَّاب فرنسا الملتزمين، ثم رسالته المنشورة إلى «عزيزي كامي». وتضمَّنت كل مناسبة حديثًا عن مآثره، بل وكانت كل واحدة بدافع أغراض أخرى تتجاوَز الاعتراف بالميزات والمآثر. وليس ثَمَّة سبب للشك في عدم إخلاص سارتر في أيٍّ من المناسبات الأخرى. وهل كان غير مُخلِص في قوله إنه «عاش مع» صديقه البعيد بعد القطيعة؟
وجرى حديث معه وهو في سنِّ السبعين عن عدم اتساق وثبات صداقاته، خاصةً قطيعته مع كامي، وأجاب سارتر: «إنَّ صداقاتي لم تكُن لتعادل علاقات الحب.» وقِيلَت له ملاحظة هي: «هناك حقيقةً كثيرون سقطوا من حياته، غالبيتهم العظمى من الرجال.» واحتجَّ سارتر في ردِّه على هذه الملاحظة بقوله إنه عقَد صداقات طويلة المدى مع أصدقاء رجال، ولكنَّ الوحيدين الذين استطاع أن يذكرهم هم شباب من أعضاء ما كان يُسمَّى «عائلة» سارتر-بوفوار. وبعد أن قال إن القطيعة مع كامي لم تؤثِّر فيه «بشكل حقيقي»، عاد وتذكَّر الأوقات الجميلة التي قضياها معًا، ومن عجب أن قال إن كامي هو آخِر الأصدقاء الممتازين.
وثَمَّة سبب وجيه يجعلنا نقبل فكرة أن استباقَ ردِّ فعل كامي ربما أثَّر في طريقة تفكير سارتر في شأن أفعاله هو. وإذا عرفنا مكانةَ كامي داخل المشهد الفكري السياسي، فإنَّ سارتر ربما وجد من الأفضل له التفكير جيدًا في شأن كل خطوة يخطوها في مساره وكأنه يتأمَّلها بعينَي كامي، حتى إن لم يكونا صديقَين. وهذا ما فعله آخَرون. وطبيعي أن سارتر لن يصرح أبدًا بأنه تأثَّر بصديق الماضي، ولا كامي أيضًا. ولكن مع مرور الوقت بدأ كلٌّ منهما يكتب المرةَ بعد الأخرى وكأنه يكتب ضد الآخَر، أو يرد عليه، أو يحاجُّه بعد أن مضى كلٌّ إلى سبيله.
•••
كشفَت القطيعة مع كامي بتركيز شديد عن تغيُّر درامي في سارتر؛ إذ واصَل العمل خارج منطق «تحوُّله المذهبي»، خلال الفصل الثاني من «الشيوعيون والسلام»، في عدد من مجلة «الأزمنة الحديثة» خلال الفترة (أكتوبر ونوفمبر). والملاحَظ أن الأسلوب المليء بالزخارف والتكرار يجعل من هذا المقال واحدًا من أسوأ القِطَع التي كتبها سارتر، ويُفيد بأن انحيازه إلى الشيوعيين كلَّفه ضغوطًا كثيرة في داخله. وعرض سارتر، من دون أن يذكر، بديلًا عن تفسير كامي للشيوعية في ضوء المتطلَّبات الرُّوحية لمثقَّفي العصر. ذلك أن ثَمَّة حقيقة مُلزمة صاغت الشيوعية؛ إذ إنها سعَت إلى تحويل عمَّال فرنسا المستغلِّين والمعزولين والسلبيِّين إلى طبقة اجتماعية نشِطة ومكافِحة. وانحاز سارتر الآن إلى الحزب الشيوعي الفرنسي على حاله التي هو عليها، ولذلك دافَع ضد كلِّ مَن انتقدوا الشيوعية، سواء من اليمين أو اليسار، بأن اتهمَهم بأنهم إمَّا ثوريون مُغالون، وإمَّا عبيد مقلِّدون بإسراف للاتحاد السوفييتي. وعرَض منطق خياره ليس عن طريق المحاجة من أجل حزب شيوعي يكون أفضل أو أقل تسلُّطًا، بل بأن قال لقرائه لماذا يتعيَّن أن يكون كما هو. ورفض سارتر كلَّ أشكال النقد ضد الحزب الشيوعي الفرنسي، سواء من التروتسكيِّين السابقين من أمثال كلود ليفورت الذي راوَده حلم تشكيل حزب ديمقراطي أكثر راديكاليةً، أو من مُناهضي الماركسية، ومن بينهم كامي، الذين يُطالبون العمَّال باختيار زعماء أقل جمودًا عقائديًّا وأصحاب أهداف أكثر تواضعًا. واتخذ النقاشُ قالبًا جبريًّا غريبًا — أخطاء الحزب الشيوعي الفرنسي، بما في ذلك تنظيمه المتزمت المتسلِّط، هي أخطاء لا سبيل إلى إصلاحها، ولكنَّها الأسلوب الأكثر ملاءمةً لجماهير العمَّال المشتَّتين للتغلُّب على اغترابهم وتشتُّتهم؛ إذ هذا هو النهج الوحيد ليصبحوا طبقة موحدة.
وبدأ تحوُّل سارتر في اتجاه الحزب مع مَطلع العام ١٩٥٢م، خلال حملة لمصلحة البحَّار السجين هنري مارتان؛ إذ بعد «الشيوعية والسلام» والقطيعة مع كامي، نشرت مجلة «لي ليتر فرانسيز» التي هاجمَته دون توقُّف منذ العام ١٩٤٥م بوادرَ ذوبان الجليد بين سارتر والحزب، وجاء ذلك مباشَرة بعد أن نشرت إلزا تريوليت في العام ١٩٥١م عرضًا نقديًّا رفضت فيه «الشيطان والرب الرحيم»؛ لأنه يثير قضايا زائفة، ويعيد تأكيد ملاحظات عادية. وفي ١٨ سبتمبر كتب رئيس التحرير كلود مورغان تعليقًا على الجزء الأول من «الشيوعيون والسلام»، والذي رآه مدافعًا عن التعايش السلمي: «أنا لا أحب أعمالَ سارتر الأدبية أو فلسفته، ولكن حين يشجب موقفَ مَن يعملون وراء قناع مناهَضة الشيوعية من أجل الإعداد لحرب، أرى — وأنا سعيد لأن أرى — أن باستطاعتنا، بل وينبغي أن نعمل معًا لحماية السلام.»
وفي ٨ أكتوبر نشرت مجلة «لي ليتر فرانسيز» عرضًا إيجابيًّا لأحد كتب سارتر. وقال الناقد إنه دليل على حدوث تغيُّر أساسي في فكر سارتر أو في زماننا، حتى إن خاتمة الصيغة الجديدة لفيلم «المومس المحترمة» أعاد سارتر تنقيحها، واشتغل في هذا مع كلٍّ من بوست وأستروك، بحيث إن المومس الشقراء ليزي والرجل الأسود تشابكَت أيديهما وتصدَّيا بجرأة للغوغاء البِيض العنصريِّين. ورأى الناقد الذي كتب العرضَ أن هذا الفيلم الذي يتضمَّن موقفًا نبيلًا للغاية يعبِّر عن اللاتماثلية على خلاف «التماثلية الوضيعة» في «الأيدي القَذِرة»، يعلِّمنا الكثير جدًّا عن تطور سارتر تمامًا مثلما تعلَّمنا من الخلاف المدوي الذي حدث بينه وبين كامي في الصيف الماضي. صفوة القول أن القطيعة أكسبَت سارتر نقاطًا مع الحزب.
والجدير ذكره أن «التحول المذهبي» لسارتر، والصداقة الجديدة مع الشيوعيين في اتجاه مثقَّفين غير حزبيين؛ أدخلاه عالمًا جديدًا وأعطياه دورًا جديدًا. ونعرف أن مؤتمر السلام العالمي في فيينا في ديسمبر كان جزءًا من استراتيجية ستالين لخلق حركة دولية ضد الحرب النووية ومن أجل التعايش السِّلمي. وأوضَحَ المناهضون للشيوعية عدمَ تماثُل الحدث ومشاركيه: أشخاص اختارهم الحزب من الشرق عاجزين عن أيِّ عمل مُستقل أو نقد حر لحكوماتهم، وإنما انتقاد الحكومات الغربية، وسوف يجري هؤلاء حوارًا مع أفراد من الغرب لهم استقلاليتهم (بمن فيهم أعضاء في الأحزاب السياسية الفرنسية من اليمين والوسط)، وكذا مع شيوعيِّين ورفاق طريق. وأصبح سارتر مع وصوله إلى فيينا نجمَ المؤتمر. وطلَب المنظِّمون للمؤتمر منه أن يتكلَّم في الجلسة الافتتاحية. وعقد مصالَحة مع الشيوعيين الذين سبق لهم أن هاجموه في الماضي، بمن فيهم ألكسندر فادييف، الذي سماه في العام ١٩٤٨م «ضبع يمسك قلمًا». وساهم سارتر بنشاط في المداوَلات، وأدلى بالعديد من الأحاديث للصحف، وأمضى وقتًا طويلًا مع المثقفين الشيوعيين من كل أنحاء العالم، بمن فيهم إيليا أهرنبرغ وبابلو نيرودا وجورج أمادو.
وكان مطلوبًا لسارتر تذكرة دخول كونسرفاتوار فيينا؛ حيث انعقدت لقاءات كثيرة. وكان مقررًا تمثيل «الأيدي القَذِرة» على مسرح آخَر في فيينا أثناء انعقاد المؤتمر. وسبق للشيوعيين ومنذ وقت طويل اعتبار هذه المسرحية، وربما لأسباب شخصية بحتة، هجومًا عليهم. والملاحَظ أن سارتر قرَّر منع تمثيلها، على الرغم من أن أحدًا لم يطلب منه ذلك، بل دفع تعويضات مقابل ما تمَّ من نفقات. وأكَّد أن أيَّ إخراج للمسرحية، وأيًّا كان مكان تمثيلها، لا بدَّ من أن يقترن بموافَقة الحزب الشيوعي المحلي. واعتبر سارتر هذا الشرط تنازلًا منه عن حقائق تاريخية، وليس انتهاكًا لحريته أو لسلامة موقفه ككاتب. والجدير ذكره أنه في أثناء مؤتمر صحفي خاص بأداء للمسرحية من دون إذن سابق منه في فيينا بعد سنتين من ذلك التاريخ، قال سارتر موضحًا: «أصبحَت مسرحيتي ساحة قتال سياسي وأداةً للدعاية السياسية. ونظرًا إلى جو التوتُّر الراهن، لا أظنُّ أن تمثيلها في بعض المناطق الرئيسية الحسَّاسة مثل برلين أو فيينا يمكِن أن يفيد قضية السلام.»
وعندما قام سارتر ليتكلَّم في فيينا، ركَّز حديثه على ما دار في الاجتماع من هجوم ضد الشيوعية. تُرى هل كان يحس وكأن كامي يتطلَّع إليه من خلف وهو يُلقي كلمته؟ وحاكت قضيته الأولى ما يردِّده كامي، ولكن مع تحويل سارتري: «الفكر والسياسة اليوم يقُوداننا إلى مذبحة لأنهما جهد نظري مجرَّد … كل إنسان هو الآخَر، العدو المحتمَل، ونحن لا نثق به، ونادرًا ما نَلتقي في فرنسا، بلدي، رجالًا، نلتقي شعارات وأسماء.» واستطرد في محاجَّته ضد ثنائية الحرب الباردة، وشرح كيف أن المؤتمر العالَمي للسلام يُسهم في الحد منها، وأن مَن يظنُّون أن الحرب العالمية الثالثة «ستكون صراع الخير ضد الشر» مُخطئون. لقد رأى الناس بعضهم، وتكلَّم بعضهم إلى بعض، ولمس كلٌّ منهم الآخر وأثَّر فيه، واتَّحدت كلمتهم؛ إذ قالوا: «إنهم يريدون السلام وسوف يحقِّقونه لأنه الخير. ولن يفرض أحد علينا قسرًا تلك الحرب الصليبية ثانيةً.» وبعد أن رفض سارتر أيَّ نزعة سلامية من شأنها أن تسمح بفرض السلام من خلال الإرهاب، بدا كأنه يحاج كامي مباشَرة. وعاد، على الرغم من كل شيء، إلى خلافهما الذي امتدَّ أربع سنوات بشأن غاري دافيز الطيَّار الأمريكي السابق الذي أعلن المواطَنة العالَمية، ودافَع عنه كامي لكن سارتر اكتفى بإظهار قدر بسيط جدًّا من التأييد له. «لسنا مثل غاري دافيز؛ إذ نعرف ضرورة الانغماس في السياسة، وأن السلام ليس حالة ثابتة مستقرة، ونُريد يومًا الحصولَ على ميدالية السلوك الحسَن، بل السلام جهد طويل وشاق من أجل البناء الذي يتعيَّن إنجازه على صعيد عالَمي، ويستلزم تعاون شعوب العالم كلها.»
«شخصيًّا، أعرف الكثيرين ممَّن كان ينبغي أن يُشاركونا هنا ولم يَحضُروا. لماذا؟ بسبب نزعة التشاؤم والإذعان، ثم تخويفهم بأنَّ المؤتمر مجرَّد حيلة … وكان عليهم أن يقولوا لأنفسهم: أردنا السلام، وثمَّة رجال مُخلِصون اجتمع شملهم لتحقيق السلام ولم نكن معهم … إنَّ اليوم الذي يؤدِّي فيه شعورهم بالأسف إلى انجلاء فقدان الثِّقة والخوف قليلًا، وتراجُع العداء للشيوعية، سوف يكون هو اليوم الذي يمكِن أن نقول فيه علينا قبل أن نُسهِم في تهدئة دولية أن نسعى لتحقيق مصالحة داخل الوطن.»
وما إن عاد سارتر إلى أرض الوطن حتى رأيناه من خلال الأحاديث والخطب يفيض بحماسة بالكلام عن مؤتمر فيينا، باعتباره من أهمِّ أحداث حياته، ومؤكدًا قبل كل شيء على الاتصال المباشِر بالناس من جميع أنحاء العالم، وعلى خبرة مناقَشة القضايا الرئيسية معهم بحرية وصراحة. ولكن إلى أيِّ مدًى وبأيِّ ثمن تكون الصراحة؟ واقع الأمر أن هذا ليس سؤالًا نظريًّا مجردًا، أن نسأل ما إذا كانت الوفود الشيوعية استطاعت أم لم تستطِع الكلامَ بحرية، ولكنَّ ثَمَّة حدثًا مباشرًا تمامًا ونذيرَ شؤم؛ ذلك أنه قبل أسبوعَين من انعقاد المؤتمر صدَر اتِّهام ضد رودولف سلانسكي وغيره من القادة الشيوعيِّين التشيك، وأغلبهم من اليهود، وثبت بعد محاكَمة استعراضية أنهم مُذنِبون، وجريمتهم الخيانة، وراج الحديث عن مؤامرة يهودية دولية. واعترف سلانسكي بالتُّهَم الموجَّهة إليه، وبأنه عميل صهيوني يتجسَّس لمصلحة الغرب. وتمَّ إعدامه شنقًا هو وعشرة آخَرين في براغ في ٣ ديسمبر. والجدير بالملاحظة أن سارتر قبل سفره إلى المؤتمر أجاب عن سؤالٍ وجَّهته المجلة المحافِظة «لو فيغارو» إلى عديد من الشخصيات الفرنسية البارزة: «هل ستُرسِل برقيةً إلى الرئيس جوتوالد لإنقاذ حياة مَن دانتهم براغ؟» وكان جوابه: «أرفض منهجيًّا أن أقدِّم أيَّ بيان إلى «لو فيغارو».» وكانت هذه الإجابة هي بطاقة الدخول الثانية له. لم يعترض سارتر ضد القَتَلة الحُقراء ولا ضد المؤتمر، ولم يشأ سارتر الاعتراض على «مؤامَرة الأطباء» وموجة معاداة السامية التي بدأت في الاتحاد السوفييتي قبل وفاة ستالين في مارس. ونعرف أن سارتر في رسالته «عزيزي كامي» شرح انحيازه إلى الشيوعيين: «لكي يكون لك حقُّ التأثير في المُناضِلين، يجب عليك أولًا أن تُشارِكهم نضالهم. ويعني هذا قَبول أشياء كثيرة إذا كنت تأمل في تغيير القليل منهم.» وواضح أن هذا الصمت، وإلغاء عرض «الأيدي القَذِرة»، كانا من بين أمور كثيرة قَبِلها هو.
ويكتب كامي تأمُّلات موجودة في مذكراته: «في فيينا أقام الحمَام عشَّه فوق المشانق.» وتحدَّث في مواضع أخرى، ولكن بشكل خاص، بتفصيل أكثر، وربما على نحو مباشِر أكثر، عن نهج صديقه السابق والتزامه ﺑ «العجل الذهبي للواقعية»: «طبيعي أن الذهاب إلى فيينا يعني مشاركة في عمل من أعمال الحرب الباردة. ولكن الذهاب إلى هناك وعلى الخلفية أحدَ عشرَ مشنوقًا أمرٌ يتجاوَز حدود الوصف … ومثلَما وقَع أعضاء الجناح اليميني في بلدنا أسرى قوة هتلر، كذلك حال اليساريِّين هنا الذين أذهلَتهم السطوة الشيوعية، والتي اقترنت بكلمة «الفعالية».»
«إذا اعتقدت أن من المستحيل أن تُنسِينا أحداث الشغب في برلين عائلةَ روزنبرغ، فسوف يبدو من المخيف أكثر أن مَن يُسمُّون أنفسهم «يساريِّين» يكون باستطاعتهم إخفاء الألمان الذين أطلقت السلطات عليهم الرصاص في ظل أحداث عائلة روزنبرغ. بيْدَ أن هذا هو ما شاهدناه وما نشاهده كلَّ يوم، وإنه لهذا السبب تحديدًا نحن هنا. نحن هنا؛ لأننا إذا تخلَّفنا عن الحضور فلن يحضر مَن يجاهِرون بالدفاع عن العامل. نحن هنا لأن عمَّال برلين يخاطرون بالوقوع ضحيةَ خيانة بعد قتلهم، وإن مَن يخوِّنونهم هم أنفسهم مَن عقدوا عليهم الأمل في التضامن.
وعندما يزعم امرؤ أنه نذر نفسَه لتحرير العمَّال، فإن انتفاضة العمَّال في ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، العمَّال الذين يرفضون زيادة ساعات العمل ويطالِبون بانتخابات حرَّة، وبذا يؤكِّدون لجميع المثقَّفين أصحاب الفكر الدينامي الذين يَعِظونهم بالنقيض تمامًا، ويبشِّرونهم بأن العدالة لا تنفصل عن الحرية؛ أقول إن هذه الانتفاضة والدرس العظيم الذي نتعلَّمه منها، والقمع الذي أعقبها، أليس هذا كله أمرًا جديرًا بالتفكير والتأمل؟ أَلَا يستحقُّ هذا بعد كل المواقف التي تردَّدت على الأسماع في كل مكانٍ تأكيدًا جازمًا وواضحًا للتضامن؟ إنَّ أي عامل في أي مكان في العالَم حينما يرفع قبضته المجرَّدة في وجه دبَّابة ويصرخ بأعلى صوته أنه ليس عبدًا، فأيُّ نوع من البشر نكون نحن إذا التزمنا موقف اللامبالاة؟ وماذا يعني أن نتدخَّل لمصلحة عائلة روزنبرغ وتلتزم الصمت إزاء ويلي جوتلنغ [الذي أعدَمَته فرقة عسكرية سوفيتية رميًا بالرصاص بتُهمة أنه محرِّض مُمالِئ للغرب]؟»
ولم يهدأ لسارتر بالٌ على الرغم من أن استفزازات كامي استهدفَت المناصِرين للشيوعية، وربما استهدفته هو مباشَرة. وحدث أن أجرت معه مجلة «كومبا» حديثًا في شهر نوفمبر بمناسَبة نشر كتاب قضية «هنري مارتان»، وسأله الصحافي عن دور المثقَّف، وهنا أعاد سارتر تدوير فكرته الأصلية عن الالتزام، وقال إن «واجب المثقَّف شجب الظلم حيثما يكون»، وأصبحت هذه الكلمات عنوانًا للمقال، على الرغم من أن سارتر كان مَعنيًّا أساسًا ببيان أسباب عدم شجبه للمَظالم الواقعة في البُلدان الشيوعية. وبعد أن تحوَّل عن كامي بنسبة ١٨٠ درجة، قال إنَّ احتجاجات المثقَّفين الغربيين ليس لها تأثير على الحكومات الشيوعية، وأنها في ضوء الحرب الباردة تحوَّلت إلى «أعمال حرب». وأراد من المثقَّفين الفرنسيين التعليق على أحداث نصف العالم الذي بوسعهم التأثير فيه، وألَّا يجدوا أنفسهم في صفِّ القوى البُرْجوازية ضد الاتحاد السوفييتي. وأحلَّ بسهولةٍ هذه البيعةَ «للعجل الذهبي للواقعية» محلَّ الأخلاق بناءً على حساب سياسي، وفي تبايُن صارخ مع قرار كامي التأثير في الاتحاد السوفييتي بكل الوسائل المتاحة. ونلحظ أن سارتر عند هذه النقطة التي يوضِّح فيها تبنِّيه للشيوعية إنما يَسخر من ندائه هو بشجب المَظالم في أيِّ مكان كانت. وواضح أنه، عن وعي كامل، عامَل الشرق والغرب على أساس معيارَين مختلفَين.
وقَبِل سارتر المشاركة في كثير من الشرور ابتغاءَ تغيير العالم، تمامًا مثلما كانت صياغته المسرحية في «الشيطان والرب الرحيم». وأيًّا كان الأمر، فإن خياراته وبياناته تزايَدَ ما فيها من تنافر. لكن تفكيره، على الرغم من كل التوتُّرات، انصبَّ على مسئوليات المثقف، ونبع من قرار بناه عن تأمُّل وتروٍّ: قَبول شرور الشيوعية بُغية المشاركة في مشروعها من أجل تحويل العالم، مع العمل في الوقت نفسه على تغيير الشيوعية إلى الأفضل. ويتَّسق هذا مع ما ذهب إليه في توضيحه في مقاله في العام ١٩٦١م عن ميرلو-بونتي؛ إذ قال إن المرء خارج الشيوعية «يواجه حلفًا غير مقدَّس من البُرْجوازية والزعماء الاشتراكيين». وهنا لا مفرَّ أمامه وبشكل مُطلَق من وضع تفرقة إيجابية. ويبدو هنا أنه في وجودِه مع الشيوعيين يجد بعض الأمل حتى وإن بدا أملًا واهيًا؛ ومن ثَم فإن سذاجته لا تكمن في الزعم بأن الشيوعية لا تَشُوبها شائبة، بل في طموحه إلى أن يؤثِّر فيها نحو الأفضل. ونراه باستثناء كلماته الجَسُورة لم يفسِّر لنا كيف حدَّد هدفه لأداء هذا الدور.
وعلى الرغم من كل ما يتَّصف به سارتر من عدم الواقعية، لكنه يرى أن الولاء للشيوعية ليس «عبودية» كما ذهب كامي، بل هو عمل سياسي من منظور مستقل. ويساعدنا هذا على تفسير حقيقةٍ كثيرًا ما نلحظها عن أنشطة سارتر في علاقتها بالحزب الشيوعي الفرنسي: انتقل سارتر إلى الشيوعية شأن كثيرين آخَرين خرجوا منها. وسبَق أن تمرَّد ميرلو-بونتي وشجب الاتحاد السوفييتي في هذه الآونة. وحدَث قبل ذلك بقليلٍ أنْ طرَد الحزب من صفوفه إدغار مورين. كذلك كان شارلس تيلون، وأندريه مارتي، وهما زعيمان تاريخيان للحزب الشيوعي الفرنسي، كانا من بين المُزمَع تطهيرُ صفوف الحزب منهما في الوقت الذي يتحوَّل فيه سارتر ليكون أشهر رفيق طريق. ومع الوقت الذي ارتبط فيه سارتر بالحزب كان سِحر الشيوعية قد تبدَّد، وأزاحت صورتها التنبُّؤات التي راجت بشأن معسكرات العمل في الاتحاد السوفييتي والمحاكَمات الاستعراضية في شرق أوروبا، وهستيريا الكومنفورم ضد تيتو، ومؤامَرة الأطباء، والإعدام رميًا بالرصاص لعدد من العمَّال الألمان في يونيو ١٩٥٣م. وبلغ الأمر مداه؛ إذ سرعان ما سيطرد الحزب بيير هيرفي عدوَّ كامي اللَّدُود بسبب ندائه الجَسُور لمزيد من الديمقراطية داخل الحزب. ولن يمضي سوى وقت قليل ليُطلِق خروشوف «خطابه السري» عن جرائم ستالين. ومع نهاية الخمسينيات لم يَبقَ سوى عدد قليل من المثقَّفين غير الشيوعيين لا يزالون يرَون أن الاتحاد السوفييتي بصدد التحوُّل إلى مجتمع المستقبل الحر.
وإن الوقت الذي اختاره سارتر لتبنِّي الشيوعية يدعو إلى الحيرة بسبب سجلِّه النَّقدي القوي على مدى تاريخه منذ العام ١٩٤٤م. وتجلَّى نقده في المقالات وأعماله الفلسفية والروايات والمسرحيات والأحاديث الصحفية، حتى إنها جعَلَت منه العدوَّ الأيديولوجي الرئيسي للشيوعية على مدى الفترة التي أعقبَت الحرب. والجدير ذكره أن صورة «الأيدي القَذِرة» التي أيَّدها أعضاء الحزب تَنقُل لنا علاقة سارتر الممتدَّة مع الحزب. ولكن يتَّضح لنا توقيت انحيازه إذا أدركنا أن الأسباب عنده مختلفة عنها بالنسبة إلى المثقَّفين الآخَرين؛ ذلك أن سارتر رأى الشيوعية ليسَت دليلًا على المستقبل ولا هي مناط الأمل — إنه لم يَتبنَّها كفكرة جذَّابة استهوَته — ويمكِن تحقيقها في الواقع. ونعرف أن مقال ميرلو-بونتي عن المعسكرات السوفييتية الذي أيَّده فيه سارتر، ذكَر عبثَ الحديث عن الاشتراكية في بلد يُجبِر واحدًا من كل عشرة من أبنائه على السخرة في معسكرات العمل القسري. وإذا كان الكثيرون من المثقَّفين في الثلاثينيات، بل وفي الأربعينيات، رأوا الشيوعية كفِكرة أو قوَّة معنوية، فإن سارتر كان على دراية بواقعها القبيح.
«في فرنسا اليوم، الطبقة الوحيدة التي لها مذهب وعقيدة هي الطبقة العاملة. إنها الطبقة الوحيدة التي تتجلَّى «خصوصيتها» في تناغُم كامل مع مَصالح الأمَّة، ويوجد حزب كبير يمثِّلها، وهو الكيان الوحيد الذي له بَرنامج، ويتضمَّن بَرنامجه ضمان سلامة المؤسَّسات الديمقراطية وإعادة تأكيد السيادة القومية، والدفاع عن السلام، وهو الحزب الوحيد المهتم بتجديد الاقتصاد ومضاعَفة القدرة الشرائية، وهو الحزب الوحيد في الحقيقة الذي تدبُّ فيه الحياة ويعجُّ بمظاهر الحياة، بينما الأحزاب الأخرى تعجُّ بالديدان، ولنا أن نتساءل بأيِّ مُعجزة يلتزم الغالبية العُظمى من أعضائه العمَّال بأوامره؟»
والالتزام السياسي لا يقتضي المداوَلة حالة بعد حالة في شأن الاختيار الأخلاقي الصحيح، وإنما، كما قال سارتر، يقتضي فهمًا للمصدر الرئيسي الذي تنبع منه أمراض العالم — النظام الرأسمالي — والقوى والاتجاهات الكفيلة بالتغلُّب عليها. إنك لكي تعمل على نحو أخلاقي ومؤثِّر لمصلحة المقهورين، فإن هذا يعني الانحياز إلى هذا الحزب وقَبول الجانب القبيح منه، وتقدير أساليب العنف التي يتبعها، بل وتحمُّل أعباء العمل السياسي. هذه جميعًا لوازم حتمية لكي يصبح المرء واقعًا حيًّا وللعمل بشكل جاد. وها هنا نرى المصدر الذي نبع منه عنف سارتر في هجومه على كامي، وكذا صمته بشأن المشكلات الكبرى التي تعاني منها الشيوعية وأعمال القهر التي تمارسها.
ويتَّسق هذا مع ما سوف يكتبه في العام ١٩٦١م من أن اتجاهه فرَض عليه تساؤلات كثيرة بشأن الشيوعية مع كل لحظة يعيشها: إنه سؤال واحد أن نسأل: إلى أيِّ مدًى يمضون؟ وإلى أيِّ مدًى أستطيع أن أتبعهم؟ هل هذا العمل أم ذاك، أو هذه السياسة أم تلك من أعمال وسياسات الاتحاد السوفييتي من شأنهما أن يُفضيا في النهاية إلى تدمير البشر وحريتهم، بحيث يكفُّ الاتحاد السوفييتي عن استحقاق أقل قدر من الامتياز، أو لنَقُل النظر إليه في الحقيقة باعتباره نظامًا شريرًا؟ وكانت هذه بطبيعة الحال المسألة المثارة بين سارتر وكامي التي أوجَزَها سارتر بنفسه مع قدرٍ نِسبي من الصدق في تأبينه لميرلو-بونتي بعد وفاة كامي بعام: «ثَمَّة أخلاق في السياسة — وهو موضوع صعب ولم يُعالَج بوضوح — وحين تُضطرُّ السياسة لزومًا إلى خيانة أخلاقها، فإن اختيار الأخلاق يغدُو خيانةً للسياسة. والآن ابحث لك عن مخرج في ضوء هذا الرأي، خاصة حين تتَّخذ السياسة هدفًا لها سيادة الإنسان». ولقد خان كامي فعالية أو سياسة عالم الواقع، ولكن الأمانة الكاملة تستلزم قلب المعادَلة: ماذا لو أن اختيار السياسة في مثل هذه الظروف، كما فعل سارتر، من شأنه أن يدمِّر الأخلاق؟ اختار كامي دربًا بينما اختار سارتر دربًا آخَر.
ودخل سارتر أخيرًا عالَم الواقع حين تهيَّأت له الفرص، وعاش مع التعقُّدات والتناقضات حتى بلغ نقطة التواطؤ مع الستالينية. وإنَّ سارتر لم يرَ نفسه كشخص بين آخَرين إلا حين شعر برابطةٍ ما منظَّمة تربطه بالعمَّال. وبعد أن وضع قدمَين راسختَين على أرض سياسية واقعية قرَّر الانخراط في عمل سياسي ذي جدوى، وهنا قبل الواقع لكي يغيِّره. ونجده في ختام «الشيطان والرب الرحيم» حلَّ هذه المشكلة بشكلٍ نظري مجرد، لكن الإعلان الجريء الذي أعلنه جويتس لم يكن سوى البداية. وعاش سارتر ولأول مرة، خلال العامَين التاليَين، التزامه بشكل عملي وبعيدًا عن الاكتفاء بتأمله نظريًّا.
وعبَّر عن هذا المزاج فوق المسرح من خلال تكييف مسرحية كين لدوماس. ونعرف أن هذه المسرحية التي تمَّ تمثيلها في نوفمبر ١٩٥٣م تعرض قرار الممثل إدموند كين بترك المسرح والتفرغ للزواج. وتُعنى مسرحية كين بالتوتر بين الواقعي والخيالي، وهي المسألة المحورية في المسرح والأدب الخيالي عند سارتر، ولكنَّها — على خلاف أعماله الأخرى — لا تدخل في صراع مع العوائق بُغية تحقيقِ إنجازٍ ما. لقد حوَّل كين الممثل نفسَه إلى شخص غير واقعي تمامًا. إنه كان يَتُوق «لكي يكون له قِيمتي نفسها في العالم»، و«أداء أفعال واقعية»؛ لذلك فإنه يقرِّر هجر حياة التمثيل على المسرح وما فيها من عظَمة مُصطَنعة، وأن يصبح مُواطنًا مُتواضعًا رزينًا له خصوصيته. وتمثِّل مسرحية كين نجاحًا كبيرًا على الرغم من أنها من أقل مسرحيات سارتر إغراقًا في التأمل. ونلحظ أن سارتر حين كيَّف وعدَّل مسرحية دوماس، تبنَّى طاقته التفاؤلية. ونجد أن كلًّا من مسرحياته الثلاث التالية استهدفت أن تكون بمنزلة عمل إنجازي مثلما كانت في النهاية جميع كتاباته السياسية والنظرية التي كتبها بعد ذلك.
•••
في هذه الأثناء شغل كامي نفسه بمشروعات من النوع الذي يمكِن لكاتب مشهور أن يفقد نفسَه فيها بسهولة؛ جمع ونشر كتابات قديمة، كتابة مقدمات، إلقاء خطب وأحاديث، كتابة رسائل للنشر. وعاد أيضًا لإدارة المسرح أثناء الاحتفال الصيفي في أنجرز. وأضحت حياته أشبه بجولة من الأنشطة ليس بينها ما هو إبداعي بشكل مميز، وهذا هو الوصف الذي ردَّده بعد ذلك في قصة قصيرة له بعنوان «الفنان أثناء العمل». ونقرأ في هذه القصة عن رسام استوعبه بالكامل نجاحه الخاص حتى فقد قدرته على الرسم. واقترب كامي سياسيًّا مع جماعة من النقابيِّين-الفوضويِّين اجتمع أمرها حول «الثورة البروليتارية»، وهي جماعة هامشية ولكنها تضمُّ راديكاليين أذكياء ومثاليين في فكرهم. وعزم على أن يُواصل النشر من خلالهم، ومن خلال صحيفة مماثلة لهم، وهي صحيفة شهرية سويسرية تحمل اسم «تيموان»، ورأى أن يدع اسمه يظهر ضمن أسرة تحرير الصحيفة.
ولم تكن القطيعة مع سارتر بعيدة أبدًا عن أفكار كامي وأنشطته، ولم يكفَّ في مذكراته عن توجيه النقد الشديد لباريس والوجوديِّين والمثقَّفين الثوريين ومثقَّفي الجناح اليساري والعدميِّين والمثقَّفين بعامة. ويقول عن العدميين: «أغبياء صغار، دعاة مساواة، عشَّاق محاجَّة، يفكرون في كل شيء لينكروا كل شيء، لا يشعرون بأيِّ شيء بينما يتركون كل شيء للآخرين — الحزب أو قادته — لكي يشعروا نيابةً عنهم.» وإذ قرأ فقرةً من كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا»، فذكَّرته بتلك «الأرواح التي تُحيل مذاق العبودية إلى نوع من مكوِّنات الفضيلة». وهو ما ينطبق على سارتر والتقدميِّين. وتصور تمثيل «كوميديا ديل آرت» لمسرحية هزلية من نوع الفارس التي كتبها في العام ١٩٤٦م، والتي تضمَّنت «الكلام المرتجل للفلاسفة» والذي يُشير إليه هو نفسه وإلى سارتر وإلى المناخ الثقافي في زمانه. وسجَّل في ملاحظة تبدو أكثر كآبةً قائمة بالوقائع التاريخية المختلفة التي أقرَّها أو أغفلها أو قبلها «المعاونون من الجناح اليساري»، ورأوا أنها حتمية بدرجة أو بأخرى. وهنا نجد إشارة شديدة المرارة إلى الفرنسيين المتعاونين مع النازي أثناء الاحتلال، وتتضمَّن القائمة:
-
«ترحيل عشرات الآلاف من الأطفال اليونانيين.
-
التصفية الجسَدية لطبقة الفلاحين الروس.
-
الملايين من نزلاء معسكرات الاعتقال.
-
الخطف السياسي.
-
عمليات إعدام شِبه يومية وراء الستار الحديدي.
-
مُعاداة السامية.
-
الغباء.
-
القسوة.
وهناك الكثير مما يمكِن إضافته، ولكن هذا يكفيني.»
وأفرط بعد ذلك في الثناء على «مهنته النبيلة» التي أدَّت إلى قَبول إهانات الخدم من دون رد. «كان للمرء في أوقات أخرى، نعتبرها متخلِّفة، الحقُّ على الأقل في التحدي [أن يبارز]، وأن يقتل دون أن يكون موضع سخرية. من البلاهة أن يكون المرء على يقين، بيْدَ أن هذا يجعل الإهانة أقلَّ سهولةً.»
وفي أكتوبر ظهر عدد مجلة «أكتويل ٢»، ويتناول السِّجال الدائر حول «الإنسان المتمرِّد». وأوضحت أن هذا الكتاب الذي هو أصلًا مقالات وأحاديث منشورة لكامي استهدف تصفية حسابات مع مَن انتقدوه. والجدير بالملاحظة أن كلًّا من المقدِّمة وأحد الأحاديث يتطلَّعان إلى ما وراء النزاعات الخاصة بالشيوعية، ويركِّزان على الفنان وهدفه الأول، وهو الإبداع. وإذ يضع كامي في الاعتبار أن «زمن الفنَّانين الذين يظلُّون جلوسًا قد انتهى» — وهنا ولا شك إشارة مُعمَّاة إلى إغفاءة سارتر في الكوميدي فرانسيز — فإنه يناشد الفنَّانين التطلُّع إلى المستقبل من دون إحساس بالمرارة. إن الفنان وهو واحد من بين كثيرين يعملون ويناضلون، يلتمسون سبيلًا «لفتح السجون والتعبير عن أسباب سعادة وتعاسة كل إنسان». إن الفن يسعى لتغذية عملية تجدُّد وإعادة ميلاد العدالة والحرية. وغنيٌّ عن البيان أنه «من دون الثقافة ومن دون الحرية النسبية التي تفترضها مقدَّمًا، يصبح أيُّ مجتمع، حتى المجتمع الكامل، مجرَّد غابة. وهذا هو السبب في أنَّ جميع أشكال الإبداع الأصيلة هي منحة إلى المستقبل.»
وفي خريف ١٩٥٣م عقد كامي الأمل، تمامًا مثلما عقد الأمل في نهاية «الدفاع» قبل ذلك بعام، بأن يترك السياسة ويعود إلى الإبداع الفني. ونراه في مذكراته وتحت عنوان يقول «أكتوبر ٥٣»، يكتب: «نشرة أكتويل ٢. قائمة الجرد اكتملت، التعليق والحوار. ومنذ الآن فصاعدًا … إبداع.»