كلٌّ يستعيد دوره وإنتاجه
«وعلى الرغم من أنه لا يقتبس كلمات من «السقوط» ليُعيدها كما هي في «مجرم الطونا»، وهي مِن أهم أعماله، إلا أنه كما يبدو يشغله عملٌ من أعظم أعمال كامي.»
مع انتصاف العام ١٩٥٤م، كان كامي قد فقد دوره وتوقَّف إنتاجه؛ إذ على الرغم من بياناته الجَسُورة التي تُؤذِن باستئناف الكتابة، كان يحسُّ بأنه معقود اللسان وعلى شفا الجدب. وحاولت فرانسين مرتين خلال الشتاء أن تَنتحِر، ولزمَت فيما بين المحاوَلتَين الفراشَ في المستشفى ما بين بكاء ونوم وحديث عن ماريا كاساريس. وعلى الرغم من تأثُّر كامي بحكم الالتزام، لم يكُن ليجد في نفسه الحبَّ العميق المتَّسق الذي يمكِنه وحده، حسب اعتقاده، أن يكون السببَ في حدوث فارق. ولقد كان منذ صدور «الإنسان المتمرِّد» عاكفًا على قصتَين: «المرأة الزانية» — بتكليف من «ناس» في الجزائر — التي توفِّر حسًّا قويًّا بالعزلة والخيانة، والثانية «يوحنا، أو الفنان في مرسمه»، وهي عن رسام هامَ على وجهه في صخب الشهرة في باريس حتى توقَّف عن الرسم. ونظرًا إلى أن كامي صارع في صمت طوال العام ١٩٥٤م، فإنه بدأ يَعدُّ الأيام في مذكراته محاوِلًا من دون جدوى الاهتداءَ إلى سبيل للعودة إلى الإبداع. وفي يوليو أخبَر روجر كوييو أنه أصبح عاجزًا عن العمل طوال السنة. وبعد أن أكمل كتابة تصديرٍ قصير قال لصديقه رنيه كار: «لم أعُد أعرف كيف أكتب»، ووصف نفسه في إحدى الرسائل بأنه أشبه بمَن لم يشبَّ عن الطوق بعدُ، وفي رسالة أخرى أنه لا يعرف متى يمكِنه العودة إلى الكتابة. ولم تكن فرانسين لتتحسَّن في مأكلها، كما أن أمها التي انتقلت إليها لرعايتها طلبت من كامي أن يَرحل، وقال بانفعال وبإبداع: «أشعر بأنني جففت تمامًا … كما الحبر في منشفة من الورق.»
كذلك حال سارتر؛ إذ كانت السنوات عقِب القطيعة أكثر سنواته فراغًا ككاتب. وبدا صمتُه أشبه بشيء مفروض على نفسه؛ إذ كيف لنا بغير ذلك أن نفسِّر حظر سارتر تمثيل مسرحيته في فيينا؟ ألم يكُن هذا أشبه بمَن يقطع لسانه؟ وماذا عن صمته إزاء فظائع السوفييت مثل محاكمة سلانسكي، و«مؤامرة الأطباء»، وانتفاضة برلين الشرقية؟ ربما كان الأمر مجرَّد توافق عرَضي، ولكن سارتر حين زار الاتحاد السوفييتي بدا مُنهَكًا وانتهى به الوضع بقضاء عشرة أيام في المستشفى، ثم عاد بعد ذلك وقدَّم روايات وردية عن الحياة السوفييتية.
والجديرة ملاحظته أن سارتر على مدى الأعوام الأربعة بعد ردِّه على كامي لم يكتب أيَّ شيء ذي قِيمة، سوى ما كتبه عن «التحوُّل المذهبي»، وهو «الشيوعيون والسلام». ونجد في هذه السلسلة المؤلَّفة من مجموعة مقالات ليس بينها رباط قوي، والمنشورة في «الأزمنة الحديثة» ما بين العامَين ١٩٥٢م و١٩٥٤م، أن الكتابة الطنَّانة المهتاجة تكشف عن العناء من جانب سارتر في سبيل الدفاع عن الشيوعية والعنف. وتمثِّل الدراسة المؤلَّفة من أربع وثمانين صفحة، الدراسةَ الأصيلة الأخيرة عن تاريخ الطبقة العاملة الفرنسية. إنها أول كتابة ماركسية لسارتر اعتمادًا على مؤرِّخين واقتصاديين على نحو غير مسبوق أبدًا، وتفسِّر بعمق شديد كيف أن تاريخ وهيكل الرأسمالية الفرنسية قادا البروليتاريا إلى التطوُّر على هذا النحو، بحيث أصبح الحزب الفرنسي هو التعبير الضروري والملائم عنها. وبدأ سارتر يمتلك ناصية لغة جديدة، ولكن على الرغم من أن الأسلوب أكثر واقعيةً وتحديدًا، وأقلُّ تكلفًا من الأجزاء السابقة من «الشيوعيون والسلام»، فإن تفكيره وتعبيره لا يزالان بعيدَين عن وصفهما بالأناقة والوضوح شأن أعماله الفلسفية.
ويمثِّل هذا المقال المثالَ الوحيد في فترةِ ما بين القطيعة ووفاة كامي، والذي يذكر سارتر فيه كامي بشكل مباشر على نحوٍ ما. إنه يصف هنا الحاجة إلى السلم التراتُبي للعمَّال المهَرة الذين انعقدت لهم الهيمنة على الطبقة العاملة الفرنسية في مَطلع القرن، ويوضِّح كيف أن العمَّال غير المهَرة الذين هيمنَت عليهم عملية الإنتاج كانوا في حاجةٍ إلى هيئة مثل الحزب الشيوعي توحِّدهم وتعبِّئ طاقاتهم. وأوضح كيف أن العمَّال أنفسهم في السابق تولَّوا بأنفسهم إنشاء النقابات وإدارة شئونها للدفاع عنهم آنَذاك. «يبدو وكأنَّ هذا هو الزمان الجميل، وبعد أن انتهى بربع قرن اكتشفت «أرواحنا الجميلة» النقابات الثورية، ولا تزال تدفع بها إلى الأمام.» وطبيعي أن «الروح الجميلة» الكبرى هي كامي، حسبما وصفه سارتر (اقتداءً بجينسون) في «عزيزي كامي». ونذكر أن كامي في ختام «الإنسان المتمرِّد» دافع عن النزعة النقابية الثورية باعتبارها البديل عن الثورة الشيوعية. ولكن سارتر المنحاز إلى الطبقة العاملة الصناعية أحسَّ مرحليًّا بأنه مُضطرٌّ إلى الإخلال بالعهد الذي قطعه على نفسه بالتزام الصمت إزاء كامي. لم يَعُد قادرًا على مقاوَمة الرغبة في اتِّهامه بالتشبُّث بالماضي في سبيل توضيح أن تطوُّر الرأسمالية، شاء أم أبى، الذي أدَّى بها اليوم إلى خلق عمَّالها الصناعيين غير المهَرة، استلزم بالضرورة إنشاء الحزب كهيكل شِبه مُستقل لثوريين مُحترفين.
•••
«حسبَما يرى أصدقاؤنا الوجوديون، فإنَّ كل إنسان مسئول عن الوضع الذي هو فيه، وهذا هو ما يفسِّر اختفاء التراحم من عالَمهم الخاص بكبار السن العدوانيِّين، بيْدَ أنهم مع هذا يدَّعون النضال ضد الظلم الاجتماعي؛ لذلك نجد مَن هم غير مسئولين عن وضعهم؛ الفقير غير مسئول عن فقره. حسن، ماذا بعد؟ المرأة البتراء القبيحة الخانعة. وفي النهاية، هل التراحُم وكل شيء انتهى ثانيةً؟»
«اطَّلعت مصادَفةً على صحيفة «الكوميديا الفرنسية»، التي نسيتُ كلَّ شيء عنها. مهزلة جائزة الجونكور هذه المرةَ عن رواية «الماندارين». يبدو أنني بطلها، نقرأ وصفًا لراعيها في السياق (مدير الصحيفة التي بدأت خلال المقاوَمة)، لكن كل ما عدا ذلك هو زيف، سواء منه ما يتعلَّق بالأفكار أو المشاعر أو الأعمال. ولعلَّ ما هو أفضل تلك الأفعال المريبة التي تمخَّضت عنها حياة سارتر التي أُلقِيت بسخاء على كتفي وتحمَّلت عِبئها؛ إذ إنها، من دون هذا، مجرد هُراء، ولكن ليس قصدًا، بل على نحو طبيعي كما يتنفَّس المرء.»
ومضى يومان وهو لا يزال يستشيط غضبًا: «الوجودية! إنهم حين يتَّهمون أنفسهم، نستطيع نحن أن نكون على يقين من أن هذا دائمًا لإدانة الآخَرين». «تائبون-قضاة» ولم يكن كامي ينتقِد لمجرَّد الانتقاد حين هاجَم ما بدا مِن بوفوار (ومن قبلها سارتر) كشفًا عن مكنون نفسها، ورأى في ذلك حيلة للهجوم على الآخَرين. وإذ مضى كامي في تفكيره على أساس مفهوم «تائب-قاضٍ» للرد على «الماندارين»، اكتشف جرثومة ما سوف تحمل بعد بضعة أشهر اسمَ «السقوط».
وعلى الرغم من أن كامي أسرَّ برأيه هذا إلى مذكِّراته، فإنه حمى نفسه بالتظاهر باللامبالاة، مستهلًّا اليوم بالتأكيد على وجود مسافة تفصله عن باريس وحماقاتها، وأنهى يومه بتسجيل أشد الإدانات: «البطل هو أنا في الواقع»؛ ذلك لأن الشخصية الرئيسية في الرواية، والمدعو هنري بيرون، هو روائي ظهر من بين صفوف المقاوَمة في صورة رئيس لتحرير الصحيفة الرائدة المناهِضة للشيوعية ضِمن الجناح اليساري، وهي صحيفة «لسبوار». واشتهر عنه الأخلاق، ولم يَعُد يحب المرأة التي يُشاركها الحياة (إذ أصبحت مريضة عقليًّا)، ويَتُوق إلى أن يَنأى بنفسه عن السياسة، ويعود إلى الكتابة الإبداعية. ويقطع بيرون صداقته مع صديقه الحميم روبرت دوبريل زوج أخت آن، وهو كاتب أكبر سنًّا وأكثر شهرةً، وذلك بعد أن دأبت «لسبوار» على طبع تنبُّؤات عن معسكرات العمل السوفييتية.
قال هنري: «انظر. أنا لم أكتب عن هذا. أنت تعرف جيدًا أن جميع الشخصيات مختلَقة.» وقالت: «هُراء. إن عشرات الأمور في روايتك تَنطبق عليك أنت وعلى أبي. وعرفت بوضوح شديد ثلاثة أسطُر تتحدَّث عني.» وهز هنري كتفَيه وقال: «حديثهم يجري على ألسنةِ أناسٍ لا علاقةَ لهم بك.» «طبعًا، أردت أن أصور أناسًا يعيشون في أيامنا هذه، من الرجال والنساء الذين يعيشون في أوضاع مثل أوضاعنا، ولكن الحياة بها الآلاف من الناس الذين يعيشون هكذا. ولم أصوِّر نفسي ولا أباك. بل على العكس، نجد الشخصيات في أغلب الأحوال لا يشبهوننا في شيء على الإطلاق.»
هكذا تردُّ شخصية كامي مقدَّمًا على اعتراضات كامي. أرادت بوفوار قراءة الرواية باعتبارها من الأدب الخيالي، ووصولًا إلى هذا الغرض أدخلَت إضافات يكتشفها بسهولة أيُّ قارئ معاصر. من ذلك مثلًا أنها غيَّرت الترتيب الزمني للأحداث الواقعية عن طريق التداخُل بين الصدمات التي ترويها القصَّة عن فترةِ ما بعد التحرير، وبين جهود روبرت وهنري لتشكيل منظَّمة يسارية غير شيوعية، في الوقت الذي لم يكُن فيه التجمُّع الثوري الديمقراطي قد بدأ فعلًا، وحتى ظهور الحرب الباردة.
وتكثِّف القصَّة في أربع سنوات سلسلةً من الأحداث التي استغرقَت في واقع الحياة ضِعف هذه المدة، وتختزل النزاعات السياسية لفترة ما بعد الحرب بين عناصر اليسار فيما لم يَعُد يمثِّل قضية في واقع الأمر — سواء كان القصد هو الكشف أم عدم الكشف عن المعسكرات السوفييتية — بيْدَ أن هذه المسألة الخيالية موضوعة في الواقع التاريخي المَعيش لصدمةِ ما بعد التحرير وتقلُّص مساحة فرنسا للمناورة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. والملاحَظ أن كلًّا من الشخصيات الأربع مبنية على أساس شخصية واقعية، غير أن مُعتقَدات وأفعال كلٍّ منهم تمَّ تطويرها لأسباب خيالية لا تمتُّ بصلة لوقائع سيرة حياة الشخص نفسه. وهكذا أضحت الرواية عملًا خياليًّا غنيًّا ومعقَّدًا بحيث إن الخاتمة لا علاقةَ لها بالأشخاص الواقعيين الذين كانوا نقطةَ انطلاقها. ويتصالح في النهاية هنري وروبرت ويبدآن العمل لإصدار صحيفة يسارية جديدة، ويتزوَّج هنري ابنة روبرت وآن، ويُصبحان أبوَين.
«فرحة الوجود، مرح النشاط، لذَّة الكتابة، كل هذه الصفات أسبغتها على هنري. إنه يُشبهني على الأقل بقدر ما تُشبهني أن وربما أكثر.
ولكن مهما قال الناس عن هنري فإنه ليس كامي، أبدًا على الإطلاق. إنه شاب، أسود الشعر، ويُدير صحيفة. وإلى هنا يتوقَّف أيُّ وجه للتشابه. حقًّا كان كامي، شأن هنري، كاتبًا مُستمتعًا بالحياة، مَعنيًّا بالسياسة، بيْدَ أن كلَيهما يشاركان من حيث هذه السمات الكثيرين جدًّا غيرهما، ومن بينهم سارتر وأنا نفسي. والملاحظ أن لغة هنري ومواقفه وشخصيته وعلاقاته مع الآخَرين ونظرته إلى العالم وتفاصيل حياته الخاصة وأفكاره؛ كل هذه الأمور مختلفة تمامًا عن صفات نموذجه الزائف. وإن عداء كامي العميق للشيوعية ربما يكفي وحده لبيان الهوَّة العميقة بين الاثنين. إنَّ البطل في روايتي يُشبه سارتر وميرلو-بونتي من حيث علاقته بالحزب الشيوعي وموقفه من الاشتراكية، ولا يشبه كامي في أقل القليل، وتسكنه في أغلب الأوقات عواطفي وأفكاري أنا … إنَّ الحميمية الموجودة بين هنري وروبرت أشبه كثيرًا بتلك الحميمية التي كانت موجودة بالفعل بيننا وبين بوست، أكثر من كونها تشبه الصداقة القديمة التي جمعت بينَنا وكامي. واضطرَّتني الظروف إلى وصف كيف كان العراك الأخير بين كامي وسارتر هو المرحلة الأخيرة ضمن خلاف طويل في الرأي بينهما، كما أن القطيعة التي حدثت بين هنري ودوبروي مختلفة تمامًا عن القطيعة بين سارتر وكامي. وكتبت تصورًا أوليًّا لها العام ١٩٥٠م، وأعقبها تصالح، وهذا ما لم يحدث بين سارتر وكامي. وبعد أن تحرَّرنا مباشَرة بدأت مواقفهما السياسية في التباعد.»
أرادت بوفوار بهذا العمل من الأدب الخيالي أن تنقل خبرات ونزاعات واقعية، ولكن ليس على أساس من التطابُق مع تقلُّبات حياة الناس في الواقع الحياتي من أمثال كامي. تُرى هل بوفوار مرَّغت كامي في الوحل كما يؤكِّد أنصاره؟ إن كامي باعتباره ضحية هجوم سارتر ليس في وسعه إلا أن يرى هنري شخصية تُناظره. ويظهر هنري كشخصية متماسكة، وكأنَّ نموَّه الشخصي والسياسي يمثِّل على الأرجح الخيطَ الأقوى في الرواية. ونراه في ختام الرواية يدمج بنجاح التوتُّرات الدافعة له؛ إذ يجمع بين إرادته للحياة بسعادة وبين فهمِه أن ليس بالإمكان تجنُّب العمل من أجل أن يكون العالَم مكانًا أفضل. ونراه على مستوى المشاعر والنظرة العامة أكثر جاذبيةً بكثير من روبرت الذي يملك ردًّا فلسفيًّا على كل مسألة، ولكن من دون ذاتية أو لحم ودم. وثَمَّة حدَثان انطوَيا على تجاوز في حياة هنري، وهما عشيقته بولا ومغازلته لممثلة فاتنة كانت على علاقة غرامية مع ضابط ألماني، ثم كذبه أمام المحكمة لإنقاذ هذه الممثِّلة. ولكن تجاوزات هنري هذه لا تَظهر في سياق الرواية باعتبارها أخطاء، وإنما تطوُّر أصيل في حياة الفرد الأخلاقية والسياسية. ولكن إذا أصرَّ كامي على أن يرى هنري هو نفسه، فإنَّ في وسعه أن يلحظ أن بوفوار كافأته بنهاية سعيدة؛ إذ تخيَّلت صلحًا معه أعاده إلى «أسرتها»، وجعلته هو وخصمه السابق يعملان معًا من أجل إصدار مجلة أسبوعية يسارية.
بيْدَ أن كامي، شأن ألغرين، لديه سبب وجيه للشَّكوى. لماذا تُسمَّى صحيفة هنري باسم «ليسوار»، وهو اسم السلسلة التي أشرَف على تحريرها كامي لدى دار غاليمار، إن لم تكُن تريد توجيه ذهن القارئ إلى كامي؟ لماذا تفتح آن على صفحة تجعل الذهن يستحضر بقوَّة مجلة «كومبا»، وترى — مثلما رأى أيٌّ من قارئي الرواية في سبتمبر ١٩٥٢م — الرسالتين اللتين تبادَل فيهما روبرت وهنري كلمات سِباب وقذف؟ وتمادَت بوفوار كثيرًا في مواضع عديدة إلى حدِّ استعارة كلمات حقيقية تداوَلها سارتر وكامي أثناء القطيعة. إن هذا يجبُّ زعمها بأنها خلقَت عالمًا خياليًّا. إمَّا أن ثمَّة شيئًا عميقًا كان يعتمل في نفس بوفوار تجاه كامي، مثلما كان باديًا تجاه ألغرين — ربما محاوَلة للتخلص من هواجس، أو التحويل الخيالي لعلاقات أليمة معيَّنة كانت تهمُّها وتعني الكثير بالنسبة إليها — وإمَّا أنها أرادَت استثمار تفاصيل علاقات شخصية حميمة خاصة بكامي وترجع إلى المحادَثة التي دارت بينهما في وقت متأخِّر من الليل. وهنا يمكِن القول إن بوفوار، في أقل القليل، مذنِبة بافتقارها إلى الحساسية واغتنام علاقاتها كمادة للتعبير الخيالي.
ربَّما كان حتميًّا أن يرى كامي الرواية بمنزلة تصفية حسابات. وقال لأحد أصدقائه: «ألقوا كلَّ أوساخهم الملعونة على ظهري.» واقترح الشاعر البولندي كزيسلاف ميلوسز على كامي أن ينشر ردًّا، ولكن كامي رفض: «لأنك لا تناقِش الأمور مع خادم.» وسبَق له، قبل ذلك بعامَين، أن أحجَم عن نشر ردِّه السياسي على هجوم سارتر ضدَّه حتى لا يبدو أضحوكة. والآن وبعد العام تقريبًا من عجزه عن مُواصَلة الكتابة يبدو غير مستعدٍّ بالقدر نفسه.
•••
وفي ديسمبر، انتُخِب سارتر نائبًا لرئيس رابطة الصداقة الفرنسية السوفييتية. ومضَت السنة التالية بالنسبة إلى سارتر — على نحوٍ ما — كسابقتها إلى حدٍّ كبير: خُطَب وأحاديث يَمتدح فيها الاتحاد السوفييتي، علاوة على رحلة إلى الصين نشَر عنها تقريرًا مُتوهِّجًا. وكتَب في العام ١٩٥٥م مسرحيته التي يتذكَّرها الناس أقلَّ من مسرحياته الأخرى، وهي «نكراسوف». وتتضمَّن المسرحية هجاءً للصحافة المناهِضة للشيوعية، ونجد مسافة طويلة بينها وبين المسرحيات التي تتَّسم بالنظرة الثاقبة التي كتَبها قبل القطيعة مع كامي.
«بدأت أفسِح مجالًا للواقعية السياسية … عند الشيوعيِّين: وهو كذلك، أن تفعل هذا لأنه الأسلوب الفعَّال، وتجري مراجَعة وتقييمًا له في ضوء فعاليته قبل أن يكون في ضوء أفكار غامضة يتعيَّن عليك أن تنفِّذها على أساس أخلاقي. ومثل هذا الأخير من شأنه أن يؤخِّر إنجاز أمورك. ولكن لك أن تتخيَّل أن هذه الفكرة إجمالًا لا تتوافَق معي، إنها لا تحقِّق هدفًا على الرغم من حقيقةِ أنني مضَيتُ بها إلى غايتها، ثم وصلت أخيرًا إلى واقعية محضة: إن ما هو واقعي صواب، وما هو صواب واقعي. وعندما بلغت هذا الحد، رأيت أن هذا يعني أنني كففتُ عن كل أفكار عن الأخلاق.»
ها هنا يقول سارتر إنَّ مُناصَرته للشيوعية في الخمسينيات — وبالتالي قطيعته مع كامي — تعني إبدال «الأفكار القديمة ذات الصلة بالأخلاق» ﺑ «واقعية محضة». وذهب إلى أن هذا الإبدال استلزم اتخاذ عدَّة خطوات في وقتٍ واحد. أولًا، شفي من عصابه الذي لازَمَه طوال حياته، وهو «أن لا شيء أجمل من الكتابة، وأن تكتب يعني أن تبدع أعمالًا خالدة، وأن حياة الكاتب ينبغي أن نفهمها من خلال عمله». ثانيًا، حرَّر نفسه «بشكلٍ مباشر تقريبًّا، من كونه مثاليًّا أخلاقيًّا، وقلقًا مع العالم الواقعي وسُبله المختلفة». وجدير بالملاحظة أنه من دون أن يذكر اعتبارًا ثالثًا، وهو معاملته مع كامي، نراه الآن يقرُّ بأنه مضى بعيدًا جدًّا خلال هذه الفترة في سبيل قمع جانب أصيل من نفسه، والذي سيعاود الظهور مرةً أخرى في النهاية. ولم يرَ أن التزام صديقه الصمتَ مرتبط بالتزام هذا الجانب من نفسه بالصمت أيضًا.
«أعتقد، من ناحيتي، أن فكرة الثورة سوف تستعيد عظَمتها وفعاليتها فقط لحظةَ تخلِّيها عن نزعة السخرية والانتهازية التي كانت شريعتها السائدة على مدى القرن العشرين، وحين تُصلِح من مادتها الأيديولوجية التي استخدمَتها وحطَّت من شأنها على مدى نصف قرن من المساومة، وعندما، في نهاية الأمر، تكون حماستها التي لا تَلين من أجل الحرية محورَ اهتمامها ودعوتها.»
ولكن الوفاء بهذه الشروط يستلزم، من بين أمور أخرى، «رفض التعاون مع الشيوعية الراهنة». وحيث إن الشيوعية كانت «المشكلة الكبرى لعصرنا»، يصبح لزامًا ألَّا نُخفِي القضية وراء هجمات شخصية. كذلك فإن كامي في انطلاقته لاستعادة دوره السياسي العام، عاد إلى صراعه مع سارتر، وأكَّد من جديد في صحيفته اﻟ «إكسبريس» الاختلافَ الأساسي بينهما، ووسَّع من نطاق تقدُّمه ليشمل «الصحافيين العاملين في مجلة لوبزرفاتور وكلَّ مَن يُشبهونهم».
ويرى كامي أن من بين هؤلاء دان-ماري دوميناك، المحرِّر في صحيفة «لي سبريت» الكاثوليكية الشهرية. ويرجع تاريخ سجاله مع دوميناك إلى الصيف السابق عندما كتب كامي تصديرًا موجَزًا لكتاب عن المقاوَمة، دعا فيه إلى التغلُّب على الكراهية، وهاجَم في الوقت نفسه بمرارة المثقَّفين المُوالين للشيوعية. وأعادت مجلة «تيموان» الفوضوية نشْرَ التصدير في عدد ربيع العام ١٩٥٥م، تحت عنوان رئيسي «رفض الكراهية». وكانت مجلة «تيموان» قد أدرجَت اسم كامي ضمن هيئة تحريرها، واتَّهم كامي المثقَّفين الشيوعيين بأنهم مُتعاوِنون محتمَلون مع الاتحاد السوفييتي حال وقع غزو، وقال إنهم — سياسيًّا وأخلاقيًّا — يشبِهون المتعاوِنين المُوالين للنازي في العام ١٩٤٠م. وأحسَّ دوميناك في هذا بالإساءة إليه. والجدير ذكره أن دوميناك صاحب واحدة من أكثر المناقَشات ذكاءً وتوازنًا التي دارت بشأن نزاع كامي-سارتر قبل ذلك بثلاثة أعوام، وأرسل ردًّا لاذعًا إلى مجلة «تيموان»، متهمًا فيه كامي باستخدام احتفال بذِكرى المقاوَمة ليحيي معركته الأدبية مع سارتر. «حريٌّ بالإنسان ألَّا يَحسم معاركه عند بوَّابات المقابر.»
«سارتر ليس عدوًّا، لم يَحدث بيني وبينه نزاع أدبي، لقد كان خصمي فقط بشأن نقطة واحدة أعتبرها محورية لنا جميعًا. وأرى أيضًا، وهذا صحيح، أنه لم يكُن خصمًا صادقًا، بيْدَ أن هذا أمر يخصُّني أنا وحدي. ولكن أجد من ناحية أن النزاع الذي فرَّق بينَنا يتجاوزنا نحن الاثنين، وسوف أواصِل المعركة ضد سارتر، إذا كان ذلك ضروريًّا، وضدَّ مواطنينا التقدُّميِّين بعامة. وحيث إنني كنت أتكلَّم في تصديري للكتاب عن المثقَّفين التقدُّميِّين، فإني أقول إذا كان سارتر من بينهم، فكذلك أيضًا دوميناك.»
تكشف ملاحظات كامي كيف أن الشخصي والسياسي لا يزالان مُتداخِلَين في موقفه من سارتر بعد مُضيِّ ثلاث سنوات على القطيعة. ويرى من ناحية أن سارتر لم يكُن أمينًا، وأن هذه مسألة شخصية بين الاثنين. ويرى من ناحية أخرى أن نزاعهم انصبَّ على موقفِ كلٍّ منهما من حيث القضايا السياسية الكبرى. وتؤكِّد جملته الأخيرة أن كامي رأى نفسه بحلول العام ١٩٥٥م — وسوف يظلُّ هذا صحيحًا طوال بقية حياته — يقف ضدَّ كتلة واحدة قوية فكريًّا من المثقَّفين اليساريين المتعاطفين بدرجة أو بأخرى مع الشيوعية، أو أنهم — على أقل تقدير — معارِضون لمناهضَة الشيوعية، واشتملت هذه الكتلة على «الأزمنة الحديثة» و«لوبزرفاتور» و«لوسيريت»، وأن سارتر هو القوة المهيمنة عليها.
وكفَّ كامي، بحلول العام ١٩٥٥م، عن أن يُحارِب وحْدَه تيارًا طاغيًا، وكتب إلى المجلة الأسبوعية ذات الاتجاه السائد لليسار المُعتدِل بما يعني أن له هو أيضًا مؤيِّدين وزملاء وجمهورًا. وأحسَّ، في الحقيقة، بثقة كافية تؤهِّله لتوجيه أقسى اتهام ممكِن من عضو سابق في المقاوَمة إلى آخَر؛ إذ قال إن سارتر وزملاءه، بما في ذلك مجلَّتا «لوبزرفاتور» و«لوسبريت»، يُشبهون المتعاوِنين مع النازي في العام ١٩٤٠م، الذين فتَنهم بلد أجنبي زعم أنه يجسِّد مُثُلهم العليا. ورأى كامي أن هذا هو المحكُّ الصحيح الكاشف: إذا قرَّر الاتحاد السوفييتي غزو فرنسا، فهل دوميناك والآخرون سوف يقاوِمون أم يرحِّبون بالغُزاة؟ لكن نظرًا لأنه يكافح من أجل روح اليسار، فإنه لن يقطع صِلته باليسار الذي «أدين له بالولاء. لقد وُلِدت في أسرة هي اليسار، وسأموت بينها».
•••
بعد أن أكَّد كامي من جديدٍ حضورَه السياسي، استقر على تناول القضايا الملحَّة المطروحة. وكتب على مدى الأشهر الثمانية التالية اثنين وثلاثين مقالًا للمجلة الأسبوعية، ثم لمجلة اﻟ «إكسبريس» اليومية. وكان نصف هذه المقالات عن الجزائر، وظهرت أساسًا خلال شهر يوليو، وأكتوبر، ونوفمبر. وكان النزاع الجزائري — إذ لم تكُن كلمة «حرب» مستخدَمة بعدُ حتى على لسان اليسار — هو السبب الرئيسي في عودة كامي إلى الصحافة. وتمثِّل هذه المقالات مداخَلته الكبرى الثالثة في شأن الجزائر. ونعرف أن كامي في المداخَلتَين الأولى والثانية في العامَين ١٩٣٩م و١٩٤٥م كان بعيدًا عن الرأي السياسي الأكثر صقلًا، وقال أشياء لم يكُن ليجرؤ كاتب على مناقَشتها علانيةً، بما في ذلك أشد الصحف راديكاليةً. لكن كل جهد من أجل الإصلاح كان يجري تدميره في الجزائر؛ ولذا أخذ القوميون الراديكاليون المبادَرة الآن. وفي أول نوفمبر ١٩٥٤م، دعَت جبهة التحرير الوطني إلى «استعادة الدولة الجزائرية ذات السيادة كدولة ديمقراطية واشتراكية داخل إطار مبادئ الإسلام». وبدأت ثورة، وهاجمَت مؤسَّسات الحكومة في أنحاء الجزائر كلها.
وقامت السلطات الفرنسية على الفور بمحاصَرة آلاف الجزائريين، وردَّت بعنف على هجمات جبهة التحرير. ووسَّعت الجبهة من نطاق هجماتها لتَشمل العرب العاملين في الإدارة، وارتكبَت أيضًا أعمالًا إرهابية ضدَّ المستوطنين الفرنسيين، خاصةً المقيمين في الضواحي. وعلى الرغم من أن الرسوم البيانية تكشف عن تصاعُد عدد الحوادث في الجزائر، فإنها لم تحتلَّ العناوين الرئيسية في صحف باريس. وهكذا نجد أن المقالَين اللذين نشرهما كامي خلال شهر يوليو يمثِّلان استعراضًا للموقف في الجزائر، ووضعاه مرةً أخرى في صورةِ مَن يقوم بدور رسول صاحب بصيرة.
ولكن مع فارق؛ إذ على الرغم من أن كامي كان لا يزال في مقدمة الرأي السائد، لكنه بحلول مُنتصَف العام ١٩٥٥م تخلَّف كثيرًا عن الموقف الفعلي. لقد حاوَل، كما حدث في مقالاته السابقة، تناول «الأسباب العميقة لمأساة اليوم»، وخرج عن أسلوبه المعهود ليقول إنه يشعر شخصيًّا بأنه «أقرب إلى فلاح جزائري أو راعٍ قبَليٍّ منه إلى رجل أعمال من مُدننا الشمالية». وتحدَّث عن الفرص الضائعة، وعن الحاجة إلى وضع النزعة الاستعمارية في متحف الماضي. بيْدَ أنه كان أكثر غموضًا، قياسًا إلى مقالاته الأولى، كما كان عازفًا عن التصدِّي لبيان كيف تطوَّر الموقف. والجدير ذِكره أن تفسيره لدافع العرب إلى الإرهاب — «اليأس» — بدا له رنين سيكولوجي ويستلزم رعاية، وكأنَّ كامي لا يزال يفسِّر الجزائريِّين العرب للقرَّاء الفرنسيين حتى بعد أن مكَّنت جبهة التحرير جموعَ الجزائريِّين من أن يضعوا الأمور بين أيديهم. ولكن مهما كان تعاطُف كامي أصيلًا مع شعب يعيش «بدون مستقبل ويعاني من الإذلال»، فإنه لم يستوعب الدروس المصيرية لمعركة دين بيين فو، وهي الدروس التي استوعبتها — يقينًا — جبهة التحرير الجزائرية. وأهم من ذلك أنه لم يفهم معنى التمرُّد الذي بدا مع أول نوفمبر العام ١٩٥٤م.
وتجلَّى هذا واضحًا بصورة مذهِلة في الاقتراح الرئيسي الذي تضمَّنته المقالات؛ إذ رفض «الخطأ الدموي» للإرهاب مثلما رفض «القمع الغاشم والعشوائي» للحكومة، وطالَب بعقد مؤتمر يكون له هدف واحد: وقف طوفان الدم. مَن يُشارك فيه؟ ذكَر كامي اسمَ المنظَّمات القديمة ذات الخط الديني القومي الاستيطاني، من دون أن يذكر جبهة التحرير الجزائرية — التي كانت آنذاك تستوعب كلَّ فِرَق المعارَضة الموجودة — وبدا كامي كذلك غافلًا عن نوايا التمرُّد الجزائري؛ ذلك لأنه اقترح عقد المؤتمر بعد وقف إطلاق النار وبدء إصلاحات اقتصادية، والدعوة إلى انتخابات جديدة تُديرها الحكومة الفرنسية، باعتبارها «صاحبة الدور الفيصل والحكم». ويعرف هو أن انتخابات العام ١٩٤٨م خربتها الإدارة الاستعمارية ذاتها، وألقى باللوم على الحكومة بسبب أغلب الأخطاء الحادثة في الجزائر. لكنه لا يزال يتصوَّر أن الدولة الفرنسية في وسعها أن تكفل نزاهة الانتخابات الجديدة، وأن الثوار في وسعهم أن يدركوا ذلك. وهكذا افترض أن جبهة التحرير الجزائرية، التي رفض ذِكر اسمها، سوف تُلقي سلاحها بناءً على هذا الوعد.
وصادَف كامي إنكارًا، ومضى بعيدًا أثناء النقاش إلى حدِّ أنه ضمَّن مقالَه بخطٍّ مميز خاتمةً ختَمَ بها مقالاته العام ١٩٣٩م عن القبائلية: «إذا كان في وسع الاستعمار أن يجد مبرِّرًا، فإن ذلك المبرِّر هو أنه شجَّع شخصية الشعب المستعمر.» قال هذا بعد أن وصل إلى نتيجةٍ مفادُها أن الاستعمار الفرنسي لم يفعل شيئًا من هذا. لذلك فإن كامي، في ضوء الموقف الجديد جذريًّا، أعطى انطباعًا بأن تفكيره عن الاستعمار لا يزال ثابتًا عند الثلاثينيات.
واتَّخذ سبيله إلى الواقع الجديد، ولكن بأسلوبٍ كشف مكنون فِكْره. ونعرف أن بيانه في العام ١٩٣٩م تضمَّن نصًّا لم يَعُد له مجال الآن؛ إذ كان في الأصل يتكلَّم صراحةً عن «السيطرة الاستعمارية» وتبريرها بأنها تساعد «الشعب الخاضع للسيطرة على الحفاظ على شخصيته»، ولكنه الآن في العام ١٩٥٥م انتقل من «السيطرة الاستعمارية» و«الخاضع للسيطرة»، إلى «الاستعمار» و«المستعمر». وأخفَت الصياغة الجديدة تدميرَ الحرية وطمس مَعالم العنف. وأكثر من هذا أن الشعب الخاضع للسيطرة له عن أصالة حقُّ الإطاحة بالمسيطرين عليه، وأن ما عاناه طويلًا من عنف يمكِن — وعلى نحو مشروع — أن يؤدِّي إلى الرد عليه بعنف مثله كما يعرف جيدًا مؤلِّف «الإنسان المتمرِّد». بيْدَ أن الصياغة الجديدة طمست هذه الحقائق. كذلك فإن الانتقال من «الحفاظ على» إلى «تشجيع»، ليس أقلَّ من حيث وضوح الرؤية. ونجد كامي أكثر من مرة في مقالات العام ١٩٥٥م يُشير إلى أن الاستعمار الفرنسي فعَل كلَّ ما في وسعه لقمع الشخصية الجزائرية، ولكن لأن الجزائريِّين احتفظوا بشخصيتهم، فإنهم الآن في سبيل تأكيدها. وإذ رفض كامي «إرهاب» الجزائريين، فإنه تجنَّبَ ذِكر جانبَين رئيسيين لأسلوبهم في تأكيد شخصيتهم: مطالَبتهم بالاستقلال، وتنظيمهم جبهة التحرير الوطنية.
ووقعت في ٢٠ أغسطس مذبحة دموية ضارية راح ضحيتها عشرات الأوروبيين في بلدة فيليب فيل، وأعقبَتها عمليات قمع شرِسة ضد آلاف العرب على أيدي الجيش والمستوطِنين. وقضَت هذه الأحداث على وهمِ إمكان احتواء النزاع. وإذا بالجزائر التي اختفى اسمُها قبل ذلك من الصفحات الأولى، تعود من جديد وبشكل مُثير، وأصبحت على الفور القضيةَ المحورية للانتخابات القادمة. وظلَّت على مدى السنوات السبع التالية مهيمِنة على الحياة الفرنسية. واستمرت الحكومة في الاعتماد على أسلوب الانتقام الشامل والتعذيب الجماعي لسحق الثورة، وضاعفَت من وجودها العسكري من حينٍ إلى آخَر، حتى جاوَز نصف مليون جندي. هذا بينما حرصت جبهة التحرير على مواصَلة وتشديد النضال عن طريق الإرهاب ضد المستوطنين، وكذا ضد الجزائريين المسانِدين للفرنسيين، بمَن فيهم مَن يعيشون في فرنسا.
وبعد مذبحة فيليب فيل كتَب كامي إلى صحيفة اﻟ «إكسبريس» التي أصبحت يومية، وفي نفسه شعور متزايد بأن الأمر بات عاجلًا ومُلِحًّا. وقال في ٢٥ أكتوبر: «إن المواجَهة الحرَّة بين القوى» الفاعلة على الساحة هي السبيل الوحيد، في الوضع الراهن، للوصول إلى حل. وكتب في ١٨ أكتوبر، حيث بات من المستحيل على الفرنسيين والعرب العيش معًا، فقد أصبح ضروريًّا جمع كل الأطراف معًا «من المستعمرين إلى الوطنيين». وأكَّد أن الصورة العامة للمستعمر الذي يحمل سوطًا ويقود سيارة كاديلاك لا تحمل أيَّ شبه بينها وبين الغالبية الساحقة من المليون نسمة من الفرنسيين الجزائريين الذين ضربوا بجذورهم راسخةً في البلاد وغالبيتهم من العمَّال والموظفين المدنيين، ويجنون ما هو أقل كثيرًا مما يجنيه نُظراؤهم في فرنسا.
وحلَّت الذكرى السنوية الأولى لانفجار العمليات العسكرية، وكان هناك ٦٠ ألف جندي على أهبة الاستعداد لكي ينضمُّوا إلى قوة قائمة في الجزائر تعدادُها ١٢٥ ألفًا، وبدأت الصحف اليومية تكتب تقارير عن هجمات وعمليات إعدام. وحاوَل كامي هنا التصدِّي لحالة «الهوس المُعادي للأجانب» الآخذ في الازدياد. وعاد ليؤكِّد من جديدٍ أهميةَ الجمع بين الطرفَين المتصارعَين، وجعَل همَّه الحدَّ من الضحايا المدنيين إلى أقل عدد ممكِن. وإذ لحظ كامي تفاقم العنف باطِّراد، كشف عن اقتراح بشأن عقد هدنة مدنية. ورأى أن تعهُّد كلٍّ من الطرفَين باحترام حياة المدنيين من شأنه أن يقلِّل المعاناة، وربما يُفضي إلى حوار.
وفي ٢٠ يناير ١٩٥٦م فازت الجبهة اليسارية الجمهورية المعتدِلة بعدد كافٍ من الأصوات يؤهِّلها لتشكيل الحكومة، ولكن الراديكاليين أتباع منديس فرانس داخل الجبهة خيَّبوا آمال مؤيِّدي الجبهة الذين وعدوهم بالفوز بأصوات أكثر من الاشتراكيين، وبذا كان منصب رئيس الوزراء من نصيب جي موليه الاشتراكي. وبينما كان موليه عاكفًا على تشكيل حكومته الجديدة، طار كامي إلى الجزائر ليضع نفسَه على مسار إنجاز اقتراحه. والجدير ذِكره أن الأصدقاء في الجزائر، ومن بينهم عربٌ بارزون، غير معروفين لدى كامي، وهم أعضاء في جبهة التحرير الجزائرية، كانوا قد توحَّدوا في صورة لجنة من أجل هدنة مدنية، وعقدوا الأمل على خلقِ تأييدٍ واسعِ النطاق لدعم الفكرة والجمع بين الجزائريين والفرنسيين معًا، وانعقد لذلك اجتماع جماهيري ليلةَ الأحد ٢٢ يناير في سيركل دي بروجريه على حدود القصبة.
امتلأت القاعة عن آخِرها بحوالي ما يزيد على ألف ومائتَي شخص يمثِّلون قسمَين متساويَين من الأوروبيين والجزائريين، وأحاط بالاجتماع في الخارج حشدٌ عدائي من الفرنسيين الجزائريين احتجاجًا على الاجتماع، يقودهم جو أورتز، وهو مالك حانة وعنصري متطرِّف، وسيكون له دور بارز في أحداث التمرُّد ضد الحكومة مستقبلًا. وأحاط بهذا الحشد الغاضب حشدٌ من الجزائريين صامت ومنظَّم للغاية. وبدا أن مقاتِلي منظَّمة التحرير الجزائرية تولَّوا حراسة الاجتماع، علاوة على الشرطة الفرنسية المنتشرة لحفظ الأمن. وكان كامي الذي أصبح أشهر أبناء الفرنسيين الجزائريين في الجزائر هو المتحدِّث الرئيسي داخل القاعة المزدحمة المتوترة. وأخذ المتطرِّفون في الخارج يصيحون: «كامي إلى المشنقة.» وردَّدوا شعارات تهديد ووعيد ضدَّ منديس فرانس وعمدة الجزائر العاصمة الليبرالي. ودخل القاعة فرحات عباس الجزائري المُعتدِل وأحد معارف كامي القدامى، وكان قد حضر بعد بدء الاجتماع، وانضمَّ إلى كامي وأصدقائه والزعماء الدينيين على المنصَّة. وتعانَق الاثنان، وبينما تعالَت الأصوات في الخارج أكثر فأكثر، بدأ المشتركون في الاجتماع يسمعون صوتَ أحجار يقذفها الغاضبون في الخارج وتصطدم بالنوافذ.
ورأَس الاجتماعَ شارلس بونشيه، الصديق المقرَّب إلى كامي. ونهض كامي ليتكلَّم شاحبَ الوجه، وبدا إلقاؤه رسميًّا أكثر مما ينبغي وهو يقرأ كلمة مكتوبة، وإن كانت أفكاره قوية واضحة. وتحدَّث عن الموقف الجزائري باعتباره «مأساته الشخصية»، وأشار إلى أن كلَّ مَن في داخل القاعة يربطه بنا «حُبُّ ترابنا المشترك». وتحدَّث عن «الأصول القديمة والعميقة للمأساة الجزائرية»، مشيرًا بحزن وأسًى إلى «الأطماع الأجنبية» التي تهدِّد فرنسا بالخطر. وأطلق كامي «نداءً أخيرًا للالتزام بالعقل، قبل اندلاع حرب الأخوة ضد الأخوة»، وقبل أن يتفسَّخ الوضع ويتحوَّل إلى «جنون العداء للأجانب». وشدَّد على أن العرب والفرنسيين «جديرون بالاحترام على قدم المساواة»، وأعلن أن «التضامن الفرنسي العربي» حتمٌ «لا مفرَّ منه»، خاصةً إذا نجح اقتراحه بشأن هدنة مدنية في تغيير «جوهر طبيعة الصراع». وإذ أرغمَته الضوضاء الغاضبة في الخارج على الإسراع، فاكتفى كامي بدعوة مستمعيه بأن «لا ينحنوا أمام الواقع»، وأن يرفضوا أيَّ شكل من أشكال القدرية التي من شأنها أن تقضي على حريتهم، وأنَّ عليهم قبل كل شيء أن «يرفضوا ممارَسة أو معاناة الإرهاب».
وهكذا عارَض كامي الإرهاب في شجاعة، مؤكِّدًا الاعتراف المتبادل، كما تحدَّث بإسهاب وسخاء غير معروفَين لدى زملائه من الفرنسيين الجزائريين، وأصبح كامي العظيم من جديد يشدِّد على ضرورة السباحة ضد التيار، وخلق الفرص والإمكانات حيث نظنُّها معدومة، لكنه أيضًا حام حول لبِّ المشكلة دون أن يذهب تفكيره إلى ما هو أعمق من «اللاعقلانية» و«الكراهية»، ولزم الصمت إزاء الأساس والسبب الحقيقي، وهو النظام الاستعماري نفسه، وحثَّ كامي على حماية المدنيين، كما عمد في الوقت نفسه إلى رفض الاعتراف بأن القضية وراء إرهاب كلٍّ من الطرفَين هي — تحديدًا — وجود المدنيِّين من كلٍّ من الطرفَين؛ حيث هناك مليون نسمة من ذوي الامتيازات، بينما تسعة ملايين نسمة محرومون من حقوق المواطَنة. والجدير بالملاحظة أن المنطق السوداوي لكلٍّ من الإرهاب الجزائري والفرنسي نابع من واقعِ أنَّ كلَّ طرف يرى جماهير الطرف الآخَر هي الخطر الذي يتهدَّده. ولم يشأ كامي الاكتفاء بالنظر إلى ما وراء أساطير المستوطنين، والتحدُّث بأمانة عن القهر المنظَّم الذي يعيش في ظلِّه العرب الجزائريون، بما في ذلك عشرات الامتيازات اليومية للفرنسيين الجزائريين. ولم يشأ كذلك التصدِّي لهشاشة وضع الفرنسيين الجزائريين في الجزائر.
وبعد أن ختم كامي كلمته، أرغم الضجيج في خارج القاعة بونشيه على إنهاء الاجتماع سريعًا. ووافَق المستمعون على مطالَبة جميع الأطراف ﺑ «ضمان حماية المدنيين الأبرياء»، ثم بدءوا في الخروج من القاعة وكلٌّ يلتمس طريقًا آمنًا عبر الفرنسيين الجزائريين الذين يتوعَّدونهم، وقد مضوا في مسيرة عبر المدينة يواصِلون الصياح مُعلِنين شعاراتهم. وطرح كامي في اليوم التالي فكرة الهدنة على الحاكم العام جاك سوستيل الذي أنهى مدتَه وفي سبيله إلى العودة إلى فرنسا، لكنه رفض الفكرة مؤكدًا أن المتمرِّدين لن يوافقوا عليها. وهكذا كانت نهاية آخِر جهد مهم من أجل عقد مصالَحة فرنسية-عربية عرفها التاريخ الجزائري. وابتأس كامي لفشل المهمة، واستقال من صحيفة اﻟ «إكسبريس»، ووضَع نهايةً لآخِر فترةِ عملٍ خلالها بالصحافة بكتابة عمود في مطلع فبراير امتدح فيه ما توافر في موسيقى موتسارت من مواساة.
•••
بعد مُضيِّ خمسة أيام على مؤتمر الفرصة الأخيرة الحاشد في الجزائر وقَع حدث آخَر يعادله أهمية في قاعة صال واغرام في باريس؛ إذ أعلن جنود الاحتياط احتجاجَهم عدَّة مرات خلال بضعة أشهر على إرسالهم إلى الجزائر، ولكن كان هذا أول اجتماع حاشد لهم في العاصمة ضد الحرب، ونعرف أن اجتماع الجزائر الذي تحدَّث فيه كامي انعقد يوم الأحد، وهو يوم عطلة الراحة للفرنسيين الجزائريين، ولهذا حضَره عدد كبير، ولكن اجتماع باريس المشار إليه هنا، المنعقِد لمسانَدة الحركة الوطنية الجزائرية، انعقد يوم عطلة الراحة الأسبوعية للمسلِمين، وهو يوم الجمعة، ولهذا حضَره حشد كبير يمثِّل العربُ ثلاثةَ أرباعه، وتحدَّث عدد كبير من تيَّارات وتوجُّهات عديدة، من بينهم جزائريون وشيوعيون ومثقَّفون يساريون مستقلُّون وسارتر وأستاذ راديكالي من جامعة الجزائر يُدعى أندريه ماندوز الذي وجَّه التحية باسم جبهة التحرير الجزائرية.
اعتلى سارتر المنصَّة، وألقى كلمة محكمة الانتقاء والتسبيب عن «الاستعمار كمنظومة». واعتزم كامي الصمت إزاء صراع عجز هو عن الحد من توتُّره. ولكن سارتر كاد يخرج عن فلك الحزب الشيوعي لأول مرة منذ ما يقرب من أربع سنوات؛ إذ لم يكُن الحزب على استعدادٍ لدعم الحركة الوطنية الجزائرية، ومع ملاحَظة أنه خلال ستَّة أسابيع سيوافق على منح سلطات الطوارئ لحكومة موليه لتهدئة الوضع في الجزائر. وحاوَل سارتر، على النقيض، وضْعَ أساس نظري لما يمكِن أن يمثِّل عاطفته السياسية على مدى السنوات العشر التالية؛ أيْ تحرير العالَم الثالث.
ونستطيع أن نميِّز في خطابه ردًّا على كل نقطة من نقاط مقال كامي في مجلة اﻟ «إكسبريس». وكان سارتر قد قرأ مطالَبة كامي بالاعتراف المتبادَل في ظل استمرار الحكم الفرنسي، ثم دعوته إلى عقد هدنة مدنية؛ ولذلك نجد سارتر يرفض مثل هذه المَطالب بالكامل، وإعلان إدانته للنظام «القاسي الذي لا يعرف الرحمة»، والذي سبق أن عرضه تفصيلًا كلٌّ من فرنسيس جيتسون وكوليت جيتسون في كتابهما المناصِر لجبهة التحرير الجزائرية، وتحدَّثَا فيه عن الثورة. وأقرَّ سارتر في أحد الهوامش أن صغار الموظَّفين والعمَّال الأوروبيِّين ليسوا فقط «متربِّحين» من النظام الحاكم، بل هم أيضًا ضحاياه، إنهم يجسِّدون «الدائرة الجهنمية» للاستعمار: مليون مُستوطِن، «أبناء وأحفاد المستوطِنين الذين صاغهم الاستعمار ويفكِّرون ويتحدَّثون ويعملون وفقًا لمبادئ النظام الاستعماري ذاتها». لقد كانت حياتهم حياة عنصرية حتى النخاع، ويجعلون «مِن الجزائري مَن هو أدنى من الإنسان»، ثم يستخدمون هذه «الدونيَّة الإنسانية»، لتبرير إنكار أبسط حقوق الإنسان على الجزائريِّين. إن الاستعماريين أقليةٌ صغيرة، ومَلاذهم الوحيد هو استخدام القوة للحفاظ على أنفُسهم. صفوة القول «ليس هناك استعماريون طيِّبون واستعماريون أشرار. الاستعماري استعماري.» وتعلَّم الجزائريون الدرس جيدًا نتيجةَ الحياة في ظل هذا القهر: «وهكذا صاغ المستوطنون بأنفُسهم خصومَهم، ورأوا أن ليس بالإمكان أيُّ حلٍّ سوى الحلِّ عن طريق استخدام القوة.»
وكان سارتر يُجيب على «واقعي رقيق القلب» لم يذكر اسمه. وتحدَّث كامي عن «إصلاحات»، وسخَّر سارتر من الاستعماري الجديد الساذج، الذي لا يزال يؤمن بأن بإمكاننا أن ندير النظام الاستعماري إدارة أفضل. وسعى كامي لتحقيق تقارب بين الشعبَين. وأعلن سارتر أن مثل هذه الحلول «الوسط» هي «تعمية إصلاحية». وتحدَّث كامي عن استعمار يشجِّع شخصية الشعب المستعمر، وشدَّد سارتر على أن الجزائريين صاغوا شخصيتهم «كردِّ فعلٍ لعملية العزل ومن خلال النضال اليومي». وعقد كامي الأمل في إجراء إصلاحات اقتصادية فورية لتحسين ظروف حياة الجماهير الجزائرية. وأكَّد سارتر أن الاستعمار والحكم الفرنسي يجب قمعه أولًا. وأصبح واضحًا أن مهمَّة كل أبناء الشعب الفرنسي المتعاطف ليست الحدَّ من قسوة الاستعمار، بل «المساعَدة في موته». إن الأمر متروك للجزائريين لكي يُجروا هم ما يرَونه من إصلاحات، وإن سارتر وزملاءه من المواطنين الفرنسيين عليهم أن يُناضِلوا معهم «لتخليصِ كلٍّ من الجزائريين والفرنسيين من الطغيان الاستعماري». ونشرت مجلة «الأزمنة الحديثة» هذه الكلمة في عدد مارس-أبريل ١٩٥٦م. ويكشف هذا عن أن علاقة سارتر والماركسية أضحَت أفضل كثيرًا الآن عمَّا كانت عليه يومَ أن كان سارتر في أول عهده كرفيق طريق. ونلحظ هنا أن القوة الأخلاقية المؤثرة لفلسفته بدأت تندمج وتتوحَّد مع نظرته الاجتماعية والتاريخية، كما أن دعوته إلى السلام نابعة من تحليلاته الواقعية. وهكذا اجتاز سارتر الدرْبَ المتعرض لتطوُّره السياسي، ومنه التلمذة للمِثالية في التجمع الثوري الديمقراطي، ثم إلى الواقعية (حيث الحزب الشيوعي الفرنسي)، وها هو الآن يقترب من الغاية والمصير.
•••
أخيرًا بدأ كامي خلال هذه الفترة التغلب على عقدة الكتابة، وكتَب خلال السنة الماضية تعليقَين بشأن قطيعته الأخيرة مع سارتر، في الوقت الذي انشغل فيه بنزاعَين علنيَّين أقل حدَّةً؛ أحدهما مع مجلة «لوبزرفاتور»، والثاني مع دوميناك. واعتاد في الماضي الدخول بانتظامٍ الساحةَ العامة ككاتب لافتتاحية والانخراط بعُمق في أقرب القضايا إلى قلبه وهي الجزائر، والكتابة عنها وفق ما تقتضيه قناعاته من شجاعة. وعاد الآن إلى العمل كروائي. وثَمَّة قصة بدأها في منتصف العام ١٩٥٥م، ولكن خطتها الأصلية توسَّعت وتحوَّلت إلى رواية قصيرة. وتخلَّى كامي هذه المرة عن منهجه المعتاد وبدأ يكتب في عجلة كأنه يلهث مقطوعَ الأنفاس، مع أدنى حدٍّ من التخطيط والتنقيح، ووقَّع العقد مع دار غاليمار بعد بضعة أيام من ظهور مقاله الأخير المنشور في اﻟ «إكسبريس»، وقدَّم خلال أسبوعٍ رائعةً من روائعه. وظهرت رواية «السقوط» في يونيو ١٩٥٦م، وأصبحت على الفور حدث الساعة، وبِيع منها خلال ستة أشهر أكثر من ١٢٥ ألف نسخة. ونال مؤلِّفها بعد عامٍ جائزة نوبل في الأدب.
ولا ريب في أن أيَّ إنسان تابَع حياة كامي عن كثب ستستولي عليه الدهشة عند فتح الصفحات الأولى من الكتاب؛ إذ يجد في كل صفحة من صفحات الكتاب النزاعَ مع سارتر، وكذا في الاقتباس المكتوب على صدر الكتاب المأخوذ من ليرمانتوف، وحتى وصف الراوي لنفسه باعتباره «تائبًا-قاضيًا». نجد النزاع معروضًا في ذكاء ورقَّة وتألُّق، ولكن دون إغفال للمضمون. ونعرف أن ليرمانتوف حين كتب «بطل من عصرنا» قصَد تصوير «رذائل جيلنا كلِّه في أكمل تعبير»، وحازت رواية «الماندارين» جائزة جانكور قبل ذلك بثمانية عشر شهرًا لوصفها جيل بوفوار وكامي. وها هو كامي الآن، شأن ليرمانتوف، يصف الجيل، ويكشف في الوقت ذاته عن رذائله، ولكن كامي يقتبس من ليرمانتوف وكأنه يذكِّرنا بأنَّ الكثيرين من جمهوره أساءوا فهمه. تُرى هل اعتبر رواية «الماندارين» التحدِّي لعرض واقعي لجيله؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن رواية «السقوط» هي إجابته.
وتُحدد الجملة الأولى أسلوبَ الكتاب ووجهة نظره: الراوي كليمنصو يفرض نفسَه مباشَرةً على القارئ الذي يُصبح من الآن فصاعدًا نصيرًا متخيلًا في بار في أمستردام، وأمين سر الراوي. ويصف كليمنصو في الجملة الثانية صاحب البار بأنه «قرد مبجَّل». وحريٌّ بنا أن نتذكَّر هنا ما حدث منذ أربع سنوات؛ إذ نقرأ كلامًا من أكثر الكلام غموضًا في هجوم سارتر على كامي: «التفوق الذي تُضفِيه على نفسك ويعطيك الحقَّ في ألا تعامل جينسون كإنسان، لا بدَّ أنه تفوقٌ عنصري.» وهنا ليس في وسع القارئ أن يفوته التلميح. ويصف كليمنصو بعد ذلك صاحب البار أنه يُصدِر خوارًا، ويتحدَّث عن «صمته الذي يعود إلى غابات العصور الأولى»، وعن جهله «باللغات المتحضِّرة»، ويسمِّيه مخلوقًا، في مقارَنة بينه وبين إنسان كرو-ماغنون «الذي يسكن برج بابل». ويُصوِّر كامي كليمنصو في صورة مَن يجسِّد المواقف العنصرية التي اتهمه بها سارتر.
أصبحت اتهامات سارتر وجينسون، وهي الأكثر إيلامًا، مادة ما قيل إنه شخصية كامي. وسرعان ما يُذكِّر كليمنصو القارئَ بنقد جينسون لرواية «الإنسان المتمرِّد»، لضَعف محتواها الفكري وجمال أسلوبها، وكذا بكلمات سارتر: «إن ما يزعج في رسالتك تلك الحذلقة في كتابتها.» ويستغرق كليمنصو في تفكير عميق بعد أن أدرك استخدامه لصيغة عرَضية: «أعترف بضَعفي بالنسبة إلى هذا المزاج، وبالنسبة إلى الحديث المنمَّق بعامة. صدِّقني هذا ضعفٌ أنتقده في نفسي … الأسلوب يشبه الحرير الشفَّاف الذي يُخفي غالبًا نوعًا من الأكزيما.» لقد كان مشهدًا غريبًا، حتى إن الانتقادات العامة، كما زعم راعي كامي، أسكَتَت كامي نفسه ثلاث سنوات. ووجد الفنان الإبداعي كامي نفسه خلال مونولوج مثير للمَشاعر بحدَّة كبيرة، يعود أدراجَه ويجد سبيله ثانيةً من خلال شخصية تعترف بالخطايا التي هاجَمَها المؤلف.
ومهما بدَت رواية «السقوط» مريرة، بل وعنيفة، فإنَّ لها أيضًا جانبها المرح. سبق أن قال سارتر عن كامي: «المدَّعي العام الرئيسي لجمهورية القلوب والزهور». وها هو كليمنصو، مُمثِّل الادِّعاء العام في المحاكَمة يتحدَّث الآن عن مكنون النفس من دون موارَبة: «أنا واثق بأنك معجَب بصراحة لهجتي، وملاءمة وصواب عواطفي، والإقناع والدفء، والتحكم في مشاعر السخط البادية في كلامي أمام المحكمة.» سارتر: «يا إلهي، كامي! يا لكَ من جادٍّ، وإذ استخدمت كلمة من كلماتك أنت، يا لك من تافه!» كليمنصو: «يقينًا، أنا أتظاهر بين الحين والآخر بأنني آخذ الحياة مأخذًا جادًّا. ولكن سرعان ما تصدمني تفاهة الجدية، وأمضي لألعب دوري قدر المستطاع.» سارتر: «ذلك لأنك بُرْجوازي يا كامي مثلي. أي شيء آخر يمكِن أن تكون؟» كليمنصو، الذي يلعب دور مَن يتحرَّى عن مُحاوره: «أنت حسن الهندام بأسلوب يتَّسق مع الناس في بلدنا؛ ويداك ناعمتان؛ لذا أنت بُرْجوزاي في الأسلوب.» سارتر: «لم تكُن بعيدًا عن أن تصبح قدوة ومثالًا.» كليمنصو، بعد أن يعترف بأنه سرق لوحة عنوانها «القضاة العدول»، من بار أمستردام، وقد تخيَّل أنه صدَر ضدَّه حكمٌ بالإعدام شنقًا: «لكأن ترفع رأسي الذي لا يزال دافئًا، ترفعه عاليًا من فوق رءوس الجمع الحاشد حتى يجدوا أنفُسَهم فيها، وأستطيع أنا أن أُهيمِن ثانيةً — قدوة ومثالًا.» سارتر: «افترِض أن كتابك شهد على جهلك الفلسفي! افترِض أنه تضمَّن معارفَ جُمِعت على عجل ومن الدرجة الثانية!» كليمنصو: «هل يمكِن القول إن ثقافتك تعجُّ بالثغرات؟»
«كنت دائمًا في اتِّساق وتناغُم، أليفًا عند الاقتضاء، صامتًا عند الضرورة، قادرًا على السلوك الحر السهل وكأنَّ هذه طبيعة شأن الكبرياء؛ ومن هنا كانت شهرتي واسعة النطاق، ونجاحاتي في المجتمع لا حصرَ لها، كنت مقبولًا في ظاهري، كشفت عن نفسي بحيث كنت في آنٍ واحد راقصًا لا يعرف الكلل، وعالِمًا في غير تطفُّل أو ادِّعاء. وعرفت كيف أحبُّ في آنٍ واحد النساءَ والعدالة، وهذا ليس بالأمر اليسير. وانغمست في الرياضة وفي الفنون الجميلة. باختصارٍ لن أستطرد خشيةَ أن تشكَّ في أنني أتعمَّد إطراء ذاتي. ولكن أرجوك فقط أن تتخيَّل إنسانًا في ذُروة مجده في كل شيء، من حيث الصحة الكاملة والمواهب الفيَّاضة، والمهارات البدنية المتميزة شأن مهارات العقل، وليس غنيًّا ولا فقيرًا، ينام نومًا هادئًا، راضٍ سعيد بنفسه دون أن يظهر هذا كله إلا في صورة روح اجتماعية هنيئة، هكذا في وسعك الآن أن تَعرف كيف لي أن أتكلَّم من دون تواضُع، عن حياة ناجحة.
نعم، كائنات قليلة كانت أكثر طبيعيةً مني. كنتُ في آنٍ واحد أنعم بالتناغم والاتساق مع الحياة، أتلاءم معها من القمة إلى القاعدة دون أن أرفض أيًّا من سخرياتها أو عظَمتها أو عبوديتها. وأخصُّ بالذكر الجسدَ، المادة، وكلَّ ما هو طبيعي باختصار، الذي يكدِّر ويثبِّط حياة الكثيرين من الرجال في الحب أو في الوحدة؛ إذ إنها لا تستبعدني بل حقَّقت لي الفرحة والبهجة دائمًا وأبدًا. لقد خُلِقت ليكون لي جسد. ومع توافُر التناغم في باطني يسَّر لي ذلك وضعية السيادة التي أحسَّ بها الناسُ حتى وصل بهم الأمر إلى أن قالوا لي أحيانًا إن هذا ساعدَهم على الحياة. ومن ثَمَّ كانت صُحبتي مطلوبة دائمًا، وكثيرًا، على سبيل المثال، ما ظنَّ الناس أنهم التقوا بي قبل ذلك. الحياة ومخلوقاتها ومواهبها دانوا لي جميعًا، وقبلتُ مَظاهر الولاء بنوع من الكبرياء. وأقول الصدق إن كوني إنسانًا كاملًا وبسيطًا جعلني أنظر إلى نفسي باعتباري أشبه بالإنسان الفائق القدرات (سوبرمان).»
وبعد أن أعاد بذلك إلى الذاكرة تسبيحات سارتر بالشكر في العام ١٩٥٢م (إلى رئيس تحرير مجلة «كومبا» السرية … بالاشتراك مع ميرسو)، يذكر كامي اتِّهامًا مقترنًا به وجَّهه سارتر، ويفيد بأن كامي بعد هذا النجاح كان عازفًا عن تغيير التاريخ. كليمنصو: «لقد حلَّقت عاليًا بالمعنى الحرفي للكلمة على مدى سنوات؛ ولذا، بحقٍّ، بقيت طويلًا صادقًا تمامًا مع نفسي.» ويشير كامي إلى سخرية أخرى في مديح سارتر، سبَق أن قال سارتر عن كامي إنه يحمل دعامة متنقِّلة، ووصف كامي الهجوم بأنه «دعامة تشغيل». ومع هذا كان سارتر في العام ١٩٤٥م واحدًا من أهم الدعائيين لمصلحة كامي. ويتأمَّل كليمنصو في مرارة ويسأل: «مَن رفَعه إلى هذا المستوى؟ لتَحْمِنا السماء، السيد العزيز، متى أن يضعنا أصدقاؤنا فوق دعامة.»
ويُوضِّح كامي أيضًا — على نحوِ ما أشار كليمنصو إلى الرقص وإلى شهوانيته الحسية، وإلى حبِّه للنساء ولعبة الرجبي والمسرح — أن الشخصية الخيالية تشتمل على ما هو أكثر من آراء سارتر وجينسون عن مبدعها. ويتضمَّن كليمنصو أيضًا عناصرَ من ذاتية كامي الخاصة؛ لذا نجد أحدَ جوانب أسلوب كامي في إدراكه لسِجال العام ١٩٥٢م واردًا في قصة كليمنصو التي يقول فيها أنه وجد نفسه أسيرًا خلف موتوسيكل معطَّل أمام ضوء المرور الأحمر. وعندما تغيَّر الضوء إلى أخضر، رفض راكب الموتوسيكل الركونَ إلى جانب الطريق وهو يحاول إدارة المحرِّك. وحاوَل كليمنصو المهذَّب أن يدفع راكبَ الموتوسيكل للركون إلى جانب الطريق، فلم يَلقَ منه إلا اللعنات. وبعد أن ضاق كليمنصو بالأمر وعجَز عن التفكير، خرج من سيارته ليناقش راكب الموتوسيكل، وهو رجل قصير أقصر من كليمنصو، ولكن ما أذهَلَه أن أحد المارَّة في الطريق قفز ليدافِع عن الآخَر، بينما انطلق من صفِّ السيارات الطويل عزفُ أبواقٍ مُغِيظة. وأحسَّ كليمنصو بالصدمة وعاد إلى سيارته وانطلق. وهكذا بدلًا من أن أُعلِّم أيَّ إنسان آخَر الدرسَ، «استسلمتُ لما أصابني من أذًى من دون رد. ولكن لا يمكِن اتهامي بالجبن. ونظرًا إلى أن الدهشة استولَت عليه بعد أن بدأ الجانبان يوجِّهان الكلامَ إليَّ، اختلط كل شيء في ذهني، ووضعَت أبواق السيارات اللمسةَ الأخيرة لحالة الحرج التي ألمَّت بي.» وطبيعي أننا سمعنا هذا في السابق، العام ١٩٥٢م، وقتَ إذلال كامي علانيةً وعجزه عن الرد.
والجدير بالملاحظة أن الرواية إجمالًا تنطلق من، وتمضي إلى تجرِبة محورية ليست مستمَدَّة من نزاع سارتر-كامي، بل إنها كامنة في مجال أعمق من حياة كامي الخاصة؛ إذ يصف كليمنصو كيف أنه ذاتَ يومٍ مرَّ بامرأة شابة أثناء سيره فوق أحد جسور باريس الكثيرة، وواصَل السير وسمع صوتَ قفزتها إلى الماء، وهنا توقَّف من دون أن يستدير. «سمعتُ فجأةً صرخةً تكرَّرَت عدَّةَ مرات وهي تَغُوص إلى قاع النهر، ثم توقَّفت فجأة». وبعد أن جمد كليمنصو في مكانه لفترة، ومضى في طريقه بعيدًا، لم يخبر أحدًا بما جرى. أحسَّ بعد ذلك وكأن حياته انهارت، وترك اشتغاله بالقانون، وانتقل أخيرًا إلى أمستردام ليستقر في هذه الحانة الرثَّة، ويَقضي بقية أيامه يتَّهم نفسه، ويدفع الاتِّهام في قضيته. وتتحرَّك الرواية بقوةِ دفعِ إحساس كليمنصو القوي بالذنب وجهده المتَّصل للاعتراف، على الرغم من تفادي ذلك، وملاحَقتها له، ثم لعبة المرايا التي يسعى من خلالها إلى دفع الآخرين للكشف عن ذنوبهم. وها هنا كليمنصو في آنٍ واحد يمثِّل الدفاع والادِّعاء والقاضي. وقرأت فرانسين الرواية، بعد أن بَرِئتُ وأصبحتُ في وضع أفضل إثرَ محاوَلتي الانتحار في العام ١٩٥٣م و١٩٥٤م، وكان ردها: «أنت مَدين لي بهذا العمل.»
«ارفق بي لأن لي ضميرًا يؤنِّبني (وهو غير صحيح)، ولكن حتى وإن سمَّم بدني الخِزي، فسوف أشعر بأنني أقلُّ اغترابًا وأكثر رحابةَ عقلٍ منك؛ إذ لكي تحتفظ بضمير نقي يَلزم أن تُدِين نفسك. مطلوب طرف مُذنِب، إذا لم تكُن أنت، فلا بدَّ أن يكون العالَم. أنت تنطق بأحكامك والعالَم لا يَنبِس بكلمة. ولكن أحكامك بالإدانة تُلغِي الواحدةُ منها الأخرى؛ لذلك عليك أن تبدأ ثانيةً لأنك إذا توقَّفتَ فسيكون بوسعك أن ترى نفسك. لقد أدنت نفسك لكي تدين، يا سيزيف.»
أصبح القضاء جوهر محامي الدفاع، وأدرك كليمنصو على الفور بعد إذلاله بصورة علنية أن حُلمه بأن يكون إنسانا كاملًا — «نصف سيردان [الفرنسي الجزائري بطَل العالَم في الملاكمة وزن المتوسط]، ونصف ديغول، إذا شئتَ القول» — لم يكُن قائمًا على حقائق. لقد تصوَّر نفسَه وكأنه شخص يتحلَّى بالشهامة، «ولكن بعد الضربة التي تلقَّاها علانيةً من دون ردِ فعلٍّ لم يَعُد ممكنًا بالنسبة إليَّ التطلُّع إلى أن تكون صورتي مثل هذه الصورة». ونتيجةً لذلك أَتُوق إلى القصاص، وأن أضرب وأهزم. وأصبح بطل المتَّهم هو المدَّعي أو صاحب الاتِّهام، «والذي يريد بغضِّ النظر عن جميع القوانين سحقَ المعتدي وإجباره على الركوع». وبعد انتحار المرأة الشابة وجَّه حكمَه إلى نفسه وراوَده شعور بأن أصدقاءه «اصطفُّوا صفًّا، وكأنهم وقوف أمام طاولة القضاة. صفوة القول أن اللحظة التي أدركت فيها أن ثَمَّة شيئًا بداخلي يستوجب المقاضاة، أدركتُ أن بداخلهم دافعًا باطنيًّا لا يُقاوَم لإصدار حكم». وتحدَّث في المحكمة عن ذنبه هو، ولكن لم يأخذ أحد كلامَه على مَحمل الجد. وأحسَّ كليمنصو بأنه خارج مجال اهتمامه المَعني «بالحديث عن الأخلاق والأحكام»، وأن هذا خرج به إلى البحث عن وسائل «لتوسيع نطاق الأحكام لتصدق على كل شخص حتى تخف وطأتها عن كاهلي.»
«يقول الراوي في «السقوط» اعترافًا محسوبًا … لاجئ يعيش في أمستردام، مدينة القنوات والضوء الباهت حيث يدَّعي أنه ناسك ونبي. وهذا المحامي السابق ينتظر مستمِعين يتعاطفون معه في حانةٍ قَذِرة. صاحب فكر حديث، بمعنى أنه لا يحتمل إصدار حكم ضده؛ ومن ثَمَّ يتسرَّع في الادِّعاء على نفسه، ولكن فقط لإصدار حكم أفضل على الآخرين. ويتطلَّع لنفسه في مرآة، ولكن ليدفع بها أخيرًا تجاهَ الآخرين. أين يتوقَّف عن الاعتراف ويبدأ في اتِّهام الآخرين؟ هل يحاكِم الراوي نفسَه أم يحاكِم عصرَه؟ هل يمثِّل قضية خاصة محددة أم أنه هو رجل الساحة؟ ثَمَّة حقيقة واحدة فقط في لعبة المرايا هذه؛ الألم، وكل ما يَعِد به.»
تُرى ما الذي كان يريد كامي من قرَّائه أن يستخلِصوه من لعبة المرايا عند كليمنصو؟ يقول كليمنصو نفسه: «كَمْ هو عسير للغاية فرز الصادق من الزائف فيما أقول. وثَمَّة ناقد أدبي واحد هو جيتان بيكون الذي أوضح أن كامي كان يصارع ضد اتِّهامه بأنه «روح جميل» دفَعه العنف إلى الثورة، وأراد أن يحتفظ بيدَيه نظيفتَين مهما كان الثمن. وقال بيكون: «رفَض كامي في «الإنسان المتمرِّد» الثوريين الذين لطَّخوا أياديهم، بينما أطرى على أمثال ريو ورِفاقه في «الطاعون»، الذين حرصوا على البقاء متكامِلين أخلاقيًّا مع حربهم ضد الشر في الوقت نفسه.»
وبعد وفاة كامي، قالت سيمون دي بوفوار إنها في العام ١٩٥٦م طالعت «السقوط»، وفي نفسها قدرٌ كبير من الفضول. وقالت: «أولًا تعرَّفتُ على كامي الشخص الذي عرفته العام ١٩٤٣م؛ حركاته وإيماءاته وصوته وسِحره، صورة دقيقة خالية من أي مبالغة، صورة شخص يتَّصف بقسوةٍ عرَف كيف يُخفيها بشكلٍ ما ويُخفِّف منها بما يتَّصف به من غلو شديد. وتأثَّرت بعمق للبساطة التي يتحدَّث بها عن نفسه الآن.» ولكن الكتاب تضمَّن شيئًا أغضبها: «ثم فجأة نضب مَعين الإخلاص؛ إذ بدأ يُموِّه بشأن إخفاقاته بسلسلة من الحكايات التقليدية، وتحوَّلَ من دور التائب إلى دور القاضي، وأفرغ اعترافه من كل أسباب الألم بأنْ وظَّفه صراحةً في خدمة ضغائنه.»
وإذ سعدت بوفوار بلهجة الاعتراف وبالجانب المُستضعَف من ذاتية كامي، أحسَّت بقدر من الكآبة إزاء شيء آخَر له تأثيره. سبق أن رأينا كامي نفسه يُنشئ رابطةً صريحة في مذكراته: «التائبون القضاة» الأُصَلاء هم سارتر، و«الوجوديون» بمَن فيهم بوفوار نفسها. وضرب كامي على الوتر استجابةً إلى رواية «الماندارين». ذلك أنه يقول قبل أن يقدم كليمنصو نفسه مباشَرةً: إذا أردت أن تعرف، فأنا كنت محاميًا قبل أن آتي إلى هنا. الآن أنا «تائب-قاضٍ».
«الشخصية عندي بناء متطوِّر. ثَمَّة لمسات من مصادر مختلفة، ويمثل الوجوديون مصدرَ الهوس من أجل اتِّهام الذات؛ ولهذا يمكِنهم اتِّهام الآخرين بسهولة. وبدا لي هذا دائمًا حيلة صغيرة مفرطة القذارة، إنها ما يَصدمني أكثر من أيِّ شيء في أنشطة هؤلاء السادة. وينتهي دائمًا الولع بالاتِّهام بالدفاع عن العبودية التي هي القضية المباشِرة للوجودية.»
إنَّ مَن عرفوا سجلَّ سارتر أيام الحرب، وقرءوا مقاله في فترة ما بعد الحرب «باريس تحت الاحتلال»، والذي يصف فيه المقاوَمة باعتبارها «الحلَّ الفردي» الرمزي، وكذلك كل مَن يذكرون أن سارتر حمل لقب «بابا» الوجودية بعد التحرير، كل هؤلاء لا بدَّ أن رأوا سارتر في شخصية كليمنصو. ويحكي لنا كليمنصو أنه جُنِّد إبَّان الحرب، ولكن «لم أستوعب العمل قَط». وبعد سقوط فرنسا أخذ سبيله عائدًا إلى باريس، ثم سافر إلى المنطقة غير المحتلَّة، ربما للاشتراك مع المقاوَمة. «أذهلَتني المهمة باعتبارها جنونًا غير ذي خطر، أو في كلمة واحدة: «رومانسية». ونظرًا إلى إعجابي ببطولة أصحابها وإن كنتُ عاجزًا عن محاكاتهم، عبرتُ إلى شمال أفريقيا، وعندي نية غامضة للذهاب إلى لندن.» ويتطابق الجزء الأول من الوصف مع سارتر، على الرغم من أن جينسون هو الذي حاوَل الوصول إلى فرنسا الحرة، ولكن اعتقلَته السلطات في إسبانيا. وحين قبض الألمان على صديق كليمنصو المشترك مع المقاوَمة، تمَّ القبض على كليمنصو أيضًا. وأرسلَت السلطات الاثنين إلى معسكر اعتقال، حيث توَّج فرنسي مخبول كليمنصو بابا، وتعاوَن معه في ذلك الآخَرون «على سبيل المزاح مع قدرٍ من الجدِّية أيضًا». ولعب كليمنصو دور البابا على نحوٍ جادٍّ.
«لا تأخذ على سبيل المزاح تلك الفترة التي حدَّثتُك عنها طويلًا على مدى خمسة أيام. لا، فقد اعتدتُ في الماضي أن أتكلَّم كلامًا كثيرًا غير منطقي، والآن فإن لكلماتي هدفًا، وإن هدفها واضح، وهو إسكات الضحك، وتجنُّب إصدار حكم شخصي، على الرغم مما يبدو ظاهريًّا أنه لا مَهرب. أليس الشيء المُهم الذي يَعُوق سبيلنا إلى الهرب هو واقع أننا أول مَن يدين أنفسنا؟ لذلك فإن الشيء الضروري هو أن نبدأ بتوسيع نطاق الإدانة لتشمل الجميع، دون تمييز، حتى يبدو منذ البداية رقيقًا خفيفًا.»
«لا مَعاذير لأحد، هذا هو مبدئي منذ البداية. لا صحةَ عندي للنية الطيبة والخطأ الجدير بالتقدير، والحماقة والظرف الذي يستلزم التلطيف. ولا مجال عندي لمنح غفران أو بركة. كل شيء يتراكم ويزداد، ثم: «يُصبح أكثر من اللازم. أنت آثمٌ فاسق، كَذُوب بطبيعتك، شاذٌّ جنسيًّا، وفنَّان … إلخ.» تمامًا على هذا النحو. تبدو مسطحًا بغير معنًى. في الفلسفة وفي السياسة، أنا مع أيِّ نظرية ترفض منحَ إنسانٍ البراءةَ، ومع أيِّ نظرية تعامِله كمذنب. ها أنت، يا صديقي العزيز جدًّا، ترى فيَّ مُدافِعًا مستنيرًا عن العبودية.»
بعد أن ضمَّن كامي كلمتَي «فاسق، وفنان» بين التصنيفات المستمدَّة بصورة أخرى وعلى نحو مباشِر من «الوجود والعدم»، يذكر كليمنصو الآن الوقت عندما «كنت دائمَ الحديث عن الحرية، اعتدتُ مع الإفطار أن أبسطها على سطح الخبز المحمَّص لآكله، واعتدتُ أن ألوكها طوال اليوم، وحرصت على أن يحمل تنفُّسي عِطر الحرية. وأستطيع بفضل هذه الكلمة المفتاح أن أقهر كلَّ مَن يناقضني: جعلتها تخدم أغراضي وسلطاتي». ولم تَغِب عن ذهن كامي حقيقةُ أن سارتر أجرى عدَّة مَخاطر حقيقية خاصة إذا ما قارناه بكامي. ويقول كليمنصو إنه دافَع عن الحرية «مرتَين أو ثلاث مرات دون التمادي حتى الموت دفاعًا عنها، ولكنني خاطرت من أجلها عدة مرات». ويمضي فيلسوف الحرية ليصف جاذبيته للعبودية، وينتهي بتذكُّر أول تعليق لكامي على كتابه بعد الانفجار العام. ويقول كليمنصو إن مَن يُبالغون في إطراء الحرية، عليهم أن يتدبَّروا أمر أنفُسهم، وما داموا لا يريدون الحرية أو أحكامها، فإنهم يطلبون مَن يضرب على أصابعهم، ويخترعون قواعد مروعة، ويندفعون لتكوين حزم العِصِيِّ بديلًا عن بناء الكنائس. ولكنهم وحدهم المؤمنون بالخطيئة دون النعمة الإلهية. ويرى كامي أن وجودية سارتر قادت إلى العبودية الشيوعية، وها هو الآن كليمنصو المؤمن بالحرية «قرَّر خلسةً ضرورةَ التخلِّي عنها دون إبطاء لأيِّ عابر سبيل».
«هل لحظت أن قنوات أمستردام المتحدة المركز تُشبِه دوائر الجحيم؟ جحيم البُرْجوازية المسكونة بطبيعة الحال بأحلام شريرة. حين يأتيها وافد من الخارج، ويمرُّ كما هي العادة تدريجيًّا عبر تلك الدوائر، فإن الحياة — وبالتالي جرائمها — تغدو أكثر كثافةً وعتامةً. وها نحن الآن في الدائرة الأخيرة. دائرة … آه، هل تعرفها؟»
ويتذكَّر محاور كليمنصو كوميديا دانتي، ويحاول أن يجيب ويقول إن آخِر دوائر الجحيم عند دانتي كانت محجوزة للخَوَنة. خان كامي زوجته، وخان سارتر كامي، كلٌّ خان أصدقاءَه، وما أكثرهم، وخان دعاواه بسبب الغرور والجبن والنفاق. ويستطرد كليمنصو في مونولوجه الموجِع بلا نهاية، والمشحون بتعذيب الذات، ويجذب من خلاله قارئَه إلى هذا الجحيم.
إنها رؤية كابية كما وعد كامي. وعمد، لكي يبدعها، إلى الغوص في قطيعته مع سارتر، وتعميم ما رآه خاصًّا بسارتر وخياناته، وبيان الصلة الوثيقة بين نزاعهما والإنسانية جمعاء. واستطاع كامي كذلك بفضل هذه الرواية القاسية أن يتحدَّى أعظمَ تصوُّر معاصر للجحيم، الذي عرفه خلال التجارب التي أُجرِيت في غرفة بوفوار في الفندق في أثناء الشتاء الأخير لفترة الاحتلال. وأراد كامي منافسة مسرحية «لا مَفر» لما تتَّسم به من خلود، فأبدع جحيمًا عصريًّا تمامًا للخَوَنة والمنافقين وصنَّاع الكلمة المتحذلِقين والإنسانيين السياسيين الذين يضلُّون سبيلَهم في كل لحظة، ويحاولون الإفلات من أحكامهم الذاتية على أنفسهم. ولكن على الرغم من اعتراف كليمنصو، وبسبب هذا الاعتراف، فإنه يفتقر إلى أدنى أمل في الخلاص، ويتحوَّل إلى شرير يائس، وينجح كشخصية معقَّدة متعددة الشرائح لأنه حي، ويشقُّ طريقه داخل الوعي بكل ما فيه من قوة، ووعيه الذاتي، وادِّعاءاته، وأمانته، وذنبه، وسوء طويته. وهكذا بعد صمت كامي الأليم سنواتٍ أصبحَت الرواية انتصارًا إبداعيًّا، انتصارَ الروح، وقصاصًا في الآن نفسه، وفهمًا ذاتيًّا ورؤيةً حديثة للإدانة.
•••
أعتقد أن الأمر لم يكُن من قبيل التوافق العرضي في أن يكون العام ١٩٥٦م هو أيضًا العام الذي عاد فيه سارتر إلى نفسه. لقد بدأ عامه بتحيات رفيق طريق بمناسَبة العام الجديد في صحيفة برافدا تحت عنوان «أصدقاؤنا السوفييت». ثم بدأت الأحداث التاريخية تحقِّق آثارها. الجزائر أولًا: ورأينا في قاعة صال واجرام في ٢٧ يناير تأكيده الذاتي المتنامي كمفكر ماركسي مستقل عن الحزب الشيوعي؛ إذ شرع سارتر وآخرون في تعبئة الرأي العام ضد الحرب، وتخلَّى موليه عن وعده بالتحرك في اتجاه السِّلم بعد أن قذَفه الفرنسيون الجزائريون الغاضبون بالطماطم في أثناء زيارته الجزائرَ في فبراير. وأجازت الجمعية الوطنية اقتراحَ موليه بمنحه سلطات استثنائية؛ ومن ثَمَّ بدأ في تصعيد الحرب دونَ هوادة، وبدأت معركة الجزائر في سبتمبر.
ولم تكُن الأحداث في العالَم السوفييتي أقلَّ إثارة؛ إذ في شهر فبراير ألقى خروشوف «الخطاب السري» الذي فضَح جرائم ستالين. ها هو ستالين الذي ظل موضع توقير على مدى خمسة وعشرين عامًا يتنصَّل منه السوفييت أنفُسُهم، ومن «عبادة الفرد». ومن ثَمَّ إلى أيِّ مدًى بعد ذلك يمكِن للشيوعيين التظاهر بعدم المبالاة إزاء الحَمِية الأخلاقية التي انتقد على أساسها اليسارُ المستقل، ومعهم كثيرون من الكاثوليك، الحربَ الجزائرية؟ متى يحين الوقت الذي يعبِّر فيه الشيوعيون عن غضبهم، وقد شعروا بعد طول انتظار بأن لديهم إمكان التحدُّث ضد الستالينية؟ ووجد يسار الحزب فسحةً أمامه، وأحسَّت فرنسا مثلما أحسَّ الشيوعيون بالاستفزاز. ماذا عسى أن يقول ويفعل سارتر العظيم الذي اختار الحزبَ باعتباره الصوتَ الوحيد الفعَّال المُعبِّر عن المقهورين، وقد احتجب صوته زمنًا طويلًا؟ وفي صيف العام ١٩٥٦م أضافَت رواية كامي الجديدة عنصرًا جديدًا إلى المزيج القابل للاشتعال.
عرف سارتر بصدورها، وتكلَّم على الفور، وقال: «السقوط» إحدى الروائع — رواية كشَف فيها كامي نفسَه تمامًا مثلما أخفاها تمامًا في آنٍ واحد. وبعد ذلك، في أثناء كلمته لتأبين كامي، قال عنها: «ربما كانت أجملَ كتُب كامي وأقلَّها فهمًا.» وإذا كان قد فهمها على حقيقتها، فإنه دون شك قد رأى نفسَه وقد وضَعه كامي على السفود. ولعله رأي في كليمنصو ردًّا على وعده الخاص في «عزيزي كامي»، ويأتي اليوم الذي فيه «أتحدَّث بنفسي وباللهجة ذاتها» التي استخدمها سارتر في وصف كامي. لقد عرف أن كامي يتحدَّث عن رسالته عندما يتَّهم كليمنصو نفسه «من كل النواحي، فوق وتحت»، ولكن، كما يقول كليمنصو: «دون أن يضرب وحشي بقسوة. لا، إنني أُبحِر بمهارة، أضاعف الكمَّ بما أقدِّمه من تفرقة واستطرادات، أيضًا — باختصار — إنني أُلائِم كلماتي مع المستمع إليَّ، وأقوده ليعود إليَّ أفضل.»
والجدير ذِكره أن بيكون في عرضه النقدي في يوليو ١٩٥٦م، كان الوحيد أيضًا الذي أدرك أن كامي ضاعَف المحاذير في موضوع سارتر-كامي. وأشار بيكون، دون ذِكر اسم أيٍّ منهما، أنَّ سارتر وجينسون اعترَفا صراحةً باستخدام وسائل هذا العالَم الرهيب لبناء عالَم أفضل. لقد أراد كليمنصو تعميقَ الحوار، فعمد إلى نخسِهما باعتباره شخصًا ذا نوايا إنسانية، وأصبح مُتواطئًا مع الشر. ويبحث كليمنصو بعد ذلك عن وسيلة لإزالة رائحة الشر، وذلك باتهام الآخرين، وإذا به يُصبح شرًّا كاملًا. إنه يتخلَّى عن حريته وينذر نفسه لوضع شباك للآخرين. ولكن نزعته التشاؤمية الأخيرة لا تخصُّ كامي؛ إذ يقول بيكون موضِّحًا ذلك: واضح أن عرض كامي للمشكلة هو التماس لمَخرج يتجاوز كلًّا من «الأيدي القَذِرة» لسارتر، و«يدَيه النظيفتَين» هو بشكل عمدي مقصود.
هل أثَّر كامي الآن في سارتر؟ سبق أن رأينا سارتر يَعترف بأنه أغفل «حكمه الخاص الأفضل»، وأنه «كفَّ جميع الأفكار عن الأخلاق» بِضْع سنين. ومع انتهاء العام ١٩٥٦م لم يكُن فقط في مواجَهة انتقادات من أصدقاء سابقين وخصوم جُدد، بل في مواجَهة العالَم نفسه الذي يتغيَّر تحت قدمَيه. وتحوَّل الراديكاليون غير الشيوعيين إلى قوة سياسية نظرًا إلى تلكُّؤ موقف الحزب من الجزائر. ما هو «الواقعي» الآن؟ في خريف هذا العام، ومع غزو السوفييت للمجر، بدأ سارتر بغتةً يرى الأمور على نحو مختلف.
وأجرَت مجلة اﻟ «إكسبريس» حوارًا مع سارتر، بينما كان القتال لا يزال جاريًا في بودابست. وأعلن سارتر موقفه الجديد تجاه الاتحاد السوفييتي: «آسف تمامًا، ولكني بصدد قَطْع علاقاتي تمامًا مع أصدقائي من الكتَّاب الروس الذين لا يُدِينون (أو هم عاجزون عن إدانة) المذبحة المجَرية. لم يَعُد بالإمكان أن أتَّخذ موقفًا وديًّا تجاه العصبة الحاكمة من البيروقراطية السوفييتية.» وبدا نقدُه اللاذع مثيرًا للغاية في نظر قادة الحزب الفرنسي الذين برَّروا الغزو: «ليس بالإمكان، ولن يكون بالإمكان أبدًا، إعادةُ تأسيس علاقات مع مَن يقودون الحزبَ الشيوعي الفرنسي الآن. إن كلَّ جملة نطقوا بها، وكلَّ إيماءات أشاروا بها هي النهاية لثلاثين عامًا من الكذب وتصلُّب الشرايين.»
وأحيط سارتر علمًا بالمزيد عن أحداث المجر، وبناءً عليه أكمل ما كان بسبيله أن يُصبِح اختراقًا سياسيًّا، وأيضًا شخصيًّا. ونشرت مجلة «الأزمنة الحديثة» عددًا مؤلَّفًا من ثلاثة أجزاء في ٤٨٧ صفحة عن انتفاضة المجر، مُتضمنًا تعليقات بأقلام عشرات المجريين. وكتب سارتر مقدِّمة هذا العدد بقلمه في دراسة من ١٢٠ صفحة تحت عنوان «شبح ستالين». وهكذا كان إعلانه الاستقلالَ بعد أربع سنوات من التلمذة للماركسية والشيوعية. وظلَّ سارتر على إيمانه بأن «الشيوعية تظهر لنا — على الرغم من كلِّ ما حدث — لتكون هي الحركة الوحيدة التي تحمل في داخلها إمكانَ أن تقود إلى الاشتراكية». بيْدَ أن الأمانة هي السبيل الوحيد للوصول إلى أهدافها. وهكذا انتهت أيام الرقابة الذاتية والواقعية في حياة سارتر.
وتهلَّل لاستقلاله وكأنه وجد أخيرًا الساحةَ الأخلاقية والسياسية التي يمكِنه أن يرتاح إليها، وأن يكون هو ذاتَه بكل الصدق. وعاد سارتر إلى الحوار القديم عن الوسائل والغايات، موجِّهًا طعنةً نجلاءَ إلى جميع الأطراف، ومن بينهم كامي: «نحن ممَّن يقولون: الغاية تبرِّر الوسيلة؛ بيْدَ أننا نضيف تصحيحًا لا غِنى عنه: هذه الوسائل تُحدِّد الغاية.»
«بعد سحق الانتفاضة في ٦ نوفمبر، تحدَّث عبر إذاعة بودابست ممثِّلٌ للِجان الصناعة مطالِبًا زملاءَه بالعودة إلى العمل بشروط. تحدَّث وكأنه غاز وفي نفسه كبرياء مُثيرة للعجب. يجب إنهاء الإضراب لكي نذهب لمساعَدة سكان بودابست، وسوف نستأنف الإضرابَ مباشَرةً إذا لم تستجِب السلطاتُ لمَطالب المُضرِبين. وأضاف الكلمات التالية وهو داخل مبنى يعجُّ بقوَّات الشرطة، وفي مدينة تملأ شوارعَها دورياتُ الدبَّابات الروسية: «العالَم كلُّه يَعرف قوَّتَنا».»
عانى سارتر مشقَّة دحضِ تفكير زملائه السابقين في الحزب الشيوعي الفرنسي الذين برَّروا الغزو، وعمد إلى إبراز الدور المحوري الذي تؤدِّيه المخاطَرة والاحتمالات الطارئة والاختيار: «ليس من حقِّ أحدٍ أن يقول إن أحداث المجر جعلت التدخُّل العسكري أمرًا حتميًّا. والحقيقة أن سارتر الذي أعلن فطامه قسرًا على تورُّطه مع الضرورة، رأى أن الدرس الكاشف والأهم هو الذي تعلَّمَه من غزو المجر، ويدور حول الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الزعماء السوفييت.»
وهكذا فإنَّ عبقرية سارتر الأصيلة والعريقة في الفلسفة وفي الأخلاق وفي الخطابة والمحاجاة عادَت إليها الحياةُ قرينة إحساس جديد بالواقعية التاريخية، ومعها ولَعُه بالعمل لمصلحة المقهورين. وقادته هذه العاطفة العام ١٩٥٢م لتأييد الحزب، وقادته العام ١٩٥٧م لمهاجَمة الحزب باعتباره «أداةً تعاني من تصلُّب الشرايين الذي أعجَزَها عن حشد أعضاءٍ جُدُد من الشباب». بيْدَ أنه كان لا يزال يؤكِّد أن الاتحاد السوفييتي كان، وبوسعه أن يكون ثانيةً، قوةً دافعة إلى الاشتراكية. «هل لا بد للاشتراكية أن تكون هذا الوحشَ الدمويَّ الذي يقطع أوصال نفسه إلى أشلاء؟ أجيب في غير تحيُّز: نعم. هكذا كانت الاشتراكية حتى في طورها البدائي. لم يكُن هناك بديل آخَر، ربما غير مدينة أفلاطون الفاضلة في السماء، وعلينا أن ننشدها بحالها كما هي، أو نعزف عنها تمامًا.»
•••
استهلَّ «شبح ستالين» أهم فترة مثيرة في حياة سارتر. ونراه الآن، وقد ناهز الخمسين من العمر، ونظر العالَم إليه منذ زمن طويل باعتباره واحدًا من أعظم مُفكِّري العالَم يتفجَّر نشاطًا سياسيًّا وإبداعيًّا. ومثلما تخلَّص كامي من آثار القطيعة، وقاده هذا إلى جائزة نوبل في الآداب، كذلك فإن قطيعة سارتر مع الشيوعية أفضَت به إلى سلسلة مُذهِلة من الأعمال التي أكسَبَته العام ١٩٦٤م الجائزةَ نفسها. وظلَّ سارتر طوالَ هذه الفترة وحتى نهاية حياته يتصرَّف ويفكِّر على نحوٍ غيرِ مألوف لأيِّ مفكِّر معاصر. خرج من الفلك الشيوعي وأصبح يشعر بقدر من الخِزي تجاوز ما كان في العام ١٩٤٥م أو العام ١٩٥٢م. ورفض أن يكون «متعقِّلًا» أو «واقعيًّا»، وإنما أصبح دعامةً لغضب ثوري باسم المقهورين. ونبَذ مُتطلَّبات شهرته، ولم يأخذ نفسَه على نحو جدي مفرط، وإنما ظلَّ سارتر متصلِّبًا إزاء النظام الرسمي حتى النفَس الأخير. واحتفظ سارتر بحيويته حتى بعد أن أصبح كهلًا، على الرغم من مظاهر الضَّعْف الكثيرة التي اعتوَرَته، كما احتفظ بجاذبية كبيرة لدى الشباب. وارتكب أخطاءً، ربما كانت أمورًا غبية وأحادية الجانب، ولكنه ظلَّ جَسُورًا لا يخشى المخاطَرة بشهرته، بل وبأمن حياته. وبعد أن وجد طريقة إلى التاريخ، لم يفقد أبدًا اتِّصاله مع زمانه، وناضَل لينتزع أسلوبه من أجل التزام سياسي فعَّال، وظلَّ ملتزمًا حتى بعد أن كفَّ بصره بغتةً. وبعد أن فقَد دورَه، ثم استعاده ثانيةً، ظلَّ — على غير ما هو متوقَّع — مستقلًّا حتى وافَته المَنية.
والجدير ذِكره أن سارتر على مدى السنوات العشر التالية، وبأسلوبه الذي تفرَّد به، كان يُشبِه الصورة التي اصطنعها سارتر عن كامي القدوة بعد التحرير. ومثلما كان كامي من العام ١٩٤٤م وحتى العام ١٩٤٧م، كذلك كان سارتر بعد العام ١٩٥٧م «الرابطة المثيرة لشخص جامع للنشاط والعمل». وأصبح سارتر الآن قوة سياسية مستقلة رئيسية، يتحدَّث إلى الأحزاب السياسية دون حاجة إلى الانتماء إلى أيٍّ منها. وأصبح له حضوره المعنوي، وآراؤه التي تحظى بالاعتبار من خلال تعليقاته الحُرَّة على القضايا الراهنة. وجمَع بين الفلسفة والسياسة والأدب في دور واحد اتَّسم بالعُمق وتفادي الخطأ.
وحقَّقَ سارتر لنفسه مكانةً غير عادية كماركسي خلال هذه الفترة. وأرادَت بولندا تحاشي مصير المجَر؛ لذا شرعت في أكتوبر في التفاوض التماسًا لطريقها من أجل حكومة قومية بزعامة جومولكا، الذي شجَّع على ما يُسمَّى «ربيع بولندا» العام ١٩٥٧م. وأرادت صحيفة بولندية مسايَرةَ الانفتاح الجديد فدعَت سارتر لكتابة مقال عن الوضع الراهن للوجودية، وكتَب مقالًا أصبح يحمل فيما بعدُ عنوانَ «البحث عن منهج». وطوَّر سارتر فيه موضوعَين متناقِضَين ظاهريًّا، وهما أن الماركسية كفَّت عن التطور، وأنها كانت «فلسفة عصرنا»، ويجب على الوجودية أن تواصِل بقاءَها كأيديولوجية شِبه مستقلَّة داخل الماركسية، وفي موازاتها إلى حين يبدأ «الماركسيون الكُسَالى»، في استخدام أقوى الأدوات المتاحة لهم، وإلى أن — وهو الأهم — تُحقِّق الماركسية العدالة.
والجدير ذِكره أنه على مدى هذه السنوات، وهي سنوات صراع تحرُّر وطني وسلبية شيوعية، حوَّل كثيرون من مثقَّفي الجناح اليساري الأوروبي، من أمثال سارتر، بؤرةَ اهتمامهم من آمال الطبقة العاملة إلى آمال شعوب المُستعمَرات. وأصبح سارتر المتحدِّث الرئيسي الأوروبي باسم العالَم الثالث بفضل غضبه وخطابه البليغ ومزجه الحر بين الماركسية والأخلاق، وأصبحت هذه القضية همَّه السياسي الأكبر من «الاستعمار كنظام» إلى نشاطه مع محكمة جرائم الحرب الدولية (التي انعقَدَت مع برتراند رسل)، والتي عبَّر عن نتائجها في كتابه عن «الإبادة الجماعية.»
وكان من ثمار التدفُّق الإبداعي والسياسي الجديد لسارتر مسرحية «مجرم الطونا»، وتجري أحداثُها في ألمانيا بعد الحرب بهدف التركيز الدرامي على قضية أساسية تتعلَّق بالحرب الفرنسية في الجزائر ومسألة التعذيب. هنا يمثِّل بيت عائلة جيرلاك جحيمًا جديدًا؛ حيث الابن الأكبر فرانز، وهو كابتن سابق حبَس نفسَه في غرفته لكي يهرب من إحساسه بالذنب بسبب تعذيبه وقتل بعض الأنصار على الجبهة الشرقية. وثَمَّة أربعة آخَرون محبوسون داخل هذا الجحيم: العجوز جيرلاك، رئيس أحواض السُّفن المملوكة للأسرة في الطونا؛ وليني أخت فرانز، والأخ فيرنر، وجوانا زوجة فيرنر. ونلحظ أن موضوعات الشعور بالذنب والمسئولية والحكم والتهرب، مثلما هي الحال في «لا مَفر» و«السقوط»، هي لُبُّ المسرحية، وهي بالكامل وسيلةٌ لاستخدام الآخَرين كمِرآة لحكم المرء على نفسه والمناوَرة كوسيلة للتهرُّب.
واتَّهم كامي سارتر بأنه يلوم الآخَرين ليهرب هو من الإدانة، ولكن سارتر قلب عليه الطاولة. وهنا يلوم فرانز القرن الذي يعيش فيه، ويغدو الادِّعاء والدفاع في خطابَين يسجِّلهما ويعيد سماعهما، ولكنه على خلاف كليمنصو يُنهي محاوَلات التهرب ويقدِّم اعترافًا كاملًا إلى جوانا. وترى أن لا مجالَ للصَّفح عنه، ويدفع هو الثمن لمواجَهة ماضيه في شفافية بأن يَلقى حتفه مع أبيه. ولم يكُن العجوز جيرلاك أقلَّ إثمًا؛ إذ تعاون مع النازي لأنه تنبأ — بحكمِ كونه واقعيًّا ساخرًا — أن مشروعه لبناء السفن سوف يبقى بعد زوال النظام، وسوف يواصل نجاحه. وإذا كان كليمنصو يقدِّم لنا كامي الذي يستوعب في آنٍ واحد نقد سارتر ويقبل «الأيدي القَذِرة»، فإن فرانز يقدِّم كليمنصو الذي بات عاجزًا عن المناوَرة مع تواطؤ الآخَرين مستخدمًا لعبة المرايا، ومن ثَم أصبح مُرغَمًا على مواجَهة الإثم.
ويَمضي سارتر خطوة أخرى تتجاوز رواية «السقوط»: القرن أيضًا مذنب. أو لنَقُل بعبارةٍ أصحَّ إن النظام الاقتصادي الرأسمالي يفرض متطلَّباته على مَن يظنون أنهم يُديرونه؛ وإن نظُمه السياسية والعسكرية تخلق «جرائم مُعَدَّة مسبقًا وفي انتظار مُجرميها». وإذا كان الابن البِكر العقيم، ابن الأسرة القوية المدعو فرانز يكتشِف أن «الحرب قدَري ومصيري»، فإن سارتر يندِّد بقوة بالسياسات وبالنظُم التي تُسقِط كل إحساس بالمسئولية لدى أفراد من أمثال فرانز، بينما تَعهَد إليهم بمهامَّ سِرية وغير إنسانية. وتنتهي المسرحية بفرانز وأبيه يَمضيان ليَلقيا منيَّتهما بعيدًا عن أنظار الجمهور، بينما جوانا وفيرنر يتمتَّعان بحرية ليعيشا حياتهما، وتُغلِق ليني على نفسها بابَ غرفة أخيها، بينما شريط التسجيل يُعِيد إذاعة نداء فرانز إلى القرن الثلاثين ليبرئ ساحة القرن الذي يعيش هو فيه.
إنَّ مسرحية «مجرم الطونا» تتحدَّث عن أشياء كثيرة في وقتٍ واحد: صورة لبعض من أسوأ قسمات القرن؛ ورؤية تأمُّلية جديدة عن التعذيب، وهي فكرة شغلت سارتر لسنوات عديدة؛ وهجوم حاد على سلوك فرنسا في الحرب الجزائرية (إذ يرمز فرانز إلى فرنسا)؛ واتهام موجَّه إلى الرأسمالية، وعرض درامي لاستبصارات نافذة فيما هو اجتماعي وفردي، وسبَق أن عرَضهما سارتر إجمالًا في «البحث عن منهج»، ويبدو أن سارتر إذ يبني جحيمًا عصريًّا إنما يُعيد تفكيره بشأن مسرحية «لا مفر» في ضوء كل ما تعلَّمه وما فعله على مدى السنوات الخمس عشرة منذ ظهور هذا العمل. وعلى الرغم من أنه لا يقتبس كلمات من «السقوط»، ليُعِيدها كما هي في «مجرم الطونا»، وهي من أهم أعماله، فإنه كما يبدو يشغله عملٌ من أعظم أعمال كامي. ويمكِن القول بعيدًا عن نزاعهما ونتائجه المروِّعة إن سارتر وكامي ظلَّا مُرتبِطَين في المرحلة التالية من حياتهما الإبداعية. ولعلَّ من المُهم بيان أن «مجرم الطونا» — وهي أغنى ما أثمرته عملية تحرُّر سارتر من الواقعية المقيتة، والتي هاجم بسببها كامي — هي بوضعها هذا ردٌّ على «السقوط»، الرواية التي حرَّر فيها كامي نفسَه من آثار هجوم سارتر عليه.