لو عاد موسى وعيسى ومحمد

يحكى أن موسى وعيسى ومحمدًا — عليهم السلام — تواعدوا أن ينزلوا إلى الأرض؛ ليروا أممهم، ماذا صنعوا بتعاليمهم، وكيف اتبعوا أوامرهم ونواهيهم، وكيف أثر فيها الزمان وأحداث الأيام، ورسموا خطة: أن يختار كل منهم دليلًا يطوف معه في أهم الأصقاع التي يسكنها قومه، ويوضح له خصائصهم ومسالكهم في الحياة وتقلبهم في شئونها؛ حتى إذا أتموا رحلتهم اجتمعوا في «بيت المقدس»؛ ليقرروا ما يعملون فيما سيعلمون.

فأما موسى — عليه السلام — فصحبه دليل يهودي عليم خبير … طوف به في أوربا وأمريكا، وأطلعه على براعة قومه في المال وجمعه واسغلاله، كيف يقرضون وكيف يرابون وكيف يؤسسون البنوك، وكيف يستولون بواسطتها على الصناعة والتجارة، وكيف يقبضون على زمام الأمور في الأمم عن طريق المال؛ لأنه عصب الحياة، وكيف أن لهم في كل شركة إصبعًا، وفي كل مؤسسة مالية أو تجارية أو صناعية يدًا؛ حتى إن لهم في كل الشعوب التي يحتلونها أطايب الكسب، وأعاظم الربح، وليس للشعوب إلا ما يتبقى بعد شبعهم، وما يفيض بعد أن تمتلئ أيديهم.

وقال: إن قومي متواضعون لم يترفعوا عن أية مهنة، ولم يتكبروا على أية صناعة، فأي شيء يدر المال مجال نشاطنا ومبعث همتنا، وبذلك سدنا وسيطرنا … حتى كان لنا في أمريكا شارع تجاري يسيطر على أمريكا الشمالية والجنوبية كلها، وحتى كان منا ستة ملايين فيها يسيطرون على مئة وأربعين مليونًا، وقد وجهنا عناية خاصة إلى الصحافة والسيطرة على كثير منها حتى يكون الرأي العام في قبضة أيدينا ما أمكننا، وأعددنا سجلًّا في كل مملكة لعظماء الرجال ندون فيه موضع قوتهم وموضع ضعفهم لنستغل ذلك أحسن استغلال إذا دعت الحال، فمن كانت أمنيته الانتخاب هددناه ومنيناه، ومن كانت أمنيته غير ذلك فغير ذلك؛ سيرًا على مبدأ «إن الغاية تبرر الوسيلة». ومن أجل ذلك عظم سلطاننا في الدول؛ فمنهم من غار منا فانتقم … ومنهم من كرهنا وكتم، ونحن لا نعبأ بحبهم أو كرههم ما دمنا نحسن استغلالهم.

قال «الدليل» ذلك كله لموسى — عليه السلام — بلهجة المزهو المفتخر الذي يستخرج إعجاب سامعه … فسكت موسى ولم يقل شيئًا ولم يبد سخطًا ولا إعجابًا، وكل ما يذكره الراوي أن الدليل مرة أرى موسى بنكًا؛ فسأله موسى: أين المعبد؟ وشرح الدليل مرة نجاحهم في أساليب السياسة، فسأله موسى عن وجه الحق فيها، وعلى الجملة فقد تكلم الدليل عن الأرض فسأله موسى عن السماء.

وطار إلى فلسطين، فأراه الدليل نشاط اليهود في إعادة دولة سليمان، وكيف استخدم قومه نفوذهم وجاههم ومالهم؛ لتأسيس هذه الدولة، وكيف حاولوا حمل الدول على الاعتراف بالتقسيم، وسيتلوه الامتداد شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا حتى يعود لنا ملكنا القديم ونسيطر على العالم أجمع، وهنا لم يستطع موسى أن يكتم اشمئزازه وغيظه، فيدوي اسمكم — يا سيدي — في كل مكان، وأراه مدينة تل أبيب وشرح له كيف شيدت، ثم ختم رحلته معه ببيت المقدس، ولم يزد موسى على أن قال: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَبًا.

•••

وأما عيسى — عليه السلام — فقد حار دليله قبل مجيئه ماذا يريه، فعقد لذلك مؤتمرًا من أقطاب النصارى ظل منعقدًا أسبوعًا، وأخيرًا قر الرأي على أن يكون البرنامج إطلاعه — عليه السلام — على المدنية الغربية ممثلة في نواحيها المختلفة؛ لأنها وليدة النصرانية كما أن النصرانية وليدة عيسى، فأراه الدليلُ المدنيةَ بعنصريها المادي والمعنوي من آلات وصناعات ومخترعات، ومن علوم وفلسفات، ومن نظم الحكم في شتى أشكالها، وأساليب التربية في مختلف وسائلها، وأراه المدارس والجامعات والبرلمانات، وشرح له كيف أن النصرانية الآن تتوزعها الشيوعية والديمقراطية بعد أن قضت على النصرانية النازية، وأن الخلاف بين النصرانية الشيوعية والنصرانية الديمقراطية قد بلغ في هذه الأيام أقصى حده؛ حتى ليوشك أن تقع بينهما حرب تقضي على العالم.

وبهذه المناسبة أراه معرضًا للآلات الحربية من القرون الوسطى إلى اليوم … من السيف والخنجر والدرع وما إليها، إلى المدافع القنابل وما إليها، إلى الطيارات والغواصات والدبابات والصاروخات وما إليها، إلى القنابل الذرية وما إليها، فقال عيسى — عليه السلام — عند خروجه من المعرض: «مرحى مرحى» ولم يتبين الدليل جيدًا، أقالها معجبًا أم قالها متهكمًا؟ لأن نغمتها كانت بين بين، ثم قال الدليل: «إننا يا مولاي بفضل هذه المدنية سدنا العالم وحكمنا الشرق والغرب … فكل الأمم أتباعنا وكل الأديان خاضعة لنا» وأخيرًا طار به إلى «بيت المقدس» فأحب أن يزور أماكنه الأولى أيام كان على الأرض حتى يأتي موعد الاجتماع.

•••

وأما محمد عليه السلام فأطلعه دليله على العالم الإسلامي، من تركيا وفارس والهند والعراق والشام ومصر والحجاز إلخ … وأراه خريطة تدل على اتساع رقعة الممالك الإسلامية في أزهى عصورها، كما أطلعه على المدنية الإسلامية في أوج عزتها من أبنية فخمة، وآثار ضخمة، وفنون رائعة، وعلوم واسعة، وأراه المكتبات وأراه ما أنتجته عقول المسلمين من آراء وأفكار، وكيف سادوا العالم في أيام عزهم، وكيف تقدموا الغرب إذ ذاك فكانوا أساتذته في العلوم والفنون والصناعات حتى كانت حضارتهم أساسًا لما بني عليها من حضارات غيرهم.

وكان ماهرًا؛ إذ اختار شخصًا يعد — بحق — نموذجًا للمسلم في العصر الحاضر، وأخذ يحلله لمحمد — عليه السلام — ويشرح له أخلاقه وعقائده ونفسيته شرحًا واسعًا مستفيضًا؛ حتى كأنه في شرحه له، وتحليله لعقائده، قد شرح له حال المسلمين جميعًا.

ثم طار به إلى فلسطين؛ حيث أراه النزاع الدائر بين العرب والصهيونيين، وموقف أوربا وأمريكا إزاء هؤلاء وهؤلاء، وأخيرًا وصلا إلى بيت المقدس.

•••

قال الراوي: «إن الثلاثة — عليهم السلام — اجتمعوا عند الصخرة في بيت المقدس يتداولون بينهم فيما شاهدوا، وما يجب أن يعملوا».

محمد : «لقد رأيت عيب أمتي: إنهم ينظرون إلى ماضيهم أكثر مما ينظرون إلى حاضرهم».
عيسى : «ورأيت عيب أمتي: إنهم ينظرون إلى حاضرهم أكثر مما ينظرون إلى ماضيهم؛ حيث منبع ديانتهم».
موسى : «ورأيت عيب أمتي: إنهم ينظرون إلى جيوبهم أكثر مما ينظرون إلى قلوبهم».
محمد : «ورأيت عيب قومي: إنهم بالغوا في الروحانيات حتى مزجوها بالأوهام والخرافات».
عيسى : «أما عيب قومي: فإنهم أفرطوا في الماديات وأهملوا الروحانيات».
موسى : «وعيب قومي أنهم أخضعوا الروحانيات للماديات، وأخضعوا الماديات للشيكات».
محمد : «وعيب قومي أنهم نسوا وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ …».
عيسى : «وعيب قومي أنهم بالغوا في الإعداد للقوة؛ حتى صارت موضع الضعف في الحضارة النصرانية».
موسى : «وعيب قومي أنهم فسروا القوة التي يعدونها بكل الوسائل؛ حتى ما كان منها خسيسًا وضيعًا».
محمد : «وعيب قومي أنهم عددوا الآلهة من جاه وسلطان وحكام، ونسوا أساس الدين وهو لا إله إلا الله».
عيسى وموسى : «ذلك شأن أممنا جميعًا».
عيسى : «وهل نعود إلى الأرض نجاهد من جديد؛ لنملأها عدلًا كما ملئت جورًا؟»
محمد : «قد كان ذلك والناس في غفلة من أمرهم، والحق يعمى عليهم، أما وقد بينا الحق، وتكفل الله أن يحفظه إلى اليوم وبعد اليوم، ونضج عقل الناس، ولكن أعمتهم شهواتهم، فلا سبيل إلا أن يتركوا وشأنهم، يتعلمون السعادة من الشقاء، ويعرفون فضل الجنة بعذاب النار، إن للناس قلوبًا ولكن لا يفقهون بها، وعيونًا ولكن لا يبصرون بها، وآذانًا ولكن يسمعون بها، فليجنوا ثمرة عماهم وصممهم وجحود قلوبهم؛ حتى يستفيقوا من غفلتهم، وماذا نعمل أكثر مما عملنا، وكتب الله بينهم، وعقولهم في رءوسهم، وأفئدتهم بين جنوبهم؟ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.

وأمن موسى وعيسى على هذا الرأي، وقالوا جميعًا: «إلى السماء».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤