السينما والشباب

أصبحت السينما في المدنية الحديثة إحدى الدعائم الثلاث التي تكون الرأي العام وتوجهه، وتثقف الشعوب وتغذي عواطفها وتسليها؛ وهي: الصحافة، والإذاعة، والسينما.

وقد أحصى بعض علماء الأمريكيين — وهم المولعون بالإحصاء — دور السينما في العالم سنة ١٩٤٠ فكانت نحو سبعين ألف دار، منها نحو ٢٩٪ في أمريكا وحدها، وجاء في الإحصاء أن الأمريكيين الذين يغْشُون هذه الدور بين ستين مليونًا وثمانين مليونًا في الأسبوع، ومن هؤلاء من يغشونها أكثر من مرة، وأمعنوا في الإحصاء فأحصوا من كان منهم في سن الطفولة والمراهقة، ومن كان في سن الشباب ومن هم فوق ذلك، وحسبنا هذا دليلًا على أثر السينما في الشعوب وأهميتها في حياة الناس.

وقد زاد أثرها بتحولها من سينما صامتة إلى سينما ناطقة؛ فقد كانت وهي صامتة تقصر عن عرض بعض العواطف والمعاني الدقيقة فيستعاض عن ذلك بالمبالغات في التمثيل، فلما تحولت إلى ناطقة استكلمت هذا النقص، وكانت وهي صامتة تؤدي المعاني وتغذي العواطف عن طريق النظر وحده، فأصبحت تفعل ذلك عن طريق السمع والبصر جميعًا.

•••

فإذا نحن نظرنا إلى السينما من حيث موضوعاتها وجدناها تنقسم إلى قسمين كبيرين: قسم يقصد منه التسلية على اختلاف ألوانها وأشكالها. وقسم ثقافي؛ ويشمل الأنباء والأخبار والموضوعات العلمية من زراعية واقتصادية، والموضوعات التاريخية لعرض الحوادث والأبطال، وهكذا.

ولو عدنا إلى الإحصاء أيضًا، وجدنا أن الأغلبية الساحقة هي من القسم الأول؛ فقد زادت عن ٩٠٪، منها ٢٥٪ فلمًا لعرض الجرائم، و٤٥٪ للعلاقات الجنسية، و١٦٪ كوميديا مضحكة، وباقيها أفلام حرب، وموضوعات أطفال.

ومن الإنصاف أن نقرر أن هذا الإحصاء وهذه النسب كانت قبل الحرب الأخيرة، والزمن يعمل في السينما عملًا سريعًا كسرعته، عجيبًا كطبيعته، فالموضوعات التي يقبل عليها الجمهور اليوم يعرض عنها غدًا، وعواطف الناس تختلف أيام السلم عنها أيام الحرب، وهي في البيئة الديموقراطية، غيرها في البيئة النازية أو الشيوعية وهكذا.

ولعل الموضوع المستقر الخالد الذي لا يعتري الناس منه ملل أو ضجر في كل الأزمنة وكل الأمكنة، هو موضوع «الحب»، فشاب قابل شابة، وشابة قابلت شابًّا فكان بينهما من العلاقات ما يسمى حبًّا، وتكونت حول هذه العلاقة هالة من خيالات وأوهام ووصل وهجر وانتقام، فهذا هو الموضوع الخالد من عهد آدم وحواء إلى عهد الأفلام الصامتة والناطقة، والإقبال عليه لا ينقطع، ومناظره لا تمل، في سلم أو حرب، وفي نظام ديمقراطي أو شيوعي.

والنقطة الهامة التي يتوقعها القارئ هي أثر السينما في أخلاق الشباب، وهل نشجع السينما أو نقاومها؟

لقد وجه كثير من مدارس علم النفس بحثه إلى هذا الموضوع يدرسه علميًّا كما تدرس المواد في معامل الطبيعة والكمياء، واتبعت كل مدرسة منهجها الخاص بها، درست مدرسة أثر السينما في نوم النظارة مع اختلاف أسنانهم أطفالًا وشبابًا وكهولًا، ولاحظتهم في نومهم عقب رؤيتهم روايات مختلفة الموضوع، فشاهدت حركات غير عادية من بعض، وأرقًا من بعض، وتأثر البعض بموضوعات دون بعض.

واعتمدت مدرسة أخرى على استكتاب بعض طلبة الجامعات تقارير عن حالتهم عقب رؤية الأفلام، وهكذا مما يطول شرحه.

ودرست مدرسة أخرى أثر السينما في أخلاق الشبان في بعض الجامعات، وقارنت بين الطلبة الذين يذهبون إلى السينما ثلاث مرات في الأسبوع، والطلبة الذين يذهبون مرتين في الشهر أو أقل، فرأت أن الأولين أميل إلى مشاهدة الرقص ودور الملاهي، والآخرين أميل إلى الجد في دروسهم، وأن الأولين أميل إلى أن يكونوا مغامرين ورجال أعمال، والآخرين أميل إلى أن يكونوا أطباء ومدرسين ونحو ذلك.

وقد اتَّخَذَ بعض رجال الأخلاق ورجال الدين — في كل الأمم — ذلك ذريعة إلى الطعن في السينما والتشهير بها، وذكروا أمثلة كثيرة من شبان تعلموا الإجرام من قصص السينما الإجرامية، وشبان تعلموا المغازلة من روايات السينما الغرامية، وأن السينما كانت مدرسة سيئة لكثير من الشبان والشابات، تعلم فيها كل صنوف الشرور، فهي تثير الغرائز الكامنة، وتفجر الغرائز المكبوتة، وتعلم وسائل الشر لمن يريد الشر ولا يعرف وسائله، ونحو ذلك.

ولكن ما هكذا توزن الأمور وتقدر ويحكم عليها، إن مثل من يقول هذا كمثل مَن يقترح إلغاء السكك الحديدية؛ لأن القطارات تدوس بعض الناس، ويغلق الجرائد والمجلات؛ لأن منها ما يتهجم على الأعراض ويقذف الأبرياء، أو يقترح أن يسلب الناس حريتهم؛ لأن بعضهم مُنِحَ الحرية فأساء استعمالها، وهكذا. إنما يُقَوَّم الشيء بخيره وشره معًا، ومنافعه ومضارِّه جميعًا، وأي شيء في الدنيا خلا من عيب؟

•••

لا يصح أن ننسى أن السينما مدرسة ثقافية بما تنشر من أفلام اقتصادية وزراعية وصحية ونحو ذلك، حتى أفلام التسلية والترفيه لا تخلو من ثقافة فنية وأدبية، أو على الأقل معرفة بما يجري في العالم من شئون اجتماعية، وربما فعل فيلم اقتصادي أو زراعي أو صحي ما لم تفعله المدارس، فإن أساءت الأفلام أحيانًا، فكما تسيء المدارس ببعض تعاليمها أحيانًا.

والمقاييس الأخلاقية التي قام بها بعض علماء النفس — والتي أشرنا إليها من قبل — ليست دقيقة ولا متناولة جميع النواحي، قد يكون حقًّا أن الطلبة الذين يذهبون إلى السينما ثلاث مرات في الأسبوع أسوأ خلقًا، وأقل في الحياة جدًّا، ولكن هل هذا بتأثير ذهابهم إلى السينما ثلاث مرات، أو أنهم يذهبون ثلاث مرات إلى السينما لأنهم أسوأ خلقًا وأميل إلى اللهو؟ فالحق أن السينما تعكس ما عند الإنسان من غرائز وميول وشذوذ واتجاهات، أكثر مما تكون خالقة لها، ومصدرًا لتكوينها، بدليل أن الفيلم الواحد قد يؤثر في متفرِّج أثرًا سيئًا جدًّا ويؤثر في زميله الذي يجلس بجانبه أثرًا صالحًا جدًّا.

ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريض
يجد مُرًّا به الماء الزلالا

والمغني يغني وكل يبكي على ليلاه.

ولسنا ننكر مع هذا ما للسينما من أثر صالح أو فاسد، فكم رسمت للشبان مثَلَهم الأعلى في الطموح إلى حياة البذخ والترف والنعيم، ورسمت لآخرين حياة الجد والنجاح في العمل، وللمستعدين للإجرام مغامرات المجرمين! وكم رسمت للفتاة صورة جميلة لحياة زوجية سعيدة، وخففت عن نفسها ألم العزلة والفراغ، أو صورت لها أن تكون يومًا من الأيام بطلة لقصة غرام! وهكذا، ولكن مثل السينما في ذلك مثل الجرائد والمجلات، تقول الحق والباطل وتوجه التوجيه الصالح والفاسد، ومثل الإذاعة تقص القصة النافعة والضارة، وتذيع الأغاني الحلوة والمرة.

•••

إن الإذاعة والسينما والصحافة في كل أمة انعكاس لثقافتها وعقليتها وأخلاقها وذوقها الفني، وهي كلها نتيجة لأحداث الأمة، ونتيجة للمخترعات والمكتشفات، ونتيجة لما يحدث للأمة من تطورات اجتماعية، فهي أقرب أن تعد نتيجة لعوامل، من أن تعد عاملًا من العوامل، أو هي كما يقول الفلاسفة قابلة أكثر منها فاعلة، ولكنها لا تخلو من أثر فعال وتوجيه قوي.

من أجل هذا — أعني ما لها من أثر فعال — يجب على الحكومة مراقبتها؛ فقد تصلح أفلام لسن دون سن، وقد تصلح في ظروف دون أخرى، وقد تدعو إلى التهتك، وقد تدعو إلى هدم ما هو عزيز على الأمة من دين وقومية إلخ.

ثم إن كانت الحكومة يقظة راقبتها من ناحية أخرى، وهي ناحية تعادل موضوعات الأفلام، فلا تكون كلها غرامًا بحتًا أو غرامًا وإجرامًا، بل لا بد أن تغذى بمقدار معقول من الثقافة؛ وبعض البلاد الراقية اشترطت على كل دار من دور السينما أن تعرض في كل مرة فيلمًا ثقافيًّا يستغرق عشر دقائق على الأقل.

إننا نراقبها كما نراقب الفاكهة تأتي من الخارج؛ فقد تكون متعفنة أو ملوثة، ونراقبها كما نراقب النقود في الداخل فقد تكون مزيفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤