شباب الزمان … الربيع

ما قيمة الحياة إذا اقتصرت على الماديات، وحصرت نفسها في الخبز والملح ومضاعفاتهما، ولم تعبأ بجمال زهرة ولا تألق نجم، ولم ينبض قلبها بحب للجمال في جميع أشكاله؟!

بل ما قيمة الحياة أيضًا إذا غرقت في النظريات العلمية العقلية، وفكرت في قوانين الأشياء وشرحها، واهتمت بمعرفة الطبيعة أكثر مما تهتم بجمالها؟!

إن الحياة الحقة هي ما تجاوبت مع العناصر المكونة للإنسان، وللإنسان جسم يحتاج إلى مادة تغذيه، وفيه عقل يحتاج إلى تفكير منطقي في حقائق الأشياء، وفيه فوق ذلك كله عاطفة تحتاج إلى جمال يغذيها وينميها ويرقيها، ولئن كانت الحياة المادية والحياة العقلية جافة باردة، فالحياة العاطفية ناعمة دافئة تبعث السرور والبهجة، والغبطة والسعادة.

فالعاطفة هي ملح الحياة؛ بها يدرك الإنسان من هذا العالم اللجب المضطرب، الشقي التعس، ما في باطنه من وفاق وتناسب كتناسب نغم الموسيقى، والعاطفة إذا هذبت نعمت بالجمال، وخلقت من الشقاء سعادة، ومن النار جنة.

والإنسان من يوم أن خلق مد خيوطًا بين الطبيعة وقلبه، فشعر شعورًا ساذجًا بجمال السماء والأرض، وجمال الطيور والأزهار، وشروق الشمس وغروبها، ولكن كان يحول بينه وبين الاستمتاع بها حاجته الملحة إلى القوت ومشقة الحصول عليه … حتى إذا توافر له رقيت عواطفه فأحس أن القوت ليس كل شيء، ولا العلم كل شيء، وإنما العاطفة والجمال ورقة الشعور، والاستمتاع بجمال الطبيعة وجمال العالم، هي قوام الحياة.

•••

كم في الكون من جمال! ولكنه يحتاج إلى عين تنظره، وكثير من الناس لهم عيون، ولكن لا يبصرون بها إلا ما يأكلون وما يشربون وما يدخرون، وقليل هم الذين دق نظرهم، فرأوا جمال العالم المتجدد في الحقول والزهور، والسماء والنجوم، والبحار والأنهار، والجبال والأحجار، وقلَّ أن يكون شيء في الوجود لا جمال فيه، وإنما يحتاج إلى عين تبصره وذوق يدركه وقلب يلقفه، ورحم الله ابن المعتز؛ إذ يصف قلبه فيقول:

قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئًا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه

وما أشقى من لم يرَ في البستان إلا زهرة تشم أو ثمرة تؤكل، ولا يرى في البحر إلا ماءً ملحًا وسمكًا يتغذى به، ولا يرى في الحمام واليمام والعصافير إلا أنها تصاد وتشوى! إن هؤلاء وأمثالهم عمي العيون صم الآذان غلف القلوب أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ.

إن أردت الحق فعمر الإنسان لا يحسب بالسنين التي عاشها، ولا بالملذات المادية التي استمتع بها … إنما تقدر الحياة بما نبض به قلبه من مناظر أشجار يانعة، أو أطيار صادحة، أو نجوم متألقة، أو زهور ضاحكة، وعلى الجملة بما تجاوبت به نفسه مع منظر جميل أو معنى جميل، وأما ما عدا هذا فقشور الحياة لا لبها؛ وإن ساعة واحدة يقضيها المرء بين الأزهار والأشجار أو على شاطئ البحار والأنهار، يناغي فيها الطبيعة الجميلة ويقترب فيها من عمق الحياة وسرها، ويخفق فيها قلبه لما تحويه من معنى الأبدية والأزلية، خير من ألف ساعة يقضيها في كفاح من أجل المال بل ومن أجل العلم، ولقد كان على شيء من الحق ذلك الرجل الشاعر القلب المرهف الحس الذي أخذته روعة غروب الشمس فهتف قائلًا: «دعوا لي هذا المنظر، وخذوا جميع كتبي».

•••

في كل جانب من جوانب الطبيعة جمال، ولكل جمال ذوقه وطعمه، كالفاكهة تختلف أشكالها وطعومها، ولكل فاكهة جمالها، فهذه القبة الزرقاء ببهائها وسنائها ولألاء نجومها تبعث في الإنسان الشعور بألم لذيذ أو لذة أليمة، وسبب اللذة جمالها … وكل جمال يبعث اللذة والسرور، وسبب الألم جلالها … وكل جلال يبعث في النفس الشعور بالضعة والمهانة وحقارة الإنسان أمام هذا الجلال، وهو شعور أليم.

وهذه الشمس الجميلة القوية مصدر نورنا ونارنا، تفعل أفاعيلها العجيبة الجميلة في أرضنا حتى كأنها «فلم» سينمائي غريب، تبخر الماء وترفعه غيومًا في السماء وتنزله أمطارًا تجري به بحارًا وأنهارًا، ويسقى به الزرعُ فينمو ويهيج، والأزهارُ فتنضج وتتفتح، ثم هي بحرارتها تلعب بالرياح، والرياح تلعب بالأمواج، والأمواج تلعب بالسفن، والسفن تلعب بالراكبين، وهكذا من مناظر جميلة لا يحصيها العد.

وهذا القمر الوديع اللطيف، يبدو هلالًا نحيلًا وينمو نموًّا متتابعًا بديعًا، ثم يعود كما بدا فيتلون في ذلك بلون من أضناه الحب فنحف وهزل، ثم بلون الحبيب الممتلئ حسنًا ونضارة، ويعرض علينا صورة الطفل بدا صغيرًا هزيلًا، ثم صار في أحسن تقويم، ثم رد أسفل سافلين، ثم هو يلعب بالماء في مده وجزره، وتلوينه وتفضيضه؛ فإذا نحن رددنا الطرف من قبة السماء إلى سطح الأرض وجدنا صنوفًا من الجمال لا تنتهي.

هذا الماء البديع ينساب في الجدول ويتدفق في النهر ويتموج في البحر، ويكون فضيًّا في وسط النهار وذهبيًّا في الأصيل، وله صوت في سريانه وتدفقه وتموجه أجمل من صوت الناي، وإذا مس أرضًا ملأها بالحياة من شتى الأنواع … وهو على رقته يفتت الصخور ويذيب الجبال، وله في كل نهر وبحر وبحيرة تاريخ طويل مما له من أفاعيل.

وهذه الجبال — معممة بالثلوج، أو مكسوة بالأشجار، أو صخرية جرداء — تفتن النظر بجمالها وعظمتها وتعاريجها وارتفاعها، في أعاليها يتعانق السحاب، وفي هيكلها تتلون الصخور، بين دكناء وحمراء وصفراء، وفي باطنها المناجم تعج بالخير، وفي أسفلها الوديان تموج بالحياة، تشمخ بقممها كأنها تريد أن تنطح السماء، وبجمال أديمها كأنه ألوان الحرباء، وبصفاء جوها، ونقاء هوائها، وبعدها عن التلوث بصغائر الإنسان.

وحتى الصحراء الجرداء لها معان من الجمال فاتنة … فهي واسعة لا يبلغ الطرف مداها … تقرأ العين فيها معنى الأبدية واللانهائية والخلود، وينعم العقل فيها بمعنى الاستقرار والثبات، بينما ينعم في منظر البحر بمعنى الحركة والتقلب والنشاط … وكلاهما معنى لا يفهم إلا بأخيه ولا يجمل إلا بقرينه.

•••

أكتب هذا في مستهل الربيع والعالم يموج بالجمال … فلئن كان للزمان عمر فالربيع شبابه، ولئن كان الجمال في غيره يرتشف فهو في الربيع يعل وينهل، قد دبت الحياة في الأرض فأفاقت الأشجار من نومها، واكتست الأرض بثيابها الخضر بعد عريها، وتفتحت الأزهار وغنيت بالألوان، وتمايلت الورود على الأغصان، وغردت الأطيار … فإذا كل شيء جميل لا ينقصه إلا طرف يدرك جماله، وقلب ينبض بحبه، ولسان يهتف: سبحان خالقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤