في الهواء الطلق (٢)

لأن تكون الأمة المصرية خمسة ملايين راقين يعيشون عيشة سعيدة، خير من أن يكون عددها عشرين مليونًا؛ وهي كما هي: فقر وبؤس وجهل ومرض

دق التليفون صباحًا فإذا هو صوت الصديق قال: الجو بارد، واليوم صحو، والشمس تؤذن بأنها ستبعث إلينا دفئًا لذيذًا، فهل لك أن أمر عليك بسيارتي فنستمتع بالشمس في سفح الأهرام؟

قلت: وهو كذلك.

ها نحن في شمس مينا هاوس، وقد أخذت تدفئنا بأشعتها الذهبية، فلما سخنت رءوسنا، أحسسنا بشهوة الكلام تنبعث من نفوسنا.

هو : لقد لفت نظري وأنا آت إليك حركة الترام وامتلاؤه بالراكبين، كأنه علب السردين، بل لعل علب السردين أكثر منه نظامًا، فليس هناك محل لجالس ولا واقف، ولا يستطيع داخل أن يدخل، ولا خارج أن يخرج إلا بعناء، كما لفت نظري امتلاء الشوارع بالمارين وحركة المرور الفظيعة الشنيعة من سيارات وعربات ومشاة، ولقد زرت لندن وباريس وجنيف، فلم أجد مثل هذا الازدحام، ولا صعوبة الانتقال، فقلت في نفسي: ماذا يكون المصير بعد عشر سنين أو عشرين، وكيف إذ ذاك يستطيع الناس أن يمشوا على أرجلهم، أو يركبوا سياراتهم، أو يقضوا حوائجهم؟ لقد آن الأوان؛ لأن نفكر جديًّا في تقليل عدد السكان.
أنا : أتقول إذًا بضبط النسل؟
هو : نعم، بكل قوة وإيمان، إن القول بضبط النسل عندي بديهية من البديهيات، وإذا كان ضبط النسل جائزًا في إنجلترا وأمريكا، وهما ما هما في ارتفاع مستوى المعيشة، ورقي الحالة الصحية والاجتماعية، فهو في مصر والشرق واجب لا جائز، إن ضبط النسل يزيد في سعادة الفرد والمجموع، ويقلل من بؤس البائس، وشكوى الفقير، ويحرر المرأة من كثير من أغلالها، ويريح رب العائلة من كثير من أعبائه، إن الرجل إذا كان دخله الشهري ستة جنيهات أو ثمانية أو عشرة استطاع — إذا كان له ولد أو ولدان فقط — أن يعيش عيشة أرقى بدخله هذا مما إذا كان له ستة أولاد أو ثمانية أو عشرة، واستطاع أن يعلم الولد أو الولدين خيرًا مما يعلم الأولاد الكثيرين، واستطاع أن يعني بصحة الولد أو الولدين وأن يلبسهما لباسًا معقولًا، ويطعمهما طعامًا معقولًا، واستطاعت الأم أن تشرف عليهما، وأن تجد بعض الوقت لراحتها.
أما إذا كان البيت مملوءًا بالأولاد، والأم تحمل ولدًا، وتفطم ولدًا، وتجر بيدها ولدًا، فالويل كل الويل لهذه الأسرة، والويل كل الويل للمجتمع من أمثال هذه الأسرة، ولو كانت مرافق الحياة ومنابع الثروة في الأمة تزداد بنسبة عدد السكان لتقبلنا حجج القائلين بإباحة النسل في شيء من سعة الصدر، أما والسكان يتضاعفون ومنابع الثروة لا تنمو بهذه النسبة ولا بقريب منها فضبط النسل واجب لا شك فيه، إن محاربتنا للأعداء الثلاثة؛ من فقر، ومرض، وجهل، عديمة الجدوى ما دام باب النسل مفتوحًا من غير حساب؛ فكل جهودنا — إذًا — ضائعة أو قليلة المنفعة؛ ومثلنا إذًا مثل من يرمي قنطار سكر في النيل ليحليه، أما إذا قلَّ النسل استطعنا أن نعلم النسل الجديد القليل، وأن ننظم حالته الصحية، وأن نعالج فقره وفقر أسرته في الحدود المعقولة.

وإلى جانب هذا وذاك، هناك الحالة النفسية التي تصحب قلة النسل؛ فالأم تهدأ أعصابها إذا اقتصرت على تربية ولد أو ولدين وتجد مجالًا لراحتها، والأب تطمئن نفسه — ولو كان فقيرًا — بعضَ الاطمئنان، ويجد فيما يكسبه — ولو قليلًا — قدرة على سد الحاجات الضرورية له ولأولاده، هذا من ناحية الفرد، أما من ناحية المجموع فالأمة مجموع أسر، فإذا حسنت حالة الأسرة حسنت حالة الأمة؛ وإذا كانت الأسرة يتعلم أبناءها ويجدون غذاءهم الصحي وملبسهم النظيف وتعلمهم الضروري؛ ارتقت الأمة تبعًا لذلك، وليست الأمة تقدر قيمتها بعدد أفرادها، ولكن تقدر بنوع أفرادها، ولا تقدر بكميتها، ولكن بكيفيتها، والنظر الساذج المنحط هو الذي يقدر الكمية، فإذا رقى قدَّر الكيفية، ولأن تكون الأمة المصرية خمسة ملايين راقين يعيشون عيشة سعيدة، خير من أن يكون عددها عشرين مليونًا؛ وهي كما هي: فقر وبؤس وجهل ومرض وشقاء.

لقد كانت الطبيعة تقوم بما يقوم به ضبط النسل، فتبعث من حين إلى حين كوليرا أو مرضًا وبائيًّا يهز الناس ويغربلهم ويقلل من عددهم، فتعيش بعد ذلك عيشة معقولة؛ أما وقد تقدمت شئون الصحة فالأمر من كثرة السكان سيكون مخيفًا مرعبًا، قد كان يكون معقولًا بعض الشيء ألا نحدد النسل لو كانت الأمة المصرية ترحل من بيئتها المزدحمة إلى بيئتها غير المزدحمة، ومن قطر إلى قطر، أما وهي لا يحب أهلها أن يرحلوا من القاهرة إلى طنطا، ولا من المنوفية إلى البحيرة، ولا من أي بلد إلى بلد قريب، فالمسألة أدهى وأمر.
أنا : ولكن أليس هذا العمل محاربة للطبيعة؟
هو : محاربة للطبيعة! كيف ذلك؟ إنه تنظيم للطبيعة، لا محاربة للطبيعة؛ فليست المدنية في جميع أشكالها إلا تنظيمًا للطبيعة، انظر إلى فيضان النيل، هذه هي الطبيعة، ولكن نقيم عليه سدودًا تنظمه، والبخار ينبعث من الماء الحار، وهذه هي الطبيعة، ولكن ننظمه فنسير به القطارات وأمثالها، والجو مملوء بالكهرباء وهذه هي الطبيعة، ولكن نأخذها فننظمها، فلماذا يكون هذا وحده هو الذي نقف عنده ونقول: إنه ضد الطبيعة؟!
أنا : فليكن كذلك، ولكن أليس هذا عصيانًا لإرادة الله؟!
هو : ولا هذا، فإذا تركنا النسل من غير أن نحدده فهذه إرادة الله، وإذا حددناه فهذه إرادة الله أيضًا، أولسنا نفعل هذا في كل شيء؟! ألسنا في الزراعة نخفف الزرع إذا وجدناه قد كثر كثرة تضر بالغلة؟! أولسنا ننقي الزرع من الحشائش التي تضره؟ أولسنا في كل ما نعمله في الزراعة نسترشد بالعلم وبالتجارب؛ حتى نأتي بأجود محصول لا بأكثر محصول؟! ولو سرنا على قولك في إرادة الله بالمعنى الذي تتصوره؛ لتركنا كل زرع على طبيعته، وتركنا كل مرض يفتك على طبيعته، وتركنا كل مجرم وكل فقير وكل جاهل يسير على طبيعته من غير أن نتدخل في شأنه! إن تعاليم الله تقضي بأن نستخدم عقولنا وننظر فيما هو الأصلح لحياتنا، ثم نعمل وفق ما تهدينا إليه عقولنا، وهذه هي إرادة الله …

•••

وهنا أحسسنا الشمس قد اشتدت حرارتها وأخذنا منها بنصيب وافر، فاقترحت عليه أن ننتقل إلى مكان آخر بين الظل والشمس؛ فتظللنا فروع الشجر ظلًّا متموجًا يذهب ويجيء فنكون بين برودة الظل ودفء الشمس …

هو : أليس هذا تدخلًا في الطبيعة وفي إرادة الله على قولك؟! لا؛ لا، إن النظر إلى الطبيعة وإرادة الله بهذا المعنى نظر غير صحيح، وما نفعله الآن في مراعاة مصلحتنا من انتقالنا من شمس إلى ظل، ومن ظل إلى شمس، هو القانون العام الذي أراده الله في اختيار المصلحة، والعمل على وفقها بحسب عقولنا.

وأحسسنا بالجوع فأكلنا، وبالشرب فشربنا، وبالراحة فاسترحنا، وتحدثنا حديثًا خفيفًا في الجو الصحة والسياسة، ولم أشأ أن ينقطع الحديث عن ضبط النسل؛ فقلت: وما رأيك في الأضرار الصحية التي تحدث من ضبط النسل؟

هو : لقد أحس الناس من قديم حاجتهم إلى ضبط النسل؛ فما يروى عن العرب من وأد البنات، وما يروى عن غيرهم من قتل الأولاد صغارًا، مما كان يجري في الصين والهند ونحو ذلك، ليس إلا ضربًا من ضروب تحديد النسل وإن لم ينطبق عليه هذا اللفظ انطباقًا تامًّا، وقد سار العمل في تحديد النسل وفقًا لنشوء الإنسان وارتقائه؛ فقد كان عملًا ساذجًا في الأمم البدائية، من استعانة على منع الحمل بالطرق السحرية، أو (طب الركة)، أو الإجهاض على شكل شنيع، أو استعمال بعض العقاقير ونحو ذلك مما كان يسبب أضرارًا بليغة؛ ولكن بتقدم المدنية والحضارة جعل هذا في يد الأطباء لا في يد الأفراد، وقد كانت أوربا وأمريكا على مثل قولك الآن في محاربة الطبيعة ومحاربة إرادة الله، فكانت تحرم ضبط النسل، وتحاكم من قام بهذه الدعوة، ولكن كانت هذه المحاكمة سببًا في انتشار الفكرة لا في إماتتها، واضطرت الحكومات أخيرًا إلى الاعتراف بهذا العمل وإباحته؛ فأنشأت المستشفيات الطبية للقيام بهذه المهمة متى وجد أن لا ضرر منها، وألفت الكتب الكثيرة لإرشاد الأمهات إلى ما يجب عليهن عمله، إن أردن تحديد النسل؛ وأذكر أني قرأت أنه كان في إنجلترا في سنة ١٩٢٩ أربعون مستشفى لهذا الغرض، وأن الجمعية الطبية من المجلس القومي البريطاني المؤسس للنظر في الأخلاق العامة أعلنت بالإجماع أن لا توجد عقبات في سبيل زوجين أرادا أن يعرفا الوسائل لمنع النسل؛ لأسباب صحية، أو لكثرة، أولادهما أو لفقرهما.
أنا : أشعر أن كلامك — كعادتك — مستقيم مقنع من الناحية العقلية، ولكني أشعر أنه ينقصه شيء من العواطف.
هو : ومتى كان الإصلاح يبنى على العواطف والمشاعر؟ إن الإصلاح في كثير من الأحيان يلجأ إلى محاربة العواطف والمشاعر، وهل حرمة الإلف والتقاليد إلا عواطف ومشاعر؟! دع عنك هذا واصغ لحكم العقل.

•••

وجاء موعدنا فركبنا السيارة وعدنا، وكان من حظه أن وجدنا الترام في الجيزة أسوأ مما وصفنا، فنظر إلي وقال: اسمع، ادعُ إلى ضبط النسل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤