البيوت الثلاثة

لقد أطللت من هذه البيوت الثلاثة على بيوت القاهرة كلها في إجمال …

أتيح لي في هذه الأيام أن أزور بيوتًا ثلاثة في القاهرة، وأتقصى أحوالها، ومظاهرها، ومعيشة أهلها.

فأما أولها فبيت لغني كبير، ورث ثروته عن آبائه، وحسنها ونماها: قصر فخم بني على أحسن طراز، وله حديقة غناء سعدت بأحسن الأشجار، وأجمل الأزهار، أفرد منها مربع للعبة «التنس»، وتدخل القصر فيبهرك جماله وأثاثه، كل حجرة فيه فرشت بعناية على طراز خاص، وروعي في أثائها أن يكون منسجمًا مع لون الورق الذي كسيت به حيطانها، ومع اللون الذي ينبعث من مصابيحها؛ وقد فرشت أرضها بالسجاد العجمي الذي تغوص فيه قدم السائر عليه، وإذا أضيئت مصابيحها رأيت النور ولم تر مصدره، وأُعِدَّ الدور الأول للاستقبال، والدور الثاني للنوم، وأعدت غرف النوم بأجمل الأسرة وأفخمها، وأثمن الفراش وأنظفه، وشغلت ملاءات الأسرة بأجمل أنواع التطريز، وبجانب كل غرفة نوم حمام يجري فيه الماء الساخن والبارد، وجهزت بعض الحجر بتكييف الهواء، وبالمدافئ المعدة في الحوائط يستخدم فيها الفحم والمدافئ المتنقلة بالكهرباء، وبه التليفون الثابت والمتنقل والراديو الثابت والمتنقل، وقد علقت في الحوائط لوحات من أجمل ما صنع الفنانون، ووضعت في الحجرات والغرف طرف كثيرة على شكل أنيق ووضع جميل، أما المطبخ فأعجوبة الأعاجيب؛ نظافة وأدوات كهربائية وغير كهربائية وأفران، وقوالب مما يسهل للطهاة إعداد كل ما تشتهيه الأنفس، وبالطابق الأسفل حجرة أعدت للمشروبات إعدادًا فاخرًا، وملئت دواليبها بمختلف الأنواع، وصففت تصفيفًا فنيًّا يهيم به أمثال أبي نواس …

لا تشعر بفرق بين هذا القصر وبين أمثاله من القصور العظام في أوربا، إلا بما ترى أحيانًا من خدم سود، أو تسمع آونة من لغة عربية.

هذا هو المكان؛ أما السكان؛ فالباشا عميد البيت، والسيدة ربة القصر، وابن واحد، وبنت واحدة، ثم عدد من الخدم: رجال ونساء، كبار وصغار، مصريون وأجانب، هذا طاه، وهذا مساعده، وهذا لإعداد المائدة، وهذه للشراب، وهذا لتنظيف الدور، وهذه لإعداد ملابس الباشا الأول، وهذه لإعداد ملابس السيدة، وهذه تمسك مفاتيح الخزائن من مأكول ومشروب، وهذه لخدمة البيك، وهذه لخدمة الآنسة، وهذه الأوربية للإشراف على جميع خدمة البيت.

أما الباشا فحينًا في الوزارة، وأحيانًا خارجها، فأما حين يكون في الوزارة فهو لا يعرف ليله من نهاره، بين مقابلات لا تنتهي، وأعمال ليس لها أول ولا آخر، ودعوات تتزاحم في الوقت الواحد، وأما حين يكون خارج الحكم فصباحه في نادي محمد علي، ومساؤه المبكر في زيارات وواجبات اجتماعية، ومساؤه غير المبكر في المنزل مع زواره، وأحيانًا يأتي بعض الزائرين والزائرات فيشتركون مع ربة البيت في لعب «الكونكان» إلى الساعة الواحدة أو بعد ذلك.، ومن حين لآخر يقرأ في كتاب، وفي الفترة بعد الفترة يذهب إلى العزبة؛ ليشرف على شئون زراعته.

وأما السيدة ربة البيت فتصحو في الضحى، وتنتهي من إفطارها في العاشرة، ثم تخرج لزيارة بعض صواحبها، وفي بعض الأيام تساهم في بعض الأعمال الاجتماعية، وفي العصر تقابل بعض الزوار، وأحيانًا تحيي الليلة في سمر ظريف، وأحيانًا في سماع غناء لطيف، وأحيانًا تشترك في لعب «الكونكان».

وأما الفتى الشاب ففي كلية من كليات الجامعة، يقضي في كل فرقة سنتين أو أكثر؛ لقلة إقباله على المذاكرة وضعف استعداده، وهو مشترك في نادي الصيد ونادي التجديف، وفي المساء له «غطسات» لا يعرفها أهله ولا «أنا»، وله سيارة خاصة، يسوقها بنفسه، كما للباشا سيارة، وللسيدة سيارة.

وأما الآنسة ففي مدرسة الليسيه، تعرف من الفرنسية أكثر مما تعرف من العربية، وتكثر من قراءة الكتب الفرنسية، ولا تقرأ — أو هي تحتقر أن تقرأ — كتابًا عربيًّا، وتقضي بعض أوقات فراغيها في التطريز والتصوير، وتصرف الزمن الطويل هي ووالدتها في اختيار ما يناسب من الملابس وتفصيلها على أحدث «بدع»، وفي ابتياع أدوات الترف والزينة من المحال الارستقراطية التي لا يضع فيها الجمهور قدمه، وإذا أتت مصر الفرقة التمثيلية الفرنسية لم تفتها أية رواية.

تحريت طويلًا عن ميزانية هذا القصر فعلمت بعد أنها لا تقل عن ثمانمائة جنيه في الشهر؛ فمصروف المطبخ اليومي بين ستة جنيهات وثمانية، والطاهي وحده يأخذ ثمانية عشر جنيهًا، وعلى هذه النسبة سائر الخدم، ولا تسل عما يصرف على الملبس والكماليات.

وأخلاق الأسرة على نمط الأخلاق الأوربية، فهم يتحرون الصدق في القول، والوفاء بالوعد، وتنفيذ الكلمة تصدر منهم كأنها صك، ويؤدون الواجبات الاجتماعية والمالية خير أداء، ويعتزون بالمال والجاه والنسب أكبر اعتزاز، أما الرحمة والشفقة والإحسان والتواضع فأخلاق شرقية لا يعبأون بها.

وأما الدين فليس له مجال في البيت؛ فلا صلاة ولا صيام، وإنما يذكرون الله في المناسبات كدعوة لمريض أو ترحم على قريب أو صديق، والحجرة الوحيدة التي تقام فيها الصلاة لأوقاتها هي حجرة البواب النوبي بجوار الباب.

•••

وشاء القدر أن أزور أيضًا بيتًا لفراش مدرسة، ولزيارة بيته قصة طويلة حرية أن أفرد لها مقالًا، مرتبه ستة جنيهات وفيها العلاوة، ولم تستطع سيارتي أن تدخل في زقاقه فترجلت، واضطررت بعد قليل من المشي أن أضع منديلي المعطر على أنفي.

وجدته وأهله يسكنون حجرتين في الدور الأرضي من الدار، قليل ضوؤهما، فاسد هواؤهما، قد رزق ستة من الأولاد، أربعة أبناء وبنتين، يأكلون من الخبز فقط بجنيهين ونصف، وقد لا يكفيهم؛ قد استعان على معيشته بابنه الأكبر، فهو صبي في مطبعة بثمانية قروش في اليوم، يفطرون كل يوم بقرشين فولًا مدمسًا بزيت، ويعيشون أكثر أيام الأسبوع على الطعمية والعدس والجبن والفجل، ولا يأكلون اللحم إلا ليلة في الأسبوع، لكل واحد منهم ثوب واحد لا يغيره حتى يبلى، يتدفأون في الشتاء (بدفاية) يشعلونها بقليل من الخشب والحطب، وإذا أسعفهم الحال فقليل من الفحم البلدي، أثاث بيتهم حصير في كل حجرة، ومراتب وألحفة تطوى نهارًا وتفرش على الحصير ليلًا، إضاءتهم بمصباح يوقد «بالجاز»، ولا مطبخ لهم، إنما في ركن من أركان إحدى الحجرتين بعض الحلل وبعض الأطباق و«وابور بريموس» قديم لا يرى نحاسه من كثرة صدئه، يتسلون أحيانًا بسماع الراديو من بيت الجيران.

علاقة الأبوين بالأولاد متأثرة بضيق النفس من سوء العيش؛ فضرب كثير، وسباب كثير، وأحد الأبناء رضيع، والثاني فطيم، والثالث في مدرسة أولية، والبنتان تربيهما الحارة، لا يهم الأسرة من الحكومة ونظامها ومن يتولاها إلا إعانة غلاء المعيشة ومسائل التموين، إذا مرض مريضهم طبوا له بالوصفات البلدية، فإذا اشتد الأمر لجأوا إلى المستشفى في حيهم، فيلقون أشد من المرض؛ حتى يكشف على مريضهم، ويُصرف له الدواء.

أخلاقهم خاضعة للعرف والتقاليد والرأي العام لأهل الحارة أكثر من خضوعها للعقل والتربية الصحيحة، يسيرهم في كثير من شئونهم ما يدور بينهم من خرافات وأوهام وجن وعفاريت، في الطب، وفي السعادة، والشقاء، وما يؤكل في المواسم، وما يقال من تعاويذَ؛ وسمرهم بالليل إنما هو ما يحدث به الرجل مما جرى في المدرسة، وما حدث من زملائه الفراشين، وما تحدث به المرأة مما جرى في الحارة وما سمعته عن بيوت الجيران، وقد يتحدث الأطفال عما جرى أثناء لعبهم مع أولاد الحارة.

وللدين مجال في البيت، فالرجل لا يحافظ على صلواته كلها في أوقاتها، ولكنه يحرص على صلاة الجمعة، والمرأة لا تصلي، ولكنها وزوجها وكبير أولادها يصومون رمضان، وهم جميعًا يذكرون الله، وخصوصًا في تصرفاته في الغنى والفقر، والإسعاد والإشقاء، وقدرته التامة على أن يعز من يشاء، ويغني من يشاء.

•••

وتمت فصول الرواية بزيارة بيتٍ ربُّه موظف في وزارة الداخلية في الدرجة الثالثة، يتقاضى خمسين جنيهًا في الشهر، قد رزق ثلاثة بنين وبنتين، يسكن شقة بخمسة جنيهات (إيجار ما قبل الحرب)، أعد ثلاث غرف للنوم، وغرفة للاستقبال، وغرفة للأكل، وبغرف النوم مكاتب لمذاكرة الأولاد، والبيت مؤثث أثاثًا وسطًا أكثره قد قدم به العهد، فهو يصحبهم من أيام الزواج، وقد أدخلت عليه التجديدات الضرورية، وبه راديو ونور كهربائي، وعندهم خادمة واحدة تساعد السيدة في شئون البيت من طبخ وغسل، والمطبخ لا بأس به، ففيه «وابور جاز»، وأدوات الطبخ الضرورية، وأكلهم في الصباح فول وبيض ولبن، ومن حين لآخر يزيدون جبنًا ومربى، وغداؤهم طبق لحم وطبق خضار، وطبق أرز، وبرتقال في الشتاء، وبطيخ أو شمام في الصيف، ويومان في الأسبوع لا لحم فيهما، والعشاء من باقي الغداء أو حيثما اتفق.

والبنون أحدهم في كلية التجارة، والثاني في مدرسة ثانوية، والثالث في مدرسة ابتدائية، والبنتان إحداهما في مدرسة ثانوية، والأخرى في الثقافة النسوية، وجميعهم بمصاريف إلا الأخيرة فقد قبلت مجانًا.

ولكل من الوالدين والأولاد «بدلتان» شتويتان وأخريان صيفيتان، وهذه الملابس للآباء والأبناء والبنات تفصل ويخيط عند خياط وخياطة ولا تشترى جاهزة.

والأبوان يشكوان مرَّ الشكوى من قلة الدخل وكثرة الصرف، وخاصة في أشهر الأقساط المدرسية، ولا يأتي آخر الشهر حتى يكونا قد لهثا من طول الشوط مع ثقل الحمل.

والسيدة تقضي صباحها في شئون البيت، وعصرها في استقبال زائرة أو رد زيارة، والأب يقضي صباحه في وظيفته، وعصره في مقهى، ومساءه بين أسرته.

والأولاد إذا حضروا من مدارسهم ذاكروا دروسهم، ويوم الخميس يذهبون إلى سينما أو مشاهدة رواية، وسمرهم في المساء يدور حول ما سمعت السيدة من صواحبها، وكثيرًا ما يتحدث الرجل في العلاوات والترقيات وفصوله مع رؤسائه ومرءوسيه، وأحيانًا يتحدث مع أولاده في تجاربه في حياته، ويقص عليهم ما كان منه من جد ونشاط وتفوق وذكاء أيام دراسته.

وقد لاحظت في هذه الأسرة شيئين لم أرهما في الأسرتين السابقتين:
  • (أحدهما): طموحها الشديد؛ لأن تتشبه بالأغنياء وخاصة في المظاهر، فهم يقلدون ما أمكنهم معيشة الأغنياء في بيوتهم وإن لم يكن لهم مقدرتهم، وإذا لم يستطيعوا ذلك عملًا فلا أقل من أن يقولوه قولًا أو يصطنعوه طلاء.
  • (والثاني): الخلاف الشديد بين الأولاد وأبويهم في عقليتهم ومشاربهم، فالبنت تريد أن تذهب إلى السينما وحدها، والأب لا يرضى، والابن يريد أن يشترك في حزب سياسي، وفي نادي ألعاب، والأب لا يرضى، والبنت الثانية تريد أن تتعلم «الكمان» على معلم خاص، والأب لا يرضى، والابن الثاني يريد أن يشترك في فرقة التمثيل في المدرسة والأب لا يرضى، وأثقل شيء على الأبناء أن يحدثهم أبوهم عن ماضيه، وأثقل شيء على البنات أن تحدثهن أمهن عن ماضيها.

والأم في البيت متدينة، والأب بين بين، والأولاد لا يأبهون بالدين.

•••

وقد حمدت المناسبات التي أطلعتني على هذه البيوت؛ لأن أطللت منها على بيوت القاهرة كلها في إجمال.

وتسألني: كيف عرفت دخائل هذه البيوت كلها؟ فأقول: إن المقادير تيسر أحيانًا ما لا تيسره التدابير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤