مصادفة

هل في الوجود مصادفة؟ أم أن الوجود كله خاضع لقوانين ثابتة نعرف بعضها فتسميه سببًا ومسببًا، ونجهل بعضها فنسيمه مصادفة؟

خرجت في سيارتي أول أمس، وكان كل شيء على ما يرام: السائق متمرن والسيارة تسير سيرًا حسنًا والجو معتدل، وأوصلني السائق إلى حيث أريد، ثم استمر في سيره لعمل من الأعمال، وبينا هو يسير إذا غلام يخرج من الشارع فجأة وهو يجري، فيريد السائق أن يتفاداه فيصطدم بعربة ترام فيتهشم الجانب الأيسر من السيارة، ولم أشعر إلا والسائق يكلمني في التليفون؛ ليخبرني بما حدث.

وفي اليوم التالي استدعيت مندوب شركة لإصلاح العربة، فبعد أخذ ورد قرر أن يصلحها بثمانية عشر جنيهًا، وعدت إلى بيتي فوجدت خطابًا مسجلًا ففتحته فإذا فهي حوالة مالية بمبلغ ثمانية عشر جنيهًا، ولم أكن أتوقع هذا المبلغ مطلقًا؛ لأني كنت أديت عملًا علميًّا وأعطيت عليه مكافأة، وانتهى كل شيء، فإذا هم يذكرون مع هذه الحوالة أنها بقية المكافأة.

ما هذا؟ وكيف حدث أن الغلام يخرج من الشارع فجأة وقت سير سيارتي ووقت سير الترام، ولم أكن في السيارة، وكيف نجا سائقها، وكيف اتفق مبلغ المكافأة مع مبلغ الإصلاح؟!

فكرت في هذا كله، أهذا قدرٌ قُدِّرَ أم مصادفة حدثت، وتسلسل تفكيري على النحو الآتي: ما معنى مصادفة؟ إن من العسير تحديد معناها، والناس يطلقونها على معان مختلفة، وكثيرًا ما يستعملونها في معنى الخير ومعنى الشر؛ فتهشيم السيارة كان مصادفة سيئة، ونجاتي ونجاة السائق من هذه الصدمة ومجيء الحوالة المالية كان مصادفة حسنة، ولعل المعنى الذي يراد منها هو حدوث شيء غير متوقع وغير مرتبط بشيء آخر سابق عليه في الوجود، وليس له سبب معروف يوجب حدوثه، وكان يمكن أن يحدث ويمكن أن لا يحدث، وليس خاضعًا للقوانين التي نعرفها ولذلك لا نتوقعه، فلسنا نسمي تعاقب الليل والنهار، ولا تتابع الفصول ولا غليان الماء بالنار، ولا تبخره إذا غلى، ولا شيئًا مما عرفنا سببه مصادفة؛ لأنها كلها تابعة لقوانين معروفة يمكن أن نتنبأ بها، ونجزم بأنه إذا حدث السبب حدث المسبب، ولكن إذا كنت اعتزمت السفر غدًا فجاء الجو جميلًا والشمس ساطعة عددت هذه مصادفة حسنة، وإذا جاء الجو عكس ذلك عددته مصادفة سيئة؛ لأني أعرف وقت مجيء النهار فلا أسمي ذلك مصادفة، ولكني لا أعرف أنه سيكون صحوًا أو غيمًا، باردًا أو معتدلًا، فأسمي هذا مصادفة؛ وما أسميه أنا مصادفة في هذا الباب، قد لا يسميه عالم الأرصاد مصادفة إذا كان يتنبأ بحالة الجو في الغد بناء على علمه، فالمصادفة إنما هي مصادفة عند الجهل بالقوانين، واحتمال أن الشيء يكون أو لا يكون.

وتساءلت بعد ذلك: هل هناك شيء يصح أن نسميه مصادفة؟ أو بعبارة أدق: هل في الوجود مصادفة، أم أن الوجود كله خاضع لقوانين ثابتة، نعرف بعضها فنسميه سببًا ومسببًا، ونجهل بعضها فنسميه مصادفة؟! هذا السؤال هو بعينه سؤال الجبر والاختيار، أو بعبارة أخرى سؤال الإيمان بالقضاء والقدر وعدم الإيمان بهما؛ وهو سؤال ظل الناس طوال العصور يحارون في شأنه ويختلفون في الإجابة عنه، كان ذلك في العصور القديمة، وفي العصور المتوسطة، وفي العصور الحديثة؛ واتخذ الناس وضع السؤال والإجابة عنه أشكالًا مختلفة؛ ففي القديم كانوا يصوغونه: هل قدر على الإنسان كل ما يحدث له أولًا؟ وهل إرادة الإنسان حرة أولًا؟ وفي العصور الحديثة اتخذ وضعًا آخر وهو: هل ظروف الإنسان وبيئته المحيطة به تجعله يتصرف تصرفًا ما كان يمكن أن يتصرف غيره، أو أن إرادة الإنسان ليس شأنها شأن النبات والجماد والحيوان تسير في الوجود على وتيرة واحدة وعلى نمط في الحياة لا يتغير، بل هي حرة تمام الحرية، تتجه إلى الشيء وكان يمكنها أن تتجه إلى غيره، وتسلك هذا الطريق وكان في إمكانها أن تسلك الطريق الآخر؟! وهكذا من مختلف الأشكال في السؤال والجواب، والمحور في الجميع واحد.

ولئن كان الفلاسفة في جميع العصور لم يستطيعوا حتى اليوم أن يجيبوا إجابة حاسمة، فإنهم لم يتعبوا من السؤال والجواب، وظلوا يشكلون الصعوبة بأشكال جديدة ويجيبون عنها إجابات جديدة.

ومن المعقول أن من يقول بالجبر لا يقول بالمصادفة؛ فكل شيء مقدر على الإنسان في الأزل، سواء منه ما كان مظهره الاختيار أو مظهره الاضطرار؛ وإن تكلم بالمصادفة فمعناها في نظره شيء لم يجربه الإلف ولم يحدث في العادة، ولكن شأنه شأن غيره من المقدرات الأزلية، أما الذين يقولون بحرية الإرادة وحرية التصرف، فمجال المصادفة عندهم فسيح؛ فإن جميع شئون العالم وخاصة التصرفات الإنسانية كلها عالم مصادفات؛ غاية الأمر أن هناك مصادفات يكثر حدوثها وتكرارها على نمط واحد، فنعدل عن تسميتها بالمصادفات إلى تسميتها بالقوانين، والقوانين في نظرهم يمكن أن تتخلف؛ وهناك أحداث لم تؤلف ولم يكثر وقوعها على نمط واحد، فاكتفوا بتسميتها بالمصادفات.

ومن النتائج المؤلمة للقول بالجبر أن هذا المذهب يُسْلِمُ إلى القول بأن ما وقع ما كان يمكن أن لا يقع، وأن ما سيقع لا يمكن أن لا يقع؛ وبعبارة أخرى: ما وجد ما كان يمكن أن لا يوجد، وما سيوجد لا يمكن ألا يوجد، فليس لإرادة الخيرين المصلحين تأثير في الإصلاح، إلا على ضرب من التأويل، وهو أن المصلح — هو أيضًا — مجبر على الدعوة إلى الإصلاح لتحقيق النتيجة المحتومة؛ وهو مذهب قد يريح معتقده ويبعث فيه الراحة والطمأنينة، ولكنه لا يستفز الإرادة لإصلاح ما فسد وتقويم ما اعوج، ولعل إفراط المسلمين في العصور الأخيرة في عقيدة الجبر وغلوهم في الإيمان بالقضاء والقدر على النحو الذي اعتنقوه أخيرًا، كان من أسباب قصورهم في إصلاح حالتهم الاجتماعية وتقدمهم وسيرهم مع الزمان، وربما كان من أكبر الفروق بين الشرقي والغربي، رضاء الشرقي عما كان وسيكون، وقناعته بحالته ولو ساءت، وثورة الغربي على ما يسوءه، وجدُّه في تعرف أسبابه، وعلاج فساده.

كما أن من الصعوبات في هذا المذهب غموض التفرقة بين الخير والشر، فإنه إذا كان الكذب والجبن والظلم مقدرًا أزلًا، كالصدق والشجاعة والعدل، وأن المجرم في الحالة الأولى، والفاضل في الحالة الثانية، كل قد أتى بالأعمال التي قدرت عليه، فما الوجه للاختلاف في التسمية والاختلاف في التقدير؟ أوليس من غير المفهوم على هذا الأساس تسمية شيء بأنه خير وتسمية آخر بأنه شر؟!

وإذا عدنا إلى مذهب الاختيار وجدناه كذلك معيبًا؛ فإن مذهب الاختيار بأوسع معانيه يجعلنا ننكر سير العالم — وخاصة التصرفات الإنسانية — وفق قوانين مضبوطة؛ فإذا كان الإنسان يمكنه أن يعمل وأن لا يعمل، ولا نستطيع أن نتنبأ بما سيعمله؛ إذ يصح أن يعمل غيره، كان المستقبل فوضى لا نستطيع أن نرسم أشكاله، وكان الحكم على الناس بأنهم أخيار أو أشرار مجالًا للشك؛ إذ ربما يأتي الخيِّر بأفظع أنواع الشر، ويأتي الشرير بأحسن أنواع الخير!

•••

ها أنا ذا حائر في تفكيري بين الجبر والاختيار! وكل ما حدث أن سيارتي تكسرت، وأثار كسرها تكسير عقلي في الجبر والاختيار والمصادفة وعدم المصادفة، وأخشى أن أكون كذلك أتعبت عقل القارئ من غير وصول إلى نتيجة، والأمر لله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤