في الهواء الطلق (٣)

كان خروجنا هذا اليوم إلى «ذهبية» على النيل؛ إذ بلغ الفيضان مداه، ووصل في المجد إلى منتهاه، فلما أخذنا مجلسنا قال صاحبي: ما أجمل هذا المنظر، ماء نجاشي متدفق، وزرع ونخيل، ومنظر — من الماء الذهبي وراءه الخضرة الممتدة إلى الأفق — رائع جميل، ومرأى لعين الشمس — وهي تغرب — مهيب جليل، ونسيم وادع هادئ عليل.

أنا : أنا لا أحب وصف النسيم بالعليل، كما لا أحب وصف العين الناعسة بأنها مريضة أو ذابلة، وأرى أن الأدباء خانهم التوفيق في هذا، فيجب أن تكون أوصاف الحسن متميزة عن أوصاف القبح، ويجب أن نستقل في ذوقنا ولا يستعبدنا ذوق غيرنا، وكما أن لكل عصر ذوقه في مأكله وملبسه، فلكل عصر ذوقه في فنه ومنه الأدب.
ولماذا نحرص على الاستقلال السياسي والاقتصادي، ولا نحرص على الاستقلال الفني والأدبي؟! هل يجب أن نتقيد في الغناء بغناء الموصلي أو عبده الحمولي؟! فلماذا لا نفعل ذلك في الأدب، فنرفض من التعبيرات الأدبية ما ينفر منه ذوقنا، ونبتكر ما يتفق ومشاعرنا؟! ومن أمثال ما نرفضه «النسيم العليل» و«العيون المراض».
هو : هل تريد الاستقلال التام في الأدب، فلا يكون بيننا وبين القديم نسب؟!
أنا : بالطبع لا أريد ذلك، وإنما أريد أن ينمو الأدب كما ينمو كل فن، وأن يتحرر من القيود التي تكبله وتخمله وتميته؛ فيتطور مع الزمن في تعبيراته وتشبيهاته واستعاراته وموضوعاته وأساليبه، ويتبع ذوق العصر فيما يحيى وما يموت، وما يستحسن وما يستهجن؛ وهذا هو الشأن حتى في السياسة، فالأمة التي تنال استقلالها لا تستطيع أن تتخلى عن كل تقاليدها الماضية، وإنما تغربل قديمها وتبني عليه جديدها.

•••

لا أذكر — بالضبط — كيف تنقل الحديث، ولكن أذكر أني وجدت أننا نتكلم في استقلال مصر ومشكلة فلسطين، وأن صاحبي انتهى في حديثه إلى أن يقول: «إن مصر ستنال استقلالها حتمًا، وإن فلسطين ستحل مشكلتها كما يقضي العدل حتمًا؛ لأن الحق لا بد أن يسود، وإذا تصارع الحق والباطل غلب الحقُّ لا محالة».

أنا : هل «قضية غلبة الحق» حق لا شك فيه، أو هي ككثير من المسائل التي يأخذها الناس قضايا مسلمة من غير جدل ولا بحث، ويسلِّمون بها تسليمًا أعمى، مع أنها أسطورة؟ أفي الحق قوة كامنة وفي الباطل قوة كامنة كذلك، ولكن قوة الحق أضعاف قوة الباطل، فإذا تحاربتا انهزمت قوة الباطل الضعيفة أمام قوة الحق القوية؟ أهذه القضية حقيقة ثابتة، أم هي من اختراع الساسة أو الحكماء؛ حتى يشجعوا المحق على التشبث بحقه، والإلحاح في المطالبة به، ويفتوا في عضد المبطل حتى يتخاذل ويستخذي؟
هو : أرى أن الأمر كما قلتَ في قوة الحق الكامنة فيه بطبيعته، وضعف الباطل بطبيعته.
أنا : إن كان الأمر كذلك كذبه الواقع، ففي كل يوم نرى باطلًا ينتصر وحقًّا ينهزم، ففي المحاكم لا يستطيع أحد أن يقول: إن أحكامها كلها صحيحة، وما كان منها غير صحيح فهو انتصار للباطل، وفي حياة الأفراد كثيرًا ما يرقى وينجح المبطل الخائن، وينهزم ويفشل المحق الأمين، وفي السياسة كثيرًا ما ينتصر اللسن الجدل الفصيح وهو يخدم الباطل، وينهزم الرزين الرصين وهو يدافع عن الحق، أو يتغلب المبطل يؤيده السلاح، وينخذل المحق وليست وراءه قوة، وفي الحروب كثيرًا ما ينتصر من ينتصر للباطل؛ لأنه أقوى عدةً وأكثر دعاية وأمهر في الأساليب، وينهزم المحق لأنه لم يبلغ مبلغه في كل ذلك.
بل إننا نرى أن ما يسود العالم من الأباطيل أكثر ممَّا يسود من الحق، فأكثر أهل الأرض خاضع لعقائد باطلة وخرافات وأوهام فاسدة، ونظريات سياسية واجتماعية تدعمها الدعاية المختلفة المصطنعة لا الحق المتين، ولو غربلت ما عليه الناس من عقائدَ وعاداتٍ وأوضاعٍ وتقاليدَ وسلوكٍ وأخلاقٍ ومعاملةٍ، لرأيت ما فيها من الحق كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كحبة قمح تائهة في تل من تبن.

والدنيا كلها جارية على سنن واحد، وهو أن قليلًا من القمع بالقوة والتشريع الظالم تحميه القوة التنفيذية كافٍ لإماتة الحق، ثم إذا سار الناس زمنًا على ذلك ألفوا هذا الباطل وعدُّوا المنادي بالعدل والحق ثائرًا أو خائنًا أو زنديقًا أو مجنونًا، فأين — إذًا — غلبة الحق وانتصاره؟
هو : قد يكون قولك صوابًا إذا نظرت إلى المسائل الجزئية كحكم محكمة في مِلكية أو حكمها بإعدام بريء، أو انتصار جيش مبطل على جيش محق، أو نحو ذلك مما ذكرت من أمثلة، وكذلك إذا نظرت إلى محاربة حق وباطل في عصر معيَّن، ولكن هذه الجزئيات كلها ليس لها قيمة كبيرة أمام من ينظر إلى نظام العالم الكلي، ومبدأ انتصار الحق إنما يطبق على الكليات والمسائل العامة، وهذا هو ما يحدث في العالم: تظهر فكرة حقَّة يدعو إليها مصلح، ثم قد تخنق الفكرة ويقتل صاحبها، ولكن لا تلبث أن تظهر ثانية على يد مصلح آخر في عصر آخر وقد يفشل أيضًا، ولكن لا بد أن يأتي يوم يُدعى إلى الفكرة في ظرف مناسب فتتحقق وتثبت؛ وهذا هو تاريخ كل الدعوات الصالحة من دعوات الأنبياء والمصلحين، وهذا هو — أيضًا — تاريخ حقوق الإنسان والمبادئ السياسية والاجتماعية السامية، فلا يفت في عضدنا ما نشاهده أحيانًا من هزيمة الأفكار الحقة وتأييد المظالم بالقوة وإنكار العدالة، فلكل هذا نهاية، ثم ينتصر الحق، ولكن قد يكون ذلك في أجيالنا، وقد يكون في أجيال بعد أجيالنا.
وهذا الذي أقوله هو بعينه فكرة «بقاء الأصلح»؛ فليس حتمًا إذا أخذنا شجرتين أو حيوانين أو إنسانين معينين أن يموت أضعفهما ويحيا أقواهما؛ فقد يعرض عارض يميت القوي فيبقى الضعيف، ولكن مع هذا «بقاء الأصلح» صحيح عند النظرة الكلية.

وهذا — أيضًا — هو الذي يتمشى مع نظرية رقي العالم رقيًّا دائمًا وسيره إلى غاية، وذلك في كلياته دون جزئياته؛ فقد تنحط أمة بعد رقيها، ولكن العالم — من حيث هو كل — لا يتأخر أبدًا.

وشيء آخر أحب أن أقرره من الناحية العملية، وهو أن تراخي الأفراد والأمم في تأييد الحق؛ اعتمادًا على أنه بذاته سينتصر، تصرف سيئ باطل، يشبه من كل الوجوه التوكل على الله من غير أخذ في الأسباب، فالحق محتاج إلى قوة وراءه تدفعه وتحميه، والحق غير المسلح إذا وقف أمام الباطل المسلح انهزم، وظل في انهزامه حتى ينازل الباطل في مثل عدته وسلاحه؛ ولذلك لم تثبت النصرانية الأولى وتنتصر وتنتشر إلا بعد أن تسلحت، ولم ينتصر الإسلام في بدء حياته ويدخل فيه الناس أفواجًا إلا بعد أن تسلح، بل إنا نرى أن الحق — أحيانًا — يحتاج إلى أن يعتمد في حربه على شيء من الباطل كالذي قال معاوية: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل».

•••

وهنا دق الناقوس يدعونا للعشاء فقال صاحبي: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا صدق الله العظيم.

•••

وقضينا سهرة جميلة على ظهر «الذهبية»، عشاء لذيذ وسمر ممتع، يتخلله سماع موسيقى شجية، واختلاس نظرات للنيل، وقد سطع عليه القمر فلوَّنه لونًا فضيًّا رائعًا بعد لونه الذهبي الجميل في الأصيل، وانصرفنا بعد أن جددنا نفوسنا، هو إلى بيته في مصر الجديدة، وأنا إلى بيتي في الجيزة، وإلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤