الحياة والموت

كان العرب مرهفي الحس دقيقي الذوق؛ إذ مدُّوا (الحياة) وقطعوا (الموت) والحياة قصيدة، لها مطلع ومقطع وبيت القصيد، وقد يسوء المطلع أو يحسن، وقد يسوء المقطع أو يحسن، وقد يسوء بيت القصيد أو يحسن، وقد تأتي القصيدة جميلة المعاني، حسنة الأسلوب، جيدة الوزن، وقد تسوء في كل ذلك أو بعضه، هكذا أنواع الحياة، وهكذا أنواع القصائد.

مطلع الحياة الطفولة، ومقطعها الشيخوخة، وبيت القصيد الشباب.

والحياة السعيدة قصيدة حسن معناها وجمل إيقاعها وانتهت بسلام، والحياة الشقية قصيدة ساء مطلعها أو مقطعها أو بيت قصيدتها، في المعنى أو في الوزن أو في حسن الترتيب والانسجام، أو في كل ذلك.

والحياة قصيدة، طويلة وقصيرة، وقصيدة كألف، وألف لا تساوي واحدة، والحياة قصيدة، منها الضاحكة المبتهجة كقصائد الفخر والفكاهة والحب السعيد، ومنها كئيبة حزينة كقصائد الرثاء والشكوى والحب اليائس.

والحياة قصيدة، أكثرها عاديٌّ مألوف، وقد تسمو إلى حد الإعجاز، وقد تنحط إلى درجة النفور والاشمئزاز.

والحياة حياتان: حياة عابرة، وحياة خالدة، كالقصيدة قد لا تعيش ساعة، وقد تبقى على مر الأزمان.

والحياة قصيدة: جميلة وقبيحة، وقوية وضعيفة، وواضحة وغامضة، وسهلة وعسيرة، وضخمة ورقيقة.

والحياة لا تتساوى أيامها في القيم؛ فيوم نحس، ويوم سعد، ويوم بين بين، كالقصيدة تختلف أبياتها، فبيت رائع، وبيت ساقط، وبيت بين بين.

والحياة قصيدة، حياة تروعك وتبهرك، وحياة تسوؤك وتجرحك، وحياة لا تشعر بها ولا تحس بوجودها.

وخير الحياة ما أمتعت صاحبها ومن حوله، وخير القصائد ما أمتعت صاحبها ومن حوله.

•••

وإن شئت فقل إن الحياة قطعة موسيقية، باسمة وحزينة، وخالية من النشاز، ومملوءة بالنشاز، وعذبة مستساغة، وكريهة منفرة، وجيدة التوقيع، ورديئة التوقيع، ومنسجم بعضها مع بعض، وينقصها الانسجام، وعالية ومنخفضة، ورقيقة وغليظة، وقوية وضعيفة، وتبتدئ لتبلغ الأوج، وتنحدر لتبلغ النهاية.

وحياة الناس جوقة موسيقية لا تحسن في السمع إلا إذا انسجمت، وقلما تنسجم، ولا تلذ سامعها إلا إذا خلت من (النشاز) وقل أن تخلو، ولا تصلح في الذوق إلا إذا شدت أوتارها على أساس واحد، ووقعت نغماتها في تجانس واحد، وقل أن يكون ذلك.

•••

وإن شئت فقل: إن الحياة فصول متعاقبة محتومة: خريف وشتاء وربيع وصيف، إنما يسعد الإنسان فيها بالسير على قوانينها، فإن تدثر في الصيف وتخفف في الشتاء، وصيَّف في مشتى وأشتى في مصيف؛ فالعيش ثقيل، وهو كذلك إذا تشايخ في صبى، أو توقر في شباب، أو تصابى في شيخوخة.

إن أكثر الناس يشقون في الحياة؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يجيدوا قصيدتهم، أو يوقعوا موسيقاهم، أو يلائموا بين أنفسهم وموسمهم.

•••

والموت هو النهاية المحتومة لكل حياة، كمقطع القصيدة، أو خاتمة الأغنية، أو نهاية الموسم.

إنا نموت؛ لأننا منحنا جسمًا يتحلل على الزمان، غدد يضعُف إفرازُها، وقلب يتعب من طول ما نبض، ومعدة تكل من طول ما هضمت، ورئة تخمد من طول ما تنفست، وأعصاب تتحطم من طول ما احتملت.

والموت أكبر ديمقراطي في الوجود، ليس يفرق بين شريف ووضيع، وغني وفقير، وملك وسوقة؛ فكل يموت، وكل يدفن في مساحة لا تتجاوز ستة أشبار أو سبعة، وكل لا يتجاوز عمره السبعين أو الثمانين إلا قليلًا، وكثير من الفلسفات والأشعار والحكم بني على هذه الحقيقة البديهية، «فليملك الإنسان ما يملك، ولينعم ما شاء أن ينعم، وليطل عمره ما شاء الله أن يطول، فهو لا بد أن يموت، وليس له إلا ستة أشبار يمد فيها» والملكية غرض زائل، وخيال خادع.

ويقول داري من يقول وأعبدي
مَهْ فالعبيدُ لربنا والدار

إن ديمقراطية الموت هي التي أوحت إلى الناس فكرة المساواة في الحقوق والواجبات، فلو كان هناك دم شريف ودم خسيس، وكان للاعتزاز بالأنساب قيمة حقة، ولو كان للأرستقراطية أية مزية ذاتية، لاستطاعت أن تقف أمام الموت أو تعدل قانونه أو تغير من طبعه، فإن لم تفعل فالناس سواء، والأرستقراطية طلاء كاذب، وذهب مزيف.

بل لو أمعنا النظر لوجدنا المدنيات قديمها وحديثها، والأدب وفنونه، وسلوك الناس وأخلاقهم، كلها لونت بلون الموت، ولولاه لكان للناس شأن آخر ومدنية أخرى وسلوك آخر، ما الضمان الاجتماعي؟ ما الحروب والإعداد لها؟ ما العلم في خدمتها؟ ما الزواج والأنسال؟ ما ترجمة الأبطال، وإقامة التماثيل لهم، وإعلاء شأنهم؟ ما الشجاعة والجبن؟ إنها تنقلب أوضاعها، ويختل تقويمها؛ لولا الموت.

ولو أن الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا

من فهم الموت فهمَ كوميديا الحياة: عظيم متكبر، وفاتح متجبر، وغني يعتز بثروته وجاهه، ومخترع يملأ الدنيا باختراعاته، ومكتشف يثير العجب من مكتشفاته، وبعد قليل يتخلون عن سلطانهم، ومالهم، وجاههم، وعلمهم، ويتحولون إلى وزن درهم من تراب، يكون جزءًا من أديم الأرض؛ كما قال أبو العلاء:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد

أو يسد ثلمة في دن خمر، كما قال شيكسبير:

يعتري قيصر العظيم حمامٌ
وتُحيل الوجودَ أيدي الفناء
فإذا قيصرُ المعظمُ طين
سَدَّ في ثلمة ممرَّ الهواء

أو كما قال الخيام: «كان بهرام يصيد الوحوش، فأضحت الوحوش تدوس قبر بهرام».

ومن غفلة الناس أن يتصوروا أن الكوميديا إنما تمثل على مسرح في دار تمثيل، أو على شاشة بيضاء في دار السينما، ولو عقلوا لفهموا أن الأرض كلها مسرح تمثيل، وكل من عليها يمثل دوره المضحك، وقد يكون في دور بعضهم ما يثير من الضحك، ويستخرج من العجب ، ما لا يناله أكبر مهرج على مسرح التمثيل أو الشاشة البيضاء، والروائي البارع من استطاع أن يستخرج من حياة كل إنسان رواية مضحكة.

لقد زرت مرة دير الطور في سيناء، ورأيت في جانب من جوانبه حجرة كدست فيها جماجم، فوقفت عندها طويلًا، وتخيلت تاريخها، وماذا كان يعمل أصحابها؛ هذا كان منهمكًا في لذته، وهذا كان منهمكًا في عبادته، وهذا قاسٍ، وهذا رحيم، وهذا متجبر، وهذا مسكين، ثم زالت هذه الفروق الكاذبة، وختمت الروايات كلها بهذه الجماجم المكدسة الفارغة المتماثلة.

الزهرة تتفتح وتنضر ثم تذوى، والجمال يروع ثم يزول، والنبات يكون أخضر يانعًا ثم أصفر يابسًا ثم هشيمًا تذروه الرياح، والقمر يبدأ هلالًا ثم يتكامل بدرًا ثم يصيبه المحاق.

والإنسان يبدأ طفلًا يحبو، ثم يكون شابًّا مكتملًا، ثم شيخًا هرمًا، ثم يدركه الموت، وكل شيء هالك إلا وجهه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤