الصلاة الحارَّة

والواقع أن ذلك التعريض بمكانة ألفونس زادها تمسُّكًا به وتشبُّثًا بمحبته، والمحبة الطاهرة تزداد شدةً بما تلاقيه من المقاومة، كما تزداد الحرارة بالاحتكاك، ولكن ساءها أن يكون لهذا الظالم سبيل إلى الكلام، وخافت إن أجابته جوابًا عنيفًا أن يغضب على ألفونس ويتعمد أذاه، فأحبَّت أن تقنعه باللُّطف لعلَّها تخفِّف من غضبه ريثما يفتح الله عليها بالفرج، فقالت: «إذا صحَّ أن الإنسان ينبغي ألا يحب غير الذي يُكسبه مالًا أو رتبةً، فما الذي حبَّب جلالة الملك في هذه الفتاة الحقيرة حتى أراد أن يجعلها سيدة أهل قصرها كافة؟! وإذا كانت القاعدة أن نهمل الفقراء وألَّا نحبهم، فما أجدرك يا مولاي الملك بأن تنبذني وتطردني من حضرتك؛ لأني لم أعُدْ شيئًا بجانب سلطانك ورفعة مقامك، فأرجو من مولاي أن يفعل ذلك فإنه أولى بمنصبه وأحفظ لكرامته.» قالت ذلك وقد تورَّدت وجنتاها من عِظَم تأثُّرها واضطراب عواطفها، واصطكت ركبتاها حتى لم تَعُدْ تستطيع الوقوف، ولكنها تجلَّدت وتشاغلت بملاعبة أطراف جدائلها بين أناملها، ولبثت تنتظر جواب رودريك.

أما هو فلما تبيَّن رباطة جأشها وقوة حُجَّتها رأى أن يأتيها بالحيلة ويترك العنف إلى أن تنفُذ حيلته، وذلك أنه حين أَنِسَ تمسُّكها بألفونس وتعلُّقها به، وتبادر إلى ذهنه أن إبعاده عنها يغيِّرها ويحملها على أن ترضخ لرغبته؛ فتظاهر بأمرٍ طرأ على خاطره بغتة، فقال: «لا أزال أعتقد أن الوهم يسيطر عليك، وقد تذكرت أمرًا يستلزم عودتي إلى القصر الآن، وذاك من حسن حظك؛ إذ يتيح لك فرصةً تُعمِلين الفكر فيها لعلك ترجعين إلى رشدك، فإذا لم ترجعي بعد هذه الفرصة، فلا تلومي إلا نفسك.» قال ذلك بلهجة شديدة ومشى حتى خرج من الغرفة، وترك فلورندا وحدها.

أما هي فقد سرَّها هذا التأجيل لعلها تجد سبيلًا للنجاة. فلمَّا خرج رودريك من الغرفة مشت نحو غرفتها، وقد فاضت أشجانها وعاد إليها الخوف وزاد اضطرابها، فلقيتها العجوز عند باب الغرفة، فابتدرتها بالسؤال عما جرى فلم تُجِبْها، ولكنها ظلَّت في سَيْرها حتى أقبلت على أيقونة السيد المسيح، فجثت أمامها وقرعت صدرها وقد خنقتها العبرات، وتحوَّل جَلَدُها ورباطة جأشها — حين كانت بين يدي رودريك — إلى الحزن والكآبة، ولم تَرَ لها فرجًا غير البكاء، فجعلت تتضرع إلى صاحب تلك الأيقونة بدموع حارَّة، وبعبارات صادرة عن قلب يتدفق محبة وتقوى.

فلما رأتها العجوز جاثية جثت إلى جانبها وصلَّت معها، وكلما قالت فلورندا عبارة أمَّنت العجوز عليها، وكان في جملة صلاتها قولها: «أبعد عنِّي أيها المخلِّص هذه التجربة، وغيِّر قلب هذا الملك ليرجع إلى طاعتك ويشعر بفظاعة الأمر الذي ينوي ارتكابه. أرشدني يا رب إلى سبيل أنجو به من هذه الشباك، واحفظ عبدك ألفونس من كل شر واحرسه وكن معه، واجمعنا أيها المخلِّص لنعيش معًا على تقوى الله ومرضاته، أَسبِغِ الحنان على هذه المسكينة الغريبة، هذه الفتاة التَّعِسة التي ليس لها ملجأ سواك. أنت ملجأ البائسين والضعفاء، لا تسمح يا رب بوقوع هذا الشر في تذكار ميلادك المجيد.»

وكانت كلما قالت عبارة تقرع صدرها، وخالتها تقول: «آمين.» وكلاهما تذرفان الدموع السخينة.

فلما فرغتا من الصلاة نهضتا، وأحست فلورندا بانبساط نفسها وارتياح ضميرها، وشعرت كأن الأخطار قد زالت عنها حين ألقت متاعبها على الله. ومثل هذه الراحة لا يشعر بها غير أهل الإيمان الوطيد، فإن أحدهم إذا أحدقت به مصائب العالم تحمَّلها بالصبر وأزال آثارها بالصلاة. والبكاء شيء يزيح الانقباض، فكثيرًا ما يشعر الإنسان بضيق، فإذا بكى زال ذلك الضيق، ويغلب هذا الشعور في النساء أكثر مما في الرجال.

فلما زال اضطراب فلورندا، جلست تفكر في السبيل إلى نجاتها، واستغرقت في التفكير، والعجوز جالسة القرفصاء تنظر ما يبدو منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤