الوسيلة

فلمَّا بلغ أوباس إلى هذا الحد وقف وتنحنح وتفرَّس في ألفونس ليرى أثر أقواله فيه، فرآه منصتًا بكل جوارحه لسماع ما يقوله عمه، فعاد أوباس إلى حديثه فقال: «فالأمر الذي أوجِّه التفاتك إليه يا ولدي هو أن أقوى طبقات الشعب هم أولئك الأرقاء المظلومون، وهم أكثر عددًا وأقوى أبدانًا وأصبر على الشقاء. فإذا اتخذناهم أعوانًا لنا في هذه المهمة قلبوا المملكة رأسًا على عقب. وقد لا نحتاج إلا إلى تظاهرهم بالتعاون معنا، فإن اتحادهم يرعب الملك وحكَّامه وأشراف مملكته، فننال المراد بغير حرب أو سفك دماء. ولكن ما الذي يجمعهم، أو كيف يمكننا أن نجعلهم حزبًا مؤيدًا لنا؟»

وكان ألفونس يرهف السمع لحديث عمه، وقد رأى الصواب يتألق في كل كلمة من كلماته. فلما وقف أوباس عند هذا الاستفهام ارتبك ألفونس فلم يُحِرْ جوابًا؛ لأنه لم يكن يتوقع هذا السؤال. أما عمه فإنه لم يوجِّه إليه هذا السؤال وهو يتوقع منه جوابًا، فقال: «اعلم يا بني أن الوسيلة التي يجب أن نتخذها لجمع كلمة هؤلاء الآدميين المظلومين تحت لوائنا إنما هي أفضل الوسائل وأشرفها، بل هي فضيلة تبقى لنا ذكرًا مدى الدهور، ويحسدنا عليها كل من ملك هذه البلاد قبلنا، وننال عليها الجزاء الحميد من الله سبحانه وتعالى. أتعلم ما هي؟»

فلم يهتم ألفونس بالجواب هذه المرة لأن ملامح عمه كانت تشير إلى أن الجواب آت. ثم قال أوباس: «إن الوسيلة يا بني لجمع كلمة هؤلاء إنما هي أن نهبهم الحرية ونجعل لكل من ينضم إلينا منهم حقًّا في الظفر بحريته بعد أجلٍ معين. وإذا نال تلك الحرية كان كسائر الأحرار دفعة واحدة، لا يقاسمه أحد في جهده أو كسبه، على أن يكون ذلك مرتهنًا برجوع المُلْك إليك، وأنك متى توليت عرش إسبانيا هوَّنت الإعتاق وسهَّلت الطريق إليه بوسيلة ترغِّب أولئك المظلومين في نصرتك.»

فانبهر ألفونس بما سمعه من عمه وأحس بما بينهما من التفاوت في الإدراك والقوى، وخُيِّل إليه أن الأمر قد تم له على ما يروم حتى أصبح كأنه يرى زمام المُلْك ويهمُّ بالقبض عليه. ولم يكن ألفونس بليد العقل إلا بين يدي عمه لما له من السلطان على عقله ورأيه. فلم يتماسك ألفونس فتناثرت من عينيه دمعتان من دموع الفرح، وانحنى على يد عمه ليقبلها فاجتذب أوباس يده، وهو لا تهزه عاطفة فرح أو غضب، ولكنه اصطنع ضحكة وألقى يده على كتف ألفونس، وقبض عليها بقوة؛ فأحسَّ ألفونس بشدة تلك القبضة وتوقَّع أن يسمع شيئًا بعدها، فإذا بأوباس يقول: «رأيتك اقتنعت بما سمعته، ولم تُعمل فكرك للبحث فيما يحول دون عملنا هذا من الحواجز.»

فأجفل ألفونس وخشيَ أن تضيع آماله بعد أن أوشك أن يتراءى له أنه ظفر برغبته، وفكَّر فيما عسى أن تكون تلك الحواجز التي قد تقف في سبيل ذلك المشروع، ولكنه قبل أن يتوصَّل إلى الجواب سمع عمه يقول: «لا أظنُّك تجهل ما يحتاج إليه مشروعنا هذا من الأموال للإنفاق على الجند، وابتياع الأحزاب، وإنشاء المعاقل، وإغراء الأعداء …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤