كتاب فلورندا

فتوقَّع ألفونس بعد خروج يعقوب أن يسمع من عمه ما يزيل ذلك القلق عنه، فلمَّا رآه قد جلس، جلس هو الآخر وأصاخ بسمعه وهو ينظر إليه كأنه ينصت لما يقوله، فسمعه يقول: «طِبْ نفسًا يا ألفونس، إنَّ المال تحت يدي عند الطلب، ولا بد من جلسة أخرى أشرح لك فيها التفاصيل، وأرتب الخطة التي يجب أن نسير عليها في هذا العمل الخطير.»

فقال ألفونس: «ولكنني لم أفهم علاقة ذلك بخادمنا هذا وبلحيته.»

فقال أوباس: «ستعرف السرَّ في ذلك في هذه الليلة إن شاء الله. هل تأتي معي الآن إلى منزلي فنتناول الطعام معًا؟ لا، بل الأفضل أن تبقى هنا وأسير أنا وحدي لأخلو بنفسي، وأرسم الخطة التي يجب اتِّباعها في هذا المشروع.» قال ذلك ونهض وسار إلى الباب وهو يمشي الهوينى على عادته، وألفونس من ورائه ليودِّعه عند خروجه. وقبل وصولهما إلى باب الغرفة سمعا قرعًا عليه، ثم دخل يعقوب وفي يده كيس صغير من الحرير الأرجواني مسطَّح الشكل كأنَّ فيه كتابًا، وقد عُقِد بشريط من الحرير الأزرق. فلمَّا رأى ألفونس الكيس خفق قلبه لعلمه أنه من فلورندا، وكثيرًا ما كانت ترسل إليه الكتب فيه، فأسرع إلى الكيس وتناوله وسأل يعقوب عمَّن حمله إليه، فقال: «أحد خدم القصر الملكي.»

وكان قد شرع في فضِّه قبل أن يسمع الجواب، فلما فتحه أخرج منه قطعة من الخشب مربعة الشكل، قد كُسِيَ سطحُهَا بالشمع وكُتِب عليها حفرًا بقلم من حديد — وهذه من وسائل المكاتبة في تلك الأيام قبل أن يُخترع ورق الكتابة بأجيال — فتناولها وتحوَّل نحو النافذة وقد نَسِيَ وداع عمه وأخذ يتلوها بنفسه، ولم يكد يصل إلى آخرها حتى ارتعشت أنامله وتغيَّرت سحنته. وكان أوباس قد توسَّم في الكتاب شيئًا جديدًا فتغافل عن ألفونس ريثما يقرأ مكتوبه، لكنَّه ما لبث أن رآه يقلِّب تلك الصحيفة ويعيد تلاوتها وهو يوجِّهها نحو النور الداخلي من النافذة ويتفرَّس في الكتابة بعينيه، كأنَّه يشك في كلماتها، وقد امْتُقِع لونه وارتعدت أنامله وظهر الغضب في أسِرَّته، فظلَّ أوباس ينظر إليه ثم أغلق الباب ليخلوَ بألفونس ثانيةً، فشعر ألفونس بالباب وهو يُغلَق فانتبه، ونظر فإذا عمه يمشي نحوه بكل هدوء وسكينة، وكان نظره إليه قد خفَّف ما قام في نفسه على أثر تلاوة ذلك الكتاب، وقد حاول التجلُّد تشبُّهًا بما كان عليه عمه من سعة الصدر، ولكن التأثُّر كان قد غلب عليه. وتقدَّم نحو عمه وبيده تلك الصحيفة فقدَّمها له وهو يقول: «ويلاه! لا ننجو من شرٍّ إلا ونقع في شرٍّ أشدَّ منه، وكل مصائبنا من ذلك المختلس السافل.»

فمدَّ أوباس يده وتناول الكتاب بكل رزانة وتفرَّس فيه، فإذا هو مكتوب باللغة اللاتينية المشوشة بألفاظ قوطية حفرًا في الشمع على الخشب، فقرأ فيه ما معناه:

حبيبي ألفونس

إنَّ الأمر الذي خِفْتُه من انتقالي إلى هذا القصر قد أوشكتُ على الوقوع فيه، فأنا في خطر من براثن الأسد إلا إذا أسرعت إلى إنقاذي. أنت تزعم أنك تحب فلورندا فأسرعْ إلى إنقاذها قبل أن تفوت الفرصة، وإلَّا فإنَّ ما بقي من حياتها لا يتجاوز ساعاتٍ قليلة، إذا انقضت قبل خروجها من هذا القصر. فإذا لم يكن لي نصيب من النجاة فإني أستودعك الله وأُطمئِنُك أني ذاهبة شهيدة العفاف والطُّهر. اذكرني بين يدي أهلي. وموعدنا الأمجاد السماوية في أحضان الآباء القديسين.

كتبته فلورندا المسكينة

وما إن فرغ أوباس من قراءته حتى بدا عليه التأثُّر أيضًا، ولكنَّه كان أثبتَ من ألفونس جأشًا وأصبرَ على الطوارئ، وقد أحس أنه مسئول عما قد يصيب فلورندا من السوء، وهو الذي وضع عربون الخطبة بينها وبين ألفونس، ولكن ألفونس لم يعُدْ يستطيع صبرًا فقال: «اعذرني يا عمَّاه فقد نفِدَ صبري ونسيت كرسي المُلْك وأنت الذي باركت عربون الخطبة بيننا، فأنت مُطالب بإتمام العقد فضلًا عمَّا أنت مُكلَّف به من ذلك بواجب القرابة. ومهما يكن في الأمر من شيءٍ فإني أطلب إليك أن تمدَّني برأيك.»

فالتفتَ إليه بهدوءٍ ورزانةٍ ويده على لحيته يسرِّحها بأصابعه، وقال: «طِبْ نفسًا يا ولدي، إنني سأُخرِج فلورندا من قصر الملك وهي بخيرٍ إن شاء الله.» ثم أطرق وأعمل فكرَهُ وهو يصعد بحاجبيه، ثم يقطبهما بما يدل على استغرابه وحَيْرته، ثم قال: «إني لأعجب من أمر هذا الرجل وانشغاله عن أمور رعيَّته بما لا يُرضي الله ولا عبيده، وأعتقد أن ذلك من الأدلة القاطعة على قُرب سقوطه وذَهَاب مُلْكه؛ لأنَّ الله لا يؤيِّد مَلِكًا يخالف وصاياه.» وكان ألفونس غارقًا في بحار الهواجس وقلبه يتَّقد غَيْرة على فلورندا. وحين تشاغل عمُّه عنه بمناجاة نفسه أخذ يعيد النظر في كتاب فلورندا فوقف بصره على قولها: «إني ذاهبة شهيدة العفاف والطُّهر.» وفكَّر فيما ينطوي تحت هذه العبارة من المعاني المثيرة للغَيْرة، ثم سمع عمَّه ينادي: «يعقوب.» فدخل وقبَّعته في يده وقال: «لبيك يا مولاي.»

فقال أوباس: «هل تعرف اثنين من خدم هذا المنزل يمكننا أن نثق في أمانتهما إذا كلَّفناهما بمهمة ولو كانت ضد هذا الطاغية صاحب كرسي طُلَيْطلة اليوم.»

فقال يعقوب: «أنا يا سيدي.»

فقال أوباس: «إنَّنا ندَّخرك لأمرٍ آخر، ولكننا نحتاج إلى شابين أو ثلاثة أنت تثق في أمانتهما ونشاطهما وبسالتهما؛ لأنَّ الأمر الذي سنكلفهما به يحتاج إلى الإقدام والشجاعة والأمانة.»

فأطرق يعقوب وقد أمسك بطرف لحيته وجعل يفتله بين السبابة والإبهام حتى أصبح مثل طرف الحبل لِمَا يتخلَّل الشَّعر من الأوساخ. فعل ذلك وهو مستغرق في التفكير، ثم حرَّك أنامله بغتةً فأعاد اللحية إلى ما كانت عليه، والتفت إلى أوباس وفي وجهه أمارات البِشْر وقال: «قلَّما أثق بأحدٍ من هؤلاء وإن يكن معظمهم نشئُوا في بيت مولاي وعاشوا على مائدته؛ لأنَّ الإنسان أضعف من أن يضحِّي بنفسه في سبيل الوفاء والأمانة، ولكنَّني أعرف اثنين فقط أظنهما أهلًا لهذه الثقة.»

فقال أوباس: «ومن هما؟»

قال يعقوب: «هما أجيلا وشنتيلا.»

فقال أوباس: «وكيف اخترتَ هذين وليس أحدهما ممَّن رُبِّيَ في بيت الملك؟»

فقال يعقوب: «اخترتهما لاعتقادي بقدرتهما على هذه المهمة، ولأنهما لا يزالان طامعَيْن في العُلى؛ إذ لا يخفى على مولاي أنهما كانا من طبقة العبيد، وقد حرَّرهما أخوك قبل وفاته وألحقهما بحاشيته لِمَا آنسهُ فيهما من الكفاءة والشهامة. وقد ظهر لي بعد تحرُّرهما من العبودية أنهما يطمعان في الرُّقي، شأن من يذوق طعامًا لا يعرفه، فإذا استطابه زاد في اشتهائه فيطلب المزيد منه، وأما مَن تعوَّد طعامًا حلوًا فقلَّما يستزيد منه. وهذان الشابان وُلِدا في مهد العبودية ونفساهما من أنفس الأحرار، وقد لمس الملك المرحوم عِظَم نفسيهما في حديث يطول سرده فمنحهما الحرية، وألحقهما بحاشيته، وهما الآن يتطلَّعان إلى التقدم، فإذا كان في المهمة التي تنتدبهما لها ما يُطمع في ذلك، استماتا في سبيلها وإلا اعتذرا عنها، وهما لا يخونان …»

فقال أوباس: «أراك بارعًا في فلسفة الأخلاق. فإذا كان الغروب، تعالَ إلى منزلي وهما معك.»

قال ذلك وحوَّل وجهه إلى ألفونس، ففهم يعقوب أنه يطلب خروجه فخرج. أما ألفونس فكان قد عاد إلى هواجسه، فلمَّا أقبل عمه إليه قال له: «بماذا نجيب على هذا الكتاب؟»

قال أوباس: «اكتب إليها أن تكون على أُهْبة السفر في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وأنَّك ستنتظرها في القارب بجانب القصر.»

فتناول ألفونس قطعةً من نسيج غليظ كانوا يكتبون عليه أيضًا وكتب إليها ويدُهُ ترتجف ما معناه:

إلى مليكة القلب فلورندا

لبَّيك يا حبيبتي. إني موافيك في القصر في الساعة الثانية من الليلة القادمة، فتهيَّئي للخروج بما تستطيعين حمله، وأشرفي من النافذة المطلة على النهر، فإذا رأيت نورًا مثلثًا فاعلمي أنني في انتظارك. تشدَّدي وقوِّي قلبكِ ولا تخافي.

كتبه مُحِبُّكِ الذي يفديك بروحه

وطوى الكتاب وخاطه، وجعله في الكيس الأرجواني وختمه ودفعه إلى يعقوب ليعيده إلى الرسول الذي جاء به، ويوصيه بالاحتفاظ به لئلَّا يطَّلع عليه أحد. فتناول يعقوب الكتاب وخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤