التصريح

فلم يصبر الملك على ما قال أوباس، فأجابه بنفسه وقد حملق عينيه وقطب حاجبيه: «يا للعجب من هذه الوقاحة! كيف تنكر هذا الأمر وقد سمعتك بأذني هذه وأنت تهددني بقرب انقضاء هذه الدولة، وإنه يهون عليكم إخراج هذا الأمر من يدي، هل تنكر ذلك؟ وقد سمعه الأب مرتين أيضًا، فهل من دليل أوضح من هذا؟»

وكان الأساقفة وهم يسمعون الأقوال يميلون إلى التصديق لأسبابٍ، منها أن أكثرهم يكرهون أوباس لحريته وصراحته وتمسُّكه بالحق، ولأنه قوطي، ناهيك بالقرائن التي تساعد على إثبات التهمة لأن أهل طُلَيْطلة كلهم يعرفون كراهية بيت غيطشة أجمعين لرودريك، وكل من يقول بقوله وبخاصة الأساقفة، لبواعث تقدَّم بيانها. فلما سمعوا شهادة الملك نفسه وشهادة قسِّه مالوا إلى الحكم على أوباس، وزِدْ على ذلك أنه كان يمكنهم الحكم عليه بدون محاكمة، ولكنهم اجتمعوا ذلك الاجتماع ليقضوا به شبهَ واجبٍ عليهم. فلما فرغ الملك من كلامه وجَّهوا أبصارهم نحو أوباس ليسمعوا قوله، فرأَوْه لا يزال على ثباته ورباطة جأشه، وقبل أن يشرع في الجواب اعترضه أحد الأساقفة قائلًا: «إني لأعجب من نقمة بعض رجال القوط على تنصيب جلالة الملك، إنما كان تنصيبه بالانتخاب على مقتضى قوانين الدولة والكنيسة، والذين يدَّعون الحق لأبناء غيطشة أو غيره من أعضاء عائلته في المُلْك إنما هم مخطئون؛ لأن المُلْك في إسبانيا الآن انتخابي كما لا يخفى على سيادتكم، ولا يجلس على هذا العرش إلا الذي ينتخبه هذا المجمع المقدس، فهل تنكرون أن جلالة الملك منتخب على هذه الصورة؟»

فلمَّا سمع أوباس ذلك أدرك أنهم يحاولون إيقاعه، فلم يبالِ وعزم على أن يجول في الموضوع إلى آخره، فقال وقد وجَّه خطابه إلى الأسقف: «إن هذا السؤال يا حضرة الأسقف خارج عن موضوع التهمة، ومع ذلك فإني أجيبك عليه: نعم، إن هذه المملكة أكثر ممالك أوروبا خضوعًا للكنيسة، وأساقفتها هم الذين ينصِّبون الملك كما ذكرت، ولا أنكر أن جلوس هذا الملك كان بانتخاب هذا المجمع، فانتخابه كان قانونيًّا وإن كنت لا أعتقد أن المجمع توخَّى كل الطرق القانونية لنقل الصولجان من الملك السابق إليه، مما لا أخوض فيه الآن، ولكني لا أخفي عنكم أيها السادة أنني أرى الكنيسة قد تمادت بسلطتها في هذه المملكة دون سائر الممالك حتى تجاوزت حدها، أقول ذلك وأنا من أعضاء الكنيسة، ولا أظن أحدًا منكم يقول هذا القول ولو كان يؤمن به؛ لأنه يغاير مصلحته.»

وكان الأب مرتين حينما سمع تعريض أوباس بالمجمع في الانتخاب أشار إلى الكاتب أن يدوِّن ذلك القول أمامه ليطالبه به، ففعل.

أما الأسقف الذي كان الكلام موجهًا إليه فأجاب قائلًا: «يظهر أنك تنكر فضل الكنيسة على المملكة، وهل يخفى عليك أن الكنيسة الكاثوليكية هي التي حفظت النظام والتمدُّن في هذه القارة، وقد جاء أجدادكم الجرمان على اختلاف قبائلهم وأكثرُهم وثنيون فتغلَّبوا على المملكة الرومانية وتفشوا في مدنها، قبائل رُحَّلًا لا علم عندهم ولا تمدُّن، فجمعتهم الكنيسة في أحضانها وهذَّبت أخلاقهم وجعلتهم أممًا وممالك، وهي التي حفظت لهم العلم والحكمة، وهي التي درَّبتهم في كل شئونهم السياسية والإدارية والاجتماعية، ولولاها لكانت أوروبا فوضى لا علم فيها ولا نظام.»

فهمَّ أوباس بالجواب فدقَّ الكاتب جرسًا أمامه إشارة إلى التماس السكوت فسكتوا، والتفتوا فرأوا الملك يهمُّ بالكلام فأصغوا، فقال الملك وهو جالس على عرشه وصدره يتقدمه وشعره مرسل على كتفيه من تحت تاجه: «لا حاجة بنا إلى الخوض في مسائل لا علاقة لها بالموضوع، يكفي ما قد سمعتموه من كلامه الآن من استهجان أعمال المجمع في انتخاب الملك، وأنكم لم تنتخبوه بطرق قانونية، فمن يصرح بمثل ذلك في مجلس القضاء، هل يستغرب اتهامه بالمؤامرة؟»

فالتفت أوباس إلى رودريك قائلًا: «لا علاقة أيها الملك بين استحساني الانتخاب أو استقباحه وبين مؤامرة تزعمون أني دبرتها لخلعكم. نعم، إني أشكُّ في الطرق القانونية التي اتُّخذت في الانتخاب ولكنني لم أبنِ عليها مؤامرة، أو على الأقل أن السبب في وقوفي هذا الموقف هو اعتقادكم أني فعلت شيئًا من ذلك.»

فاعترضه الأب مرتين قائلًا: «وكيف لا يعتقد جلالته ذلك وقد سمعه من فمك كما سمعتُهُ أنا؟ يا للعجب!» قال ذلك والتفت إلى الملك وقال: «يظهر أن أمر المجادلة طال والتهمة صريحة واضحة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤