التحامل

فالتفت الملك إلى الأساقفة وقال: «قد سمعتم ما قاله هذا، فإما أن يكون الملك رودريك قد جلس على عرش طُلَيْطلة بغير حق أو أن أوباس هذا قد لبس ثوب الكهنوت بدون استحقاق.» قال ذلك وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا حتى نزل عن عرشه ومشى وهو لا يعي، ثم عاد إلى كرسيه وجلس بعنف.

ففهم أوباس أنه يعرِّض بتجريده من رتبته الكهنوتية قصاصًا له فقال: «لا تظن أن هذا التهديد يُضعف من عزمي في قول الحق؛ لأني لست أسقفًا بهذه البدلة ولا أنت ملك بهذا التاج، وإنما الأعمال بالنيات، ومهما أردتم بي من القصاص فذلك لا يقلِّل شيئًا من اعتقادي، ولكنه يزيد ذنبك يا رودريك أمام الديان العظيم؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم السبب الذي من أجله نقمت عليَّ وسُقتني إلى هذا المجمع. وأنت تعلم وهذا الأب المحترم أيضًا يعلم السبب الذي نقمتما من أجله عليَّ حتى سقتماني إلى هذا الموقف، ولست أهاب موقفًا أراني فيه مُحِقًّا ولو لم ينصفني الناس فإن الله نصيري وهو المطَّلع على القلوب …»

فلما سمع الملك تعريضه بحديث فلورندا خاف أن يحرجوه فيصرِّح به ويذكر اسمها وقصَّتها، فتظاهر الملك بالغضب ووثب من مجلسه وصاح فيه: «ويلك! أبمثل هذا الكلام تخاطب ملك الإسبان؟» ثم التفت إلى المجمع وقال لهم: «إذا صبرتم على أقواله فها أنا أخلع نفسي أو هو مخلوع من ساعته.» قال ذلك وتشاغل بإصلاح منطقته المذهبة.

فقال أوباس وهو لا يزال رابط الجأش: «لا بأس أيها الملك إذا أنا خلعت هذا الثوب، غير أن ذلك لا يغسلك من الرجس الذي تعمَّدت الانغماس فيه، ومن أجله سمعت توبيخي فساءك الحق وثقُل عليك، فأردت الانتقام مني، ولكن الله هو المنتقم.»

فقاطعه رئيس الأساقفة قائلًا: «أدعوك يا حضرة الميتروبوليت باسم الكنيسة أن تسكت.» فلم يَسَعْ أوباس غير الإذعان.

واستولى على الجلسة الصمت برهة، والكل مطرقون، وربما تهامس البعض بكلام لا يُسمع له طنين. وكان الأب مرتين في أثناء ذلك يُجِيل عينيه في الأساقفة يتأمل ما يبدو في وجوههم، فإذا وقعت عيناه على عين أحدهم أشار بحاجبيه وشفتيه إشارة الاستهجان وهو يومئ إلى أوباس كأنه يقول: «انظر، ما أوقح هذا الرجل! وما هذه الجرأة التي ارتكبها في مثل هذا الموقف المقدس!»

أما أوباس فكان واقفًا وقوف رجل بريء الساحة واسع الصدر يرسل بصره إلى الأساقفة بلا إشارة ولا ملاحظة، ولكن يظهر من رباطة جأشه وما يتجلى من وجهه من الهيبة والسرور أنه غير مبالٍ بما قد يكون من عاقبة تلك المحاكمة، لاعتقاده أنه سيق إليها زورًا وبهتانًا. على أنه تذكَّر ما دار بينه وبين ألفونس قبل سفره وما تواطأ عليه من أمر المُلْك ونحوه، فرأى التهمة تصدُق عليه من هذه الناحية، ولكنه راجع ما صدر من أقواله في تلك الجلسة، فلم يرَ فيها ما يمنع إنكاره حق المُلْك على رودريك. وفيما هو يفكر في ذلك وقعت عيناه على صورة كبيرة معلقة على أحد جدران الكنيسة، تمثِّل السيد المسيح واقفًا بين يدي بيلاطس للمحاكمة، فتذكَّر قبوله الصلب دفاعًا عن الحق فزاد استمساكًا به.

أما رودريك فكان قد عاد إلى كرسيه، ولما رأى المجلس ساكتًا خشي أن يعودوا إلى البحث فيما وجَّهه أوباس من التهمة إليه فالتفت إلى رئيس الأساقفة، وقال وهو يُظهِر الهدوء كمن له سلطان يستطيع أن يدير آراء المجمع كما يشاء: «لقد كفانا ما سمعناه وإذا رأيتم المسألة تحتاج إلى نظر بعد كل ما بدا لكم من الأدلة الصريحة، فإني أحل هذه الجلسة ونؤجِّل البحث إلى جلسة أخرى.»

فوقف الأب مرتين وقال بلهجته المعروفة، موجهًا خطابه إلى رودريك: «لا يتبادر إلى ذهن مولاي من سكوت سيادتهم أنهم يشكُّون في حديث جلالة الملك أو يخامرهم أدنى رَيْب من ثبات التهمة على أخينا الميتروبوليت بعد الشهادة الصريحة التي نطق بها مولاي ولم ينكرها هو، بل إنه أيَّدها بما فرط منه من العبارات الصريحة التي تدل على غضبه من هيئة الحكومة الحاضرة وممن كان السبب فيها، كأنه قال بصريح العبارة: «إن هذا المجمع قد خان البلاد بانتخابه جلالة الملك».» قال ذلك وهو يمضغ الكلام مضغًا ثم يقذفه من فمه، كأنه ينثر تبنًا يتطاير على غير نظام فيقع على الثياب والوجوه، والناس يطبقون أجفانهم لئلا يقع على عيونهم فيؤذيها!

أما أوباس فلما سمع قوله وما فيه من إثارة الخواطر عليه وجَّه خطابه إلى رئيس الأساقفة قائلًا: «قد سمعتم ما قاله الأب مرتين — ولا أضمن أنكم فهمتموه — وكأني بكم تتوقعون إنكاري ذلك خوفًا من العقاب. كلا، إني أشك في قانونية انتخاب هذا الملك كما قلت لكم، ولو خُيِّرت فلربما اخترت سواه، وأما الدعوى التي سقتموني من أجلها إلى هنا فما هي في شيء من ذلك. إن رودريك هذا الذي تسمونه ملكًا إنما جمعكم لمحاكمتي واتهمني بهذه التهمة لأني نصحت له أن يرجع عن جريمة همَّ بارتكابها، ولولا خوفي من تدنيس هذا المكان المقدس بذكرها لكشفت القناع عنها، ولو فعلت ذلك وأنصفتموني لبدأتم برجم هذا الجاني بأيديكم.»

فضجَّ المجمع وهاج غضب الملك وخشي زيادة التصريح، فتظاهر بالانفعال الشديد والاستغراب، ولم يدرِ ماذا يقول، فأنقذه الأب مرتين من تلك الورطة بقوله، مخاطبًا كاتب الجلسة: «يرى جلالة الملك أن أخانا الميتروبوليت قد تهوَّر في أقواله وخرج عن طوره إلى الخلط والهذر، كأنه جُنَّ لفرط ما خشيه من سوء العاقبة، فلم يعُدْ يفقه ما يقول؛ ولذلك فجلالة الملك يأمر بانتهاء الجلسة حالًا وتأجيل المحاكمة إلى جلسة أخرى، ولا يجوز بعد صدور هذا الأمر أن يتكلم أحد في هذه الجلسة بغير الصلاة الختامية.»

فنزل كلام الأب مرتين بردًا وسلامًا على رودريك، ولم يَسَعِ الكاتب إلا العمل بالإشارة؛ لأن للملك الحق في بَدْء الجلسة وإنهائها دون سواه. ولم يكترث أوباس بذلك بعد أن قال ما قاله ولو بالتلميح، ثم وقف رئيس الأساقفة فتلا الصلاة الختامية.

وانفضت الجلسة فخرجوا إلى منازلهم إلا أوباس فإنهم ساقوه تحت الحراسة إلى مخفر آخر، وأوصوا الحراس أن يشددوا عليه الرقابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤