أستجة

وكانت أستجة مدينةً آهِلةً بالسكان على الضفة اليسرى لنهر سنجيل حولها سور متين عليه الأبراج من صنع الرومان. ولا بد للقادم إليها من قرطبة أن يعبر على جسر فوق ذلك النهر، فلمَّا دنَوْا من المدينة في الضحى بعث ألفونس رسولًا بكتاب رودريك إلى حاكمها، فعاد الرسول ومعه نفر من جند المدينة وبيد كبيرهم أمر بتسليمهم القلعة الكبرى المشرفة على النهر من يمينه، والنهر بينهم وبين المدينة، وهي قلعة كبيرة بُنِيت لإقامة الجند، فاحتلوها وسار ألفونس إلى غرفة فيها، هي أحسن غرفها وأوسعها، وله نافذة مطلة على النهر والمدينة، وعلى ما وراءهما وبينهما من البساتين والمزارع.

صعد ألفونس إلى غرفته وكان يعقوب قد سبقه إليها وأعدَّ له ما قد يحتاج إليه من لوازم الراحة، وأمر بعض الخدم فأعدوا طعامًا حمله هو إليه فوضعه على مائدة في تلك الغرفة ودعاه إليها.

وكان ألفونس منذ صعوده إلى الغرفة قد جلس إلى النافذة وخلا بنفسه، فتذكَّر حبيبته وعمه ومجيئه إلى تلك المدينة رغم إرادته، وليس هناك ما يدعو إلى ذلك سوى سعي رودريك في إبعاده عن حبيبته. ثم تصوَّر القصد من إبعاده عنها وما قد يكون في عزم رودريك بشأن فلورندا، فاقشعرَّ بدنه وأحسَّ كأن ماءً يغلي يُصبُّ على رأسه، ثم تذكَّر الاحتياطات التي اتخذها لإنقاذ فلورندا من ذلك القصر فهدأ روعه.

وفيما هو في هذه الهواجس سمع وَطْءَ أقدام في الغرفة فالتفت فرأى يعقوب واقفًا ويداه متقاطعتان على صدره كأنه يسمع صلاة، فلما وقع نظره عليه هرول يعقوب نحوه وهو يبتسم ويقول: «ألا يأمر مولاي بتناول الغداء؟»

فلم يصبر ألفونس عن الابتسام وقد انشرح صدره، فوقف وأسرع إلى المائدة بدون أن يتكلم، وسار يعقوب في أثره فجلس ألفونس وظل يعقوب واقفًا مثلما يقف الخدم، فأشار ألفونس أنْ: «اجلس.» فأبى واعتذر، فقال ألفونس: «لم يعد يليق بي أن أعدَّك خادمًا بعد ما علمتُهُ من علوِّ همتك وتمسُّكك بنصرة الحق.»

فقال يعقوب: «العفو يا مولاي، إنك لم تعلم عني شيئًا بعدُ، وما هي إلا أقوال سمعتَها، فإذا رأيت مني عملًا كبيرًا ورأيت بعد ذلك أنني أستحق مجالستك أو مؤاكلتك فعلتَ.»

فتذكر ألفونس وعده بكشف السر بعد وصوله أستجة، فلم يشأ أن يذكِّره بذلك لئلا يكون الجواب تسويفًا، فصبر حتى يكاشفه هو من تلقاء نفسه، ولكنه قال له: «لك الخيار يا يعقوب فيما تفعل، ثم إني فهمت من بعض أقوالك أنك تعلم قصة فلورندا وحديثها.»

فأشار يعقوب برأسه أنْ: «نعم.»

فقال ألفونس: «فما رأيك في شأنها وشأننا وهي لا تعلم مقرَّنا، ولا عمي يعلمه، ألا ترى أن نبعث إليهم بالخبر كي يحضرا إلينا ونحن هنا بعيدون عن ذلك الطاغية؟»

فقال: «لا تقل إننا بعيدون، أتظن رودريك أبعدك عن قصره وأغفل أمرك؟ ألا تعلم أن معظم رجال هذا الجند عيون عليك يراقبون حركاتك، لعلهم يتقربون إلى البلاط الملكي بالإيقاع بك؟ وإذا هرمت الدولة واختلَّت شئونها كثُر فيها الجواسيس وتعددت أسباب الوشاية، وفسدت النيَّات وأصبح الأخ عينًا على أخيه، والابن عينًا على أبيه، يساعدهم على ذلك انغماس الملك في الترف وانشغاله به عن سياسة رعيته مع ما يحول من أهل التملُّق بينه وبين المتظلِّمين، فلا تثق بأحدٍ ولا تأمن أحدًا إلا إذا رأيت له في إخلاصه منفعة أو كانت مصلحته ومصلحتك سواء، حتى يعقوب هذا.» قال ذلك وأشار بسبَّابته إلى صدره؛ فعجب ألفونس لما سمعه ولم يكن قد اختبر شيئًا من شئون الناس، ولا اطَّلع على فساد الطبيعة الإنسانية، فسكت وعاد إلى الأكل حتى فرغ من الغداء ويعقوب لا يزال واقفًا بين يديه.

فلما نهض ألفونس عن المائدة قال يعقوب: «استرح يا مولاي الآن، وائذن لي بالنزول إلى المدينة ثم أعود إليك قبل الغروب، وفي الغد ننزل إليها معًا لنرى أسواقها وساحتها.»

فأدرك ألفونس بغتة أن الغد يوم أحد، فقال: «ونسمع القداس أيضًا.»

فقال يعقوب: «نسمعه يا سيدي، وسنبحث في الأمر غدًا. هل يسمح لي مولاي بالانصراف؟»

قال: «انصرف، وقبل انصرافك ابعث إليَّ بالقائد ومبا لأخاطبه في أمر الجند.»

قال يعقوب: «سمعًا وطاعة.» وخرج.

وعاد ألفونس إلى مجلسه بجانب النافذة وهو لا يزال بملابس السفر، وعاد إلى التفكير في فلورندا وأوباس ورودريك حتى فطن إلى أقوال يعقوب، فانبسطت نفسه بقرب موعد المكاشفة. ثم سمع وَقْع أقدامٍ بالباب فتحوَّل لملاقاة ومبا، فدخل وألقى التحية ووجهه منبسط إشارة إلى ما يكنه من الاحترام لألفونس والغَيْرة عليه، فردَّ ألفونس التحية وسأله عن حال الجند، فقال: «إنهم في نظام وسلام يدعون للقائد الباسل بالرغد والظفر.»

فقال ألفونس: «هل سمعتم شيئًا عن أحوال السكان هنا؟»

قال ومبا: «سمعنا أنهم في هدوء لا يبدون حراكًا، ولعلهم ركنوا إلى السكينة على أثر سماعهم بقدومنا.»

قال: «أرجو، على كل حال، أن تسهروا لمراقبة الأحوال، وتواصلوا استطلاع الأخبار ولي في درايتكم ما يكفل الاطمئنان.»

وفهم ومبا عند ذلك من كلام ألفونس وإشاراته أنه فرغ مما يريده، فحيَّاه وخرج من الغرفة، ولمَّا خلا ألفونس بنفسه نهض فبدَّل ثيابه وعزم على البقاء بقية ذلك اليوم في الغرفة للاستراحة من متاعب السفر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤