مارية

وكان شيخنا المذكور في أواخر يوليو من ذلك العام (سنة ١٧٠)، الموافق رمضان سنة ٩٢ﻫ، جالسًا في كوخه وحوله أولاده وأحفاده، يشتغل النساء منهم بإعداد الطعام وصناعة الألبان والجبن، والأولاد يشتغلون في عَلْف الماشية أو صنع السلال لحمل العنب عند قطافه، ولا حديث لهم إلا تقدير موسم ذلك العام من العنب والخمر، وإن لم يكن لهم في تقديره فائدة كبرى؛ لأنه ليس ملكًا لهم، فلم يكن للفلاحين ونحوهم أن يقتنوا عقارًا أو يملكوا بنيانًا وإنما المُلْك والسيادة لطبقة الأشراف، وأكثرهم من الرومانيين والقوط، وللفلاحين حصة قليلة من المحصول. ولكن الإنسان ميَّال للبحث عن المجهول؛ ولذا فقد اشتغل الشيخ وأولاده معظم ذلك النهار في تقدير غلة السنة حتى احتدم الجدال بينه وبين أحدهم وشُغِلوا بذلك عمَّا حولهم. وكانوا جالسين في ظل دالية كبيرة قد نصبوا بأغصانها خيمة على شكل العريش، وأجرَوا الماء من تحتها بقناة تقف عندها الماشية للشرب، والناس للاستقاء، ويستظل بظلها أهل تلك العزبة وما فيهم غير الشيخ وأولاده وأحفاده ونساء المتزوجين منهم.

أقبل المساء وهم في ذلك، وقد رجع من كان غائبًا في أثناء النهار في إصلاح الدالية أو تسنيدها، أو تنظيف المستودعات أو صنع السلال، أو نقل الأغصان اليابسة للوقود، فربما جاء الرجل وعلى رأسه سلة، وعلى كتفه حزمة، وتحت إبطه جرة، وفي جيبه صرَّة، وفي يده رغيف، وفي فمه لقمة يجر وراءه صِبْية: هذا يقود خروفًا، وذاك يسوق حمارًا، وذلك يحمل عنقودًا قطعه قبل تمام النضج وفيه حموضة قليلة، وقد منعه أبوه عن ذلك فخبَّأ العنقود في جيبه وجعل يأكله خلسة، وأخوه بجانبه يهدده بالشكوى إلى أبيه إذا لم يطعمه بعضه، فيهرع هذا إلى والدته يختبئ في ثنايا ردائها وفي زعمه أن ذلك الرداء يحميه من كوارث الدهر وطوارق الحدثان، كأنما هو راية كسرى أنوشروان. تلك عيشة السذاجة الفطرية، أن يقتات المرء من ثمار ما يغرسه وألبان ما يرعاه لا مطمع له إلا أن يجمع من ذلك ما يكفي أهله بقية العام للكساء والطعام. هناك النيات السليمة والقلوب الطاهرة، هناك الإخلاص وصدق اللهجة. إذا سمعت أحدهم يقول لك إنه مشتاق لرؤيتك فهو يعني ذلك حقيقة ولا يقوله على سبيل العادة التي أساسها الخداع والتملُّق. والسعادة الحقيقية — إذا صح وجودها — إنما تكون في تلك المنازل الحقيرة وبين تلك المغارس التي تتجدد أوراقها في كل عام وتتجدد قلوب أهلها معها. ليس هناك ضغينة ولا حقد ولا طمع ولا نميمة ولا رياء لقلة حاجات الإنسان وسهولة نيلها؛ فالمرء إذا قلَّت مطالبه وهان عليه اكتسابها قلَّما يداخل قلبَه حسدٌ أو حقدٌ أو غيرهما من الرذائل؛ لأن الحسد والحقد والرياء والنميمة إنما يلجأ إليها الضعيف إذا كثُرت مطالبه وعجز عن الحصول عليها بجِدِّه وسعيه … ولذلك كانت الرذائل من جملة أدران المدنية.

على أن الفلاح الساذج إنما يكون سعيدًا في ظل الأمن والعدالة، وإلا فهو من أتعس خلق الله؛ لأن الظلم يقضي على سعادته قضاءً مبرمًا؛ إذ يسلبه ينبوع تلك السعادة وهو غلة أرضه، فكيف إذا لم يكن هو صاحب الأرض كما كان شأن فلَّاحي إسبانيا في الأجيال الوسطى؟ فلا يُلام شيخنا المشار إليه إذا تمنى استبدال حكومته بغيرها ولو كان غريبًا.

غربت الشمس وهي ترسل أشعة ذهبية تشرح الصدر ويتطاول أهل المدن لرؤيتها وقلَّما يتفق لهم ذلك. ولو أراد الفلاحون لرأَوْها كل ليلة، ولكنهم في شغل عنها وعن سواها من مناظر المساء بإعداد العشاء والاجتماع تحت سقف المنزل أو تحت بعض الأشجار. فلما غابت الشمس اجتمع أفراد تلك العائلة وهم يُعَدُّون بالعشرات وفيهم الأطفال والأحداث والشبان والشابات، وأصغرهم سنًّا أكثرهم فرحًا.

وكان أعظمهم اهتمامًا ذلك الشيخ؛ لأنه لم يكن يهدأ له بال إلا بعد أن يرى أولاده وأحفاده تحت ذلك العريش في آخر النهار، وخصوصًا بعد أن جنَّد أمير تلك الناحية بعضهم بأمر رودريك ليكونوا له عونًا في محاربة العرب القادمين عليهم من جهة البحر.

فلما ظن الشيخ أن الاجتماع قد اكتمل تفرَّس في أولاده فإذا إحدى بناته لا تزال غائبة، وكانت أعزَّهم على قلبه لِلُطفها وحنوِّها، فصبر هنيهة أخرى لعلها تأتي، فلما استبطأها نادى زوجته قائلًا: «أين مارية؟» سمعته يسألها عنها بُغِتَتْ وصاحت: «ألم تأتِ بعدُ؟»

قال: «كلا، أين تركتموها؟»

قالت: «تركتها في المستودع الكبير فوق الرابية تغسل بعض الأواني، وتنقل بعض الجرار الملآنة إلى جانبٍ آخر ومعها أخوها بطرس.» قالت ذلك والتفتت إلى ما حولها ونادت: «بطرس» فجاء الغلام مسرعًا فابتدرته قائلةً: «أين تركت مارية؟»

قال: «تركتها في المستودع الكبير، ألم تأتِ بعدُ؟»

قالت الأم: «لا …»

ولم تتم العجوز قولها حتى وثب بطرس من العريش وأسرع نحو ذلك التل وهو يقول: «سأعود بعد قليل.» وإنما دفعه إلى تلك العجلة شعوره بأنه أخطأ برجوعه وحده دون أخته.

وكان القمر في أواخر أيامه والليل مظلم والطُّرُق بين الكروم شاقة وعرة، إلا على أهل الكروم فإنهم يمشون بينها وأعينهم مغمضة لا يعثرون بعود ولا حجر. ولبث الشيخ وأهله ينتظرون رجوع بطرس على مثل الجمر، وهم يعدون خطواته ويقدِّرون الأماكن التي يمر بها ويتنبَّئون بوصوله إلى كلٍّ منها، حتى ظنوا أنه وصل وعاد، فإذا هو لم يرجع بعد، فانشغل خاطرهم وصبَّروا أنفسهم حتى طال غيابه، فلم يَعُدِ الوالدان يستطيعان صبرًا، فوثب الوالد الشيخ كأنه شاب في عنفوان الشباب، واقتفى أثر ابنه عن طريق مختصر لا يعرفه الابن، ولم تكن المسافة بين العريش وذلك المستودع تزيد على مائة متر شرقًا من جهة النهر، والمستودع مشرف على ضفاف النهر وعلى معظم كروم تلك الناحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤