الهروب

تركنا فلورندا وخالتها والرجلين — أجيلا وشانتيلا — هائمين على وجوههم في ضواحي طُلَيْطلة، وكان السبب في ذلك — كما علمت من سياق الرواية — أن أجيلا وشانتيلا كانا في انتظار فلورندا عند أسفل القصر في تلك الليلة الباردة المرعدة، فلمَّا تيسَّر لها الإفلات من بين يدي رودريك، بعد أن بغته أوباس كما تقدم، أسرعت إلى النافذة وحملت ما استطاعت حمله من الثياب وأيقونة صغيرة للسيدة العذراء، كانت شديدة الاعتقاد بكرامتها، فخبَّأتها بين ثيابها والتفَّت بالقباء، وخالتها العجوز تساعدها على التأهُّب. فلما أتما الاستعداد بقدر الإمكان أطلَّت العجوز ونادت، وكان الرجلان على أُهْبة العمل فتسلَّقا الشجرة وتكاتفا على إنزال فلورندا سالمة، ثم العجوز وما بقي من الأمتعة الضرورية، ونزلوا جميعًا من الحديقة والرياح تهب والرعود تقصف وهم من الخوف في شغل عن كل ذلك حتى نزلوا إلى القارب. وكانت فلورندا تتوقع أن ترى ألفونس فيه لأنه هو الذي كتب إليها أن توافيه إليه، فلما رأت القارب خاليًا اضطربت وقلقت، واستحيت أن تسأل عنه، فخاطبت خالتها بالأمر، فالتفتت العجوز إلى الرجلين وقالت: «وأين الأمير ألفونس؟»

فقال شانتيلا: «لم يأتِ معنا يا سيدتي.»

قالت: «وأين هو؟»

فخشي شانتيلا أن يكون في قوله ما يسيء إلى فلورندا لعلمه بما بينها وبين ألفونس من الحب المتبادل؛ لأن الرجلين كانا قد أدركا سر المهمة التي انتدبهما لها أوباس وإن كان هو يحسبهما آلة صماء يستخدمهما في تحقيق غرضه. ولم يكن ألفونس يتوهم أن أحدًا يعرف ما بينه وبين فلورندا؛ ذلك شأن المحبين حيثما كانوا، يحب الشاب الفتاة وهي تحبه ويطول بينهما زمن الترداد وهما يحسبان أن الناس في غفلة عنهما، وقد يكون بين الناس من يعرف كل جملة وكل كلمة مما يدور بينهما. وأعلم الناس بذلك خدم المنازل؛ فهم يوهمونك أنهم يشتغلون في إعداد الطعام، أو ترتيب أدوات المائدة، وآذانهم تسترق ما يدور بينك وبين ضيوفك أو جلسائك من الأحاديث السرية وغيرها، ويتفاخرون بتناقلها والمبالغة فيها على ما تقتضيه عواطفهم نحو صاحب ذلك الحديث، فإن كانوا يحبونه جعلوا سيئاته حسنات — وأفضل ما يحبِّبهم فيه الكرم — وإلا فإنهم يجعلون الحسنة سيئة. أما أجيلا وشنتيلا فلم يكونا من طبقات الخدم، وإنما كانا من الأسرى كما تقدم وقد اطَّلعا على ما بين ألفونس وفلورندا من الحب المتبادل، وعلما مما كانا يسمعانه من أحاديث الخدم أن رودريك أيضًا يحبها. فلما طلب إليهما أوباس أن يذهبا إلى هذه المهمة أدركا السر، وأقدما على العمل وهما شديدا الغيرة على مصلحة ألفونس؛ لأنهما يكرهان رودريك وأهل بلاطه. وكانا قد رأيا ألفونس خارجًا على رأس حملة من الفرسان بأمرٍ من الملك، فأدركا أنه ذاهب إلى مهمة.

فلمَّا رأى شانتيلا ما كان من اضطراب فلورندا وسؤالها عن ألفونس وهو ليس معهم، خشي أن يكون في الجواب ما يزعجها والوقت لا يساعد للتمهيد، فاشتغل بالتجذيف مع أخيه لدفع القارب إلى مجرى النهر، وكان المصباح قد انطفأ من شدة الرياح، على أنه لم يجد مندوحة عن الجواب على سؤالها فقال لها: «نظنه في منزل الميتروبوليت لأنه هو الذي أمرنا أن نذهب بكِ إلى هناك.»

فسكن روعها، ولكنها ظلت مضطربة الخاطر إذ لم تكن تتوقع أن يعهد ألفونس إلى أحد سواه بإنقاذها مع ما يُظهِره لها من الاندفاع في حبها، فأحسَّت بعتب يمازجه شك، ولكنها صبرت ريثما تلتقي بحبيبها وتعاتبه، والعتاب احتكاك بين القلوب يزيدها حرارة وتجاذبًا.

سار بهم القارب وهم يطلبون ضفة قريبة من بيت أوباس؛ لأنهم كانوا معه على ميعاد ليذهبوا إليه ومعهم فلورندا.

فطال بهم المسير في النهر لهياجه واضطرابه ومقاومة الرياح لهم فضلًا عن شدة الظلام، وكانت فلورندا كلما خافت من خطر استعانت بالله وأخرجت الأيقونة وقبَّلتها فيرتاح خاطرها ويطمئن بالها، تلك من ثمار الإيمان وليس أفضل منه وسيلة لتعزية الإنسان. ومضى هزيعٌ من الليل قبل نزولهم إلى البر، فلمَّا نزلوا إليه تشاوروا فيما يجب أن يفعلوه، فقال أجيلا وكان أسرع خاطرًا وأكثر إقدامًا من أخيه: «أرى أن تمكثوا هنا وأذهب أنا إلى بيت الميتروبوليت ثم أعود بمن يحمل هذه الأحمال.» فاستصوب الجميع رأيه فمضى حتى أشرف على المنزل، فرأى حوله فرسانًا من جند الملك، فأجفل وتراجع وقد شغل بالَه سببُ وجود ذلك الجند هناك. ثم ما لبث أن رأى بعضهم يخاطب أوباس فتربص في أحد المنحنيات ليسمع ما يدور بينهما، ففهم من خلال الحديث أن الملك بعث بهم للقبض عليه، فلم يخامره خوف على أوباس لفرط اعتقاده بقدرته. والناس شديدو الاعتقاد في قسسهم ومعلميهم وآبائهم؛ فكل تلميذ يعتقد أن أستاذه أمهر الأساتذة، وأن كاهنه أقدس الكهنة، وأن أباه أقدر الآباء حتى يكاد يكون قادرًا على كل شيء، ولو لم يكن في هؤلاء من المواهب ما يدعو إلى ذلك الاعتقاد، فكيف بأوباس وهو على ما وصفناه من الهيبة والجلال والتعقُّل؟ فلم يخامر ذهنَ أجيلا خوفٌ عليه قط، ولكنه أوجس خيفة على فلورندا لاعتقاده أن فرارها هو سبب القبض عليه، فلما توارى الركب عنه تحوَّل نحو القصر على أمل أن يخاطب بعض الخدم، فمشى وهو يسترق الخطى استراقًا ويحسب الدخول سهلًا بعد ذهاب الحرس، فإذا هو بكوكبة أخرى قد أحدقوا بالقصر واستخدموا القوة لإخراج الذين فيه، وبالغوا في التخريب والتعذيب.

فلما رأى أجيلا ذلك أيقن بالخطر الذي أصبح معرضًا له هناك وبما يهدد فلورندا من الأخطار الجسام إذا اطَّلع الملك على مقرها فهرول مسرعًا ولم يعد له شاغل سوى فلورندا، وخاصة حينما تصوَّر منزلتها عند ألفونس وأوباس؛ فاعتزم أن يبذل كل ما في وسعه ووسع أخيه في سبيل إنقاذها وحمايتها إلى آخر نسمة من الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤