الكتاب

وكانت فلورندا جالسةً على الأرض وفي حجرها صرة قد اتكأت عليها بكوعيها، والتفَّت بطرفها التفافًا شديدًا لشدة البرد والريح، وكان التعب قد أخذ منها مأخذًا عظيمًا لِمَا مرَّ بها تلك الليلة من الانفعالات النفسية، وما قاسته من الأهوال وما خافته من الفضيحة، كل ذلك غلب على قواها حتى مالت إلى النعاس، ولا سيما بعد أن ظنت أنها قد نجت من حبائل ذلك الرجل الشرير، فأسندت رأسها على كفها وأغمضت جفنيها فنامت. ولما رأتها بربارة نائمة أجازت لنفسها الارتياح هنيهة، أما شانتيلا فإنه ظل ساهرًا قلقًا وقد استبطأ أخاه وحسب لغيابه ألف حساب، وربما لامه لإبطائه ومغادرته إياهم عرضة للهواء والبرد، وتوهَّم أنه لو ذهب هو في تلك المهمة لكان أقدر منه على إتمامها وتقدير ما قد ينجم عن البطء من الأضرار، على أنه ما لبث أن رآه عائدًا وحده فذُعِر لانفراده، فإذا هو يقول: «هلمَّ بنا سريعًا حتى نخرج من هذه الضواحي الليلة لأني أعتقد أن الملك سيبث علينا العيون والأرصاد ابتداء من صباح الغد.»

فأفاقت فلورندا من نومها مذعورة، وصاحت: «ويلاه! وإلى أين نذهب؟ نجِّني يا مخلِّصي. أين ألفونس؟»

فقال: «ليس في المنزل أحدٌ يا سيدتي.»

قالت: «ولا أوباس. هل رأيت ألفونس هناك؟»

فقال: «إن ألفونس لم يكن هناك يا مولاتي.»

فذُعِرت وقالت: «أين هو إذن؟ يا إلهي أين ألفونس؟ وكيف عرفت أنه ليس هناك؟»

قال: «لأني رأيت أوباس وهو بين يدي الجند الملكي يسير إلى قصر الملك، ثم رأيت الجند قد دخلوا بيته وأخرجوا كلَّ من كان فيه من الخدم، ولم أسمع ذكرًا لسيدي ألفونس بينهم فلعله لا يزال في منزله …»

فقطع شانتيلا كلام أخيه وقال: «إن سيدي ألفونس لم يرجع إلى قصره قبل خروجنا منه.»

قالت: «أين كان قبل خروجكم؟»

قال: «كان قد ذهب في مهمة بأمر خاصٍّ من الملك.» فتذكرت للحال ما سمعته من رودريك في تلك الليلة عن إبعاد ألفونس، وكانت تحسبه يقول ذلك على سبيل التهديد، فأيقنت عند ذلك صدق قوله، ولكنها لم تكن تدري هل أبعده أو حبسه، فأعادت السؤال قائلة: «هل أنت واثق من ذهابه؟ وهل تعلم إلى أين؟»

قال: «إني واثق من خروجه من قصره ومن ورائه الحرس الملكي، وأما إلى أين ذهب فلا أعلم، ولكن الغالب أنه سار في مهمة إلى بعض البلاد.»

فعاد أجيلا وقطع كلام أخيه قائلًا: «أظنه أُرسِل في قيادة حملة إلى بعض البلاد لإخماد ثورة أو مخابرة بعض الكونتية مما يحدث كثيرًا في هذه الأيام، ولا بأس عليه بإذن الله، ومتى استقرَّ بنا المقام وأمنَّا العيون والأرصاد، بحثنا عن مكانه، وبذلنا كل ما يؤدي إلى راحتكِ وراحته فإننا صنيعته وأرواحنا له. والآن لا بد لنا من مغادرة هذا المكان حالًا، والفرار من الظلم فضيلة، وَلْنتركِ البحث في مصيرنا إلى وقت آخر، دعونا نرجع إلى القارب ونسير مع مجرى النهر حتى نخرج من حدود هذه المدينة، وأهلها وحرَّاسها في شغل عنا بالأمطار والزوابع، فإذا صرنا في مأمنٍ بحثنا فيما نفعله.» قال ذلك وتقدَّم إلى فلورندا يريد مساعدتها في النهوض، فنهضت واتَّجهت إلى القارب وقد عادت إليها مخاوفها وتبعتها خالتها وهي تحمل صرة الثياب، وبقي هناك صندوقٌ تعاون الرجلان على حمله، ونزلا إلى القارب وأخذا في التجديف. وكانت الزوابع قد خفَّت حدَّتها، وساعدهم التيار حتى خرجوا من ضواحي المدينة، وأصبحوا في مكان لا يرون فيه أحدًا، ولا يسمعون صوتًا غير نقيق الضفادع. وكان قد مضى معظم الليل فآووا بالقارب إلى منعطفٍ وراء تلٍّ يداريهم من الرياح. وقال أجيلا عند ذلك لفلورندا: «نحن الآن في مأمنٍ يا سيدتي، فإذا شئت النوم إلى الصباح فلا بأس عليك، وكذلك الخالة. وأما نحن فإننا نتناوب الحراسة ريثما يطلع النهار ونبحث عن الجهة التي نسير إليها.»

نامت فلورندا بقية ذلك الليل نومًا مضطربًا، وتراكمت عليها الهموم فتذكَّرت حبيبها ومصيره، وكيف كان رودريك سببًا في تشتيت شملهما، وتذكرت والدها ومقدار تعلُّقه بها منذ حداثتها، وماذا عسى أن يكون من غضبه إذا بلغه خبرها، وكم يكون فشله وخيبة أمله مع صبره على رودريك وإغضائه عن تعديه على الملك، فحدَّثتها نفسها أن تشكو أمرها إليه وتستحثه على الانتقام لها. فلما استيقظت تناولت قطعة من نسيج كتبت عليها الكتاب الذي تقدَّم ذكره، واستدعت أجيلا فوقف بين يديها فدفعت الكتاب إليه، والدمع يترقرق في عينيها من شدة تأثُّرها وهي تكتب الكتاب، وقالت: «لقد رأيت من مروءتك ومروءة أخيك ما يوجب سروري وامتناني كثيرًا، وقد وعدتَني بالبحث عن ألفونس، وأطلب إليك فوق ذلك أن توصِّل هذا الكتاب إلى أبي، فهل تعرف من هو؟»

قال: «نعم يا سيدتي، إنه الكونت يوليان صاحب سبتة.»

قالت: «هو بعينه، هل تسير إليه بهذا الكتاب؟»

فأشار بيديه ورأسه وعينيه أنه يفعل ذلك من كل قلبه، ثم قال: «ولكنني أرى يا مولاتي — قبل كل شيء — أن نعمل على تهيئة مكانٍ أمين لك، أعرف الطريق إليه إذا أنا عدت بالجواب إليك.»

فالتفتت فلورندا إلى خالتها وقالت: «ما رأيك يا خالة؟ أين تكون إقامتنا أقرب إلى الأمن والسلامة؟»

وكانت العجوز مطرقةً فبالغت في الإطراق ولم تُجِبْ، فأعادت السؤال عليها فرفعت رأسها وفي وجهها ملامح البِشْر، وقالت: «أظنني عثرت على طريقة لا ترون خيرًا لنا منها في هذه الأحوال.»

قالت فلورندا: «وما هي؟»

قالت: «لا يخفى عليكم أن في هذه البلاد أديرة ينقطع فيها الرهبان عن العالم تعبُّدًا لله تعالى، وتكون هذه الأديرة غالبًا في البراري أو في الجبال، ومنها ما لا يدخله الناس إلا نادرًا، فالرهبان منقطعون عن العالم بأسره، فإذا أقمنا في أحد هذه الأديرة كان في ذلك سِتْر لحالنا ريثما يتيسر أمرنا …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤